بقلم/الكولونيل شربل بركات
يحتفل الأهل اليوم بالذكرى السابعة لاستشهاد أحد أبطال الجنوب الرفيق القائد، المقدم عقل هاشم، الذي أحبه الكل وعرفوه أكثر بأبو الياس...
منذ سبع سنوات استشهد عقل على أرض الجنوب التي أحب...
لم يستطيعوا مواجهته فغدروا به، كعادتهم، من بعيد...
كان عقل قد حفر في تلك الجهة من مرج دبل بئرا، أراد أن يروي بها الأرض، لتنغرس عميقا جذور الأهل فيها، فيتشبثون بترابها. وكان يلذّ له أن يمضي كل فرصة متاحة بين أفياء الأشجار التي غرس، يروي الخضار، ويتامل بالزهور تزين الحفافي، ويملأ جعبته من غلتها التي تغطي التلوم وتبعث الأمل في قدرات تلك الأرض الخيرة.
ولم يترك عقل سلاحه ولا المسؤولية التي يتطلبها حمل ذاك السلاح. ولم ينم أبدا على حرير التطمين والممالقة. لأنه عرف أن الأعداء كثر، والنوايا معكرة، والقلوب تزيد سوادا يوما بعد يوم في الطرف الآخر. عرف بأنهم يبيعون الوطن، ويبيعون التاريخ، ويبيعون التعايش، من أجل وهم نبت في بلاد الفرس ليأخذ في طريقه حلم لبنان وأهله.
وكان ذلك النهار، وليته لم يكن، ولكنه ربما كان خيارا من عند الله عز وجل، ليمنع عنه تذوق الآتي الذي كان سيعتبره أصعب عليه من الموت.
ذهب عقل قائدا لآخر قوافل الشهداء، وانتهى به مجد تلك النواحي، ودفن معه العنفوان... فالصديق تخلى، والعالم تنكّر، والحكم الذي كان من المفترض أن يتسلّم المسؤولية جيّرها لقطاع الطرق، شذاذ الآفاق، من لم يكن فيهم خير لأهلهم فدفعوهم للموت كي يبني ملالي طهران أمبراطوريتهم على أنقاض لبنان، وأطفال لبنان، وشباب لبنان، ومن أجل أن يتحكم فينا والي الشام الذي لم يحلم بأن يُغرر بالأحرار فيقتلوا الحلم، ويقتلوا الوطن، ملجأهم وبيتهم الوحيد في ظلمة هذا الشرق الغادر الذي متى غاب لبنان غاب عنه كل سلام وحب ومنطق وتفاهم.
مضى عقل صحيح، ولكنه لم ير ما وصلنا إليه، وتلك نعمة منّ عليه الله بها. لم ير كيف يقتل الحلم بقيامة الوطن بالرغم من خروج الأعداء وانسحاب جيوشهم، وبالرغم من وقوف العالم إلى جانبنا.
مضى عقل بدون أن يعطي الفرصة لأحد منهم أن يمننه بجميل، وبدون أن يسمح لهم أن يقولوا فيه كلمة حق قد يغلفها العهر، فالخوف من الطارئين أرعبهم، ووصل بهم الحال إلى منع رأس الكنيسة من أن يؤدي واجب التعزية، وهل من عجب ألا يستطيعوا بناء وطن بعد خروج الأعداء؟...
من لم يعرفك بطلا في حياتك عرفك بالتأكيد لردة الفعل الهمجية التي سيطرت عليهم يوم استشهادك، وكأنهم اعادوا الأندلس أو احتلوا القدس أو ربما أحيوا صلاح الدين. بهذا القدر كنت عظيما.
لقد ظهر بالفعل مدى هيبتك بينهم ومدى وهرتك عليهم ومدى خوفهم من مجرد سماع اسمك. وبالفعل خسرك لبنان وخسرتك منطقتك التي أحبتك وخسرناك نحن الرفاق والأهل لتزيد غربتنا في هذا العالم الظالم.
نم يا صديقي قرير العين، وأسمح لي أن أحييك وأنت في عليائك باستعارة أبيات من شاعرنا الذي كنت تحب، وقد أبى إلا أن يلحق بك هاربا من الذل، معترضا على الظلم بكل الكبر الذي كان فيه، قالها على مسمعك وفي أمثالك من أبطالنا الأباة، يوم فرض علينا الحصار فوقفنا بكل عزة نفس ندافع عن الكرامة، فيسقط الأحبة يمينة ويسرى، وتحمل أنت الراية ليستمر النضال، ولو بالثمن الغالي... قال، وكأني به يقولها لك اليوم:
حيي شهيد العلى أكرم به بطلا لـولاه مـن عــاره لبنــان مــا غســلَ
وصغ له المجد تيجانا مرصّعة وأجعل حلاها الهوى والشوق والقبلَ
نعم فقد كنت والرفاق خير مدافع عن الوطن في غمرة الأحداث التي لم تترك مجالا للحوار والنقاش، وكان الخيار الوحيد إما الهرب وترك الأهل والأرض التي أحببنا، أو الصمود والدفاع عن الناس ومنع تهجيرهم وترهيبهم، ومساعدتهم على الاستمرار والعيش بكرامة، وانتظار الحلول وعودة الدولة، التي كانت هربت أمام جحافل عرفات من جهة، وجيوش قحطان وأتباع حوران من جهة أخرى. ولكن الدولة التي انتظرنا كان صادرها نصر الله بموافقة الجبناء والاغبياء، الذين يعانون اليوم أكثر بكثير مما عانيت أنت، وذلك ثمنا لسكوتهم وقبولهم بأن يتلهى أمثال عرفات أولا، ونصر الله ثانيا، بالجنوب وأهله، ويحاربونهم، ويقتلون أولادهم، ليسمحوا أن يستقر الوضع في العاصمة. ولكنهم لم يعرفوا أن الوحش لا يشبع، وأنه عندما لا يبقى له من يقاتله سينقض بالضرورة على أهل بيته فيأكل حتى أولاده...
صديقي كم تمنيت أن نعود إلى بلاد الأرز التي دفع الرفاق حياتهم للذود عنها، كن تمنيت أن نعود سوية إلى ربوع بيروت والجبل والبقاع نتفيأ ظلال الأمان ظلال الهناء التي عودنا لبنان عليها، ولكنك رحلت، ولبنان ما يزال في رحلته البعيدة، مقيدا بسلاسل الحقد، يعيث خرابا في أرضه شعب غريب بتطلعاته وأهدافه، بكرهه الآخرين وبثقافته التي لم نعتدها، ثقافة الانزواء والانتحار.
في ذكراك السابعة اليوم نعاهدك كما بالأمس ألا ننسى الحلم بلبنان حر سيد مستقل، كبير بين الكبار، منفتح على الكل، يظلله سلام دائم، وينعش جنوبه تعاون المحبين الشرفاء، الذين رفضوا ثقافة الموت وحلموا دوما بالحياة تضج في ربوعه وتزين تلاله بالمجد والعز والكرامة...
تورونتو كندا
يحتفل الأهل اليوم بالذكرى السابعة لاستشهاد أحد أبطال الجنوب الرفيق القائد، المقدم عقل هاشم، الذي أحبه الكل وعرفوه أكثر بأبو الياس...
منذ سبع سنوات استشهد عقل على أرض الجنوب التي أحب...
لم يستطيعوا مواجهته فغدروا به، كعادتهم، من بعيد...
كان عقل قد حفر في تلك الجهة من مرج دبل بئرا، أراد أن يروي بها الأرض، لتنغرس عميقا جذور الأهل فيها، فيتشبثون بترابها. وكان يلذّ له أن يمضي كل فرصة متاحة بين أفياء الأشجار التي غرس، يروي الخضار، ويتامل بالزهور تزين الحفافي، ويملأ جعبته من غلتها التي تغطي التلوم وتبعث الأمل في قدرات تلك الأرض الخيرة.
ولم يترك عقل سلاحه ولا المسؤولية التي يتطلبها حمل ذاك السلاح. ولم ينم أبدا على حرير التطمين والممالقة. لأنه عرف أن الأعداء كثر، والنوايا معكرة، والقلوب تزيد سوادا يوما بعد يوم في الطرف الآخر. عرف بأنهم يبيعون الوطن، ويبيعون التاريخ، ويبيعون التعايش، من أجل وهم نبت في بلاد الفرس ليأخذ في طريقه حلم لبنان وأهله.
وكان ذلك النهار، وليته لم يكن، ولكنه ربما كان خيارا من عند الله عز وجل، ليمنع عنه تذوق الآتي الذي كان سيعتبره أصعب عليه من الموت.
ذهب عقل قائدا لآخر قوافل الشهداء، وانتهى به مجد تلك النواحي، ودفن معه العنفوان... فالصديق تخلى، والعالم تنكّر، والحكم الذي كان من المفترض أن يتسلّم المسؤولية جيّرها لقطاع الطرق، شذاذ الآفاق، من لم يكن فيهم خير لأهلهم فدفعوهم للموت كي يبني ملالي طهران أمبراطوريتهم على أنقاض لبنان، وأطفال لبنان، وشباب لبنان، ومن أجل أن يتحكم فينا والي الشام الذي لم يحلم بأن يُغرر بالأحرار فيقتلوا الحلم، ويقتلوا الوطن، ملجأهم وبيتهم الوحيد في ظلمة هذا الشرق الغادر الذي متى غاب لبنان غاب عنه كل سلام وحب ومنطق وتفاهم.
مضى عقل صحيح، ولكنه لم ير ما وصلنا إليه، وتلك نعمة منّ عليه الله بها. لم ير كيف يقتل الحلم بقيامة الوطن بالرغم من خروج الأعداء وانسحاب جيوشهم، وبالرغم من وقوف العالم إلى جانبنا.
مضى عقل بدون أن يعطي الفرصة لأحد منهم أن يمننه بجميل، وبدون أن يسمح لهم أن يقولوا فيه كلمة حق قد يغلفها العهر، فالخوف من الطارئين أرعبهم، ووصل بهم الحال إلى منع رأس الكنيسة من أن يؤدي واجب التعزية، وهل من عجب ألا يستطيعوا بناء وطن بعد خروج الأعداء؟...
من لم يعرفك بطلا في حياتك عرفك بالتأكيد لردة الفعل الهمجية التي سيطرت عليهم يوم استشهادك، وكأنهم اعادوا الأندلس أو احتلوا القدس أو ربما أحيوا صلاح الدين. بهذا القدر كنت عظيما.
لقد ظهر بالفعل مدى هيبتك بينهم ومدى وهرتك عليهم ومدى خوفهم من مجرد سماع اسمك. وبالفعل خسرك لبنان وخسرتك منطقتك التي أحبتك وخسرناك نحن الرفاق والأهل لتزيد غربتنا في هذا العالم الظالم.
نم يا صديقي قرير العين، وأسمح لي أن أحييك وأنت في عليائك باستعارة أبيات من شاعرنا الذي كنت تحب، وقد أبى إلا أن يلحق بك هاربا من الذل، معترضا على الظلم بكل الكبر الذي كان فيه، قالها على مسمعك وفي أمثالك من أبطالنا الأباة، يوم فرض علينا الحصار فوقفنا بكل عزة نفس ندافع عن الكرامة، فيسقط الأحبة يمينة ويسرى، وتحمل أنت الراية ليستمر النضال، ولو بالثمن الغالي... قال، وكأني به يقولها لك اليوم:
حيي شهيد العلى أكرم به بطلا لـولاه مـن عــاره لبنــان مــا غســلَ
وصغ له المجد تيجانا مرصّعة وأجعل حلاها الهوى والشوق والقبلَ
نعم فقد كنت والرفاق خير مدافع عن الوطن في غمرة الأحداث التي لم تترك مجالا للحوار والنقاش، وكان الخيار الوحيد إما الهرب وترك الأهل والأرض التي أحببنا، أو الصمود والدفاع عن الناس ومنع تهجيرهم وترهيبهم، ومساعدتهم على الاستمرار والعيش بكرامة، وانتظار الحلول وعودة الدولة، التي كانت هربت أمام جحافل عرفات من جهة، وجيوش قحطان وأتباع حوران من جهة أخرى. ولكن الدولة التي انتظرنا كان صادرها نصر الله بموافقة الجبناء والاغبياء، الذين يعانون اليوم أكثر بكثير مما عانيت أنت، وذلك ثمنا لسكوتهم وقبولهم بأن يتلهى أمثال عرفات أولا، ونصر الله ثانيا، بالجنوب وأهله، ويحاربونهم، ويقتلون أولادهم، ليسمحوا أن يستقر الوضع في العاصمة. ولكنهم لم يعرفوا أن الوحش لا يشبع، وأنه عندما لا يبقى له من يقاتله سينقض بالضرورة على أهل بيته فيأكل حتى أولاده...
صديقي كم تمنيت أن نعود إلى بلاد الأرز التي دفع الرفاق حياتهم للذود عنها، كن تمنيت أن نعود سوية إلى ربوع بيروت والجبل والبقاع نتفيأ ظلال الأمان ظلال الهناء التي عودنا لبنان عليها، ولكنك رحلت، ولبنان ما يزال في رحلته البعيدة، مقيدا بسلاسل الحقد، يعيث خرابا في أرضه شعب غريب بتطلعاته وأهدافه، بكرهه الآخرين وبثقافته التي لم نعتدها، ثقافة الانزواء والانتحار.
في ذكراك السابعة اليوم نعاهدك كما بالأمس ألا ننسى الحلم بلبنان حر سيد مستقل، كبير بين الكبار، منفتح على الكل، يظلله سلام دائم، وينعش جنوبه تعاون المحبين الشرفاء، الذين رفضوا ثقافة الموت وحلموا دوما بالحياة تضج في ربوعه وتزين تلاله بالمجد والعز والكرامة...
تورونتو كندا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق