الأحد، أغسطس 31، 2008

رَمَضَانُ يا شَهْرَ الْفَضَائِـلِ

محمد محمد علي جنيدي

رَمَضَانُ يا شَهْرَ الْفَضَائِلِ والسَّخَاء

يا خَيْرَ آتٍ حَامِلاً بُشْرَى السَّمَاء

هَلَّتْ لَيَالِيكَ الْكِرَامُ فَمَنْ لَهَا

ونَضَارَةُ الْإصْبَاحِ تَسْبَحُ في الْفَضَاء

تَأتِي لَطِيفَ الرُّوحِ والْأكْوَانُ سَا

جِدَةٌ،وعَفْوُ اللهِ مَوْصُولُ الرَّجَاء

تَأتِي بِذِكْرٍ فِيه يَنْكَشِفُ الدُّجَى

ومَلَاحَةُ الْأسْحَارِ زَاهِيَةُ الضِّيَاء

تَأتِي بِمِسْكِ الصَّوْمِ تَدْعُو لِلتُّقَى

لِقِيَامِ لَيْلٍ واتِّحَادٍ واصْطِفَاء

يا شَهْرُ فِيكَ وِصَالُ كُلِّ مُعَانِدٍ

وَوِئَامُ كُلِّ مُقَاطِعٍ وَعَلَى رِضَاء

يا شَهْرُ أُنْزِلَ فِيكَ قُرْآنُ السَّمَا

فِيه الْهُدَى وشِفَاؤنَا مِنْ كُلِّ دَاء

والنَّصْرُ فِيكَ كَآيَةٍ دَامَتْ لَنَا

وكَأنَّهُ عَهْدٌ وَفَصْلٌ لِلْقَضَاء

ولِيَوْمِ بَدْرٍ وَقْفَةٌ ولِغَيْرِهِ

وَقَفَاتُ فَخْرٍ عَانَقَتْ شَرَفَ السَّمَاء

تَجْرِي بِنَا حَتَّى نَرَاكَ مُوَدِّعاً

تَمْضِي كَأنَّكَ حُلْمُ حُبٍّ وارْتِواء !

يا لَيْتَ شِعْرِي، والْحَيَاةُ مَطِيَّةٌ

تَلْهُو بِنَا فَإلَى نَعِيمٍ أوْ شَقَاء

يا مَنْ عَصَيْتَ اللهَ قُمْ مُسْتَغْفِرا

مَازَال يَنْبِضُ فِيكَ شُرْيَانُ الْحَيَاء

يا مَنْ تُرَوِّعُ آمِناً لَسْتَ الَّذِي

تَقْضِى عَلَيْه، وَرَبُّهُ رَبُّ السَّمَاء

إنَّ الْأحِبَّةَ لَا تَعِيشُ بِمَعْزَلٍ

عَنْ دِينِهَا، واللهُ يَجْزِي بالْوَفَاء

أربعينية الشاعر محمود درويش

دعوة عامة
ستقام أربعينية الشاعر الراحل

محمود درويش

يوم السبت الموافق 20.9.2008 على مسرح مكتبة بريزبن العامة .
Brisbane Square
Library (central City)

التجمع الثقافي في ولاية كوينزلاند (ثقافة بلا حدود)
Boundless Culture
Invites you to a
Celebration of the Life and Works
Of
Palestinian Poet and Hero
Mahmoud Darwish
1941 – 2008
Saturday, September 20, 12:00 P.M
Brisbane Square Library (central City) NQG Tiered Theatrette Auditorium
Brisbane Square -266 George Street,
Brisbane QLD 4000

Please call Dina Saleem at 0402743656

or email Dina_saleem@hotmail.com

for program information
Free invitation

أسئلة الثقافة و"أجوبة" الرّقابة التفتيشيّة

ماجد الشّيخ

قبل فترة وزّعت دار النهضة العربيّة بيانا ذكرت فيه: أنّ سلطات الرّقابة المصريّة أقدمت على منع أربعة دواوين شعريّة من إصدار الدّار لهذا العام (2008) من الدّخول إلى مصر، وهي لثلاثة شعراء لبنانيين وشاعر عراقي: "حياة معطّلة" للشاعر عبده وازن، و"ضوء بين حياتين" للشاعر غسّان جواد، و"بوّاب الذاكرة الفظ" للشاعرة زينب عسّاف، و"هواء الوشاية" للشاعر العراقي المقيم في السويد فاروق يوسف. دون أن تقدّم أيّ مبرّر، أو توضيح أسباب قيامها بهذا الإجراء. علما أن الدّواوين المذكورة ذاتها، سبق وأن اشتركت في معارض عديدة للكتب، ولم يعترض رقباء أو أجهزة رقابة أخرى عليها، ومنها الرّياض والجزائر والمغرب وتونس وأبو ظبي والشارقة وغيرها.
إلامَ استند جهاز الرّقابة في مصر المحروسة، وهو يقرّر منع تلك الدواوين؟ وأيّ دور يحاول جهاز الرّقابة المصري أن يتقمّصه أو يتماهى معه؟ وإلى من يقدّم خدماته في هذه الحالة؟ وأيّ نزعة تفتيشيّة تلك التي أمست تتفشّى لدى رقباء الحالة الثّقافويّة العربيّة التي يراد لها إلتحاقا بأيديولوجيا التديّن السياسوي، وفرقها المتطرّفة؛ الإرهابيّة منها "فكرا" وممارسة، وتلك السّلفيّة المغرقة في ماضويّتها؛ وفوضاها، العامدة إلى الحجب والمنع والمصادرة، العاملة على فرض "قوانين حسبـتها" المهينة للعقل، وللإنسان، وللمجتمع، وأخيرا للدولة. والهدف الأخير: قتل الرّوح في جسد الحرّية، أو قتل الحرّيّة في كروم الحياة.
إن أجوبة "السلطة الآيديولوجية"، تلك التي تنطلق من المنع والقمع لتسدد سهامها باتجاه الثقافة ومنتجيها، باتت اليوم وأكثر من أي وقت مضى، تتشكل على هيئة سلطة مخيفة؛ إنما تهدف الى وضع سدود فولاذية أمام تدفّق أسئلة الثقافة، في محاولة لمنعها من الوصول الى الناس. ولهذا فإن جديّة المثقف مطروحة على محك المصادمة، بدل المصادرة، في سياق التصدي للذين يريدون فرض رؤيتهم الأحادية على كل مصادر حراك مجتمعاتنا العربية المعاصرة.
على أنّ سلطة الثقافة لا تنفصل عن سلطة النص الفاضح لتشويهات وتحريفات قوى الأمر الواقع المهيمنة، السلطوية منها والآيديولوجية، الأمر الذي يدخل هذه السلطة (سلطة الثّقافة) في دائرة الضرورة التاريخية؛ لا دفاعا عن النفس، وإنما في مواجهة كافة مصادر القمع والمصادرة ودعوات "الحرق". وما الدفاع الذليل عن النفس وتقديم تفسيرات وشروح لحالة النص ونبش تاريخ منتجه - المثقف – سوى محاولة لصب الماء في طاحون "التفتيشيين الجدد"، في وقت لم ينس العالم بعد؛ جرائم محاكم التفتيش البدائية في القرون الوسطى.
"التفتيشيون الجدد" أشباه مثقفين، غايروا ويغايرون تطلعات شعوبهم، ويريدون العودة بها الى أقفاص الماضي السحيق، لمنع كل سؤال خارج سياق سلطتهم وسلطة أشباههم الدنيوية – السلطوية منها والآيديولوجية -. إنهم يريدون نصوصا تشبههم بالضرورة، ولا تشذ بالمطلق عن ذلك الخيط الرفيع الموهوم الذي رسموه لنص يتكرر ملايين المرات وعبر كل الأزمان والأمكنة، ليخاطب غرائزهم هم، نصهم هم في اتباعيّته التقليديّة الذي لا يرى في المجتمع/الناس سوى نسخة تتكرر، تستنسخ رؤاهم وأوهامهم عن عالم أحادي، غائم في مجاهل ماض سحيق؛ لم يعد يُرى إلاّ في مرآتهم هم.
الثقافة لا تفترض الإتفاق المطلق، فكما الاختلاف جوهر كينونة التمازج بين موجودات الطبيعة، كذلك لا يمكن أن تكون هناك ثقافة واحدة أو أحادية؛ لا تتمازج ومكونات الثقافات المختلفة المشدودة الى خطوط التلاقح والتجادل المستمر والمتواصل، المفضي لإغناء نصوصها وموضوعاتها، رغم افتراق مناهجها وطرائق تفكيرها وكتابتها وبحثها المستمر عن ذاتها، واستخلاص الحقائق النسبية وسط معمعة الوقائع النسبية.
الثقافة بهذا المعنى ليست إبنة المطلق، إنها نتاج النسبي والمحدود المتحوّل ـ زمانا ومكانا ـ وهي لهذا لا تخضع لمطلقات الآيديولوجيا، كما أنها لا يمكن أن تكون عرضة ورهينة الإستبداد وسلطته الإطلاقية المعمّمة لخراب الروح، واختراق الجسد بكل ميكروبات الإهتراء والتعفن.
لهذا وإن كان لا بد من محاكمة، فلتكن محاكمة الثقافة لنفسها، محاكمة المثقف لنصّه، النص محكوم لداخله لا لسيوف الخارج، أما التأويل الأوحد والأحادي فهو رهين تلك السيوف، لا رهين حكمة النص مهما تعددت مستويات قراءته. القراءة الوحيدة التي تستوفي شروط الإضاءة والتفسير والشرح، أي شروط الوعي بالمنتج الثقافي؛ هي تلك التي تتنوع في تأويلاتها من داخل النص لا تلك التي تقوًل النص من خارجه ما لا يقول.
إن خصوصية التأويل وعمومية التقويل لا تخدم نصا البتة، فبقدر ما يذهب التأويل الى التقويل، بقدر ما يتحول النص الى نص آخر مختلف تماما عن ذاك الذي أريد إضاءته عبر التأويل، ليصبح قولا على قول، وتلك هي لعبة القراءة "الاطلاقية" التي لا تغني ثقافة؛ قدر إفقارها، ولا تضئ قدر ما تعتم؛ وشواهد التاريخ والقضايا أكثر من أن تحصى في سياق حياتنا الثقافية العربية قديما وحديثا.
لقد ذهب مثقفون كثر إلى حتفهم، نتيجة ذاك الفقر المدقع في أدوات التحليل والمعاينة البدائية التي كان يرتجيها وما فتئوا؛ من يحاولون اليوم فرض سماتهم "النيرونية" على الثقافة والمجتمع العربيين. لقد ذهب المثقف مطواعا الى موته وهو يحدق طويلا في وجه قاتله، علَ هذا الأخير يفيق من غيبوبة المخدّر طويل الأثر الذي حقنت به أنظمة إستبدادية شمولية وتسلّطية مجتمعاتها، قبل أن تنقلب هذه المجتمعات على أعقابها لتطلق النار على حاضنتها السابقة وعلى ذاتها؛ مغرقة نفسها في وحل الصراع الأهلي طويل الأمد الذي ابتدأ بأشكال قمعية سلطويّة معينة ضد المجتمع؛ لا لينتهي الى هذا الشكل الحالي لقمع أهلي يرتدي لبوس التديّن السياسوي، وكأن الانظمة السلطويّة الإستبداديّة قد تخلت عن مهمة "حراسة" الحياة المدنيّة في تساوقها مع الحياة الثّقافيّة، بل لتبدأ مرحلة من تداخل وتشابك مهمات وتبادل أدوار السلطة و"بعض المجتمع" في الهجوم على الثقافة، والدعوة الى حرق نتاجاتها وقتل منتجيها، وإقامة محاكم تفتيش جديدة تمارس فيها بعض "العمائم" الظلامية حسبة من نوع جديد، بحق المثقفين الحداثيين والدعوة الى القتل؛ إن لم يكن عبر إطلاق النار، فبالقتل المعنوي على الأقل وتسفيه وتشويه الثقافة وجعلها عرضة للمساءلة التفتيشيّة ومحاكمها؛ رسمية وغير رسمية.
إن قمع الثقافة هو التجسيد الحي والمباشر لقمع الوعي الانساني، وتعويق المجتمع، ومنعه من الوصول الى وعي الذات، بل وتغييب هذه الذات في مجاهل تخلف وانحطاط قيم وسلوكيات يراد لها السيادة، وتصدّر المشهد العام؛ كوعي زائف لصورة الذات وموضوعها. فأن تكفِّر الثقافة ويساق المثقف الى الإغتيال، وأن تشيع "نيرونية" الحرق والمنع والمصادرة للنتاجات الأدبية والفكرية، فإن هذا لا يعني سوى دخولنا والإيغال أكثر في مستنقعات من ظلامية تجدّد ذاتها؛ كلما ران صمت المثقف وأوغل في البحث عن خلاصه الذاتي، في معزل عن خلاصنا جميعا في مواجهة قتلة الحياة فينا، وفي مجتمعاتنا، وفي ثقافتنا المعاصرة.
*كاتب فلسطيني

الهوية وخدودُ الأجنبية


سامي العامري
---------

لي مهجةٌ منها سأقتَصُّ
أُلقي بها في عمقِ أعماق الهوى
لكنَّ مَن أحبَبْتُهُ بدلالهِ
يجفو هواها لاهياً
فيعيدُها لي مُحْرَجاً شِصُّ
ما لِلدَّلالِ مُعرِّشٌ كالزَّعفَرانِ
على السياج , على الرتاجِ
يخافُ مِن إنشودتي وكأنَّّها لِصُّ !
عندي الغداةَ قصيدةٌ
روحي كمُفتَتَحٍ لها وكهامشٍ
أمّا لِحاظُكِ يا فَتاةُ فإنّها النَّصُّ
عَبَثاً أراكِ تُسلِّمين - إذا خرجتِ – عليَّ
أطمحُ للعناقِ وللدّهاقِ
فكيف يكفي مُغْرَماً بَصُّ !
كُلٌّ شكا للعاشقين همومَهُ
إلاّ انا
شكوايَ أبعدُ من مُجَرَّدِ قِصَّةٍ
فإذا قَصِصْتُ أخونُها
ولطالَما أزرى بها القَصُّ
ضَحِكتْ خدودُكِ حين سالتْ أدمعي
يالي ويالكِ فاضحكي
دمعي انا يفدي الخدودَ
وربّما يحلو بهِ الغَصُّ !
ماذا يُزيدُ جنائني لو أنني
أبني صروحاً شاهقاتٍ حولَها ؟
ستظلُّ مُهمَلَةً بدونكِ دائماً ,
وكمالُها نَقْصُ
هُبّي أُعلِّمْكِ الغرامَ
فلي دموعٌ راقصاتٌ
شأنُها شأنُ الغَمامِ
لِفرْطِ ما عصَفَ الشَّجا
وأتيهِ ,
بَحراً فوق بحرٍ أرتمي
والغابَ أمتَصُّ
انا مِن بلادٍ لا يزالُ حريقُها مثلَ الجليدِ
فلا يزولُ إذا الشموس تظافرتْ
بَرْقٌ يُقَطِّرُ في دمي
ويكاد مُحي الدين يلمسُهُ رؤىً
ويُضيفُهُ لفصوصهِ فُصُّ
إنْ كنتِ في شكٍّ فآدَمُ مثلُ حوّاءٍ
هُما مِن أرضِ آسيا
فاعصي قلبَكِ واصحبيني
إنما مِن أجلِ مَجدِ الحُبِّ
شاءَ الناسُ ,
كلُّ الناسِ
أنْ يعصوا !

*-*-*-*-*
كولونيا
alamiri84@yahoo.de

الجمعة، أغسطس 29، 2008

إياد قحوش ومرمريتا

مفيد نبزو

– محردة-

هاجس المهاجر العائد إلى أرض الوطن،الوفاء الصرف لمن يستحق كل الوفاء، وهذا ما كان من الشاعر الدكتور إياد قحوش الذي برعايته كان المهرجان الأول للشعر المحكي في مرمريتا، وبالتعاون مع المركز الثقافي العربي في مرمريتا بإدارة السيدة أوديت ديب، وذلك يوم الجمعة /15 /8 / 2008 /وهو تحية لفقيد الفن والشعر المرحوم جمال صباغ مع باقة زهور بيضاء هذه القصيدة:

إياد وفي إلك بالشعر قامة

وإذا حَّلقت فوق النجم هامة

كلما زرتنا صوتك بيصدح

لمجد الشام عنوان الكرامة

إلك في كل قلب وأرض مطرح

ودعامة للشعرأكبر دعامة

مرمريتا لها بالفكر مسرح

وبعرش الفن في إلها زعامة

وجايي اليوم عطر الوفا تنفح

لابن صباغ ذكرى للشهامة

فقيد وبالشعر والفن أصبح

مسارو غصن زيتون وحمامة

إياد وحين بخيالو تمرجح

ع خد الدني خلا الشام شامة

الشاعرطير لوعَّلا وجنَّح

بيترك أثر ليوم القيامة

وبعد ما زرتنا و هالقلب فرفح

بقلك يابن قحوش وين ماتروح

لا تنسى إخوتك بالشعر والروح

مابدن غير توصل بالسلامة.

في ذكرى استشهاد ناجي العلي.. وصمود حنظلة



د. صلاح عودة الله
"اصعد فموطنك السماء"..! ناجي العلي لقد نجوت بقدرة / مـــن عـارنـا، وعـلـوت لـلعـلياء/ إصـعد؛ فــمـوطنـك السماء؛ وخلنا/ فــي الأرض إن الأرض لـلــجـبناء"!" الشاعر أحمد مطر". انه أحد أيام الأسبوع ..انه يوم مشؤوم .. انه يوم الأربعاء الواقع في 22 تموزعام 1987 وأمام منزله في أحد أحياء لندن قامت يد الغدر الجبانة باطلاق النار على ناجي العلي فأصابته إصابة مباشرة في وجهه، نقل على أثرها إلى المستشفى وبقي في حالة غيبوبة إلى أن وافته المنية يوم 29 آب من نفس العام. تمر الأيام والسنين كأنها دقائق معدودات، حافلة بأحداث كثيرة، تمر علينا كنسيم البحر هادئا لا نشعر أحيانا بمروره، وتحمل في طياتها الحزن إلى قلوبنا..تعج بأحداث كثيرة أثرت وما زالت تؤثر في نفوسنا..نقف لحظة لنسترجع ونستعرض شريط أحداثنا..أحداث الماضي..نلف هذا الشريط الطويل، ونعود بعجلة الزمن حتى نصل إلى عام 1987 وفي التحديد إلى 22 تموز عام 1987..انه التاريخ الذي طبع في قلب كل إنسان عربي، وأصبح ذكرى سنوية لفنان فلسطيني عربي يدعى: ناجي العلي..الفنان الذي تمسك بإبداعاته وإنجازاته..وأصبح علماً يرفرف في السماء من وراء هذه الإنجازات التي أكسبته شهرةً وصيتاً لامعاًُ..الشخص الذي تحدث وما يزال يتحدث عنه الصغير قبل الكبير..كيف لا وذكراه ما زالت عالقة في القلوب والعقول..! ولد الشهيد عام 1937 في قرية الشجرة الفلسطينية قرب طبريا التي احتلت بعد معارك عنيفة ودامية سقط فيها اكثر من ألف شهيد معظمهم من جيش الإنقاذ وكان معهم أيضا الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود صاحب الأبيات الشهيرة: سأحمل روحي على راحتي **وألقي بها في مهاوي الردى..فإما حياة تسر الصديق**واما ممات يغيظ العدى..! على نهج هذه الأبيات ووهجها الحار والمضيء عاش ناجي حياته واختار رسالته وعنوانها الواضح، بعدما نزح مع عائلته إلى لبنان حيث عاش طفولته في مخيم عين الحلوة قرب مدينة صيدا الساحلية في جنوب لبنان، وعمل في مهن عدة قبل ان يصبح بعد فترة وجيزة أحد أهم الأعمدة الأساسية للصحافة الحرة والمستقلة في الوطن العربي الكبير. انني أرى نفسي عاجزا عن الكتابة عن هذا الانسان, بل الأسطورة, فليس من السهل اتخاذ قرار الكتابة عن شخصية كشخصية ناجى العلى, الفنان الذى حول فرشاة رسمه إلى مدفع رشاش، وقطرات الوانه الذي كان يستعملها إلى رصاصات لم تعرفها الحضارة من قبل..لم يكن من السهل الكتابة عن الفنان الذى رسم انكساراتنا وإن كثرت وانتصاراتنا وإن قلت. كغيره من أبناء فلسطين نشأ ناجى العلى فى الشتات بعيداً عن الأرض التى شهدت أولى لمساته والسماء التى زفر فيها أول أنفاسه..كانت آلام الغربة رفيقه الأول لكنها لم تتمكن من محو أحلامه التى لم تكتمل، ولا رؤيته التى تكونت تحت شمس مخيم اللاجئين، فخرج من بين هذه الحطام عملاقاً لم يعهده هذا العصر الذى ظن أن القوة فى السلاح وحده؛ عملاقاً قام بارباك أعتى الرجال والمؤسسات بسلاح واحد فقط فى يده فتاك يصيب أهدافه بدقة وسهولة وقوة وهو قلم وريشة ناجى العلى. لقد وصف "شارلي شابلن" كيف ظل لفترة طويلة يتخير ملابس شخصية المواطن الصغير ، وكيف بحث طويلا ليجد تلك الجاكيتة الفضفاضة ، والسروال الضيق ، والحذاء بمقدمته العريضة..ناجي العلي استطاع أن يجد لحنظلة ما يميزه كشخصية فنية لكي تتجاوز تلك الشخصية حدود الطفل الفلسطيني وحده وتصبح رمزا عالميا للطفولة التي تتشرد في الدنيا..خلق ناجي العلي شخصية حنظلة دون وجه ، ظهره للعالم.. نحن لا نرى وجهه ، ولا دموعه ، ولا غضبه ، لكننا نحبه ونشفق عليه إلي درجة قد تفوق محبتنا لأطفالنا وإشفاقنا عليهم..ويذكرني ذلك بما قام به المخرج فيكتور فلمنج في فيلم " ذهب مع الريح " عن رواية مارجريت ميتشيل..في هذا الفيلم الذي ظهر عام 1939 تحل على البطل"رد باتلور" كارثة وفاة طفلته الوحيدة.. والمألوف في هذه الحالات أن يرينا المخرج دموع الأب وعلامات الحزن القاتل على ملامحه..لكن المخرج على العكس من ذلك اعتبر أن أفضل وسيلة لنقل الأحزان لن تكون بإظهار وجه الوالد ، بل بإخفاء ذلك الوجه تماما..هكذا ما أن تموت الطفلة في الفيلم حتى يندفع الأب إلي غرفة منعزلة فلا نراه ولا نشاهد وجهه..نحن لا نرى وجهه، ولهذا تحديدا ينطلق خيالنا دون قيد لتصور مدى معاناة الوالد..إنه تخيل مفتوح بلا نهاية..! ووجه لا تشاهده- وتعلم أن صاحبه معذب- أقوى تأثيرا من أية دموع حقيقية تراها أمامك..هكذا أيضا خلق ناجي العلي شخصية حنظلة الصغير: متبرما، لا يثق في أحد ، ويعلم أن الدنيا كلها ظلمته ، ولا يحول قلبه عن فلسطين..خلق ناجي العلي حنظلة بلا وجه لكي يتخيل كل منا عذابه إلي المدى الذي يسمح به خياله, والخيال هنا لاحدود له وهذا ماراده فناننا الراحل.
وعن حنظلة يقول ناجي العلي: قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة في البداية.. قدمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطور وعيه اصبح له أفق قومي ثم أفق كونيّ وإنساني..أما عن سبب إدارة ظهره للقراء، فتلك قصة تروي في المراحل الأولى رسمته ملتقياً وجهاً لوجه مع الناس وكان يحمل الكلاشينكوف وكان أيضا دائم الحركة وفاعلا وله دور حقيقي..يناقش باللغة العربية والإنكليزية بل أكثر من ذلك ، فقد كان يلعب الكاراتيه..يغني الزجل ويصرخ ويؤذن ويهمس ويبشر بالثورة..لم أسع من خلاله للتميز..فهو في العاشرة وسيظل في العاشرة حتى يعود الوطن ، عندها فقط يكبر حنظلة و يبدأ في النمو وكان يقول عنه أيضاً " هذا المخلوق الصغير الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي بالتأكيد و ربما لا أبالغ إن قلت أنني سأستمر به بعد موتي". كان "حنظلة" طفل ناجى العلى الذى اختصر فيه طفولة فلسطين المشردة بين المخيمات؛ شاهداً على كل ما رسم وكل ما نشر يشارك مرة بإلقاء الحجارة ومرة يكتفى أن يكون متفرجاً وحسب، ظل "حنظلة" الرمز الذى تركه ناجى العلى ورائه لا يموت أبداً شاهداً على ما يجرى حتى الآن.
ولكن ما هي اسباب وأسرار نجاح ناجي العلي: لأنه كان مواكباً للمتغيرات المحيطة به كافة السياسية والاجتماعية وكان يتأثربها ويؤثر فيها، والفنان العلي ليس الاكثر شهرة وهذا انتقاص له لأنه ما زال حياً من خلال رسومه على الرغم من مضي هذه السنوات كلها فما زال حنظلة الى اليوم يسير في الشارع وهو يحدث الناس..كثير من المشاهير ساهمت وسائل الاعلام فيها وغذوها، أما ناجي العلي فرسومه هي التي غذّته لذلك ما زال يتربع على عرش الشهرة الى اليوم، والمقصود بالشهرة ليست الشهرة الاستعراضية بل هي الحاجة الى الناس ولأن اعماله حاضرة بيننا وتمس الناس، ما رسمه ناجي العلي منذ عشرين سنة ما زال صالحاً للنشر في هذه الأيام، وكأنه كان يستشف للمستقبل لأنه كان يرسم للأدب وليس رسماً آنياً. لا يتأتى نجاح أي انسان من فراغ وليس هو من قبيل المصادفة أو ضربة الحظ، وانما أسباب النجاح كامنة في شخصية الفرد وتربيته وقدرته على المثابرة والجلد، فضلاً عن المعرفة والموهبة والايمان بما يقوم به, وناجي العلي واحد من هؤلاء الناجحين ولا شك في ان الموضوعات التي تناولها في رسوماته الكاريكاتيرية قد لفتت اليها الانظار فهو رسام فلسطيني ومن الطبيعي ان يلتفت الى معاناة شعبه في الداخل والخارج. ان السؤال هو ليس سر نجاح ناجي العلي الى اليوم، بل بقاء سر نجاح العلي الى اليوم، هذا البقاء يعود الى جذور ناجي الضاربة في الأرض والانتماء.. قطف ناجي العلي غيلة لم يقض على جذوره..وكل يوم تخلف الجذور فروعاً جديدة..إن اعتماد ناجي العلي على الرسم الذي يبقى..هو سر بقاء ذلك العمل..العمل الذي رسمه ليس لحدث آني يسقط بمروره، ناجي نجح حيث غيره لم ينجح باقترابه الأكثر من انتمائه ومن جذوره..في وقت معظم ما يرسم فيه هو لارضاء الآخرين..! قليلة هي المرات التي تمّ فيها اعدام فنان حتى في اعتى الديكتاتوريات•..اعدمت لوحات واعدمت كتب وأعدمت بطبيعة الحال مسرحيات لكن الفنانين والكتاب والمسرحيين غالباً ما عزلوا وكفّت ايديهم وصودرت أعمالهم او حجزت في جواريرهم.. اما القتل فلا، اذ ان قتل فنان اشبه بقتل عصفور..انه قتل للموسيقى الضعيفة التي لا تهدد احداً..!
هناك دائماً طريقة لتجنب قتل فنان..وهناك دائماً وسيلة لإسكات فنان من دون قتله..لم يسأل الطاغية الذي ارسل قاتل ناجي عما اذا كان ناجي رساماً كبيراً فالعلي ليس مغموراً ولا نكرة.. انه اشهر فنان فلسطيني وهو من كبار رسامي الكاريكاتور ثم انه من الفنانين النادرين الذين يتاح لهم ان يغروا ضمير شعب وان تتكلم اعمالهم بلسان شعب..فلأمرٍ ما كانت كاريكاتورات ناجي العلي مطابقة لوجدان عام ولأمر ما بدت هذه الكاريكاتورات اكثر من رسوم وافكار.انه لا شك ان من ارسل قاتل ناجي العلي كان على درجة من الغلظة والجهل وفساد الذوق بحيث اجاز لنفسه ان يعدم فناناً في وزن العلي واسمه..لا شك انه على درجة من قلة التدبر بحيث رضي لنفسه ان يقتل ريشة.. ولم يعلم ان دمغة كهذه لن تزول وقد ينسى له الناس اخطاء كثيرة لكن ذبح ريشة امر لا يغتفر..! ناجي العلي..حالة جسدت وجمعت مآسي المواطن العربي كلها..القهر، الذل، الهزيمة، التحدي، الانتصار، والاستمرار، الحزن، الفرح...ناجي العلي..حمل هموم المواطن العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً، وكان صدق الانتماء هويته..والإيمان بقضيته جواز مرور الى دول العالم، هو معركة بحد ذاتها خاضها وحنظلة في وجه كل مستبد وهي المعركة التي استشهد وضحى بروحه فيها..ناجي العلي..يبقى المعجزة التي حركت الشعور والذات العربي حيث لا يجد مفراً من الانتفاض ورفض الظلم والقهر..هو الصامت الذي بلغ صمته من خلال رسوماته بلاغة زلزلت الكيان الصهيوني وهز المجتمع العربي والفلسطيني, لذلك كانت ريشته المتحدثة دوماً مستهدفة كما استهدف هو، لهذا لا يوجد فنان يستطيع ان يحل محله..أو يأخذ مكانه ومقعده لأنه هو من فصّل هذا المقعد وأخذه معه..لأنه من خلال رسوماته وأفكاره وصل الى بقاع العالم وبقي حياًً الى يومنا هذا. كان اغتيال ناجى العلى عصرصفعة قوية على وجه الحضارة التى لم تستطع حماية أحد أبنائها، حين تم التعامل مع الفنان المناضل بأسلوب القتلة؛ كما أثبت حادث اغتياله أنه أحياناً للكلمة وللخط المرسوم وقع أقوى من طلقات الرصاص الذى أزهق روح فنانا. رثى الكثير من الشعراء ناجى العلى ونددوا بجريمة قتله الغادرة ومن أقوى المقاطع التى قيلت فى هذا وأشدها تأثيراً قصيدة شاعر العامية المصرى عبد الرحمن الأبنودى التى رثى بها العلى فى ديوانه"الموت على الأسفلت":أمايه..وانت بترحى بالرحا..على مفارق ضحا..وحدك وبتعددى..على كل حاجه حلوه مفقوده..ما تنسينيش يا أما فى عدودة..عدودة من أقدم خيوط سودا فى توب الحزن..لا تولولى فيها ولا تهلهلى..وحطى فيها اسم واحد مات..كان صاحبى يا أما..واسمه, ناجى العلي..! "احذروا ناجي، فإن الكرة الأرضية عنده صليب دائري الشكل، والكون عنده أصغر من فلسطين، وفلسطين عنده المخيم، إنه لا يأخذ المخيم إلى العالم، ولكنه يأسر العالم في مخيم فلسطيني ليضيق الاثنان معا، فهل يتحرر الأسير بأسره؟ ناجي لا يقول ذلك. ناجي يقطر، يدمر، ويفجر، لا ينتقم بقدر ما يشك، ودائما يتصبب أعداء"..الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.
"انه الظاهرة الأكثر سخونة وإرباكا في فن الكاريكاتير العربي على امتداد العقود الخمسة الأخيرة، وانه خرج من دائرة الانتماء الوطني إلى دائرة الانتماء القومي، فالإنساني الكوني"..الشاعر الفلسطيني البارز سميح القاسم. غاب عنا ناجي العلي، لكن ريشته لم تسقط وبقي حنظلة المقهور يصرخ ويصرخ واقفاً عاقداً يديه خلف ظهره شاهداً منتظراً، مواجهاً الهزيمة..لن نبكي موت ناجي لأن الرصاص لن يكسر القلم النقي الطاهر..وكالعادة وكما قال الراحل نزار قباني:"يا وطني,كل العصافير لها منازل, الا العصافير التي تحترف الحرية,فانها تموت خارج اوطانها"..وصدقت يا شهيدنا ناجي بقولك: "اللي بدو يكتب عن فلسطين، وإللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله ميت، أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي"..! وأخيراً, يبقى ناجي العلي الفنان الاسطورة والعبقري لأن رسومه كانت بسيطة غير معقدة ومفهومة من قبل الجميع، لأنه رسم للناس البسطاء والفقراء لذلك استطاع أن يصل الى قلوب الناس وكثير من الفنانين اعجبوا بأعماله وتأثروا بها، وفي كل يوم يكتشفون في رسومه شيئاً جديداً..ناجي العلي كالشمس التي تشرق كل يوم..شمس الابداع ..شمس الحقيقة..شمس الفن المتألق..!
-القدس المحتلة

صدور رواية (الضجيج) لحسين سليمان


عن دار نينوى في دمشق صدرت رواية الضجيج للروائي السوري المقيم في امريكا حسين سليمان. جاءت الرواية في 140 صفحة، عن الشخصية الرئيسة قاسم، وهو مبرمج وعالم عربي يعيش في مدينة هيوستن ويعمل في إحدى شركاتها، تصف الرواية كيف يقع في الوهم والخديعة، هو اقرب الناس الى الواقع لكن ما يجري في الشرق، موطنه الأصلي يدفعه نحو اختلاق تخيلي للعالم.

العالم له احتمالات وجود، وهو ليس حالة واحدة بل حالات غير متشابهة. يدرك أن أسرته تهجره، زوجته تخدعه حين يستيقظ بعض الاحيان لا يجدها الى جانبه، تهمة الاغتراب والروح منكسرة لكن حب الحياة ومحاولة النهوض .. تعرض الرواية إلى وقوع الشخصية الرئيسية "قاسم" في شرك ينصبه له احد اصدقائه الامريكان بالتعاون مع زوجة قاسم، وهناك اسقاطات على ما يحدث بين عالمي الشرق والغرب.
وهنا بعض المقاطع التي تنقل الجو العام للرواية:
"ليس كل أمام هو حياة، أمامه موت وشيك، ولكن إن أراد الحياة فعليه أن يعود إلى الوراء، إلى عذابه... يبدأ الدورة مرة أخرى.
توقفت العاصفة، لكن الرياح لم تتوقف، تبقى تصفر وتجر معها السحب والأهوال، وتجر أيضا القصص التي قصتها له في ليال بدت له قديمة، أقدم من قبعة الإخفاء التي يعتمرها، أقدم حتى من علي بابا. آه، أريد غطاءً آخر ياميري فجسدي مازال باردا

لفتة هامة لتكريم الأديب والمناضل الكبير حنا ابراهيم


نبيل عودة
التكريم جري " بسرية " وبغياب صارخ لأقرب الأصدقاء والزملاء

لم يسرني ويلفت انتباهي خبر ثقافي بالقدر الذي سرني ولفت انتباهي خبر تكريم بلدية الشاغور للشاعر والكاتب والمناضل الكبير حنا ابراهيم.
وبنفس الوقت أغضبني هذا الخبر .. لأن تكريم انسان بمستوى حنا ابراهيم يستحق ان يكون حدثا أدبيا يتناول ابداعات ونضال هذا الانسان المميز في مسيرته الحياتية والثقافية.
أولا شكرا لبلدية الشاغور على هذه اللفتة الكريمة .. التي أرى بها تكريما ليس فقط لإنسان له دوره ومكانته في ثقافتنا ونضالنا السياسي والاجتماعي ، انما لفتة طيبة ، عبر احد أبرز الرواد في ثقافتنا ، الى مسيرة ثقافتنا النضالية العربية داخل اسرائيل .
ثانيا لماذا لم ُينظم التكريم بشكل واسع ، وبدعوة ادباء شعبنا ، وعلى راسهم أصدقاء حنا ابراهيم وزملائه في النضال والفكر ، الى هذا التكريم الهام لنا جميعا؟!
حنا ابراهيم ليس اديبا آخر في ثقافتنا ، انما هو الأديب الذي أرسي بمشاركة رواد نا الثقافيين ، جذور أدبنا ، وصيغنا النضالية ، وتمسكنا بأرض الآباء والأجداد ، عبر تحد سياسي بطولي نادر في تاريخ الشعوب.
المعركة العملاقة التي خاضها جيل حنا ابراهيم جعلت منا شعبا متراص الصفوف ، جريئا في النضال ومقاومة الاضطهاد القومي وارهابه ، في أكثر الظروف سوادا بتاريخنا ، بعد نكبة شعبنا الفلسطيني .
جيل حنا ابراهيم قاوم سياسة التجهيل بلغتنا وتراثنا وأرسى نهجا ثقافيا نضاليا كان الفاتحة والقاعدة الصلبة لتطور أدبنا ووصوله الى ان يصبح أحد ابرز ممثليه ، محمود درويش .. أهم شاعر عربي معاصر .. الى جانب ادباء وزملاء اسسوا لنهج ثقافي نضالي صار نموذجا ومثالا ثقافيا وسياسيا للشعوب.
مع ذلك لعلها هفوة من بلدية الشاغور ، ولكني أطمع الى تكريم لحنا ابراهيم يستحق هذه الصفة حقا ، عبر مشاركة واسعة من أدباء شعبنا ، وفي مقدمتهم زملاء وأصدقاء حنا ابراهيم ، الذي زاملوه أيضا بالنفي والسجون والملاحقة البوليسية والتعرض لهراوات الشرطة ، وزاملوه في المشاركة في المهرجانات الشعرية والسياسية التي أعطت لشعبنا عنفوانه السياسي ووعيه لأهمية الحفاظ على تراثه ولغته في مواجهة شراسة سياسة التجهيل والتجويع والارهاب وشراء الذمم .
حنا ابراهيم ليس أديبا فقط ، وليس مناضلا سياسيا فقط ، انما هو سجل شامل لتاريخ شعب ، وتاريخ نضال ، وتاريخ ثقافة .. ومن المؤسف ان هذا السجل يبقى "داخل الحصار" .. غائبا عن الأجيال الجديدة .
بظل أبطال مثل حنا ابراهيم نشا جيلنا وتثقف سياسيا . على رعد قصائد حنا ابراهيم وزملائه الطلائعيين في مهرجاناتنا السياسية والشعرية ارتبطنا بثقافتنا وبدأنا خطواتنا الأولى كأدباء امامنا أفضل نموذج يمكن أن يحلم عليه الأدباء الناشئين . وحقا أثبت هذا النموذج أهليته وأهميته ومضمونه التربوي والثقافي والسياسي .
فهل لا يستحق حنا ابراهيم تكريما لمسيرته النضالية والثقافية ، تتجاوز الحدود "شبه السرية " التي تكرمت بها بلدية الشاغور، مشكورة رغم كل شيء؟
حقا أشعر بالألم بان لا أكون حاضرا في تكريم بطل من أبطال شعبنا بكل المفاهيم .واكاد أشعر بألم أصدقاء وزملاء ومحبي حنا ابراهيم .. الذين جرى هذا التكريم من وراء ظهورهم!!

نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com

الخميس، أغسطس 28، 2008

لِلّه الْبَيْت

محمد محمد علي جنيدي


قَامَتْ والْلَيْلُ يَطُوفُ بِنَا

أنْغَاماً، والْأحْلَامُ وُرُودْ


تَبْكِي والدَّمْعُ يَطُولُ بِهَا

يُنْبِي عَنْ شيءٍ.. أُمَّ خُلُودْ!


قَالَتْ أَوَ لَيْسَ الْقُدْسُ لَنَا..

مَا آنَ لِهَذا الْحَقِّ يَعُودْ!


أيَظَلُّ الظُّلْمُ يُطَارِدُنَا..

والْقَهْرُ يَدُومُ بِغَيرِ حُدُودْ!


أَوَ لَيْسَ لِبَيْتِ اللهِ ضُحَى..

أََوَ يَكْفِي الْأقْصَى وَهْمُ وُعُودْ!


الْكَعْبَةُ كَمْ تَبْكِيه دَمَا

وسَمَاءُ الْكَوْنِ وَنَحْنُ جُمُودْ !!


واللّهِ لَهِيبُ الذَّنْبِ هُنَا

أنْ يَبْقَى الْأسْرُ وَنَحْنُ شُهُودْ


يَا أُمَّ خُلُودٍ: لَسْتُ أنَا

مَا كُنْتُ سِوَى بَيْتٍ لِقَصِيدْ


للَّهِ الْبَيْتُ وَلَيْسَ لَنَا

إلَّا الْأحْزَانُ وَهَمُّ قُيُودْ


يَا تَوْأمَ بَيْتِ اللهِ عَسَى

يَأتِيكَ اللهُ بِخَيْرِ جُنودْ

أصل وصورة

عـادل عطيــة

فى إحدى المستشفيات
كان لقاء
وكانت صداقة
وكم من صداقات ، هى وليدة الألم : آلامنا ، أو آلام غيرنا !
لذلك فهى حميمة ، وعظيمة بمقدار الألم العظيم !
**
تعرّفت إليها :
أرملة وثكلى فى مقتبل العمر
فقدت وليدها ، وزوجها
فى حادث مأساوى
أبقى آثاراً واضحة المعالم على جسدها ، الذى كاد أن تلتهمه النار
إلا نفسها
فقد حمل روحها ، باقتدار ، جسدها الذى يئن !
ناولتنى صورتها ،
التى سبقت الحادث ،
وقالت لى :
هذه آخر صورة ألتقطت لى
فقد امتنعت عن الظهور فى أى صورة من الصور : فردية أو جماعية
كانت الصورة جيدة زاخرة بالحياة ،
أو : كالحياة ذاتها
تأملت تلك الملامح ، التى كشفتها العدسة فى لقطة
ففى كل صورة من صور الإنسان غنى لا ينضب
إنها جزء منه ، ومن شخصيته
مع اننا أمام العدسة ،
لا نرى سوى أنفسنا ،
ولا نحس إلا باللحظة الزائلة التى ينفتح فيها مصراع آلة التصوير ،
وينغلق فى اقتناص !
وتساءلت :
ترى ماذا كنا سنبدو فى تصاويرنا ،
لو كنا نعلم بما سيحدث لنا من أحداث عميقة ومؤثرة ؟
فلو كانت هذه السيدة التى ترقد على السرير الابيض ،
تعلم بما سيلم بها فى المستقبل ،
لما ظهرت على بساطتها ،
وهدوئها ،
المرتسمين على وجهها فى هذه الصورة ،
ولفقدت إلى الأبد واحدة من الذكريات التاريخية فى حياتها
**
لا بد وأن نقر بأن الجمال الحق لا يكمن فى الملامح المتناسقة ،
بل فى الروح الثاوية خلف حجاب يقينا مصاعب الحياة
وكمهمة المصور،
علينا أن ننفذ إلى ما وراء المظهر الخارجى ؛
لنكشف الجمال المستتر
فلوحة : " الجيوكندا " أو : " الموناليزا "
الشهيرة والثمينة
لا يرجع تقديرنا لها إلى جمال مثير فى سيدة اللوحة ،
وإنما لما وراء هذه اللوحة من مشاعر وومضات وعبقرية الفنان ،
الذى وجه أنظارنا بلمساته السحرية :
إلى ذواتنا بما فيها من خلق ، وابتكار، وإبداع
وإلى غيرنا ، فنشاركهم مشاعرهم
وإلى ذاته ، إلى : ليوناردو دافنشى
الإنسانى العميق
الذى تأثر كثيراً بأحزان سيدة اللوحة : ليزا الشمعة المحترقة !
**
اعدت الصورة إلى سيدة الصداقة
وقد تعلمت :
أن الانسان أعظم من الصورة
ومهما شوهته الأحداث جسدياً ،
ستبقى فيه تلك الروح الخلاقة المتصلة بالله ،
فهى التى تعكس مدى أهميته فى الكون

adelattiaeg@yahoo.com

دعوة سامية لعشتار بابل

د. عدنان الظاهر

مَن يا ترى يرفضُ في هذا اليوم دعوة ً سامية ً دبلوماسية المستوى ؟ هل سترفضها عشتارُ بابلَ وهي الدبلوماسية المحنكة ذات الباع الطويل في شؤون السياسة والإقتصاد وفن المراوغة والمناورة ؟ لا أظن ذلك . إذا ً توكلْ ووجهْ لها دعوتك ولسوف نرى . أرسلْ لها دعوتك بالطرق الدبلوماسية عن طريق سفارة العراق في برلين . فإنْ رفضت السفارةُ التعاونَ معك أرسلْ الدعوة لها بالبريد الألكتروني العادي فلا بروتوكولات ولا أتيكيتات ولا هم يحزنون . هذه الرسائل بسيطة تصل أهدافها بسرعة فائقة تضاهي سرعة سريان الكهرباء في أسلاكه المعدنية.
ماذا سأكتب لها في هذه الرسالة وهي لا تفهم أو تقبل إلا لغة الدبلوماسية العالية المستوى فقد دخلت دورة أمدها ستة أشهر في معهد الخدمة الخارجية التابع لوزارة الخارجية العراقية ؟ قلْ لها مثلاً : سيدتي المبجَّلة مليكة بابل َاليوم وسومرَ في غابر الزمان ... آلهتي عشتروت أو عشتراو ... هل أنت مجرد ملكة أو أنك آلهة وربّة ؟ جوابكِ عن هذا السؤال ضروري يا سيدة . ضروري لأنه يترتب عليه أسلوب مخاطبة سموكم من ثم نمط وأساليب ومقتضيات حفل إستقبالكم الرسمي على أرض المطار وأوزان مَن سيشارك في هذا الإستقبال ؟ فإنْ سألتك وما قصدك من هذا السؤال أجبها إني بشر ٌ سوي ٌّ ممن يعبدونك ذو جسد لكني آلهة ٌ من روح دون جسد ... أنوي أن أوجه لجنابكم دعوة رسمية لزيارتي في مكان ما من هذا العالم الكروي . وإذا رفضتك ودعوَتك من باب التعالي عليك جملة ً وتفصيلا ً فما عسى أن ْ يكونَ موقفك ؟ سأقترح حينئذ ٍ عليها أنْ تغيّر جلدها وطبيعتها وطبيعة مهماتها لتغدو إمرأة ً بشراً صرفاً مثلي من لحم وعظم وعصب ودم . إمرأة كغيرها من نساء العالمين تحب وتكره تفرح وتحزن تأكل الطعام وتنام تزور وتزار تتزوج فتنجب . سأقترحُ عليها ـ إنْ تعذر عليها هذا الأمر ـ أنْ تطلبَ مساعدة إلهها الأعلى السيد مردوخ . وإنْ رفض التعاونَ معها هذا الربُ / الصنم ُ ؟ ستلجأ هي عند ذاك إلى مليك بابلَ جلالة حمورابي العظيم ذي الكرش الواسع والمقعد العريض والرقبة المخنوقة وصاحب المليارات في بنوك لندن وسويسرا ونيويورك وغيرها من العواصم . أمرٌ رئاسي ٌّ واحد ٌ منه كاف ٍ لتغيير كل ما في بابلَ من طقوس ٍ وعادات ٍ ومعتقدات ٍ ودمقراطيات توافقية وأخرى رقمية . أمرٌ واحدٌ لا يحتاج إلى موافقة برلمان بابلَ التوافقي أو المجالس الرئاسية القرة قوزية المتعددة الأشكال والألوان والطُرُز . مليكُ بابلَ اليومَ أقوى وأعلى مقاماً من ربه مردوخ . تنفستُ الصُعداء َ. وجدتُ الحل َّ الأمثل . لا من مشكلة ٍ تواجهني في هذا الأمر . البساطة بلسمٌ سحريٌّ يفكُّ العُقد ويعبّد الطرق ويفتح المسالك الصعبة والممالك البعيدة .
ها هي ضيفتي آلهة بابل َ سابقاً تخلت بمرسوم ٍ صادر عن مكتب الملك حمورابي عن نصفها [[ الألوهاني ]] وإحتفظت بنصفها البشري فجاءتني إمرأة ً كاملة َالأنوثة والنضج الجسدي كأنها سفيرة . لم أصدقْ عيني ! هل حقاً هذه هي عشتار ربة بابل سابقاً ؟ ربة الجنس المقدس والخُصب والتناسل ؟ مدت يدها تصافحني فوددتُ لو أقبلها في كل مكان من جسدها السامي الأصول والفروع . لو أقبلُ رأسَها وعينيها وخديها ثم شفتيها الورديتين . لم أجرؤ على القيام بذلك . إنها زيارتها الأولى لي فلأحتفظ أمامها بوقاري ورزانتي وثقل وزني ولأحفظ لها حرصها على صيانة مستلزمات هيبتها السابقة وهي التي كانت تملأ سمعَ وبصرَ العالمين . إحترامي لنفسي ثم هيبة عشتار التي غيّرت كلَّ شئ فيها إلا إسمها ولقبَ عائلتها المبارك القديم . ما أسباب هذه الدعوة يا صديق ؟ [ غدونا أصدقاء تربطنا علاقة صداقة لا علاقة عابد ٍ بمعبود ]. تلعثمتُ وتحيرتُ لأنني لا أعرف الجواب. لماذا دعوتها ؟ لا أدري . كانت مجرد نزوة ٍ وطيش ِ غرور ٍ وشطحة من شطحات خريف العمر . أريد أنثى أقول لها إني أحبك ... إني أتفانى في حبي هذا ... إني أعبدك حبيبة ً ونبية ً وربة ً أتتني من مسقط رأسي في بابل . ها هي الآن أمامي إمرأة ً وجسداً ممتلئاً له خوارٌ لا آلهة شبحاً من ظل ليس له حدود ٌ أو وجود . إنْ عبدتها فلسوف لا أعبدُ فيها إلا جسدَها الأنثوي التام النضوج الذي لم يكتمل على نار فحمٍ هادئة ٍ إلا بعد خمسين عاماً . بعد إستراحة مناسبة تخللتها أحاديث شتى مع الكثير من أكواب عصير البرتقال الطبيعي وبعض فاكهة الصيف عرضتُ عليها أن نتناول طعام الغداء في مطعم راق ٍ مجاور يقدم أفخرَ أنواع لحوم عجول البقر المشوية والمقلية مع الكثير من الخُضار الطازجة الشهية . هل من كأس جعّة أو منقوع الشعير ؟ قالت أجلْ ولكن بدون كحول . أنا متدينة ما دمتُ في عالمكم هذا بل وأميلُ إلى التوشح بربطة رأس وعباءة تنشق إلى نصفين عند الركبتين كي يظهرَ سروالي الحريري الجميل الذي أرتديه عادة ً مع هذه العباءة . تجوّلنا بعد الغداء في عوالم خيالية كثيرة لم ترَ هي مثيلاً لها لا في مملكة بابلَ ولا فيما عداها من ممالك ذاك الزمان . قالت قص َّ عليَّ أخبارَك وكيف تقضي أوقاتك وأية بلدان تزور وكيف تكتب مقالاتك وهل لديك صديقات غيري أو ربما حبيبات . ضحكتُ بأدب جم ثم قلت لها يا ضيفتي وزائرتي بعد قطيعة خمسة آلاف عام ... لم أكن لأصدق أني أراك ثانية ً معي وإننا هنا مجتمعان كصديقين مع الأمل أنْ تتطور صداقتنا إلى حب ٍّ أو شئ ٍ يشبه الحب . قالت ماذا تقصد ؟ أقصدُ أنْ تتكلمي أنت بالتفصيل عن مجمل أحوالك المدنية والدينية ، البشرية العادية وغيرها التي تخص شؤون ومسؤوليات الالهة العليا . كنت أنتِ على الدوام آلهة ً مرة ً للخصب والتناسل ومرة ً أخرى لممارسة الجنس المقدس في زوايا المعبد الذي يحمل إسمك في بابل وفي سومر قبل بابل . ثم كنت تتطوعين أحياناً لمساعدة الملك حمورابي في تصريف شؤون المملكة وتترأسين مكتبه الصحافي مستشارة ً في شؤون الإعلام أو مستشارة في أمور الحرب والسلام وتربية الحمام والديك الرومي ( علي شيش ) . وإذا تبقى لديك بعض الوقت تسامرين إلهك مردوخ وترفهين عنه في بعض قصوره الباذخة أو بين بساتين بابل العامرة أو على ضفاف نهر الفرات تحت القمر الكبير الخاص بمملكة بابل. وعليه يا صديقتي القديمة ـ الجديدة فإني أتوقع منك أن تسهبي في الحديث عن نفسك لا أنا مَن يتحدث. حياتي جفافٌ في جفاف لم أعاشر الملوك ولا الملكات ولا كنتُ يوماً خدينَ الأرباب والربّات . لم أكنزْ مالاً ولا ذهباً ولا فضة ً . حرمني البعثيون من وطني وداري وأهلي وسيارتي ومكتبتي وكانوا عازمين على التخلص مني بتصفيتي تحت التعذيب أو إغتيالاً في الطرقات المظلمة كما حدث مع الكثير من العراقيين . لذا تركتُ العراق للبعثيين ومَن والاهم وفضّلتُ التشرّد والمغامرات ومعي أطفالي لكي أجنبهم الكارثة التي كانت قاب قوسين أو أدنى منا . ماذا أحكي لك يا سيدة ٌ حاضرة ٌ أمامي ويا آلهة ٌ في غيابي ؟ أنتِ التي ستحكين وتقصين فأنا في الحقيقة مشتاق لأنْ أسمعك تتحدثين لي عن دقائق حياتك فأنتِ ما زلتِ غامضة ً بالنسبة لي بل ومجهولة كبحر الظلمات . لِمَ على سبيل المثال لبيتِ دعوتي وقبلتِ التنازل عن كافة خصائصك وإمتيازاتك الملكية وطبائع الآلهة فيكِ . ما الذي أغراك يا سيدتي بالنزول إلى مستوى البشر العادي وقبولك دعوتي التي وجهتها لك بالبريد الألكتروني الذي لا يليق بمقامات الملوك والآلهة وممارسي الجنس المقدس ؟ كيف قبلتِ دعوتي وقمتِ بزيارتي وماذا تتوقعين أنْ تجدي عندي ؟ تنهدتْ عشتارُ بابلَ عميقاً وبعد فترة صمت محيّر قالت : إشتقتُ للبشر ... وجدتُ فيَّ هوىً جباراً لا يُقاوم لأنْ أمارسَ بشريتي فقد ضقتُ ذرعاً بمسؤولياتي ملكة ً يوماً وآلهة ً يوماً ثانياً ونائبة ً للملك يوماً ثالثاً ونديمة ً ومحظية ً لمردوخ يوماً رابعاً . نعم يا صديق ، أسأمتني هذه الواجبات والمسؤوليات حتى كنتُ أحياناً أفضِّل الموتَ على مثل هذه الحياة . فأنا كما ترى بشرٌ كاملٌ مثلك فلِمَ التنازل عن إنسانيتي وطبيعتي البشرية وتقمص هيئة ملاك أو مليكة أو نصف آلهة ؟ ما هذا التلفيق العاري والتدليس عليكم أنتم بشر الكرة الأرضية ؟ كله خداع ... خداع في خداع ... خُدعة تجر ُّ إلى أخرى وهكذا دامت وعمّرت المهزلة آلاف السنين . أجد وأرى مظاهرها وأشكالها وتلاوينها عندكم اليوم في العراق الحديث سليل بابل القديمة ولا من شبه بين الإثنين .
قاربت الساعة السابعة مساء فتناولنا طعام العشاء في مطعم حديث يقدم الكباب العراقي [ لحم غنم ] مع خبز حار من التنور والطماطة المشوية .
أتفقنا أنْ نواصل حديثنا غداً وربما نقوم بسفرة على ظهر باخرة تمخر بنا مياه البحيرة الهائلة الواقعة في ضواحي المدينة المحاطة بالغابات الكثيفة وجبال الألب الشاهقة .
ذهبتُ وعشتار إلى مكان إقامتها في فندق فخم ذي خمس نجوم . ودّعتها عند مدخل الفندق وتركتُ على خديها قبلتين بريئتين جداً جداً .
...
قصدتُ فندقها صباح اليوم التالي في الوقت الذي حددنا حسب الإتفاق . فوجئت بل أصابتني صدمة كهربائية تشبه في بعض وجوهها الزلزلة . قدم لي مدير الفندق ورقة صغيرة صفراء اللون مكتوباً عليها بخط يد عشتار الذي أعرف ما يلي << يؤسفني أنْ أقولَ لك إني غادرتُ بلدك الجميل على عجل . طلب مني مجلس الرئاسة أنْ أعود لبابلَ على الفور . تعالَ زرني هناك إذا شئتَ . سأكون في إنتظارك . التوقيع : صديقتك عشتار >> . تركتُ الفندق ونجومه الخمس مترنحاً لا أقوى على السيطرة على حركات قدميَّ . شعرتُ بجوع غريب وظمأ لا يرحم . ماذا جرى ؟ ما حقيقة الأمر ؟ لم أجدْ جواباً فقررت أن أغادرَ قاصداً بابلَ كما إقترحت عشتارُ . حجزتُ تذكرة سفر ٍ على الطائرة المغادرة من مدينتي إلى مطار النجف . حطّت الطائرةُ في مطار النجف بعد أقل من ساعتين . إستأجرتُ سيارة تاكسي فطارت بي أسرع من الريح . فتحت الخادمُ باب قصر عشتارَ فماذا وجدتُ ؟ وجدت الصديقة التي تخلت عن تاج الملوكية وعرش الآلهة شعثى باكية في أتعس حال . وضعتُ كفي على رأسها ذي الشعر الطويل الناعم الكستنائي فرفعت عينيها صوبي . قامت تمسح الدموع التي سفحتها عيناها بسخاء فإنفرجت أساريرها قليلاً قليلاً ثم تبسّمت وقالت إجلسْ ، إجلسْ هنا قربي . حضر الشاي المعطّر بالهيل والدارسين والمعتق بمسحوق القرنفل . ماذا تودُ أنْ تأكل ؟ سألتني فقلتُ لا شئ ، قصّي عليَّ حكاية ما جرى . تركتني ومضت لتغتسلَ وتتكحل وتصلح زينتها وتمشط شعرها وتبدل ملابسها ثم عادت بعد فترة وجيزة مشرقة َ الوجه باسمة َ العينين . هيا إحكي لي يا صديقة قصة ما حدث لك .
قالت : كنت في حجرتي أتهيأ للنوم ففاجأتني إدارة الفندق ببرقية يطلب الملكُ حمورابي مني فيها العودة إلى بابل بأقصى سرعة ممكنة . حين وصلت قصرَ الملك في المنطقة الخضراء من بابلَ وجدتُ أمرَ إعفائي من كافة وظائفي ومسؤولياتي الدينية والدنيوية !! ووجدتُ مع هذا الأمر مرسوماً ملكياً يقضي بإحالتي على التقاعد مع كامل مخصصاتي ومرتباتي التي كنتُ أتقاضها قبلاً . مضافاً إلى ذلك قطعة أرض أينما أشاء داخل حدود المملكة وداراً جميلة ً في منطقة كرادة مريم في بغداد ومخصصات حماية ومنحي لقب [ دوقة ] إلى الأبد يحمله ورثتي من بعدي . سألت ُ جلالته عن السبب فقال إنك خالفت البروتوكول المتبع في مملكتنا . غادرتِ المملكة بدون إذن ٍ مني . وغادرتِ لتلتقي برجل غريب ليس من طبقتنا . كانت وجنتاها تشعان لوناً وردياً يخطف الأبصار وهي تقصُّ عليَّ حكايتها . هل أواسيها على فقدانها إمتيازات الملوك والأرباب أم أهنئها على ما نالت من إمتيازات لا سابق لها في عالم التقاعد ؟ كانت في السابق آلهة ً مهيبةَ الجانب مطاعة الأمر واللحظ أما اليوم فلقد غدت نسخة بشرية ً أخرى عادية من الأنماط التي أرى وألاقي كل يوم هنا وهناك . ما كان الحصولُ على موعد للقائها في السابق أمراً هيناً بل كان في غاية الصعوبة . اليوم في وسعي أن أزورها متى ما أشاءُ أنا ومتى ما أرادت هي فكل الطرق وكل السبل مفتوحة أمامي متاحة ليلاً ونهاراً . وهذه أكبر مزايا البشر . هيأتُ نفسي للرحيل فطلبت منها تحديد موعد لألتقيها فقالت أمهلني شهراً واحداًُ كي أتكيف َ والوضعَ الجديد وحتى يتم تصليح ونصب أجهزتي. عند ذاك سأرسل لك إيميل أدعوك فيه لزيارتي وسأكون مع خدمي وحشمي في إستقبالك على مدرج مطار النجف .

الأربعاء، أغسطس 27، 2008

لنعش مع المعجزات وبدونها

عـادل عطيــة

هناك اناس شفوا من أمراض مختلفة بطريقة عجائبية ،
واناس لم يشفوا رغم الصلوات المتكررة التى رفعت لاجلهم !
ونتساءل :
كيف باستطاعتنا أن نعيش بثقة فى عالم يختبر فيه بعض الناس حصول المعجزات ،
فيما تغيب بركة هذه المعجزات عن اناس آخرين هم بأمس الحاجة إليها ؟!
وكيف بامكاننا أن نبتهج بصدق واخلاص مع الذين نالوا الشفاء ،
من دون أن نزيد من مشاعر الاحباط واليأس عند الذين لم تحصل معجزات فى حياتهم ؟!
**
يتوهج سؤال من حياة بولس الطرسوسى ،
حاملاً معه الاجابة ،
وحاملاً معه ضوءاً نحو اجابات اخرى :
كيف كان باستطاعة بولس أن يظل على ثقة بالمسيح ،
على الرغم من اختباره لمعجزات كثيرة أحياناً،
وغيابها احياناً أخرى ؟!
السبب أنه :
كان يعلم أن يسوع شفاه من أعظم مرض اعتراه : مرض الخطية
وأن الفداء أهم
ووجود اسمه فى سفر الحياة أعظم
ان الوثوق بمعجزة الحصول على الغفران والخلاص بواسطة المسيح ،
هى الخطوة الاساسية ،
لنتعلم كيف نعيش مع معجزات ، وبدونها فى حياتنا
فعندما يصبح قلبنا محوراً لاعظم معجزة على الاطلاق : معجزة الشفاء من الخطية
سيكون باستطاعتنا عندئذ أن نتحمل الاوقات العصيبة ،
عندما لا يستجيب الله بحكمته أن يصنع اية عجيبة فى حياتنا
وعندما نؤمن ونحن فى عمق المعاناة من المرض والالم ،
أن الله لم يتركنا ولن يتخلى عنا ،
وان الخلاص من الخطية لا يزال يحصل ،
عندئذ يأتى السلام الفكرى الذى يساعدنا على الاستمرار بالايمان بمحبة الله ،
ومع هذا السلام فان الله يستطيع أن يمنحنا نعمة الصبر ،
والقوة اللازمة لاحتمال الالم الجسدى ،
الذى لم يسمح بأن يرفعه عنا حسب مشيئته ،
قائلاً لنا ، كما قال لبولس :
" تكفيك نعمتى "
ان هذا السلام الفكرى ،
وهذه القوة العجيبة على الاحتمال ،
هما بحد ذاتهما : معجزتان
ولا يقلان أهمية من اية معجزة شفاء اخرى ؛
لانهما يشهدان بحضور الله العظيم فى حياتنا
**
ان الجواب على السؤال :
لماذا يشفى الله بعض الناس دون سواهم ؟!
يبقى عند الله القادر على كل شئ
لكن هذا الاله هو نفسه يعلن بطريقة واضحة وعلنية عن رغبته ،
فى ان تكون المعجزة العظمى تلك التى تتعلق بصحتنا الابدية فى محضره فى السماويات
وهذا لا يفترنا من أن نصلى له كل حين ،
طالبين منه أن يشفى امراضنا واسقامنا
ومع أن المعجزات قد لا تحصل فى معظم الاحيان
فلا نجعل الايمان ان يكون مشكلة فى حالة عدم شفائنا ،
بل لتكن ارادة الله ومشيئته
**
لنثق بالله دائماً ،
فهناك بركة من الله لكل واحد منا سواء عشنا مع معجزات ، أو بدونها
adelattiaeg@yahoo.com

صباحكم أجمل\ وداعا يا أمي.. أيتها الياسمينة



زياد جيوسي
ياسمينة من حديقة مركز رؤى في عمّان
بعدستي


رام الله.. صباحك أجمل وأنا أعود إليك بعد غياب حزينا متألما، أنشدك الشوق على عزف أنين ناي حزين، بعد أن تركت في ثرى عمّان الهوى وترابها بعض من روحي وجسدي، وكأن القدر يصر أن يبقى هواي المشتعل لعمّان أبدا، فيربطني بها إضافة لكل ذاكرة الطفولة والشباب والصبا، لكل ذكريات الحب والألم، لكل ارتباطي بها في كل دروبها وأحيائها القديمة ووسط المدينة وأزقتها المتشعبة وسنوات الدراسة وأصدقاء الطفولة والشباب والكهولة، قبر جدي الذي كان الحنان يستمد منه الحنان، يشد القدر من جديد أواصر ارتباطي بعمّان فيضم في ترابها أوراق أجمل ياسمينة.. أمي.

حين غادرت رام الله إلى عمّان في منتصف الشهر الماضي لافتتاح معرضي صباحكم أجمل- رام الله في رحاب مركز رؤى الجمال العمّاني، لم أكن قد نويت الغياب عن حضن رام الله الدافئ أكثر من أيام المعرض، وحين كنت أزور الوالدة يوميا وهي على سرير المرض الذي رقدت عليه منذ بداية العام، كانت تبادرني بالسؤال بصوتها الموهن من التعب والمرض: كيف معرضك أمي؟ تمنيت أن أحضره فقد اشتقت لرام الله.

يوم افتتاح المعرض أصرت على والدي الشيخ الكبير وكل الأسرة أن لا يبقى أحد عندها، قالت لهم جميعا كونوا مع زياد ورام الله ولا يتغيب أحد منكم عن الافتتاح، كانت أمنيتها أن تكون معنا في رحاب رؤى الذي احتضن رام الله بالحب، وكانت أمنيتنا جميعا، لكن كانت الاستحالة بأن تغادر سرير المشفى ولو للحظات.

كنت أزورها وأحدثها، أقبل جبينها ويدها، أهمس لها في لحظات صحوتها القليلة، عن رام الله والياسمين وذاكرة عمّان والأشرفية والقدس وجيوس، أقرأ لها بعض مما كتبت، فتبتسم وأشعر بالنور يتجدد في عيناها، ومرة بقيت عندها وحدي عدة ساعات، أضع لها بين شفاهها قطرات العصير حين تفتح عيناها، وحين تغفو كنت الجأ لدفتري فأكتب، وحين فتحت عيناها نظرت لي وبصوت موهن سألتني: ماذا كتبت.. اقرأ لي.. فقرأت لها نصا كتبته وأنا عندها لم أنشره بعد بعنوان: " مذكرات حفلة زار مجنونة"، فنظرت لي بعينيها المتعبتين نظرة لم أنساها وأغمضت عيناها من جديد.

في كل يوم نويت فيه العودة لرام الله بعد المعرض، كان يحصل ما يؤجل العودة، وكأن مشيئة الله أن أبقى مع الياسمينة في أيامها الأخيرة، حتى كانت الساعة التي لا بد منها، ساعة الرحيل، فأغمضت الياسمينة عيناها وعلى شفتيها ابتسامتها الأخيرة، رحلت وتركت لنا الألم والحزن والأسى، وذكريات أم لا تنسى أبدا، رحلت في السابعة من صباح الخميس الماضي، فكانت لحظات قاسية على الجميع، حين بادرت بالاتصال بإخوتي جميعا وشقيقتي الوحيدة، فحضروا جميعا، وشد أخي جهاد الرحال من رام الله فورا لنكون جميعا في وداع أغلى الناس، وداع ست الحبايب.

حين وضعناها بالسيارة التي ستقلها إلى مثواها الأخير، ونحن أبنائها الذكور الخمسة نرفعها عاليا فوق هاماتنا، كما كانت في حياتنا فوق كل الهامات، صعدت معها وأحد أشقائي، وقفز في السيارة ابني وابن شقيقتي وابن أخي، فحمدت الله أنها ترحل محاطة بأبنائها وأحفادها جميعا، يرافقونها حتى اللحظة الأخيرة، فتذكرت غيابي القسري عنها أحد عشر عاما بسبب الاحتلال، وحين كنت أهاتفها وتشكو من الفرقة والبعاد، تقول لي: أخشى أن أموت قبل أن أراك، فأرد عليها: إن غادرت الوطن لن أتمكن أن أعود إليه أبدا.. فهل تقبلي ذلك؟ فتجيب: خليك بالأرض يا أمي، والله سيكون معك ويصبرني على فراقك، ولم أراها طوال تلك السنوات إلا منذ شهور وهي تعاني على فراش المرض.

ما أصعب الفقد والفراق، فكيف حين يكون فراق الأم الحنون الغالية، وما أصعب لحظات الوداع الأخيرة، حين أنزلتها وأحد أشقائي إلى مثواها الأخير، وكنت آخر من رأى وجهها حين كشفته ورفعت عنه الغطاء، وخرجت ووضعت أول حفنة تراب بيدي على قبرها، لأقف لدقائق بعد أن بدأت الأقدام بالرحيل القي النظرة الأخيرة، وليمر شريط طويل بلمح البصر منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا، فأتذكرها وهي تحرص على زيارتي في المعتقل لخمس سنوات لم يثنها حر صيف ولا برد شتاء، كما كانت تزور أخي الأكبر في المعتقل قبلي، وأخي الأصغر بعدي، وتتنقل بين المعسكرات والقواعد لتزور ثلاثة من إخوتي، وتتسمر أمام شاشة التلفاز أثناء حصار بيروت، حين حوصر اثنين من إخوتي في الحصار، وتصرخ ألما في حصار طرابلس حين كان أحد أشقائي محاصرا هناك أيضا، فشعرت بها حكاية من حكايات شعبنا، حكاية رسمت بالدمع والدم والدموع، فلم تتمكن أن تجتمع معنا الإخوة جميعا سويا منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، إلا في جنازتها وموكب رحيلها الأخير، فأهمس: وداعا أيتها المناضلة، وداعا أيتها الياسمينة، وداعا يا أمي، أعدك أن أزرع طرفي قبرك زيتونة وياسمينة، ونبتة صبار تعلمت منك الصبر.

بالأمس عدت لرام الله، مودعا أسرة وأب وروحك، بعد أن تلقينا العزاء من الآف الناس في عمّان، لأبدأ بتقبل العزاء وأشقائي وسيم وجهاد، الأكبر والأصغر مني، فتدافعت الألوف إلى قاعة بلدية البيرة توأم رام الله السيامي، والكل يترحم عليك، بعد أن تقبل أشقائي العزاء في مدينة جنين بعد العودة من عمّان، وتقبّل أبناء العمومة والعم الأكبر العزاء في بلدتنا جيوس بالتزامن معنا في عمّان، ونشد الرحال لتقبل العزاء في طولكرم الجمعة، فأشعر بأن الآلاف المؤلفة التي تدافعت وترحمت عليك، تركت لك في مقر وحدتك الأخير ما يؤنس وحشة قبرك، إضافة لمحبتنا ودموعنا التي انسكبت سيولا على فراقك.

هي رام الله التي سكنت روحك كما سكنت روحي، ترحمت عليك وودعتك من بعيد، أعود إليها ويلفح وجهي منذ الصباح نسمات حارة غير معتادة، وكأنها زفرات الفراق، أجلس وحدي أتذكرك، وأتذكر كلمات شاعرنا الكبير محمود درويش وهو ينشد: أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي، وأنا من حرمت من قهوتك وخبزك طوال السنوات الماضية، وكنت دوما أترنم بهذه الكلمات، وأقول لك من أسري القسري عبر الهاتف: لا بد أن أشرب القهوة من تحت يديك الطاهرتين، لكنك رحلتي ولم أشرب قهوتك ولم أتذوق خبزك، فتسيل دمعة حارة على وجنتي، وأشعر بالوحدة من جديد، فلا يخفف وحدتي إلا حروف خمسة فارقتها، وطيف بعيد قريب يجول في صومعتي بيت الياسمين، فأنشد مع قهوتي المرة وشدو فيروز:

" أمي يا أمي الحبيبة نفح الرياحين والورود، أين ابتسامتك الرطيبة تسمو باشراقة الوجود، ولأسم أمي الجميل لحن في القلب أحلى من النسيم، لا وجه قد لاح فيه حسن يرقى إلى وجهها الكريم، هل لي سوى حبك العظيم أحيا به الوعد بالنعيم، روحاُ بأرجائه أهيم طفلا لأحضانه أعود، أمي و هل لي سوى يديك أرجوهما منة السماء، أبوابها طوع راحتيك إن تسألها يسمع الرجاء، يا من حلا باسمها النداء يا من تسامى بها العطاء، إن رمت جوداُ من السماء، من غير نعماك لا تجود، ألقاك في نجمة الصباح، في مبسم الزنبق الرطيب، في زرقة البحر في الاقاح، أمي و في دمعة الغريب، و الشمس تدنو من الغروب، كأنها وجهك الحبيب، يا وجه أمي لا تغيب، أماه أنشودة الخلود"

صباحكم أجمل

وفقدت فمي

الهام ناصر

نسيتُ فمي
حول عنقه وانا أودّعه

تتدلّى عينيّ من النافذة
تملئ في كيسِها
وجوه عِدّة
تبحث
عن وجهٍ تعرفه جيدا
عن قدمٍ تتعارك
والهواء


حاضنةُ الأفكار تكسّرت
حين طال الانتظار
وعصاتي
مرتميةُ في البهو
تطالع القادم والراحل
بكسلٍ
تحاول اقتناصَ
فرصة
كقاتل محترفٍ يستطلع الهدف
قبل اطلاقِ
القلم رصاصةِ
احتفالاً بميلادٍ نصٍّ جديد
يلبسُُ
عطر فمه


وراقصة
بعين من لهب
تخدمُ قناّص الكلمات
ترفع
حتى السقف ثوبها عاليا
وفوق الجدران ترمي ظلّها
فتشبعُ
الظلامَ..نورا

......

قاربت عينيّ على
الإمتلاء
والراقصة على
الإنتهاء
وعصاتي على
الإغفاء

ولم يأت بعدُِ
فمي

الثلاثاء، أغسطس 26، 2008

كُوَيْتَنا

محمد محمد على جنيدي

عن كونا في اليوم: 27 اغسطس 2008 التوقيت المحلّي: 01:56 ص
اطفال كويتيون يعرضون ارثهم الحضاري امام ممثلي دول عربية واجنبية
الثقافة والفنون والآداب 19/07/2008 09:11 ص
اطفال الكويت أثناء تقديمهم عرض من التراث الوطني في مؤتمر الاطفال العرب المنعقد بالعاصمة الاردنية
عمان - 19 - 7 (كونا) -- عرض اطفال كويتيون هنا الليلة الماضية ارثهم الحضاري امام اطفال من 19 دولة يشاركون في مؤتمر الاطفال العرب المنعقد حاليا في العاصمة الاردنية.
وشارك في الامسية الطلاب محمد علي مراد من مدرسة (ابن الاثير المتوسطة للبنين) وضحى عدنان التركماني من مدرسة (ام سلمة المتوسطة للبنات) وعبدالعزيز الكندري من مدرسة (حسن بن الهيثم المتوسطة بنين) وهنادي الدوسري من مدرسة (هاجرالمتوسطة بنات) فيما اشرفت على الفريق الكويتي المرشدة ابتسام الدوسري.وقدم الاطفال في المؤتمر الذي يستمر حتى يوم غد قصيدة شعرية واغنية وعرضوا موجزا عن تاريخ الكويت وجوانب نهضتها.وقرأ الاطفال على نظرائهم العرب والاجانب المشاركين في المؤتمر قصيدة كويتنا.. للشاعر محمد جنيدي .. جاء فيها.. كويتنا يا مهجة لقلوبنا يا قلعة الروح ومهد حياتنا يا نبض شعب ود اهله زمانه بالحب وهو النور في خطراتنا نحن الاحبة عشق قلب اميرنا وهو المتيم في الهوى بكويتنا
-------------

أكُوَيْتَنا يا مُهْجَةً لِقُلوبِنا

يا قِبْلَةً للرُّوحِ مَهْدَ حَياتِنا


يا نَبْضَ شَعْبٍ وَدَّ أهْلَ زَمانِه

بالْحُبِّ وهْوَ النُّورُ في خَطَرَاتِنا


نَحْنُ الأحِبَّةُ عِشْقُ قَلْبِ أمِيرِنا

وَهْوَ الْمُتَيَّمُ في الْهَوَى بِكُوَيْتِنا


يا مَنْ بأرْضِكِ دَامَ فَرْحُ وجُودِنا

نَبَتَ الْحَنِينُ عَلَى رِياضِ مَرَامِنا


تَصْفُو الْمَحَبَّةُ في ثَراكِ ولِلْمَدَى

مَنْ لَم يَراكِ فَلَن يَعِي بِغَرامِنا


اللهُ يا نَبْضَ الْعُرُوبَةِ سَيْفُنا

وبِحَدِّهِ رُعْبٌ لِغَدْرِ خَصِيمِنا


أنْتِ الْحَبِيبَةُ بالْمَحْبَّةِ تَبْحُرِي

والْقَلْبُ يَجْرِي فِيه بَحْرُ حَنَانِنا


أنْتِ الْكَرِيمَةُ بالْفَضَائِلِ تَمْنَحِي

أهْلاً وضَيْفاً والْحِمَى بِعَرِينِنا


أنتِ الَّتي في الْعُسْرِ تُهْدِي بَهْجَةً

تَكْسُو النُّفُوسَ فَنَحْتَفِي بِأمَانِنا


بَلَدٌ جَبِينُ الْبِرِّ فَوْقَ عُيُونِها

تَرْعَى رِباطَ اللهِ بَيْنَ شُعُوبِنا


فَهْيَ الْخَلِيلَةُ بالسَّماحَةِ تَحْتَوِي

أهْلَ السَّلامِ عَلَى أمانِ شِعابِنا


تاللهِ دِينُ اللهِ فِيكِ كُوَيْتَنا

حِصْنٌ ظَلِيلٌ صَانَ رَوحَ شَبَابِنا


وأمِيرُنا الإنْسَانُ في صَفَحاتِكمْ

رَمْزُ النِّضَالِ ويُفْتَدَى بِدِمَائِنا


وَوَلِىُّ عَهْدِكِ بالأمَانَةِ رَاعِياً

شَعْباً أبِيّاً كَمْ سَما بِلِوائِنا


يَرْعَاكِ رَبُّ الْكَوْنِ ما حَمَل الْحَيا

حُبَّ الْكُوَيْتِ النِّورِ أُنْسِ رَجَائِنا

الاثنين، أغسطس 25، 2008

سيدةُ التمائم

الهام ناصر
لا تلصق بهما
التُّهم
فمثلِهما
لا يُتّهم

لكَ أن تغض البصر
ولكَ أن تكتب فيهما
الشِّعر
لك أن ترسمهما
بأصابعك

ولكن
لا توجه سبّابتُك مشيرا لهما
بالمعصية

لكَ أن تبادلهما
تحية الاعجاب
لكَ أن تحضنهما
ولكَ أن تتذوقهما
ولكن
لا ترمقهما
بازدراءِ
كأنهما كافرتان
أبطلتا قيامك
وصلاتك

لك دينُكَ
ولي فِتنتي
فدع عنك
تبادُلَ
السكن

لكَ أن تقبّلهما
لكَ أن تشمّهما
لكَ أن تلاعبهما
ولكن
لا ترميهما بحجارةِ
الكلمات


همستان
دراقتان
تميمتان

أربكتا قوافلَ
القلم

دعوة للصفح والتسامح

على جبر
أعزائي أخوة وأخوات لي في الله بهذا المكان

بعد أن اصبح الصفح صفه كان يتصف بها من سبقونا في هذي الحياه,,

النفوس توشحت بالسواد والقسوة ,أخذت في أزدياد السطوة على

قلوب البشر

والبحث في كل شي مايزيد من حدة الغضب والهجر طغت عن البحث عن

الأعذار ومحاولة السماح .

نشاط الشيطان يتزايد والذي بدأ يلقى رواجا له في مجتمعاتنا

اليس الشيطان هو من يقول
( ولكن سازرع البغضاء بينهم )

أحبائي الكرام

نحن على أبواب شهر كريم فيه الرحمة والمغفرة من الله تعالى

فلتكون هذه بداية خطوتنا للتسامح .

فتشوا في قلوبكم .... وأبحثوا عمن خاصمتم ...

ازرعوا لهم ورود الأعذار وسامحوهم

وأجعلوا ذلك الحقد والكره الذي زرعتموه لإخوانكم يكون على ذلك

الشيطان الذي يسعى للتفرقة بين الإخوان والأحباء..

نعلم اننا جميعنا سنذهب ولن يبقى إلا ما خطت أقلامنا.

ونعلم ان الكلمة الطيبة صدقة....

ماذا يفيدنا بعد أن نفترق لو فكرنا وقلنا لو تسامحنا.؟

مشكلتنا أننا نعلم أن اعمالنا لا ترتفع مادمنا في خصام مع اخواننا

ومن هذا المنطلق أدعوكم للتسامح والعفو والمحبه

فذلك دينناالحنيف وما يدعوا إليه

وديدن الشيطان هو الفرقه والحقد والهجر .

توقفوا لثواني بسيطه هنا..وصوبوني لو كنت مخطئ؟

يقول الله سبحانه وتعالى ( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم )

نفوس عظيمة تلك القادرة على الصفح والمسامحة

وتقابل الإساءه بالإحسان طمعا في مغفرته وعفوه سبحانه وتعالى ..

اللهم بلغنا وإياكم شهر رمضان الكريم وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال

وكل عام وأنتم بالخير تنعمون وإلى الله أقرب تكونون..

gabr189@yahoo.com

شذاها الحار كالتنّور

سامي العامري
----------------


شذاها الحار كالتنّور
*****
سأتركُ مُهجتي عن مُهجتي تروي
وعُذري أنني قَرَويْ !
ففي عُبّي اختفى شرْقُ
وفي قلبي تكوَّرَ جالساً بَرْقُ !
أُبلِّلُ بالرسائل أدمعَ العُشّاقِ
أُسمِعُهم بأني ليس لي من مهربٍ إلاّ اليراعُ
يدورُ آيا
أُضلِّلُ بالنبيذ كآبةً وسطَ الحنايا !
ومعنىً كالشرورْ !
زنابقُ
غيرُ مسموعٍ بها
وكذا شذاها الحار كالتنّورْ !
-----------

مَتاهة مائيّة
*****
في الجنوبِ
القذائفُ تُغْني عن القولْ
وظباؤهُمُ مُتَقافِزَةٌ مِثْلَ بِندولْ
ليس من مَرَحٍ
إنَّما رهْبَةً وارْتِعاباً ,
أماناً أبا الهَولْ !
ولكنَّني ها هُنا
قائِلٌ : حَسَنا
فَفي كُلِّ رُكنٍ أضَعْتُ صديقاً
وطأْطأْتُ رايهْ
وأصابعُ كفّي
بأنيابِها الراعِشهْ
تَنْبَري عاطِشَهْ
هكذا للنِّهايهْ !
---------

مُشَرَّدٌ من ميونخ
*****

-1-
في هذه المدينة مساءاً
أفتحُ عُلْبةَ سردين
وأتَمَدَّدُ مع أسماكها
راضياً بالزحمةِ الخانقة !
-2-
وعلى البلاج صباحاً
تدعوني مَحارةٌ الى باحةِ صَدَفَتها فأستجيب ,
ولمَ لا .... ؟
فهي عاريةٌ
وقبلَ هذا غارقةٌ بِغَدٍ من اللؤلؤ
وانا أوّلُ المُفلِسين !
-------
صوت
*****
هاتفتِني
وكأني أهاتفُ
سِرِّي وغَيبي
وحدثتِني فتلعثمَ قلبي
وصوتكِ
سربُ قطا
زارني
ليناشدَ روحي الغيابَ , الرحيلَ , الغيومَ
فخافت غياباً
وقد كان أحرى بها أن تُلَبّي !
---------
شتاء
*****
هطلتْ دموعي - يا فتاةُ - بلا حدودِ
لا بأسَ , إني قانعٌ
ما دامَ لي حُبٌّ كعينيكِ اتساعاً والوجودِ !
---------

إستدراك
*****
قال هنري باربوس {*} :
اذا کانت الأحلام جميلة ً
جرحتْ نهاراتِنا
وإنْ کانت حزينة ً
جرحتْ ليالينا .
أمّا أنا فحين احتسيتُها صِرفاً
وجدتُني أقول :
والعکسُ صحيح أيضاً
فاذا کانت الأحلام حزينة ً
أسعدتْ نهارتنا
وإنْ کانت جميلة ً
أسعدتْ ليالينا !
--------------

رهان
*****
ويهوي البَرَدْ
كالشراراتِ عند اكتشافِ الجَسَدْ
حينَها لم أُوافِ سِواها
فساءَلتُ :
هَلاّ أعرتِ حنيني سماعاً ؟
فجاءتْ إجابتُها : قد وقد !
فكان السَّحَرْ
شهيَّ الجَنى كرهاني
لا كرهان البَشَرْ !
---------

تَمادٍ
*****
تتمادى الدنيا ,
تصبحُ رُعْباً
نَهْباً
جَدْباً
لكني لا أعرفُ أنْ أتشاءَمْ
قلتُ : بحُبي ,
بجنوني سأُعقِّلُ هذا العالَمْ !

*-*-*-*-*-*-*-*-*-*
--------
{*} هنري باربوس : الكاتب الفرنسي صاحب الرواية المُهمَّة : الجحيم .

-------------------
كولونيا
alamiri84@yahoo.de

الأحد، أغسطس 24، 2008

أسواق النار في بابل

د. عدنان الظاهر

هل حقاً في بابلَ أسواق ٌ من نار ؟ نعم ولكنْ ، إنقلبت بابلُ بأهلها ودمّرها زلزالٌ مرعب بعد أن غزتها جيوش ممالكَ مجاورة فأحرقت ما أحرقت وقتلت من قتلت وسبت باقي الأحياء وخاصة النساء والأطفال كما كانت تقتضي تقاليد وجنون ذاك الزمان . إذا إنقلب كل شئ في بابل فما الذي يمنع إنقلاب الأسماء وشكل وترتيب الحروف في الكلمات ؟ الجزء يتبع الكل وكان التدمير والخراب عاماً شاملاً كلياً كما هو معروف . فلا عجبَ إنْ إنقلب الفعل ( رنا ـــ يرنو ) إلى كلمة ( نار ) والنار شقيقة الفعل رنا بل وتؤمه السيامي لأنَّ فيهما عين الحروف الثلاثة [ نون أليف راء ] . الآن يفهم القارئ الكريم ولا سيما القارئ الحلاوي والقارئة الحليّة إياها أصل ومغزى ( أسواق النار في بابل ) ... أسواق النار !! قف ْ ، نقطة إعتراض نظامية : من ترى يجازف بحياته فيدخل سوقاً من نار ٍ وما تخلّف النارُ إلا الرماد ؟ أدخلْ ... قالت له حبيبته ، أدخلها ... يا نارُ كوني على هذا العاشق العابد الولهان برداً وسلاماً . دخلتُ ، وكيف لا أدخل وقد أمرتني آلهتي أنْ لا أتردد وأن لا أخشى ناراً ولا حطباً ولا أسلحة دمار ٍ شامل ٍ ؟ أضافت إنه مجمع أسواق عصرية تجد فيه الإبرة والكومبيوتر والتلفزيون والثلاجة وباقات الورود الطبيعية فضلاً عن جناح الأثاث المنزلي والتحافيات وكل ما قد يخطر على بال المتسوّق . كومبيوتر تلفزيون ثلاجة ؟! كيف تعمل في الحلة هذه الأجهزة بدون كهرباء ؟ قالت لا تهنْ ولا تحزن يا هذا ، في بيوت أهل الحلة مولدات خاصة تبدأ العمل لحظة أنْ ينقطع عنها كهرباء الدولة المحصّنة بسور سليمان !! كم ساعةً في اليوم يا ربة َ الحلة وبابل َ تقطع دولتكم عنكم الكهرباء ؟
ساعتان لنا ، للشعب ، وأربع ساعات للحكومة أي وللذكر مثلُ حظ الأنثيين ... فالشعب لغوياً مذكر والحكومة أنثى أو خنثى وهذا هو الأصح (( ساعتان مقابل أربع ساعات أي ساعة للشعب وساعتان للحكومة أي 1 × 2 )) . ما شاء الله ما شاء الله ! تلكم هي القسمة الضيزى ... ما زال القانون القديم ساري المفعول حتى في زمان دمقراطية الكركري والمصقول والحامض حلو . عدتً إلى ربة بابلَ أسائلها عن أمور كثيرة لا أفهمها خاصة ً وقد غادرتُ الحلة َ منذ قرون سبقت طوفانَ نوح .
سألتها : لمن تعود ملكية هذا المجمع الهائل الجديد ومن يقوم على خدمته وتمشية أمور زبائنه ؟ قالت لا أحدَ يدري ، بل ولا من أحد يتجرأ على وضع مثل هذا السؤال ، بل وليس لهذا السؤال من معنى . كل أمورنا في بلاد عراقستان أو سورستان تجري غامضةً في أغلب جوانبها ومن يسأل لا يجد جواباً على سؤاله . هكذا غدت حياتنا ولقد تعوَّدنا عليها أو الأصح قد روّضنا أنفسنا على تقبل الموجود والمفروض والمقسوم وعلى الدنيا العفاءُ .
قبل أن ننهي جولتنا المتعبة في شتى أجنحة أسواق نار بابلَ قلت فلأسأل الربّة [ تعمل نصف وقتها مديرة ً للأسواق مجاناً تشجيعاً لإقتصاد السوق الحر ] هل في سوقكم جناح خاص للدراجات الهوائية ؟ فتحت عينيها الجميلتين الكحيلتين ربة ُ بابلَ التي إنقلبت فجأة رأسمالية الهوى والقناعة ثم قالت : سؤالك يا غريبُ هذا وجيه . ليس لدينا بعدُ جناح خاص للدراجات الهوائية . سنفتتح من أجلك هذا الجناح حفاظاً على البيئة من التلوث ولا سيما الورود التي أنت قبل غيرك تعرف كم أحبها وطالما عملتُ مع حمورابي وزيرة ً للبيئة وصحة الحيوان . سنحذو حذو الصين وسننافسها في كثرة ما لدينا من دراجات هوائية تجوب شوارعنا وطرقنا .
رأيتُ أنَّ من اللائق أن ْ أقدم َ للملاك الذي أتى بي إلى هذا المجمع ـ أسواق النار ـ هدية ً باقة َ ورد ٍ غالية الثمن من المتوفر في بعض أجنحة هذه الأسواق . لم أسألها ليقيني أنها تعشق الورود الجميلة وتهوى أنْ أسميها : يا أغلى وأجمل وردة في الوجود وإنها حقا ً كذلك . إنحنيت أمامها وعرضتُ لها ما حملتُ بيديَ اليمنى لها من باقة ورود مختلفة الألوان والأشذاء فلم أجدها كما كنتُ أتوقع أمامي . غابت ربّة ُ بابلَ ووزيرة البيئة فيها . فتشت عنها في أجنحة المُجمّع ، مُجمّع النار ، فعثرت عليها في الجناح الخاص بالألبسة النسائية المستوردة خصيصاً من أرقى دور الأزياء الإيطالية .
مددتُ لها يدي التي تحمل باقة الورود فصدت عنها وأشاحت بوجهها القمري الملائكي عني وراحت تدقق في بعض بدلات العرائس وتقارن بعضها مع مقاسات طول قامتها وسعة كتفيها وقطر خصرها فوقفتُ ذاهلاً حائراً صعقتني المفاجأة . هل أتت بي من أجل هذا الغرض ولا من شيء ٍ آخرَ عداه ؟ أن تختارَ لها بدلة عرس بيضاء اللون من الحرير وإكليل ماس وزمرّد أخضر ؟
ما علاقتي بعرسها خاصة ً وإني غير مسبوق بهذا الأمر ولم يجر ِ بيننا الحديث عنه لا الآن ولا في سالف الزمان ؟ إرتدت البدلة البيضاء وراحت تستعرضها أمام مرآة كبيرة تمتد من السقف حتى الأرض . سألتني ،
وأنا ما زالتُ ذاهلاً كمن فقد نصف وعيه ، ما رأيك بهذه البدلة يا خطيب ؟ يا خطيب ؟ تلفتُ حولي عسى أنْ أجدَ مَن خاطبت سوايَ فإني لست الخاطب بل ولا أصلح أنْ أكون خاطباً ولا عريساً . لم أجد في كابينة تجريب مقاسات الملابس سوانا فسألتها وجلاً مستحياً من نفسي لا منها : هل وجهت مليكتي السؤالَ لي أم لسواي ؟ قالت مستنكرة ً وهل رأيتَ أحداً سوانا في هذا المكان الضيق الذي لا يتسع إلا لإثنين ؟ قلتُ مرتجفَ النبرات بل لا أرى إلاك يا سيدتي النبية . لا أرى نفسي ولا أريد أنْ أراها وأنا لم أزل هناك حيث كنتُ لأكثر من ثلاثين سنةً .
قالت حسناً ، إنسَ نفسك ، كيف ترى هذه البدلة وهذا الإكليل ، هل يناسبانني أم ترى لك رأي ٌ آخر ؟ لا من رأي آخرَ لي سيدتي وحبيبة قلبي وعمري ، لا من رأي ٍ لي ، رأيكِ هو رأيي . ضيّقت عينيها الساحرتين المعبأتين بكل سحر بابلَ ثم قالت : هل أصلح زوجة ً لك ؟ وقعتُ على الأرض من شدة هول المفاجأة وصدمة السؤال وغرابته .
رشت قليلاً من الماء على وجهي فأفقتُ متثاقلاً واهناً مغلوباً على أمري . أعادت السؤال إياه نفسه ولكن بنبرة رقيقة فيها الكثير من الإغراء الأنثوي فلم تحظَ مني بجواب . لا أجرؤ على القول نعم ولا أجرؤ على القول لا وتلك مصيبة المصائب : الوقوف محايدا ً بين الجنة والنار . تذكرتُ أنَّ إسم هذا المجمع هو أسواق النار في بابل . فإختيار النار أولى بي وأجدى . سأقول لها (( لا )) ... سيدتي وحبيبتي وربتي لا تصلحين !! بل أنا الذي لا يصلح لك زوجاً . فات زمن الزواج ومرَّ أكثر من قطار على سكك حديدي وعبرنا أكثر من جسرِ حديدٍ وإسمنت وخشبٍ وضاقت بي مضائق الدنيا وإحترقت السفن .
رمت البدلة على الأرض وقالت سوف لن أتقبل بعد اليوم منك ورودك . خذها وقدمها لغيري من صديقاتك الأجنبيات. كف َّ عن مراسلتي وتوقف ْ عن تسميتي بالحبيبة والنبية والربّة. في بابلَ غيري الكثيرات من الربّات وأشباه الربات . عد ْ لصاحبتك عشتار آلهة الجنس والجسد والخصب والتناسل . إنها تصلح لكل الرجال حتى لو كانوا من أمثالك . عدْ إليها فأنت لا تليق إلا بها وهي لا تليق إلا بأمثالك . لم ترتدِ عشتارُ يوماً بدلة عرس ولا إكليل ماس ٍ وزمرّد أخضر . كل لياليها أعراس جنس رخيص وكل حياتها فوضى فما حاجتها للزواج أو الأكاليل ؟ يا حبي ، قلتُ خائفاً مرتعداُ ، لكني قدمتُ لك أغلى ورود بابل وآشور فرفضتيها مستنكفة ً قبولها من رجل يعشقك حد َّ الذوبان الصوفي الحلولي فيك ِ . رجل ٌ لا يسميك إلا ربتي ونبيتي وحبيبتي وكل أجدادي وتأريخي وحياتي .
رجلً تغاضى حتى عن ماضيك حيث كنتِ شبيهة ً أو بدلاً من عشتار آلهة الجنس والتناسل وأنت تعرفين مَن هي عشتار تلك . حلّت فيك وحللتِ فيها حتى إنفصمتما ساعةَ وصولي بابلَ ممتطياً صهوةَ جواد أدهم ملبياً دعوة عشتار . أفلم ْ تكوني أنتِ بلحمك ودمك وصيفة ً لعشتار هذه ؟ أفلمْ تخدمي في بلاط الملك الجبار حمورابي كواحدة من سبايا بني إسرائيل في بابل ؟ أفلم ْ ترقصي وتغني مع غيرك من الراقصات والمغنيات في حفلات الملك الليلية الحمراء والخضراء وبقية الوان المجون والطرب ؟ نسيتُ ماضيك سيدتي وغفرت لكِ إذ أحببتك حباً سماوياً ساميا ً لا نظيرَ له ورفعتك في عيني وإحساسي إلى مقام النبيات والربّات .
تدخل إلهُ بابلَ الأكبرُ السيد مردوخ فأسرَّ لي قائلاً : إنك يا غريبُ على حق بشأن هذه السيدة . أنا أشهد لك أني رأيتها مع غيرها من سيدات مجتمع بابل تغني وترقص وتعزف في الكثير من حفلات مجون صدام حسين وولده عَدي . ولا أرى من فرق ـ أضاف َـ بين الترفيه عن صدام والترفيه عن الملك حمورابي ولا بين مَن ترفه ُعن هذا وذاك !! الترفيه ترف ٌ والترف واحد لا متعدد الوجوه . تعكّرت الأجواء وتلبّدت السماءُ بالغيوم السود ثم تساقط المطر مدراراً فأطفأت نيرانَ مجمّع أسواق بابل . إختفيتُ هرباً من خوفي وعاري وسط الدخان الكثيف الأسود الذي ملأ المكان ولا أدري بعد ذلك مصير مَن أحببتُ حتى الوله والجنون . {{ حياتها أكثر أهمية ً من حياتي}}.
هل من عودة ثانية لبابل وأسواق النار فيها ولعشتارها البديل التي رفضت ورودي ثم أشعلت النار فيَّ وفي السوق الذي قادتني إليه ؟
أرسلتْ لي رسالة بالبريد الألكتروني تقول فيها : لا يا صديقي ، لم أرفضْ ورودك أبداً وكيف أرفضها من رجل عظيم ٍ مثلك ؟ وهكذا هي قاسية متجبرة في صحوها لكنها رقيقة جداً في منامها وعالم أحلامها فهل أتبعها وأصدقها في صحوها أم في حلمها ؟ مرة ً أخرى أجد نفسي حائراً بين خطي النار والجنة : عالم اليقظة وعالم المنام .
اليقظة أقسى عليَّ من النوم !! صرتُ أحلم . أحلم أنها قالت لي : لماذا تسأل عن إسم رئيس جامعة بابل ، هل تنوي العودة ؟ لا أصدّق !! تعالَ وسو ِ معاملة تقاعدك . تعالَ لأراك . تعالَ كي نلتقطَ الصور في بعض متنزهات بابل ونتمشى في شوارعها . تعالَ كي ترى جنة العبير وبستان الخلود الملحقتين بحدائق قصري الملكي . تعالَ كي أُريك كيف يرقص نخيل بابل بهجة ً بعُرس مقدمك وكيف تهتز أمواج نهر الفرات طرباً لحضورك . تعالَ كي تراني كما أنا بشعري الكستنائي الناعم الحريري الذي أخذ الشيب يتكاثر فيه لتفكيري فيك وكيف أداري هذا الشيب ببعض الحناء . هل تعرف أو تتذكر الحناء ؟ أنا معجبة بك !
أجلْ يا حبيبة أعرف الحناء . كان في قديم الزمان رجل كبير السن أعمى يدور في درابين الحلة صارخاً بأعلى صوته : حنّة عَجم والقول عالتجروبة ... أي تجربة هذه الحناء هي المحك المعوّل عليه . لعل أبناء جيلي ومَن قبلنا وبعدنا يتذكرون هذا الرجل المسكين الذي يكسب قوتَ يومه وهو ضرير . لا تموت بابلُ ما دام فيها أمثال هذا الرجل الكادح الأعمى الشريف . إنها بحاجة لأمثاله عميانَ ومبصرين وليست بحاجة إلى آلهة وأرباب وملوك .

قراءة في قصة موجة حرّ

فوزي الديماسي

تحيل الجملة الافتتاحية ” رأت فيما يرى النّائم ” في قصة ” موجة حرّ ” للتونسي سعيد محمد الجندوبي على زمن محدّد مخصوص نطلق عليه تسمية الزمن الذاتي .
و يتضافر الإطاران الزماني و المكاني في هذه القصة ليكشفا معا عن الحالة النفسيّة للشخصية الرئيسية في النصّ ، إنّها حالة نفسية متوتّرة ، صفتها التقوقع و سمتها الغالبة عليها الانقباض و الانغلاق ، و انغلاقية الشخصية نستشفّها من خلال عنصر الزمان ( الليل / رأت فيما يرى النائم ) كما نقف على ملامحها من خلال عنصر المكان ( الغرفة ) ، فالليل و الغرفة صفتان لعالم مخصوص يدلّ على الوحدة و ما يتبعها من صفات نفسية تقترن بالقلق و الاضطراب و الوحشة ، إنّها الرهبة و فقدان السكينة و الطمأنينة ، هكذا تصوّر الجملة الافتتاحيّة اللحظة التي عليها الشخصيّة ، و لقد لعب الحدث ( محور القصة و عمودها ) دورين أساسيين :
-1- الدور السّببي :
لقد أكّدت الجملة ( الحدث ) الأسباب التي أدّت إلى بلوغ حالة الشخصية النفسية هذا المبلغ من الخوف و الاضطراب و عدم الاستقرار و الجملة ( الحدث ) كما وردت على لسان الراوي ” رأت … مدينتها و قد كادت تغمرها الرمال ” ، فهلاك المدينة المحقّق هو مسبّب الأسباب و محدث الأحداث و القادح الرئيس لبروز النصّ برمته و خروجه بالتالي من عالم الكمون إلى عالم الظهور . و قد لعب عنصر الوصف الدور الرئيس في جعل الحدث ( غرق المدينة في الرمال ) يلعب دوره الثاني أي الدور التصويري.
-2- الدور التصويري ّ:
صوّرت الجمل الوصفيّة حالة الشخصيّة النفسّية بدقّة ” وقفت لاهثة و قد غارت عيناها ، و تشقّقت شفتاها ، و يبس لسانها من شدّة العطش … ” إنّها لحظة عصيبة اللحظة التي تعيشها الشخصية ( لحظة المنام ) لقد صوّرتها الجمل الوصفيّة تصويرا دقيقا ، و لعلّ قصر الجمل الوصفية المتلاحقة تكشف فيما تكشف عن درجة التوتّر التي عليها الشخصية في النصّ، إنّ بنية الجملة الوصفيّة كانت بنية خادمة بامتياز في تصوير اللحظة النفسيّة المخصوصة التي كانت عليها الشخصيّة .
قصة ” موجة حرّ ” ليست من جنس القصة الواقعية بل هي قصّة بالخيال الصق و من تهويمات الفكر اقرب و القرينة في هذا الصدد الشخصيّة المحور نفسها التي وردت في النصّ القصصي منزوعة الملامح ، ملفوفة بالضباب معالمها ، إنّها شخصيّة بلا هويّة تدلّ عليها ( مكانتها الاجتماعية .. بلدها … عمرها … ) و لعلّ بذلك أراد الكاتب ان يجعل من شخصيّتها و نصّه القصصي لحظة إنسانية بامتياز تحكي الإنسان أينما كان و تحاكيه ، و ممّا يؤكّد على انتهاج الكاتب نهج تعميم اللحظة و أنسنتها و بالتالي يمكن سحبها على أيّ كان في أيّ مكان كان إدراج شخوص ( رموز ) في مجرى الأحداث بلا ملامح كذاك الرجل الذي ورد ذكره في بداية النصّ على لسان الراوي ” كان يرتدي برنسا أسود ، و كان منكّس الرأس ، و قد استند غلى منجل طويل ” و كما يقول المثل العربي : ” البعرة تدلّ على البعير ” دلّ اللباس على هويّة الرجل الاجتماعية أي كان لباسه هنا عنوان هويّته ، و لعلّ الرجل هنا يرمز إلى لحظة الماضي / لحظة التراث ( البرنس ) كما يرمز غلى الفلاحة و الخصب ( المنجل ) و هو الموجود على الجانب الآخر و كأنّه في قطيعة مع المدينة ( المدنيّة ) يرمقها من وراء حائل و فاصل مهزوما و مبعدا ” كان منكّس الرأس ” ، و ممّا يؤكّد على لحظة التقاطع هذه ( التراث / المدنيّة ) لباسه الذي لم تشوبه شائبة مدنيّة و منجله ( آلة يدويّة ) و ممّا يؤسّس لهذا التقاطع و التنافر بين الرجل و المدينة القرائن اللفظيّة الموحية بذلك ” و رأت في الجانب الآخر من الساحة الكبرى … ” .
إنّ نصّ القصة هو نصّ مركّب فهو قصّتان ، قصّة دارت أحداثها في الزمن الذاتي ” رأت فيما يرى النائم ” و قصّة دارت أحداثها في الزمن الفيزيائي ” استفاقت مذعورة ” ، و الزمنان يجريان في مجرى واحد عكس المكان الذي حافظ في النصّ على وحدته كما الأحداث كانت الأولى تتمّة للثانية و تكملة فلا تنافر بينها بل تكامل و اتصال خدم اللحظة السرديّة برمّتها من بداية القصة إلى نهايتها و هذا يثير فينا سؤالا مفاده ما علاقة الشق الأول من القصة بالشق الثاني ؟
التداخل بين الشقّين و التواشج و التواؤم الحاصل بينهما يكشف عن التواشج و التواؤم بين الذاتي و الموضوعي على جميع الأصعدة ( المكان / الزمان / الشخصيات ) كما يكشف عن تداخل و تشابك الواقعي و الخيالي و الذاتي و الموضوعيّ و النفسيّ و الراهن فكلاهما مجلبة للخوف و للرهبة كلاهما مجلبة للحزن و الاضطراب و التقوقع و الانغلاق و الكدر و السقوط أمّا عن الرجال و النساء الواردين في الشقّ الثاني من القصّة فهم عنوان للمدنيّة المهدّدة و للحظة الإنسانية القابعة على شفا حفرة من انحدار و التي سيستحيل حاله و حال المدينة ( المدنية ) كحال ذاك الرجل المرتدي للبرنس و المتّكئ على المنجل يحتسي الفراغ و يحصيه . إنّها الغربة المحدّقة بكلّ شيء و المتلبّسة بكلّ اللحظات حتّى أنّ الوصف الوارد في الشقّ الأوّل من القصّة كان خادما للشّق الثاني منها و لسان حاله يقول تلك هي الحياة بشقيها النفسي و الفيزيائي فكلاهما يدلّ على الآخر و يحيل عليه ، الحياة كابوس ممتدّ أو هكذا يبدو خالية من كلّ معنى كما ” خلت الشوارع والساحات من النّاس، وجفّت النوافير والبرك من الماء ”
* / فوزي الديماسي /ناقد وروائي تونسي
من كتاب ” اضاءات نقدية ”
نصوص قصصيّة من الماء إلى الماء


الى عصفورة الصباح


عيسى القنصل
اسميتها .. عصفورتى

سيدتى ..صديقتــــــــى

.. حبيبتــــــــى عزيزتى

وكل َ وصف ٍ رقيق ناعم ٍ من لغتـــــى

اسميتها ..

يا نسمة ً نقية ً تاتى

لتعطينى حنانا ضد نار غربتـــــــــــــــى

تاتى بفجرى دائما ..

عطفا ً نقيا ً نقاء الدمعــــــــــــــــــــــــــة ٍ

فى لطفها ...ضؤُ ينير ُ لى ظلمتــــــــــــــى

قد نلتقى فى موعــــــد ٍ

قد نلتقى فى غفلــــــــــة ِ

لكنها تاتى نقيهً ..
كندفة ٍ للثلج فى سماءِ بلدتــــــــــــــــــــــى

حضورها ...فى مكتــــبى

لطف ُ عميق ُ طاهر ُ ..يا طهرها من وردة ِ

كأنها خلية ُ فى عمقنــــــا

تجرى وفى اوردتــــــــــــــــــــــــــــــــــــى

تمثال ُ ضؤٍ رسمها ..

وان خطت ْ يا روعة ُ يا بهجة ُ
ويا بهاءُ الخطــــــوة ِ

اسميتها عصفورتــــى

لانها حديقة ُ ..اشجارها

كانما اثمارها ..من جنـــــــــــــــــــــــــــــــة ِ

عصفورتى ..

فتّية ُ ..بهية ُ كنبتة لم تنبـــــــــــــــــــــــــــتِ

حديقتى من غيرها ..

شوك ُ ..جفاء ُ ..حارق ُ للشتلــــــــــــــــــــــــة ِ


لا تغربى عن (حاسبــــى )

عن مكتبتى يا زهرة ُ فيها عطور الــــــــــوردة ِ

قد حج شعرى نحوكم ..

كمؤمن ٍ يبغى حجيج الكعبـــــــــــــــــــــــــــــــة ِ

عصفورتى من غزة ٍ

يا قمة المجد العروبى التقى ..

فى وجهها انشودة ُ ...

تحكى لنا اوجاعنا احلامنا ..بالعــــــــــــــزة ِ

اعطت لاسمى كنية من عندها ..

قالت ابى ..( يا ابتى )


قلت لها ...عصفورتى بل ابنتـــــــــــــــــــــى

سوف اراك دائما ..
فى سطور الشعر منى ,,احرفى .. قافيتــــــى

لا تغضبى ان كان شعرى مرة ً

يبكى من لهيب الغربـــــــــــــــــــــــــــــــــــــة ِ

قد جئت انت فجـــــــــأة

ذاب الجليد ُ ... انتهت محنتـــــــــــــــــــــــــــــــى

السبت، أغسطس 23، 2008

حبالُ الجسر البعيد

شوقي مسلماني
1 ـ

هو الآن

على المشرحة

وهو ذاته يسجّي عينيه

فوق قلب المسجّى.


2 ـ

رأى أن سنوات عمره

تبعد عنه سنوات ضوئيّة

تناهضَ لكي يلحق بها

مسافته الباقية

بالكاد بضعة أمتار.


3 ـ

مِزَق

في شبكة حياة.


4 ـ

خسران

ملءُ وجه.


5 ـ

وهو يعدو هارباً

جفّفتْه الشمس

وقع جبينُه

وانفقأتْ عيناه.


6 ـ

وهو يعدو هارباً

خلَّفَ ذاتَه وراءه

في قارّات الرمل

حيث جنون السماء

والصراخ.


7 ـ

أيّها الشقي

إلى أين؟

تقطِّع بسكين لامعة في الشمس

حِبالَ الجسرِ البعيد!؟.


8 ـ

أيّها الذي لم تنبت

في رياضِ الجحيم

لماذا أغمضتَ عينيك

وكنتَ

تمشي؟.

Shawki1@optusnet.com.au

الخميس، أغسطس 21، 2008

المشهد الأخير

محمد محمد على جنيدي

هناك بمحطَّة القطار بمدينة الأقصر حيث لم أستطع الحجز للقاهرة إلَّا في غرفة النَّوم المُكلِّفَة جداً ، وأثناء

انتظاري( بكافتيريا المحطَّة )إذا بفوج يطلُّ علينا من الفنَّانين والفنَّانات ، تتقدَّمُهُم نجمة الشِّبَّاك الفنَّانة الشَّاملة أشجان حليم ، فوجدتني بدواعي الحبِّ والإعجاب شاخصاً بينهم مُوَجِّهاً لها حديثي مباشرة: الفنَّانة أشجان ..

لحظة تاريخيَّة لعمري كلِّه أن نراك مع هذه الأنجم وقد أنرتُم لنا عتمة المكان وأدخلتم البهجة على قلوبٍ مُنهكة ، فسمعتُ صوتاً خلفي يُحادثُني: مَنْ أنت؟ وماذا تعمل هنا؟! ، فقلت: أخوكم ساهر وأعمل شاعر ، فقال مازحاً: ساهر وشاعر يعني الكلام كلُّه ، أين نحن منك أيُّها الشَّاعر؟! ، أعجبتها جراءتي ، فسمحتْ لي بالجلوس معهم ثمَّ صاحبتُهم في عربة القطار الفاخرة وحَلَّقَتْ بي السَّعادة أكثر حينما طلبتْ مِنِّي أن أُسمعهم بعضاً من مقتطفاتي الشِّعريَّة ، ثمَّ بلغتْ فرحتي مداها حين أبلغتني: عزيزي أنت مدعو لحضور المشهد الأخير من تصوير آخر أفلامي .

وهناك وبعد الانتهاء من تصوير مشهد فيلمها الأخير طالبتني أمام مخرج الفيلم ومنتجه بوضع تصوُّراً لأغاني فيلمها الجديد ، وبمرور الوقت أردتُ أن أكتشف عنها الجديد، ولكنَّها وبالرَّغم من إعجابها بفنِّي وشخصي لم تستجب لدعوات العشاء مِنِّي .

وذات يومٍ مرضتُ فلمَّا لم تعد تراني ، فاجأتني بالزِّيارة لبيتي ومن شِدَّة سعادتي بوجودها تعافيتُ تماماً ووجدتني أُناشدها حبِّي وأصارحها بهياج أشواقي لها .. فقالت: مُسَلِّيةً لمشاعري ( كلنا بنحب القمر.. لكن ) فقاطعتُها قائلاً: بالطَّبع لا يمكن أن يحبَّ القمر هذا الكائن الفقير الماثل أمامك ، فقالت في مفاجأة عمري كُلِّه: بل أنت - وسكتتْ - ثمَّ عاودَتْ القول: نعم أنت ومنذ التقينا بمحطَّة الأقصر - هنا - غمرتني السَّعادة وعانقتْ روحي عنان السَّماء ، فقلت مُتَسَرِّعاً بغير تمهيد ( تتزوجينني؟ ) فلم تجب ، عاودتُ قولي .. وهنا وقَفَتْ مُمْسِكَةً حقيبتها وقد غالبتها دموعها قائلة: أرجوك .. أريد أن أذهب ، هكذا انتهى لقاؤنا ، فقلت في نفسي رُبَّما أكون قد جاوزتُ قَدْري ! .. - ولكن - الباعث للقلق عندي هو أنَّني كُلَّما كنتُ أحاول التَّقرُّب منها يُخَيَّلُ لي أن عيناً ما تُراقِبُني وقد صدق ظنِّي !! .

ففي ذاتِ ليلةٍ بعد لقائي بها وتَوَجُّهي إلى بيتي أيقظتني رسالة من مجهول على المَحْمول تقول: ( ابتعد عن أشجان وإلَّا ستبقى في خبر كان ) والغريب أنَّه في اليوم التَّالي اتَّصَلَت بي أشجان طالبة لقائي فتلاقينا وبصوتها الدَّافئ وقد خالطه الحزن قالت: بالرَّغم من أنَّني أحبُّك فوق ما تتصوَّر أرجوك .. ابتعد عنِّي، فأنا لا أتحمَّل فيك مكروهاً ، عُدتُ إلى البيت وأنا يَعْتَصِرُوني الإحباط وتَتَخَبَّطُني الحيرة والدَّهشة فتوقعتُ أن يبعثوا لي برسالة تهديد كالَّتي سبقتْ .. ولكن كانت يقظتي في هذه المَرَّة على أيادي فئة ضالَّة مُلثَّمة ، أمطروني ضرباً ولم يبرحوا المكان حتَّى شُجَّ وجهي وتورَّمتْ عيناي وكُسر ذراعي وفقدتُ وعيي الَّذي لم أستردَّه إلّا بين نخبة من أعزِّ أقاربي وأصدقائي وعندما سألتُهم: أين نحن ، فقالوا: بالمستشفى ، فنظرتُ إلى قدمي المُعَلَّقة ! فقلت بأيِّ قسم ، قالوا: أنت بقسم العظام ، فتذكرتُ أشجان وكلَّ ما حدث بيننا ثم ابتسمتُ ساخراً مُحَرِّكاً رأسي يميناً ويساراً وأنا أقول لهم: صدقتم فوالله لا يليق بِمَنْ تحبُّه أشجان إلَّا أن يكون مِنْ عِظام الأرض !! فنظر لي أحد الأصدقاء الخُبَثاء قائلاً: أرجوك الاكتفاء بهذا القدر من الحبِّ وإلّا ستصبح مِنْ عظام السَّماء ، فانخرطوا جميعاً في ضحكاتٍ طويلة وأنا ما يزال قلبي يدعونَني إليها ويُذَكِّرُني بها وبكلِّ ما حدث بيننا !! .

صلاة الجماعة

الهام ناصر

في غمزة كتفي
قراءة لصوت العطِر
يشدّك نحو الكهفِ
بغيبوبة أهلهِ
يُسدل ستارةَ العينِ نحوهُ
مرشِيٌّ بأفخمِ نداء
ما العطرُ سوى مزيجُ
شوقٍ وصداه...
زيت يبلّلُ كهف الإبطِ
ينشر فيه رائحةَ المِسك
يقدّم للمارّين
دعوةَ مجانيّة
للشمّ.

كهفُ
يحمل من كنوزِ العطورِ
ممّا تشتهي الأنوف
من دلال أنثوي

على بابه نهرٌ من سحرِ
يهدي الضرير دونَ قائدٍ
ويجرّد العقل من سِرّهِ

إبطٌ /
تكاثفت فيه غيومُ
الشوّقِ
فأمطر ماءً أخرسَ
تتزاحمُ حولهُ جيوب الانوفِ
تؤمُّ الحواسَّ
لصلاة الجماعة

زنيم مرة أخرى

فوزي الديماسي

رواية على حلقات

-1-

على عتبات غربة زئبقية ، قاب قوسين أو أدنى من شروق ضليل ، تلوح على مقربة من البحر أرض مدججة بالدموع السوداء و بخور الموتى .

قافلة نخرة، ناسلة من عمق التيه ، تخبط في الليل الملطخ بالعويل خبط عشواء ، تسير على درب متيم بالأشواك المخضبة بدم الفجيعة .

القافلة العارية إلا من رحيلها المحموم ، موجهة وجهها شطر الأرض المضرجة في الأنياب ، تغازل رؤاها المتعبة شمسا ذابلة تطل من كوة حلم عابس .

عواء يشق نقيق القبور اللائذة بأعشاشها، و الجثث المجلّلة بالصقيع ترمق بعين قاحلة كلابا تمزق بشراهة زئبقية ابتسامة طفل وليد يهدهد حلما شريدا قابعا على ضفّة الريح الرابضة على باب الوقت الآهل بالفراغ.

سرب حمام مهيض الجناح يحلق فوق البحر المراقص لعاصفة متغنّجة ، عاصفة مجنونة تلاحق بألسنتها الممتدة كالسعير قطعة خشبية يتيمة تصارع بشراسة مخالب الموج ، الخشبة على يأسها تدفع رغم العواصف و الأنواء بصبح الجثّة الواقفة على كفّ المنيّة نحو المرافئ ، الجثة الناسلة من زمن الحكايا مستمسكة بالخشبة و الأمل ، تدفع بعسر صبحها نحو الشاطئ اللائذ بالصمت ، و الصمت المرتعد يتتبع العاصفة الرافعة في وجه الزورق رباطة جأش بدائية .

الواقف على متن الزورق في وجه المغناج كتوم ، يجترّ بين الفينة و الأخرى شتيت رجولة محطّمة على صخرة التيه الأزليّ .

الجثة و الزورق و الخوف و البحر الهائج كالتنّين، و الموج المتصاعد في رقصة جنونية نحو السماء يمزّق بكل ما تضمره أنيابه من مكر جثّة السكينة ، و الواقف في وجه المنيّة على متن خشبته متشبّث بأفق رميم .

الليل الكثيف يرقب من ثقب الرحيل المتعفّن راكب البحر و مطيته المتلعثمة في جفن الردى ، و البحر المزبد يراود الزورق الشموس عن نفسه . و الأرض على مقربة منهم مجهدة لا تنبس بحرف ، تشيّع بعينين مثقلتين بين الحين و الآخر تخبّط الزورق و صاحبه المتسمّر في الإصرار.

تعثّر الزورق في وجه الغاضبة مرات عديدة ، و كذلك تدحرج الغريب الواقف على الشوك كأنّ المنيّة تحته من رأس الدود إلى أخمص قدميه، و بعد عناء طويل ، و بعد مكابدة شرسة أتلفت بعضا من حجب الليل ، بلغ الزورق الشاطئ المترهل.

****

نزل أشعث الأحلام مبلّلا، خائر القوى ، لاهثا ، دافعا بزورقه المرتجف بين يديه المتعبتين نحو الرمل ، تارة في رفق، و طورا في عنف ، و لمّا بلغ به اليابسة أسلمه لسكون البون و مصيره.

****

ترك الغريب زورقه حجرا هامدا بعدما أنزل منه متاعه و نخلته رفيقة دربه ، ألقى الغريب بجسده غير بعيد ليسترد بعضا من أنفاسه المتعتعة ، و يلملم مزق راحة كان قد فقدها على متن البحر الرافل في أمواجه البركانية . بقي الجسد قسطا من الزمن لم يقدّره كأنّ الشوك يهدهده .

و لمّا حلت بالبدن السكينة ، و استردت نخلته أنفاسها ، اجتث الغريب جثته من رمل الشاطئ ، و عواء الحلكة يحرسه ، و الريح تمدّ نحوه ألسنتها الحارقة ، اتجه بخطى متعبة نحو زورقه الرابض في خشوع ، و طاف به مرات عديدة كمن يبحث عن شيء ذي بال فقده ، ولما أعياه التّطواف جثم على دمعتيه و راغ عليه بالتقبيل ، و الزورق متدثّر بجليد اللغات .

اطمأنّ الغريب في جلسته و ضمّ إليه نخلته ، و بعث بعينيه يد رحمة تهدهد الزورق ، و تهدّئ من روعه ، و تبثّ فيه شيئا من الأمن ، و الزورق على سكونه يبدو مضطربا .

دوّت في تلك اللحظة نواقيس الجنائز السرمديّة في أرجاء الشجن المنبسط ، و اعشوشبت السكاكين العمياء حول الغريب و نخلته ، و انتشرت العناكب تلفّ حروف الموتى بخيوط من وهم الفارّين من زمن السياط . اضطرب الغريب بين يدي الوجود المقطوعتين ، و أسند جمجمته المثقلة إلى نار بربريّة الهوى

و انهمر من لسانه نشيد القبائل المسبيّة :

على كف الريح استريحي ....

يا النخلة الممتدة في وريدي ....

يا الحاضنة لربي المنشود ...

يا الباسقة بين جنبي نورا متوشحا بالغد المطرود ...

يا النخلة … يا الممتدة نحو الله … ردّي عليّ وجهي ...

و اكرعي من بؤبؤ دمي صحوك و صحوي ...

و استبيحي تحت قدمي الحمامة المسرحة في شراييني نحري ...

و انفخي في وجهي قمم الجبال … أجنحة الطير...

لكي ألدني من بين أصابع أرضي المنذورة للعواء و النهب ...

وانفخي في لساني الطوفان… وبثّي فيّ و فيك شرفة القمر

واسرجي أنفي للشرف المغلول بسلاسل العرش الأبدية

يا نخلتي … يا المنذورة لربي و الرحيل ...

يا الرافلة في عروقي … هزّي إليّ بخيط الشمس الكامنة في ابتسامات الثكالى

يا نخلتي … لملمي صوتي التائه في السياط … و سرّحي الدود في نبيذهم ...

يا نخلتي يا التي تبذرين الأريج في الأفق

قد أهرق يومهم سوقي … و عقرت خفافيشهم نوقي … و مزّق إلههم المتأبط ذلاّ روحي الثخينة ...

يا نخلتي … يا المنذورة للغد القريب بثّي في لغتهم النخيل …

و نقّي أرضهم أرضي ... من الجماجم ... و القبور ... و الذئاب

****

هكذا أسرّ الغريب لوحدته المعلّقة على باب الغياب ثمّ تقهقر إلى الخلف خطوات محزونة ، ثمّ شيّع البحر المطأطئ ، و بقر بطن رحيله بمستقرّه ، و حضن نخلته ، و استقبل بالشمس الجالسة في خدر غده أرض الأجداث و الأشواك الممتدة نحوه كالليل البهيم . قلّب زورقه الرابض على صمته ذات اليمين و ذات الشمال برهة ، ثمّ تحامل على تردّده و أضرم النار فيه .



الفصل الثاني

الصباح المتيّم بالسواد حزين على عادة الصباحات المشرقية ، و النور يجلس في شرفة الدموع يحتسي قهوته المضمّخة برائحة الموت العتيق ، يرمق بين الفينة و الأخرى من عليائه الواهنة الأرض الشاحبة ، غراب يشيّع جنازة بكارة جفّت منابعها بين يدي خنزير جنوبيّ يتلهّى بانهيارها . الصبح المتيم بالظلام على عادة الصباحات المشرقية يجلس على حافة هوّة سحيقة تربّت بحنوّ على كتف مخالب شمالية احترفت نبش وجه طاعن في النخيل .

الصباح المتيّم بالحيض العفن على عادة الصباحات المشرقية يتتبّع من شرفته الرميم تخبّط بحيرة في الجثث ، و بنت صغيرة لم تبلغ سنّ اليتم تلطم وجهها على مقربة من جثّة أبيها الموغل في الغياب

و الصمت الحزين ، و من فوقها حلّقت الغربان في رقصة جنونية على إيقاع الهمّ التليد .
الموتى جنوب البحر ينامون ملء غفوتهم ، تحرسهم الضفادع المطرّزة بالعمائم توقد على إيقاع النصر حول الجثث الرافلة في اليباب الليل المسيّج بالبرد الزمهرير ، انتشرت رائحة الشواء و الموتى في الرحب ، و سال الدم المقرفة رائحته في المكان و انتشر الذباب و الدود ينخر الخياشيم و العيون

و الصمت العتيد ، احتلّت الرائحة النتنة انف الغريب الممدّد على الأرض ، فمادت به الأرض من تحته فأطلق العنان لسيل القيء بجانب نخلته و متاعه القليل . اجتث متين الأحزان جثته من أودية وجومه

و الدوّار ، وأطلق العنان لرجليه و النسيان تاركا وراء ظهره زورقه مضرّجا في آهاته و الرائحة الكريهة و سار نحو اللامعنى .

****
مشى الغريب مكبّا على شجنه ، بيمينه متاعه ،و بشماله نخلته تلوك صمتها .

سار الغريب بخطى سكرى نحو الجبل الجاثم على أرض الصحراء الممشّطة بالأشواك أحلام موتاها . سار الشريد نحو الجبل بخطوات عليلة، ثكلى ، سار على الدرب الموغل في الجماجم و الدمّوع و الابتسامات الموءودة ، سار على الدرب المتسربل بالصحراء الممتدّة امتداد الهمّ ، و المنبسطة كالخيال المحموم ، و الموحشة كظلمة الجبانة .

لم يأبه الغريب للوهلة الأولى لصدى العويل المتردّد في قاع الرعدة ، و استأنف سيره رغم كل شيء ، و أصرّ على التوغّل نحو الجبل رغم توسّل رفيقته النخلة مرتعدة الفرائص بشماله ، و كلما توغّل في الدرب نحو الجنوب استأسد الديجور ، و أطنبت العفونة في إكرامه ، تقدم الغريب مصعّرا اهتمامه لأنفه المتبرّم ، تحامل على رعبه و توسّل رفيقته الملحاح ، و مدّ درب سيره ليقف على مصدر العويل و النّواح ، إلاّ أنّّّّ صوتا زلزالا أسدل جناحه الشوكيّ على المكان ، و دثّر البحر بالخوف ، و اليابسة دثّرها بالصمت ، كما طوّق الواقف على عتبة الرعب صحبة نخلته بحلّة من الاضطراب . تسمّر التائه في مكانه ، كما ذهب عقله مذاهب شتى ، و انحدرت سكينته إلى أسافل الفوضى المبعثرة . بقي كذلك زمنا غير محدّد يتخبّط في لجج التردّّد كخشبة لقيطة مستسلمة لأحكام الماء الهادر ، ارتفع لهيب الضّجيج القادم من داخل الجبل و من حوله ، و اشتدّ على إثره زئير جارح ، و امتدّت مخالب الموت تنبش الدرب ، تردّد الغريب ، و تلعثمت قدماه ، و استوى الخوف في قلبه واستغلظ ، أشارت عليه صاحبته بالتقهقر و العودة ، لكنه آثر أن يلوذ بقبر غير بعيد منه جاثم على صدر الأرض المنهكة ، افترش الغريب خوفه و الثرى ، و لفّ نخلته بحذر مصطكّ العمد ، وأسرج العمى ليبعث به رسولا للعيون المنتشرة حول القبور المنثورة هنا وهناك .

****


عاصفة الموت أفعى مجنونة ، و جحافل من الدّود خارجة لتوّها من الجبل ملأت الرحب ،و قوافل تنوء ظهورها بخيرات من كلّ الثمرات . ضمّ الغريب نخلته إلى رعبه ، تاركا وراءه عينيه تتّبعان المشهد .
غناء كالنحيب ، و نحيب كالغناء يرافق صوت الطبول ، دود يزحف ، و دموع تذرف ، وحناجر تنشج ، و نيوب تنهش ، حرائر كثيرات يلبسن السواد من الماء إلى الماء، مغلولات حدّ الأذقان بالحديد والنار ، و مشدودات إلى عرش محمول على ظهور الحمير ، محاط بالذئاب و القردة و الكلاب المتأهّبة للفتك .


غلمان ، و فاتنات ، و عمائم ، و شعراء ، و نوق محمّلة بدنان المدام ، و خيام ، و قيان ، ودفوف تنقر، و عبيد ، و عسس مدجّجون باليقظة . لم يفهم الممدّد وراء القبر مرتجفا ما رأته عيناه ، كما انحدر عقل نخلته إلى قيعان سراديب الحلكة ممتطيا صهوة البوار .
رجال كثير يدقون الطبول ، يتقدّمون الموكب ، والموكب يسير بسرعة النمل نحو البحر ، يتقدم في خشوع جارّا وراءه اسودا مغلولين و علامات التعب و السياط تحتلّ ظهورهم ، فركت النخلة عينيها

و من بعدها صاحبها ، ليريا رجالا تلامس لحيّهم بطونهم ، يرتدون عمائم مبعثرة على زركشتها ، ساجدين بين يدي العرش .
ضجّ المكان و ران عليه الصخب ، و تحرّكت الفاتنات في كلّ مكان بين الخيام المنتصبة على الشاطئ ، يطفن من حول الموائد السافرات بالكؤوس و الصحون يوزّعن الأكل على السادة و الابتسامات غير آبهات بدموع المصفّدات في الأغلال . فاتنات عاريات إلا من عرائهنّ مقبلات في تغنّج على العمائم

و العرش ومحتفيات ببطانتهم في غير اقتصاد .

****
أكلوا، وضحكوا ، و رقصوا ، و داعبوا القيان ، وترشّفوا رضاب الأقداح . خمر و رقص ، نحيب و ضحك ، تغنّج و عواء ، نباح و فحيح ، و عمائم مبعثرة في الأرض تحتسي المدام مع تراب الأرض المسكونة بالفجيعة من الأزرق إلى الأزرق ، و الليل المتيّم بالأظافر قد أرخى سدوله مناجيا بحرا
ذلولا يتتبّع حمارا يواقع أقحوانة ، ونيوب رافلة في السكر تنتظر صياح الديكة الآذنة لها بالنهش .

****

استبدّ الصمت للحظة ، وخيّم السكون على الوجوه المسافرة نحو الفجيعة ، و توكأت الأرض المسبيّة على فحش الأفق ، و توسّدت السماء الذبيحة عفن العويل المنبعث من أفواه المغلولات ، تقلّب الغريب في نار فضوله و سعير الغليان ، أمّا نخلته فقد أسلمت أمنها إلى براثن الليل اللقيط تعبث به على مقربة من القبور المرتعدة على أديم القحط الجنوبي القاحل ، ومن حين إلى آخر يرفع الغريب جمجمته المثقلة بأسئلة شوكيّة معربدة ، فيسترق النظر و السمع معا ، و يبعث في الأثناء بعينيه المتيقّظتين رسلا يفتّشون في ثنايا القابعين على صمتهم ينتظرون ، قافلة من الخرفان مسرّحة في شرايين الجبل المطلّ في انكسار على الجاثمين حول المغلولات و الأسود .

أينع الفضول في العيون المنتشرة على الشاطئ تحت مطر من الأسئلة ، ترجّل صاحب العرش السرمديّ ، و مشى بخطى ثابتة نحو المذبح المقدّس ، فشاع في الجوّ التهليل و التكبير و خرّ الحاضرون سجّدا لولي أمرهم ، فتح صاحب العرش كيس الذهب و الفضة و طفق ينثر الأموال و الضحكات المتبرجات هنا و هناك، و من ورائه النمل و الخنازير و القردة و العمائم و الجماجم يلتقطون النعم الجارية من بين أصابع يده الكريمة المبسوطة حدّ الفحش . و بعد تدافع و تنافس في التقاط الخيرات ، و بعد هرج و مرج و تصفيق و تهليل و سجود و تقبيل ، إذ بصوت كبير العمائم ينادي ان فكّوا عن المغلولات أغلالهنّ و قدّموهنّ قربانا للعرش في عيده ، و اهدوا الأسود الصابئة لأقبية النسيان و القبور و السياط .

اضطربت القبور المتلبّسة بالصحراء الثكلى ، و حلّق في السماء المضرّجة في دموعها النحيب و الغربان ، و الشمس الذابلة سقطت مغشيّا عليها قرب الصبح المغلول حدّ الانهيار ، زأر الغضب في شرايين الممدّد بجانب نخلته المضطربة و راء الجدث ، و ارتفعت ألسنة الانتقام في دمه الضاجّ في مرجل القلق ، انتفض الغريب الممدّد على حزنه ، و استأسدت رفيقته في تهدئته ، ترجّته بدموعها الغزار أن يلزم مكانه ، لكنه انتفض من مكانه كمن به مسّ من الجنون ، شدّته رفيقته إليها شدّا و استبسلت في إثنائه لكنه ترك توسلاتها وراء ظهره ، و فكّ بكل ما أوتي من قوة و إصرار من بين يديها بدنه المزبد ، و أطلق العنان لرجليه الملتهبتين غضبا و حقدا لينقذ من براثن السكين المنتصب في يمين كبير العمائم الحرائر المطروحات قرب المذبح المقدّس ، ركض نحو المذبح كحصان مخبول ، و ارتفعت ألسنة توعّده تسابق الريح ، لم تخفه صيحات الفزع ، و لم تثنه براثن الوعيد و النهش ، ركض كأنه لم يركض من ذي قبل ، نحو كبير العمائم المدجّج بالليل و الشوك العنيد و السكين المتوثّب ، و قبل أن يبلغ الغريب مأربه استقبله الرصاص من كل مكان : من الطائرات السابحات في السماء المنطوية على حسرتها ، و من الدبابات الرابضات على الشاطئ . دبّ الضجيج في الجماعة ، و طوّقت العيون و المخالب المكان ، و ذابت النخلة وراء الرمس في خوفها الوحشيّ ، تتابع خلسة تخبّط صاحبها في دمه .
أطلقت النسوة المغلولات الزغاريد ، و اختلط المكان بالرهبة و الحذر و الصياح و النباح و الفرح الدّفين ، و طوّق العسس الجثّة من كلّ مكان ، و انتشرت العيون في مناكب الأرض بين القبور المتراصّة .

ألقت الكلاب بجثة الغريب الممزّقة على باب البحر بعدما قطّعتها عيون الخائفين و الحاقدين. وبعدما أنزل الحرس بها عقابهم ، و لملم الناس في أفئدتهم أشلاءها المتناثرة وأحلامها المبعثرة و استعاد المكان صفاءه ، حينها تقدّم سادة الصحراء نحو العرش المبجّل و ركعوا بين يديه تبجيلا و اعتذرا ، ثمّ توجّهوا جميعا نحو المذبح محروسين بالكلاب و الذئاب و الأفاعي و الضفادع و القردة ليشهدوا عيد النحر السنوي .
رفع كبير العمائم السكين المتأهّب في وجوه المطروحات أرضا ، ثمّ نحرهنّ الواحدة تلو الأخرى ، فانفجرت الحناجر بالزغاريد و النحيب و التهليل و الصياح و البخور و الغثيان ، و سقت فرحا القيان الحاضرين خمرا معتّقة ، و رقص العرش و الغربان ، و سيقت الأسود إلى أقبية النسيان الأبديّ ، ثمّ رفعت على ظهور الدّواب المنحورات على أن يتمّ نحرهنّ مرّات أخرى في أعياد متلاحقة و رفع حملة العرش سيّدهم و من ورائه الخلق جميعا ساروا نحو الجبل من حيث أتوا ، و خلا بذلك المكان إلاّ من النخلة الجالسة في بركة الذعر تواسيها القبور المرتجفة و تغطّيها السماء بكتمانها خوف أن تلقى ما لقيه صاحبها فتسقط من يمين حلمها الشمس الموعودة .

الفصل الثالث

القافلة الناسلة من عمق صحراء التيه تغطّ في رحم عقيم ، و ابتسامة وليد فقدت نضارتها على مشارف خلجات الليل . جثة الغريب الملقاة على حافة الغدر مسجّاة بشدو الذئاب و صهيل الخرفان و من كل همّين اثنين ، و الأشواك المنمّقة بالضياع تهدهد حلما سقيما ، و الدمعة المجروحة شريدة في كفّ النخلة ، و النخلة تتفرّس وجوه دراويش تنوء أكفّهم بنعش مخضّب بالسفح و الأماني الموءودة ، و الشمس المشدودة بحبل إلى جذع حيرة متشامخة تداعب بأناملها الرميم سؤالا يئنّ في قاع شجن ملتفّ الأوهام .

تحلّق الدراويش حول الجثة ، و النخلة ترمقهم من كوّة صمتها الكئيب ، غسّلوا الجثة بكلمات شاحبات ، و طيّبوها بخيالات محمومة ، ثم زفّوها للنعش المطأطئ .

مشت الجنازة مكبّة على حلمها ، مشت نحو الجبل الجاثم على صدر الصحراء ، و تبعتهم عيون النخلة المحتمية بقلق وارف الظلال . مشت الجنازة المشدودة إلى التراب بسلاسل من خوف عتيد ، و تهادت على كفّ اليتم ، حتى الماء غادر يومها مواقعه خوف العسس و الأنياب المعربدة في غضب ، و عانق دم الذبيحات دم المجلّل بالنعش و تراب الأرض الثكلى ، و استأسد الصمت في جوارح القبور المنثورة بين شقوق الحلم المهزوم ، و غصّت شرايين الدروب بالأظافر و الذئاب ، و لاذت الأزهار بالأجنحة المهشّمة على عتبات الضوء العليل ، و اشتعل رأس الجبل المترهّل خرفانا تتبّع الجنازة بعيون ناسلة من عرش الصحراء المتيّم بالفتك . سار الدراويش على الشوك كأنّ النار تحتهم حذرين جيئة و ذهابا خشية السيف المتطاول في البنيان .

غابت الجنازة ، و بقيت النخلة على عتبات النحيب تتقاذفها أمواج اليتم و العدم . نسيم جنائزي يولول بين جنبات الأرض باعثا في الوجود رعدة متوحّشة ، و خوف زئبقي يعبث بقبور مبعثرة غادرت أعشاشها لتحطّ على أغصان الأفول . نزلت ابتسامة النخلة للوادي الشوكي لتغتسل من رجس الهزيع الأخير من الضياء على صياح الدّياجير، و البحر على مقربة منها أجهش صحراء

و من حوله انخرط الوجود في بكاء مديد ، رتقت النخلة بعض شجاعة بالية و أقرّت العزم على اقتفاء أثر الجنازة بعدما حلّ الصمت بالمكان و أينع الأمان

اجتثت النخلة حراكها من قعودها ، و اقتلعت أمنها من خوفها مصعّرة خدّها لقهقهات متبرّجات منبعثات من سفور الليل الأليل ، ووجّهت وجهها شطر الجبل المرصّع بنجوم جنوبية صاعدة نحو الحضيض ، تحاملت النخلة على إعيائها مقتفية آثار الجنازة . مشت بخطى سكرى على وقع الآثار ، سارت بخطاها المترنحة ، وولجت طرقا شتّى ، بحثت عن الجنازة في الشعاب و الجبال

و السجايا و في الأفق الضّنين ، و سألت عن مكانها حبّات التراب و أمواج البحر الذليل ، سألت عن مكان صاحبها البوم و الغربان و الفئران الجارية على حافة الوباء الزلال ، سألت عنها القبور و النجم الهزيل ، بحثت عنها في ترائب القمر المعبّأ بالأنين ، وذات دهشة مقمرة ، و بعد مشقّة وقفت المنهارة على باب جبّانة منتبذة مكانا شرقيا ، و لمّا تقدّمت النخلة نحو العمق خطوات رفعت دمعة عقيرتها بالممات ، و دوّى صوت الفجيعة في السماء متفجّعا ، ووجه الموت وقف

عند رأس النعش متبرّجا ، و سليل الجلدة في شقائه ينعم متفرّجا ، وسراب الأحلام قرب النعش في دمه مضرّجا ، و عويل النفخة انبعث من السور مترجرجا ، وهتف هاتف من وراء الشمس السوداء متوجّعا :

يا زمن الأزمان يا ألمي

و يا ألم الآلام يا زمني

و يا سنم الأدواء يا عمري

و يا حطب الأحلام يا عبثي

و يا عبث الأيام يا أربي

هكذا غنّت طويّة النخلة المتسمّرة على باب الجبانة لسجيّتها ، وهكذا أسرّ شوك الزمان لقدمي التائهة بين القبور . تمشّت النخلة بين الأجداث مفتّشة عن ساكن قلبها ، نادت عليه بأعلى صمتها ، لكن لا صوت يأتيها سوى ترجيع حزنها ، أعادت النداء مرة ومرتين ، فاستقبلها زئير العدم من وراء القبور ، و استوقفها فحيح القدر في قاع اللوعة ، و صهيل التيه يدنو و ينأى .

أعياها البحث ، و أرهقها النداء ، دبّ اليأس في سريرتها . و لمّا أعياها التطواف في مناكب السؤال النحيف جلست إلى قبر لتلملم أنفاسها ، غمست رأسها في السقوط وأجهشت تلوّعا ، لكن لا حياة مع اليأس ، انتفضت من سباتها لتعاود البحث، وضربت في الأرض باحثة عن صاحبها علّها تجده

****

الليل همّ على كتفي الجبانة منسدل ، و برك من الدم القديم مبثوثة على أديم الأرض ، أرض الجبانة على امتدادها غاصة بجثث متفحّمة و أخرى مبتورة الأحلام ، مئات الأطفال المشردين ينامون بين أحضان سمرتهم الموءودة على فوهة الموت المتدلية عناقيده من كوة النار. نقيق الضفادع على حافة الصبح المهزوم يذكي في عروق القبور الجاثمة على آهاتها فحيح الشوك ،

قافلة من الخرفان تجوب عفن السؤال مفتّشة عن نقطة ضوء مضاجعة لخطيئة النهار ، قافلة الخرفان احترفت مع زعيمها مغازلة القمر من ثقب جمجمة نخرة ، فللجماجم حكمتها في تصريف الضوء ، و يبدو الكون أجمل ، و الضوء أبهى حين ترمقه العين الخاوية أسوة بالخرفان من ثقب جثّة عفنة ، الظلمة الشوكية المنحدرة من أعالي شحوب اللغات تربّت على كتفي الخرفان المفتشين غدوا و رواحا عن أشعة القمر المعانقة لنصب السؤال . تحاملت النخلة على طقوس رحيلها ،وتناست فؤادها المخضّب بالوحشة ، و أقرّت العزم على التوغّل في ارض الجبانة بحثا عن صاحبها فربما تظفر به ذات صدفة . مشت بين أكوام الجثث المتفحّمة و الأخرى المتعفّنة ،

و شقّت برك الضوء الآسن برجليها المتعبتين ، سارت بين يدي القبور مترفّقة ، تتفحّص الوجوه المنشقّة على دود كثيف خارج لتوّه من الخياشيم و الجماجم و الأرض الملفوفة بشجون متخمة ، و عاصفة حجرية تمشط عواءها بأظافر عرش قديم يزقزق على فنن أزلي .

تقدّمت النخلة خطوات وجلة و قد ظلّلتها سحابة من الأفاعي المتبرّجة ، تحاملت على رجليها المتورّمتين و خوفها المتنامي ، و توغلت نحو العمق بين كثبان الجماجم و الجوارح المنفوشة

و جيوش الدود و عفن السؤال ، مشت بين صفوف القبور المتشابكة كالأغصان الناسلة من أرض يغطي الملح تفاصيل وجهها المتشقق . اقتربت من القبور الآهلة بالأفواه المختومة

و الشحوب ، و لم تعر مواء المجهول و أنين الصباح المضرّج في عظام نخرة أذنا صاغية ، لم يعقها عن الطواف بعينيها في أرجاء الجبانة نباح الأظافر و زئير الحريق المتردّد في سرائر اليتامى ، أناخت سؤالها رغم كل شيء ، و جثمت على ركبتيها المرتعدتين قرب قبر و شرعت في نبشه بحثا عن رفيقها صنو قلبها و شقيق نفسها ، نبشت بكل ما أوتيت من قوّة ، و أطنبت في النبش ، و بينما هي كذلك إذ ببطن القبر ينشقّ على رافدين ، يجري أحدهما جماجم زلالا ،

و الآخر يجري شوكا رقراقا ، و بين النهرين تنام فاتنة مقطوعة الأوصال تحمل بين يديها رضيعا مجلّلا بالردى ، و قد تحلّق حول ثدي المرأة الجاري حليبا أسود ذئاب كثيرة تنهش تفاصيل بسمة عذراء سمل عينيها نسر ثلجيّ . تسمّرت النخلة ، و توقفت عن النبش تتبّع المشهد بحيرة زانية ، سمّّر مشهد النهرين المذبوحين عينيها في محجريهما ، و دثّرها برعدة وحشية ، و أرسل بين جوانحها الحيرة ريحا صرصرا تذرو رمال السكون على بوابات الفجر المغدور ، سرّحت النخلة لبّها في تفاصيل المشهد فيما أحجمت يداها عن البحث في أعماق السؤال المعلق على باب مدينة العذابات. بقيت النخلة المتجذّرة في حيرتها و خوفها الزئبقي تتقاذفها مواسم القحط الجرداء ، و لولا وخز الشوق لصاحبها لاستسلمت للضياع .

انهمكت في التفتيش مرة أخرى بين ركام الدموع و العواء و الحشرجة ، شمّرت على شوقها

و الفضول ، و امتطت أصابعها بساطا متيّما بلقاء صاحبها المفقود ، اشتعلت يداها نبشا وراحت بحنين الأولين و الآخرين تزيل عن وجه القبر تراب النسيان ، قلّبت المشهد مرّة أخرى

و كأنّها لم تقلّبه من ذي قبل ولما فازت بالخيبة و لم تجد صاحبها أطلقت سبيل القبر، و راحت تطلب ودّ قبر آخر ، نبشت الثاني بعزم أشدّ عزما ، و فتحت باب القبر فهاج الدّود و ماج ، و حطّ على يديها و غمرها ، كما هاجمتها جحافل من العفونة بأنيابها الضارية ، تناست الألم و تحاملت على الرائحة الكريهة وواصلت النبش حتّى لاحت لها جثث آدمية متعفّنة متحلّقة مع جثث لكلاب نخرة حول قطعة خبز مضمّخة بالعار تلتهمها أفواههم المختومة بشراهة زئبقيّة يحرسها سياط متآكل. بحثت الواقفة على باب دهشتها شاخصة التفكير عن رفيقها بعينين جائعتين فربّما نال الجوع منه فتحلّق مع المتحلّقين حول قطعة الخبز ، أجالت بصرها في المتحلقين مثنى و ثلاث فلم تستقبلها إلاّ الخيبة ، أعادت التقّليب كرّة أخرى يمنة و يسرة ومن بين أيديهم و من خلفهم فطلعت عليها جثث أخرى مغلولة بالحديد و النّار تكرع من بحيرة جنوبية مترعة الفحيح ، و بين الفينة و الأخرى ترمق الجثث بعين كسيرة سراب ضياء يرتق النهار بقمم جبال منذورة لجذع حمامة مهيضة الجناح . بقيت النخلة على باب القبر زمنا لم تقدّره تتابع رقصة زهرة موءودة ضلّت سبيلها إلى حلم القابعين في قاع القبر خلف الأنياب تلاحق عيونهم الخاوية من شرفة السفح ثعلبا ثلجيّا يواقع دجاجة سمراء متغنّجة . نفشت القبر بعينيها لعلّها تظفر بصاحبها ، و لكن كلما نفشت جثّة أينعت أخرى . أتعبها النفش و النبش و رغم ذلك أعادت الفعل مرة و مرّتين حتّى وقفت على قحط المحاولة ، و دون عميق تفكير أسلمت القبر إلى الجثث و الدود .

اقتلعت النخلة صحوها من غفوتها ، و لملمت أملها المتخبّط في أحشاء الغيب و انتقلت إلى رمس آخر ، انحنت قرب الجدث الثالث أو الرابع أو المائة أو الألف و راحت تنبشه بنفس الإصرار متكتّمة على إعيائها و غثيانها ، فجأة تجلّت لها جثث ملتفّة حول أسس عرش طاعن في السنّ جذعه ثابت و فرعه في الدم ، الجثث تحاول مجتمعة اقتلاعه من جذوره و العرش ثابت لا يريم ، يغرس الجالس عليه من حين إلى آخر أنيابه في الجثث المتربّصة به ، وبين القلع و النهش تقف النخلة متعبة ، محزونة الفؤاد ، كفكفت النخلة إعياءها، و أطنبت في تتبّع المشهد . الجثث مستأسدة في زحزحة العرش ، و العرش من فوقهم متنمّر يتحيّن فرص النهش من على الجماجم المنثورة على دربه ، بعثت النخلة بعينيها رسولا إلى ما بين العرش و مقتلعيه فربّما غطّت جموع الغاضبين جثّة صاحبها ، تمشّت عيناها فاحصة المقتلع و المقتلعين و لكن دون جدوى و لمّا وقفت النخلة على فشل المحاولة مرّة أخرى جنحت لقبر آخر تنبشه ، و استمرّت ثورة النبش إلى أن أتت على الجبّانة كلّها ، و مع فقدان الأمل في العثور على رفيقها عتقت رقاب القبور و أقرّت العزم على الرحيل بعدما أسرجت دمعتها و نحرت على عتبة الخيبة أملها .

سارت نحو باب الخروج ، و قد ركبت دمعة جريحة سنم خدّها المبحوح ، و أرخت حبل المسير لرجليها الناحبتين و القنوط . مشت بخطى كئيبة لا تلوي على شيء تدفع أمامها خيبتها و السؤال .

مشت مشي التيه لا تعرف أيّ الدروب تسلك و أيّ الطرق تلج ، مشت مشي الأعمى في أرض لا عهد له بها - أو هكذا تزعم - على درب غير قاصد ، سارت على طريق الضياع زمنا طويلا ، و ذات ضياء عليل برز لها من بين شقوق الشجن نعش صاحبها و قد تخيّر له من الأماكن أسفل الجبل .

أطلقت ساقيها للغنم و للفرح ، و اتجهت نحوه بكل ما أوتيت من قوة لا تلوي على شيء ، و لما بلغته جثمت بجانبه على ركبتيها تتفحص الجثمان المسجى ، ولما همّت بتقبيله وضمّه إلى صدرها استحال بين ذراعيها هباء منثورا . لملمته في كفنه على عجل خوف العيون ، و أودعته قلبها قبل أن تحمله على ظهرها . سارت على شاطئ البحر المتتبع للمشهد بصمت . مشت مكبّة على عبرتها باحثة عن مكان حجاب تواري فيه عورتها الجاثمة في كفنها على ظهرها . مشت حائرة الخطوات تدفع بقدميها دفعا عنيفا يكاد السؤال يشجّ رأسها المفتّت . مشت على الشوك كأن الأرق تحتها ، وصاحبها على ظهرها متجذّر في رميمه لا ينبس بحرف ، تخيّرت لها من الطرق أوعرها ، و من المسالك أوحشها خوف العسس و الرقباء ، مشت النخلة المتيمة بالرميم المتوكّئ على صمته مدقّقة الحذر في البر و البحر خوف فتك عيون الليل و أنياب النهار وبينما هي على تلك الحالة إذ بها تظفر بمغارة قرب الشاطئ تحصي الخلاء و تؤنسه فانحدرت نحوها انحدارا جنونيا .

الفصل الرابع


اقتربت النخلة من فم المغارة المفتوح كاللحد مندفعة في البداية ، أصوات غريبة منبعثة من جوفها شدّت المبعثرة إلى مكانها بمسامير من ذعر ، أصوات آدمية منبعثة من ركام السكون . لملمت الطمأنينة شيئا من شظايا مشاعر النخلة المشتّتة . تقهقرت النخلة خطوات إلى الخلف ثمّ عزمت على مغادرة المكان الغامض و النافخ في خوفها أسباب الظهور بعد كمون . بقيت على أرض بركانية تعفّر التردّد تارة و يعفّرها الخوف أطوارا .
الظلام كثيف و عباءته الشوكيّة محيطة بالمكان الغارق في موته البارد ، لا شيء ينبئ بالحياة ، تملّكت النخلة مشاعر الرهبة و الخوف المتأبّط ارتعاده ، حتّى الرماد الجاثم في كفنه على ظهر النخلة سرت في مفاصله قشعريرة الهواجس المخيفة ، تمسّكت النخلة ببعض هدوء لكن عاصفة جنائزية اقتلعت سكينة الواقفين بباب المغارة من منبتيهما ، عادها بأسها بعد غياب ، فهتكت شيئا من تردّدها ، و سارت نحو الدّاخل بخطى وجلة .
نحيب نسويّ يمزّق شعر السكون ، و الظلمة تتمايل ذات اليمين و ذات الشمال ، أرهفت الواقفة بباب المغارة السّمع ثم استرقته ، نحيب ملطّخ بعويل شوكيّ يدمي الأمن ويلقي في أوصال السامع بذور الوحشة . تقدّمت النخلة وتخلّف هدوءها ، خوف زئبقي حلّ بالجاثم في كفنه على رعبه ، مشت النخلة مشي من يتلمّس طريقه على شفا حفرة لتتنسّم العويل في مصادره يدفعها فضول و يشدّها رعب .
ظلمة حالكة تراقص أنين الصمت ، و صوت البوم يغازل الأظافر الناهشة لوجنتي الوجود المتورّمتين ، فرائص الجثة الرماد المنطوية في كفنها كزهرة يتيمة تعبث بها الدّمن العاتية ، أصوات مفزعة ترفرف حول المكان .
أسرجت النخلة بعد عناء سكينتها ، وشدّت إلى الداخل ترحالها ممزّقة باصرارها النحيف خيوط الظلام المولولة . في قاع المغارة يلوح ضياء سقيم يتلوّى على صدر الجدار كالثعبان و قد تحلّقت حوله ظلال رؤوس آدمية تميد كالفلك ، اقتلعت النخلة خطاها و من ورائها على ظهرها صاحبها في كفنه مظطربا في بؤبؤ خوفه البركاني .
نساء كثيرات يناهز عددهنّ العشرين أو أكثر بقليل ، يلتحفن السواد من الأقصى إلى الأقصى متحلّقات حول قبر ، و منهمكات في بكاء و عويل وشقّ جيوب و تمزيق هدوء ، و القبر بينهن ّ يهدهد شمعة نحيلة ، القبر قديم تنبعث منه رائحة عتيقة تشيع في النفس أمنا بعد خوف ، حزن أعشى يلفّ الزوايا بأجنحته المتكسّرة ، و برد زمهرير يرقب بأشعّته البكم السواد المعاقر لآنية المنيّة ، سارت النخلة نحو النسوة حذرة ، و لما اقتربت منهنّ وقفت غير بعيد تتطلّع حذر المجهول إلى بطن القبر لتتفحّص نازله . لم يتفطّن لوجودها أحد . فالمكان برمّته غارق في عبرته المسافرة على جناح الليل السميك . حاولت النخلة الاقتراب من المتحلقات لكن التردد كان أقوى من عزيمتها . و بينما هي على خشبة الإضطراب تذروها ريح الإنحدار تفطنت لها إحدى النادبات صدفة فانتفضت من مجلسها كمن به مسّ من الجنون ، صاحت في وجهها بأعلى صوتها ، و انتفض على وقع الصياح الباقيات و توثّبن جميعهنّ للفتك بعدما أسدلن عليهنّ من أغطيتهنّ ، ثمّ تقدّمن نحو النخلة رافعات غضبهنّ في وجه الواقفة مترنّحة من شدّة الخوف ، تقهقرت النخلة خطوات إلى الوراء و حاولت تهدئتهنّ بكلمات طيّبات رقيقات خوفا و ريبة ، مفصحة عن سبب دخولها ، انفجر التوسّل من لسانها و غطّت دموعها الغزار أرض المغارة و الواقفات على غضب يلوّحن بالانتقام . اشتعل لسان الرماد من على ظهر رفيقته تودّدا و تزلّفا ، و لما تيقّنّ من بعد الخطر عن حماهنّ
و لمسن منهما نقاوة كشفن عن وجوههنّ و سوّين جلابيبهنّ و عدن سيرتهنّ الأولى . ولما كفكفت الجدران هلعها دعت إحداهن النخلة للجلوس بينهنّ ، فألقت بما على ظهرها و تخلّت ، ثم افترشت الأرض و تقوقعت على ظنّها .
****
بطن القبر مفتوح يضمّ بين راحتيه شيخا يجلّله البياض من أمّ رأسه إلى أخمص قدميه ، ينام ملء سكونه ، على يمينه تجلس شمس مشرقة تحكي النور و تحاكيه ، و ترقص على يساره الخضرة جذلى ، مبتسم في غير إسراف . راغت إحدى الجالسات على النخلة بالسؤال عن ساكن
الكفن رفيقها . فطأطأت النخلة رأسها كمن يستجمع ذاكرته و أجهشت حديثا :


عاش غريبا ، ومات غريبا ، فارق أهلا ، و عاقر نحيبا ، عاشر سؤالا ، و طوّف في شعاب عقله حتى أهرق التّطواف ، و سار على دروب وعرة كثيرة حتى قضت نحبها تحت قدميه ، عرّافة قالت له ذات رؤية مقمرة أن لن يستعيد وجهه إلا إذاعثر على الهه المفقود المنشود ، سفك السؤال لبّه و جدّ في البحث ، فالعرّافة قالت له ذات رؤيا حصيفة أنه حتما سيجده ، و سيستردّ من بعده أرضه و جدّ في البحث ، و رغم تجرّع الخيبات جدّ في البحث .
عاش غريبا ، و مات غريبا ، هو رجل نذر حياته للبحث عن ربّه الذي بذر في قلبه حبّات حبّه له معلّمه لمّا كانا رفيقين في زنزانة العشيرة ، وقد كان معلمّه هذا هو مرشده في كتّاب الزنزانة مع بقيّة صبيان الزنزانة قبل أن يصبحا صديقين حميمين متلازمين على مشارف الأهل و الخلاّن ، حدّثه معلّمه لمّا كبر و اشتدّ عود الودّ بينهما و لمس فيه ترحالا عظيما نحو ربّ لم تلده أيادي العابثين و ألبابهم قال : ” إله الزنزانة قديم قدم حذائي ، توارثناه عن أسياد آبائنا جيلا عن جيل
و سيرثه من بعدي عنّي بقدرة سلطان الزنزانة التي لاتقهر ابني وابنك ، إنّه اله حفر فيه الزمان أخاديده ، يقلّب السلطان أمره بين راحتيه كما يشاء ، و إن نال منه العياء أوكل به أمين سرّه و كاتبه المقرّب ليتعهّده و يرمّمه و يرقّعه لكي لا يصغر في عيون الأهل ، و نحن كما تعلم يا بني ّ على دين السلطان ، فسر في الأرض و امش في مناكب عقلك و ابحث عن الهك ، ابحث عنه
في الرعد ، في البركان ، في الشمس ، في النخل " و لمّا أتمّ المعلم حديثه لرفيقه ذات سرّ
و الناس نيام التقط بفمه حجارة صغيرة و ثبّتها بين شفتيه المرتعشين خوفا و احتسابا و رسم شيخا طاعنا في السنّ معلّق عرشه بين السماء و الأرض يحاول رفع لقمة ثريد إلي فمه ولكن أنّا ليمناه أن تبلغه و هي المغلولة بسلاسل من الحديد و مشدودة لعرش سيّد الزنزانة و حاكمها ، و لمّا أحسّ المعلّم بوقع خطى في اتجاههما يومها مسح الرسم بلسانه وتظاهر بالنّوم فربما كان القادم أمين سرّ السلطان ولو رأى الرسم لقطع رأسه كما قطع يديه و رجليه يوم تفطّن له يتلو شعرا على الصّغار في الكتّاب و قد قال فيه :
كان الله - قديما - حبّا . كان سحابة(*)
كان نهارا في الليل
وأغنية تتمدّد فوق جبال الحزن
كان سماء تغسل بالأمطار الخضراء تجاعيد الأرض
أين ارتحلت سفن الله …. الأغنية الثورة ؟
صار الله رمادا
صمتا
رعبا في كفّ الجلاّدين
****
عاش الغريب غريبا ، و مات غريبا ، وبين الغربتين ترعرع بين أحضان أمّ تقاسمت مع أبيها و أخيها و سلطان الزنزانة خلقه في الليالي الوردية . نشأ الغريب في أهله بين الزنزانة و ضيعتها ، يغدو إليها في الصباح مع الغادين ، و يعود إليها حين تأذن لهم الشمس بالرحيل مع أهله المحملين بخيرات الأرض من كل الثمرات المنذورة لنسر الثلج ، و حين يستقر بالأهل المستقر بين جدران زنزانتهم ، يلقي لهم السلطان بخبز و زيت ، ثم يقف فيهم أمين سره آمرا إياهم بالنوم فغدهم من كل غد قبل أن تتمطى الشمس في خدرها و تستل صحوها من كسلها سيكون شاقّا
و مليئا بالسعي . و حين تخلد الزنزانة للنوم و تبحر الجفون في غياهب التعب يزحف الغريب تحت جناح الحذر نحو مرقد معلّمه ليتلقّى منه كلمات تنفث الأمل في شمسه التائهة ، و تبثّ فيه أريج إلهه الجالس على سفن الغد القريب المفعم بنسيم الصباح المشرق .
نشأ الغريب في أهله عاقّا ، عنيدا إلى أن اشتدّ عوده فازداد تمنّعا و تكبّرا وولها بمعلمه مقطوع الفروع ، فما عاد يسجد بين يدي سلطان الزنزانة كل صباح مع أهله قبل أن يتوجّهوا للعمل ، كما أصبح يأكل من ثمر البستان السلطاني دون أن يزحزحه عن غيّه وعد أو وعيد ، و قد كرهت أمه سلوكه و خافت أن يحصد غضب السلطان و الرب الجالس على عرشه على راحة أمين سّر
الزنزانة .
اشتدّ كفر الغريب و كان من اله أمه ساخرا و راح يحثّ شباب الزنزانة كلما سنحت الفرصة على الإنتقام من الرب الضعيف و الأفعى أمين الزنزانة و السلطان الشرس الذي صادف أن حدّثه عنه معلمه ذات ليل كتوم قائلا : ” كتبت في سرّي قبل أن يقطع السلطان يدي و رجلي سيرته التي ذكرت فيها يوم ميلاده ، فلقد شهدت أمه في ذلك اليوم عسرا لمّا جاءها المخاض إلى جذع همّ مغتمّ ذات ليلة بباحة الزنزانة لما كانت على عهد أبيه ، فلقد صاحت صيحة أفزعت ما بين المشرقين
و المغربين ، فتعبت ليلتها و أتعبت ، حتى أن أطباء الزنزانة كلهم اجتمعوا و لم يوفقوا ، حينئذ دعي طبيب اسرائيلي . جلس الطبيب بجانبها ، و فتّش في ثنايا فرجها ، أطرق قليلا ثم أخرج من حقيبته موسى و شقّ فرجها نصفين ليتسنّى للمولود الجالس على عرشه الخروج من طور الموت إلى طور الحياة ، و ظهر و لأول مرة في تاريخ جنوب البحر هذا الطفل المعجزة الذي يعدّ مفخرة لسكان الزنزانة . أبلت أم السلطان ليلتها البلاء الحسن ، طفل كأنه السحاب الداكن في حلوكته ، يجلس على عرشه الملتصق به التصاق الروح بالبدن ، يمسك بيمناه سياطا و بيسراه قناطير مقنطرة من الجماجم ، و سمّي عام ميلاده بعام المعجزة . نشأ الطفل رفقة عرشه ، إذ كانا ينموان معا ، و كان يتنقل معه على أكفّ الراحة و التبجيل ممن اصطفاهم أبوه . و لقد نشأ الطفل السلطان زير نساء و مقتف لآثار المردان و متهالكا على الملذّات و لو في نساء أبيه ،و مقبلا على الفواحش إقبالا سافرا حتى أنه إذا اشتهى غلاما أو جارية أمر بها حملة عرشه فيرفعونها بلطف و يركبونها قضيبه إلى أن يقضي منها أو منه زينته . كره المعلّم من الطفل المعجزة خلقه وخلقه ، و رفع أمره إلى أبيه السلطان ، فلقي منه ما كان يكره لرفضه مواصلة تزكيته و تعليمه كأقرانه .
****
كان الغريب المحلّق في اللاّمدى من أهله في الزنزانة جزوعا ، و بمعلمه ولوعا ، و بمعاشرته له قنوعا ، و لقد كان أحبّ لقلبه من أمّه التي كانت على أثر قومها تهرع ، تعبد إله السلطان خوفا و طمعا ، خوفا من بطش أمين سرّه و جبروته ، و طمعا في مكرمته و قوته ، كره الغريب من أمه هذا السلوك و مجّه ، و آمن بما جاء به معلّمه ، لقد أينع بين يديه في كتّاب الزنزانة و بعده ، وترعرع على قوله ، و كرع منه إلى أن خطّ الزمان في شعره بياضه .
حثّ الغريب في أهله قافلة السؤال ، و كذا في قفرهم و على طريق التّيه ، بحث عن ربّه في الزنزانة ، في أقرانه ، فجاءه الجواب سياطا و تجويعا و عذابا ،استأسدت في جثث الأجوبة المغلولة حدّ الجرح الأوهام ، مشى الغريب مع معلمه بين جنبي طريق مسدودة و جدّ في البحث كلّما خلا إلى أهله رغم أظافر الخوف المستمسكة بكل كيان .
عاش غريبا و مات غريبا ، امتطى في الزنزانة سنم الترحال ، وصعّد به في اللبّ بساط التّسآل ، مشى بين الجثث الجاثمة على أحزانها المكبوتة بين أحضان الزنزانة الرءوم يسأل كلّما أينعت أسباب السؤال ، مشى زمنا طويلا من شبابه و بعضا من كهولته بين جثث أهله بخطى مثقلة ، سار في شوارعها سيرا غير قاصد . و ذات يوم خريفيّ أقرّ العزم على كشف سرّه و دعوة أهله إلى إلهه الجديد المخلوق من الشمس جهرا ، فبثّ في ذوي القربى رسالته ، فكذّبوه و عذّبوه و في الحقد سجنوه ، و فكّت أسره دعوات معلّمه المتيّم بالنخل و الشمس ، لم يستسلم الغريب إلى ضعفه و آمن برسالته ، و طلع بها على الناس رغم بطش السلطان و عيونه و أوليائه ، و خرج إلى الشوارع يدعو إلى إلهه في وضح النهار .
****
الشوارع واجمة ، و الجثث على قارعة الطريق ملقاة في غياهب النسيان و تحت الجدران ، قد طلّقت وجوهها ملامحها ، جلس ذات سؤال القرفصاء بملل أمام جثّة ، حاول أن يتجاذب معها أطراف نجوى ، فلم تعره أذنا صاغية ، ، ونظرت إليه شزرا ، استعاد الغريب شيئا من حلمه و سألها : ” أما مرّ بك ربّي ؟ ” فجاءه الجواب صمتا مقيتا ، أخيرا تحرّكت الجثّة ، بعدما قلّبت خوفها في الزنزانة ذات اليمين و ذات الشمال ، و بعد طول سكوت أفصحت مشيرة إلى قطعة خبز بيمينها باقتضاب : ” هو ذا ” ، لمس الغريب الجثّة بيد رءوم و همّ بالرحيل لا يعرف أيّ الطرق يسلك ، استمسك من فضوله بالبقية و كتم غيضه ، و أراد أن يعيد السؤال ، لكن الدود سبقه للسان الجثّة اللاّئذة بخبزها و الصمت ، فتّش الغريب في ثنايا الجثّة المحروسة بالدّود علّه يظفر بجواب ، فلم يدرك منها مطلبه، أعاد تقليبها و كأنّه لم يقلّبها من ذي قبل ، ظفر بورقة صغيرة أفرحته ، لكن سرعان ما امتصّ ضحكته و اكتفى بابتسامة تنمّ عن القناعة و الرضا ، قلّب الورقة بفضول زئبقي ّ فعثر على رقم يثبت هويّتها كالرقم الذي تحمله أمّه و معلّمه و بقيّة أهله ، نهض الغريب محبطا ، و مخلّفا الجثّة لخبزها و الدّود ، و اعتزم التنقّل إلى جثّة أخرى علّه يرد المورد الزّلال في زنزانة اللّسان الأبكم ، تنقّل بين الجثث المبثوثة ، و في طريقه إلى هدفه تذكّر قول معلّمه ذات ليلة و هما بالزنزانة مضطجعين : ” لكي تحيا ها هنا هانئا عليك أن تكون جثّة بامتياز ” ، فأعرض الضارب في تيه السؤال عن الجثث و مشى بين الطرق الحبلى بالقنوات المتفجّرة ، بحث بعينين شاردتين عن مكان يقيه سيول الدّود و الخراء ، و بعدما انخفض به درب وارتفع به آخر حلّ به المقام في مقهى مزدحم بوجوه مكفهرّة تحتسي الفراغ ، تجاسر الغريب على قرفه ، و انطلق بين الطاولات السافرات إلاّ من خشبها يسأل نازليها عن ربّه المنشود ، لكن لا أحد يعلم عنه شيئا ، طاف بكلّ الطاولات و سأل الجثث جميعها رغم قحط السؤال المفترش ألسنة الناس المتجذّرين في الجفاف . فتّش في عقولهم و أفئدتهم و جيوبهم عن جوابه المنشود غير آبه بالعيون المنتشرة هنا و هناك و كذلك الآذان ، و بينما هو يسأل إذ بجثّة تلوح عليها علامات النّباهة دعته بعينها الخاوية إلى حماها فتوجّه نحوها بخطى مثقلة ، نظرت الجثّة بعينين مختومتين من الوريد إلى الوريد إلى صورة سلطان الزنزانة المعلّقة على صدر المقهى وكأنّها تقول للسائل عن ربّه : ” هو ذا ” . تنامت في صدر الغريب مشاعر خيبة ، فطلّق دون عميق تفكير المكان . مشى بين شوارع الزنزانة كسيرا ، و بينما هو على بساط الشّجن إذ به يرى مجموعة من الجثث تلبس السّواد متحلّقة حول اثني عشر قبرا تلطم الخدّ و تشقّ الجيب و تضرب الولدان بكل ما أوتيت من قوّة ، تقدّم الغريب نحوهم بخطى وجلة ، ثمّ راغ على أحدهم بالسؤال عن ربّه ، فرمقته الجثّة بازدراء مشيرة إلى تلك القبور المتآكلة قائلة في صمت : ” هو ذا ” ، تملّكه شعور بالفشل ، وغاب إلهه كما غاب من بين جوانحه الأمل ، و استغلظت مرارة الخيبة في فمه و دكّه الإحباط المتاشمخ و خيّب أهله آماله فترك الجماعة و أطلق ساقيه للفشل و للأحزان تنهشه . فارقه الأهل و الصحب ، و تنكّر له كل الأحبّة ، و حذّروا منه كما حذّروا من معلّمه عيالهم ، و طلّقوا مجلسه ، و ألحقوه بزمرة المفردين ، كره العيش بينهم لولا بعض أمل دفعه إلى المكوث فيهم ، كما أنكر منه معلّمه الاستسلام و حثّه على الإصداع بدعوته و لو كان في ذلك حتفه ، فسار على نهجه المزروع ليلا بهيما ، و سار على دربه اقتفاء لآثار الشمس و النخل المترع بالفجر المنبثق من بين شقوق الجثث المجلّلة بالدود و العرش ، فلم يثنه التجويع و كذلك الحديد و النار ، و لم يثبّط عزمه كفر أهله به و بغده الكامن في الأفق المتورّد البعيد … البعيد ، و ذات ليلة ، وفي طريقه إلى مضجعه في ركن مظلم من الزنزانة اعترضت سبيله حبيبته .
رمقته بعينين حائرتين فبادلها نفس الحيرة ، مالت عليه و همست :” مالي أراك كموج البحر في يوم مطير ؟ أو كمن تحمل في بطنها وزرا ، تودّ لو ماتت على أن يراها أهلها ، أو يفضح ساكن أحشائها أمرها ، فراغ عليها بصوت خفيض :” زنزانتنا خراء ، لقد ضقت ذرعا بجثثها و بإلهها العجوز العاجز و المبارك لسلطانها أعماله على لسان أمين السرّ ، زنزانة أموات زنزانتنا هذه المتعهّرة ، تدير وجهها للشرفاء و تحتفي بالسفهاء ، لقد كرهت العيش على أرض تشرّد أزهارها و حمامها ” . أنكرت منه حبيبته قوله ذاك ، و صعّرت له حبّها ،و من معلّمه حذّرته ومن سمومه أنذرته ، وبدين الأهل أغرته قائلة : ” الهي ، اله أمّي و سيدي و نحن على دين الآباء و الآباء على دين الأسياد ، فلا تكن نطفة المروق ، فإنّي أخاف أن تلقى منهم ما سيلقاه معلّمك غدا في بيت القدّاس ” . نزل عليه قولها صاعقة محرقة . و اقتلعته كلماتها من سكونه و ألقت به في قيعان الحيرة ووخز الإبر المسمومة . تحامل على سقوطه و حاول استدراجها في الحديث ليعرف منها أكثر عن أمر معلّمه لكنها استمسكت بالصمت خوف الآذان المنتشرة في المكان . فأذكى صمتها نيران حيرته و نخرت كلماتها المقتضبة جداران فؤاده المحزون .
قضّى ليلته تلك متبرّما متململا كأنّ النار تحته ، يرقب بين الحين و الحين مطلع الصباح ، تمطّط الليل و فارق النوم عيني المنتظر ، و عصفت به في هاتيك الليلة رياح الذكريات العاتية ، و حمله عقله المضطرب إلى أقاصي الجرح حيث الشجن الممدّد كالوباء ، ضاق به فراشه ذرعا و لفظه ، فاستجمع قواه و خرج إلى باحة الزنزانة ، الأهل كلهم نيام إلا الدود على عادته متأبّط نشاطه ، عواء الذئاب الباعث في الجوّ نسمة سامّة متحلّق حول جثّة الفجر يمزّق تفاصيل وجهه ، جرت بالغريب حيرة شموس في كافة الأرجاء ، و طوّفت به في دروب الأرق المسامق لخيط الظلام ، نفد الصبر و غاب الصباح ، كل شيء هنا ينبئ بالبوار ، الشوارع المجترّة لخريفها ، و الجدران الجاثمة على صدر الأرض الضيّق ، و الطيور المنشورة على مشانق الزنزانة المتوشّحة بالقرف ، تسمّر الغريب في دمعته مترقّبا صياح الديكة ، فحضر العويل و نامت الديكة على فنن السواد ، و في غفلة من يقظة الغريب امتطى الضياء الباهت صهوة الليل السميك ، حطّم الغريب وجومه و أطلق العنان لرجليه نحو بيت القدّاس .
****
لم يتصوّر الغريب كلما تذكّر كيف استطاع اختراق الحرس و المنتصبين على جنبي طريق بيت القدّاس كأشجار شاهرة نيوبها . الطريق الغارقة في الأظافر نظيفة على غير عادتها ، حتّى المكدّون الأبديّون و طالبوا الصدقة قد تركوا مواقعهم تحت جدار البيت المعمور بحدّ السيف ، فالسيد يوم عيد عرشه المنصرم أصدر مرسوما يمنع التسوّل حفاظا منه على صورة زنزانته في عيون الوافدين من وراء البحر ، وقد جدّ رجاله و أشياعه و عيونه المعربدة منذ الصباح الباكر في اجتثاث المتسولين و ترحيلهم عن الجدار الذي آواهم سنوات طوال قبل المرسوم و بعده كي لا يرى السيد مشاهد تغضبه و تحرجه أمام زمرة من ضيوفه الأخيار الذين جاؤوا من كل فجّ عميق ليشاركوه فرحته بتنصيب الإله الجديد و مفتي الدّيار .
ألقى الغريب بجثّته داخل بيت هيكل الربّ ، و أسدلت عليه الرطوبة ستائرها وكذلك تهليل الخرفان و الفئران و النعاج و الضفادع و القردة ، جلس الغريب على شوك الانتظار يصارع صياح المرحّبين و تهليلهم المتطاول في البنيان ، استسلم المتعب الحزين للانهيار و الصمت ، و طفقت عيناه تطرقان باب الخيبة بحثا عن المعلّم المنذور لليباب ، فجأة ساد صمت كثيف و تلبّس بالجدران و بالمنبر الجاثم على صدر الأرض منتحبا . تقدم موكب سلطان الزنزانة و ضيوفه محروسا بالكلاب و الذئاب و الأفاعي و التماسيح المعمّمة بعمامات سوداء و أخرى بيضاء و الأفاعي و الحمير و العرجان و البرصان و الصمّ و البكم و العمي ، ومن ورائهم يجرّ حملة العرش السلطانيّ المعلّم مصفّدا في الأغلال . استقرّ بالموكب بين المحراب و المنبر المكان .
اشرأبّت الأعناق ، وشخصت الأبصار ، و تطاولت الهواجس في البنيان . صعد أمين السرّ مفتي الديار الجديد- الذي ارتقى بعدما أكل حصير الكتّاب مؤخّرته في المناصب داخل الزنزانة بسرعة جنونية لأنّه كان لا يرفض للسيد طلبا كما كان عين السلطان الساهرة التي كشفت أمر المعلّم ، لقد كان يخشى غضب سيّده و يتّقيه كما تعلّقت همّته بما عند العرش فناله يوم رفع النّقاب عن مؤامرة تحاك ضدّ العرش من قبل المعلّم أو هكذا قال و قدّم لسيّده نسخة منقّحة من الكتاب المقدّس وافقت هوى السلطان فاستحسنها و باركها - استقام المفتي في وقفته على المنبر و سوّى عمامته ، ثمّ نظر في الوجوه الرامقة له ، وأمطر الجالسين على يمين المنبر من بطانة السلطان و ضيوفه ابتساما ، ثمّ أطلق للسانه العنان يعدّ نعم السلطان و يحصيها داخل الزنزانة و خارجها مذكّرا بفضائل الكتاب المقدّس الجديد ، و مشيدا بمكارم السلطان ، و لمّا أتمّ درّته نزل من على المنبر و الناس لائذين بعيون جائعة مضطربة في محاجرها ، مشى المفتي الجديد نحو السلطان بخطى و جلة ، ولمّا بلغه جثم على ركبتيه بين يديه ، و أخرج من تحت عمامته طينا و خلطه بكلمات ناسلات من أصابع السلطان الجالس على بساط السكينة ، أينعت الكلمات ، و تمشّت في أوصال الطين كالسّنة و استوت على سوقها ، و تململ الطين بين يدي المفتي و تشكّل فنفخ فيه من عمامته ، فاستحال إلها سويّا ، فقدّمه بين يدي السلطان هديّة ، فخرّ الرب بين يدي السلطان ساجدا و من ورائه كلّ الحاضرين له سجدوا وبعد ذلك قدّم الربّ للسلطان سياطا وخزائن رزق .
اقترب الغريب الجالس على سياط دهشته من حافة الجنون ، لكنّه تحامل على نفسه ليرى خاتمة معلّمه ، شمل الخشوع بيت القداس بجناحيه و انخفضت الرؤوس جميعا و كأنّ الطير فوقها ، سجد الغريب مع الركّع السّجود كي لا يفتضح أمره . لمّا أتمّ الربّ و عياله السجود لسيّد الزنزانة ، و قف مفتي الديار الجديد أمين السرّ بأمر من سيد الزنزانة و فكّ عن المعلّم أغلاله و تقدّم به نحو المذبح المحاذي للمنبر ، انتفض الغريب كالمسعور و اقترب نحو الصفوف الأمامية علّه يودّع معلّمه رفيق دربه ، رفع المعلّم عينيه الغارقتين في الدمع و كأنّه يودّع الدّنيا و النّاس ، فالتقت عيناه بعيني الغريب حبيبه فابتسمت العيون و تعانقت و بكلام نورانيّ تحادثت ، انحنى المفتي على المطروح قرب المذبح ليشقّ صدره كي يقتلع منه إلهه الفاسد المضلّل لشباب الزنزانة ، و قبل أن يعمل فيه سكّينه المقدّسة طارت من بين جنبي المطروح نخلة و استقرّت في قلب الغريب ، و النخلة هي أنا الجالسة بينكنّ فأحكم الغريب حفظي و التكتّم عليّ و صانني من العيون كما صان حبّ معلّمه و سرنا على طريق الخوف أياما عديدة و ليالي مديدة نصارع بطش و الذلّ في زنزانة احترفت وأد الصّباح . كفكفت النخلة كلماتها الحزينات و لفّت الرماد الجاثم في كفنه بنظرة رؤوم ثمّ صمتت .

................................
(*) الابيات الشعرية للشاعر عبد العزيز المقالح

الفصل 5
الليل و الأنياب و الدمعة السّقيمة ….

و مسامير الأفق الأفق المسجّى في دمه تجري في جناح وردة ثكلى …

شمس الجنوب تمدّ نحو اليابسة أشعّة سوداء مخضّبة بخراف من الزمن المبتور…

و عقارب الوقت على قمّة رمس متشظّ تهدهد سياطا مضاجعا لنهر مفتضّ الثدي

****

الليل و الأنياب و الدمعة الحزينة ….

يد هزيلة متستّرة بالكتمان…

ووردة متسلّلة من كوّة عابسة تبذر في عين فجر مسبيّ خبز الصباح …

و الماء على إجهاده يدفع عنه بين الحلكة و السواد المعاول الباسقة في ترائب خنازير الصحراء و أصلاب نعامها …

****

الليل و الأنياب و الدمعة الحزينة

والكرمل المجبول على منفاه يضمّد جراح التائهين على عتبات الذئاب …

و على مقربة من الحنين يرتق سراب الضحى نجوما تائهة على درب ضياء مصلوب …

و قلوب العاشقين بين أصابع الردى تعبث بها أمواج شوكية ناسلة من مرافئ اليتم الأبديّ …

****

الليل و الأنياب و الدمعة اليتيمة ….

غد شريد متأبّط برد النيام على وهن …

و ليالي الدفلى تدفع أحلام الجاثمين على سنم منفى جليديّ …

****

الليل و الأنياب و الدمعة الحزينة

المغارة الضليلة ارتداها البؤس منذ الأزل ، ولفّ وجوه المتحلّقات صحبة النخلة حول القبر خريف بركاني . تدحرجت النخلة من علياء عبرة سحيقة متوكّئة على خيبة أزليّة ، و القمر العليل من فوقها يسيل أنهارا من الضوء الرماديّ .

****

الليل و الأنياب و الدمعة القديمة

و النخلة التائهة على لوح الهجرات السقيمة تلملم جراحا متناثرة ، و تعضد قلوب الحيارى المتحلّقات حول القبر منتظرات صبحا قد يأتي و قد لا يأتي .

****

الليل و الأنياب و الدمعة الحزينة و الدرب الطويل العنيد

ضاع الغريب في شعاب غربة ممتدّة الأطراف ، كما أفل معلّمه في متاهات متشعّبة ، و تاه الإله المنشود في شرايين حلمة أضاعت طريقها إلى البياض .

صبح المغارة الثخين يضمّد أخاديده بخيط من الفئران في غفلة من فحيح عمائم خرافية . كما ضاعت شلالات العيون في زحمة نقيق أفعواني . لم يستسلم الغريب ، و قد نشط في طويّته حبّ الإله الموعود ، و ضرب في مناكب عقله منذ فرّ من بيت القدّاس تحت جنح الحذر قبيل أن تنهشه العيون المزروعة في كل مكان فتحرمه من هديّة عزيزة تلقّاها من فؤاد معلمه قبل أن يفارق الطين . وذات عدم شقيّ خرج الغريب صحبة النخلة هديّة معلّمه تحت جنح الظلام حذر العيون المبثوثة هنا و هناك ، و لكن تفطّطنت له كلاب الزنزانة و اقتفت آثاره لاسترجاع النخلة ، و ثقفوه جالسا على ابتسامة محشوّة بالدود يداوي جراح نخلته بجراحه المتفحّمة مستعرضا بين الحين و العبرة قول معلّمه : ” سر في الأرض بحثا عن إلهك ، ابحث عنه في النّار ، في الرعد ، في البركان في النخل ، و ذرهم و ما يعبدون قليلا ” انتفض الغريب كمن أصابه مسّ من الجنون لمّا رآهم متّجهين نحوه و أطلق ساقيه للريح نحو البحر بعدما أحكم إخفاء نخلته في أحشائه ، و اتّجه سابحا نحو أعماق البحر نحو زورق فاتح غمّه بالوصيد ، ووجّه وجهه نحو شرق الماء لعلّه أرحم به و بصاحبته من غربه

****

الليل و الأنياب و الدمعة الحزينة

دمع المغارة في المآقي سال ، و الظلام المعربد استبدّ بالطرق ، و الدود المتورّد انتشر في المفاصل و التفاصيل كالوبال ، و المتحلّقات على أرقهنّ داخل المغارة يعانقن في النور الترحال . تململت النخلة المتيّمة برماد صاحبها الجاثم على صمته في كفته بجانبها وتنحنحت ، و فكّرت ثمّ قدّرت ، و استقدمت سؤالها ثمّ استأخرت ، وبعد طول تردّد راغت على إحدى الجالسات بالسؤال عن سرّ ساكن القبر و أسباب تحلّقهنّ حوله ، فطأطأت الملتحفة السواد من الأقصى إلى الأقصى ، و انسكب من صوتها المجروح الكلام :” نحن أيتها النحلة الغريبة المعطّرة بسلاحف الوقت نساء من قبائل جنوبيّة شتّى ، و كنّا قبل ذلك امرأة واحدة ثمّ صرنا أقواما قددا ، كان أبونا النائم في الجدث سورا مانعا في أهله ، يذود عن حياضنا ، و يردّ عنّا فلك الطامعين ، و يحقن دماءنا ، ولمّا نال منه الكبر و خطّ فيه الدّهر مداده اجتمعت عليه الذئاب و الكلاب ومزّقوه إربا ،وصنعوا من أعضائه من بعد ذلك نسوة قددا مبتورات الطرف، منهكات ، خائرات ، كالنهر مشرعات للغاصبين ” .

توقّفت محدّثة النخلة عن ذكر تفاصيل حياتهنّ و كشفت عن أعضائها المبتورة ، و كذلك فعل المتحلّقات من بعدها و النخلة بينهنّ متسمّرة في دهشتها تتّبع المشهد بعين شاخصة . استأنفت محدّثتها قولها :” ثمّ بثّوا في أرحامنا عيالنا ، غدر بنا أبناؤنا ، و سقوا الوافدين دماءنا كلّ هذه السنين الطّوال و كذلك هم منها كرعوا ، و اجتثّوا من ترائبنا أحلامنا و أحبلونا أحلامهم ، فتفتّحت في وجوهنا من بعد أبينا عين الرّدى ، وصرنا وليمة لأنياب الظلام ، حملنا أبانا في أحشائنا في غفلة من العيون ، حملناه أملا مبتسما للقمر الجريح في ابتساماتنا آملين في عودته سيرته الأولى لنعود معه نهرا واحدا بعدما مزّقنا الغريب و ابن الجلدة جداول عرجاء صمّاء ، منهوشة على الدّوام ، و مضت القرون و ما عاد أبونا سيرته الاولى و ما عدنا نحن إلى مجرانا ، و بقينا على الشتات تتقاذفنا العروش الشاحبة و العمائم النحيلة و اللحيّ المتلاطمة فتتوجه بنا يمينا تارة و شمالا تارة أخرى ”

و بينما هي تقصّ على النخلة قصّتها و قصّة صويحباتها إذ بالأرض من تحتهنّ فجأة ارتجّت ، و أخذت زينتها الأولى ، و رفلت في بهجتها و علت محيّاها من الأفق إلى الأفق ابتسامة رضيع ، و دبّت في البحر الحياة ، و تداعت جدران المغارة و تبدّدت الظلمات ، و على زغاريد الفجر الوليد رقصت الأمنيات ، و الماء المعطّر بالضّحى أينع و استوى على الضياء ، كما غارت الثعابين و الأفاعي و ذبلت الذّئاب المتدلّية من عناقيد الجرح ، و ألقت العفونة بأخاديدها و خدودها عل أديم الأفول ، و الشمس العليلة تغنّجت بالصبح الرافل في حمامة جنوبية تخيط لريشها بياضه و تزفّ للحبور أجنحته ، و السماء من فوقهم جميعا اتّكأت في خيلاء على زرقتها تدندن بمواويل البزوغ على وقع خرير جنين يداعب سؤدده ، و الوجود في زمرة من أصفيائه رفع على أكفّ شلاّلات النهار جثّة الديجور. دبّ الذّعر في المتحلّقات حول القبر ، و حلّ

بأرضهنّ الذهول ، و مادت بهنّ الحيرة ، و سرت في أبدانهنّ رعدة من خوف زئبقيّ . شدّهم المشهد إلى أماكنهنّ و السؤال ، و نمت في عيونهنّ أمواج الاضطراب ، فهدّأت من ذعرهنّ كبيرتهنّ بحركة متّزنة من يمناها ، فعدن سيرتهنّ الأولى .

ارتجّ القبر ، و انشقّ صمته على سرر المياه السندسيّة ، و تململت جثّة الشيخ المجلّل في رمسه بالبهاء ، وانقلبت نهرا يجري عسلا لم ير له الوجود مثيلا ، فانتفضت أسارير الوجوه المتحلّقة حول القبر شاخصة الذّهول ،انتفضن جميعهنّ ، و انحنين على القبر يتفحّصن جثة أبيهنّ السائلة ، و النخلة بينهنّ تتقاذفها أمواج الاندهاش ، سافر بهنّ السؤال نحو الأقاصي حيث المرافئ الغائبة ، تحرّكت العيون و رجمت شجرة السؤال بالظنّ ، فاسّاقطت عليهنّ رطب الفراغ تعوي حاملة بين جنباتها الخلاء ، كلهنّ حتّى النخلة عربدت فيها الحيرة إلاّ امرأة كبيرتهنّ فاستمسكت بالخشوع و لم تحرّك ساكنا و لاذت بالهدوء الذي لم يطل لسانها المشتعل ذكرا ، و فجأة اجتثتّ كبيرتهنّ لسانها من ذكره و بدنها من وقاره و صاحت فيهنّ بصوت منغّم :

” هذه أشراط بزوغ الشمس من الجنوب ، فأطلقن يا بنات الصحراء بطونكنّ لابنكن الرافل في رماده الخصيب ، و اهززن إليكنّ بروح نخلة الفجر العتيد و اكرعن من عسل أبيكنّ المديد …. فهذا ما بشّر به كتابنا المقدّس القديم ” و قبل أن تتمّ كلامها اتجهت النسوة إلى القبر يكرعن من عسله حدّ الاشتهاء ، ثمّ نفخن من بعد ذلك في فروجهنّ من رماد ابنهنّ الرافل في كفنه قرب النخلة المتوشّحة بالكبرياء ، و لمّا اختلط الرماد بالعسل و دبّت الحياة في الأرحام و تنمّر الضياء و جاء الصباح ينشر أريجه هززن إليهنّ بجذع النخلة المستمسكة بلوح الحيرة العاتية بين أيدهنّ و الضحكات ، و أكلن من ثمار النخلة حدّ التخمة

، و لمّا أتممن الطقوس و أتين على الوصيّة عرضن أرحامهنّ على الشمس ، فبذلك أمرتهنّ كبيرتهنّ ، و ضاجعتهنّ الشمس زمنا طويلا و بثّت فيهنّ رجالا كثيرا و نساء بيد كلّ واحد منهم نخلة و سالوا من الفروج كالسيل الهادر ، و انتشروا في الأرض يضمّدون جراحها بالنخل و يرتقون شتاتها منشدين :

على كفّ الشمس استريحي

و من بين أنامل الضوء النسر الثلجيّ و سدنته بالنخل المطهّر استبيحي

يا أيتها الأجساد المنتشرة في الأرض ارتقي شتاتكم

و ازرعي النخل ثلجا في عيون القحط

يا أيتها الفروج المباركة اقذفي بالصبيان و رشّيهم ياسمين على كفّ الخلود

يا أيها الكرمل بثّ في الرافدين الأزهار و الأطيار و الخضرة السرمديّة