بقلم الدكتور فيليب سالم
"فهنا تأخذ الأرض صورة سماوية حيث يمتزج الحب اليسوعي مع الحكمة المحمدية"
الرئيس الإيراني محمد خاتمي
**
تبدأ هذه السنة الجديدة, واللبنانيون لا يزالون يحملون صليب الألم على طريق الجلجلة. وكلهم، مقيمين ومنتشرين، في حزن عميق، وخوف كبير على الوطن الصغير، والأرض المصلوبة في الشرق. الأرض المصلوبة بين إسرائيل وسوريا والبحر. وحده، هذا البحر في هذه الجغرافية, يعانقها بمحبة، ويخفف من آلامها.
كانت القضية اللبنانية تتمحور حول كون لبنان رهينة للصراع العربي_الإسرائيلي؛ وكان السؤال عن هوية لبنان السياسية. أما اليوم، فلقد أصبحت القضية اكبر واخطر، فبالإضافة إلى كونه رهينة للصراع بين العرب وإسرائيل، أصبح لبنان أيضا رهينة أخرى لصراع جديد، وهو الصراع بين الغرب وإيران. والسؤال اليوم، ليس فقط حول هوية لبنان السياسية بل يتعداها إلى هوية لبنان الحضارية. هذه هي المرة الأولى في تاريخ الأزمات المتراكمة في لبنان، تهدد الأزمة لبنان بالمفهوم الحضاري. ولبنان لم يكن وطناً بقدر ما كان رسالة؛ ولم يكن مجده يوما نابعاً من كيانه السياسي. كان مجده دائما نابعاً من كيانه الحضاري. من كونه مساحة للحضارة، من كونه "أكبر من وطن"، من كونه "رسالة للعالم". فالخطر اليوم يهدد جوهر لبنان وحقيقته. يهدد معناه الكياني الذي من دونه لا يكون لبنان.
في بداية هذه السنة، تعالوا نبدأ من هنا، من نقطة الصفر. تعالوا نحدد معنى لبنان وجوهره، علنا نجد حلولاً للخروج من الظلمة التي نحن فيها.
إن معنى لبنان في رأيي ، يرتكز على المداميك الأربعة الآتية:
أولا: الانصهار المسيحي_ الإسلامي. إن عظمة لبنان ورسالته تكمنان في تعانق المسيحية والإسلام فيه. هنا، في هذه البقعة الصغيرة من الأرض يعيش التفاعل الحي المتراكم من مئات السنين بين المسيحيين والمسلمين. وحده ، في لبنان تقوم حرب مدمرة لخمسة عشرة سنة, يسميها العالم " حرباً أهلية" بين المسيحيين والمسلمين، وفي الدقيقة التي يصمت فيها الرصاص ، يعانق المسلم أخاه المسيحي ويعود التفاعل الخلاق كأن الحرب لم تكن. كان ذلك منذ فجر التاريخ وسيبقى، إذ عندما تنفسخ المسيحية عن الإسلام في لبنان، يزول سبب وجوده بل واجب وجوده. إن النموذج اللبناني من الانصهار المسيحي_ الإسلامي، هو أرقى ما في الحضارة، إذ يعلو الإنسان فوق الدين إلى الإنسانية. وهذا هو التحدي الكبير في القرن الحادي والعشرين، كيف يعلو الإنسان فوق الدين والعرق والايدولوجية إلى الإنسانية. هذا النموذج اللبناني ، هو اليوم في خطر شديد. فهو أولا عكس النموذج الإسرائيلي حيث قامت الدولة على أساس الدين. فإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي أنشئت لتكون لشعب واحد يعتنق ديناً واحداً ألا وهو اليهودية. وإسرائيل تخاف أن يطلب منها العالم يوماً أن تعيش في فلسطين موحدة، يكون فيها اليهود والفلسطينيون، مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، تماماً كما يعيش المسيحيون والمسلمون في لبنان. لذلك فهي تعمل على إجهاض النموذج اللبناني القابع شمال حدودها وتعمل أيضاً على تفتيت هذا الشرق إلى دويلات طائفية. وإسرائيل، ليست وحدها في هذا الشرق ضد هذا النموذج اللبناني، فإيران أيضاً ترفض هذا النموذج. وعندما تكلم الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي في بيروت عن لبنان الأرض " حيث يمتزج الحب اليسوعي مع الحكمة المحمدية"، هل تجرأ أحد وسأله إذا كان هناك احد غيره في القيادة الإيرانية يرى العظمة في هذا المزيج؟ إن إيران دولة قوية ولها تاريخ حافل بالمجد والإبداع. إلا أنها اليوم في قبضة الثورة الإسلامية، و"ثوارها" لا يريدون فقط التفوق العسكري والتفوق النووي، وهذا حقهم؛ بل يريدون أيضا فرض إيديولوجية دينية متطرفة في هذا الشرق، وهذا ليس من حقهم. إن إسرائيل دولة عدوة, أما إيران فهي دولة صديقة، ويجب أن نبني معها أفضل العلاقات، وأفضل جسور المحبة؛ إلا أننا يجب أن لا نسمح لها بتدمير أهم انجازات الحضارة اللبنانية ألا وهو الانصهار المسيحي الإسلامي. هذا الانصهار هو الجواب لمشكلة الغرب مع الإسلام، وهو الجواب لصدام الحضارات، وهو الجواب لظاهرة الإرهاب.
وقد يكون من أهم الأبحاث العلمية التي أجريت في السنين العشر الأخيرة، هو رسم خريطة دقيقة للجينات عند الإنسان. وكانت نتيجة هذه الدراسة أن أثبتت إن البشر جميعهم متشابهون في 99.9 في المئة من جيناتهم ويختلفون فقط بنسبة 0.1 في المئة من الجينات. وهل يعقل أننا نختلف بتكويننا البيولوجي بنسبة اقل من الواحد بالمائة؟ ولماذا إذاً هذه الحروب وهذا العنف وهذا البغض الذي يلف العالم؟ من هنا أهمية الارتفاع من الطائفة إلى الدين ومن الدين إلى الإنسانية. فقط عندما نرتفع إلى الإنسانية نستحق الله. فقط عندما نرتفع إلى الانسانية، يكتمل الانصهار. ليس فقط بين المسيحية والإسلام بل بين جميع الديانات السماوية. وليتمكن الإنسان من الارتفاع فوق الدين، يجب فصل الدين عن الدولة، وأهم من ذلك، فصل الدين عن التربية. من أكثر من ستين سنة جاء رجل في هذا الشرق، وقال بفصل الدين عن الدولة، فقتلوه.
ثانياً : الحرية. وهنا لا نذيع سراً إذا قلنا بان الصراع الدائر في الشرق، ليس صراعاًً فقط على ملكية الأرض وعلى الثروة المائية والنفطية لهذه الأرض، بل هو صراع أيضاً على ماهية الإنسان، وماهية الحضارة في هذا الشرق. فليست هناك حضارة دون حرية، وليس هناك إبداع دون إنسان حر. والسؤال المحوري اليوم، هل سيبقى الإنسان في هذا الشرق، أسيراً للأيديولوجيات الفارغة، المجمدّة، ومسحوقاً "بجزمة" الانظمة التوتاليرية؟ وهل ستتمكن الأيديولوجيات الدينية المتطرفة الممتدة من أفغانستان إلى إيران إلى بعض الدول العربية، من سحق آخر معاقل الحرية في هذه المنطقة من العالم. ونود أن نتقدم من جميع الذين يريدون الحرب مع الغرب، ونقول لهم: يجب أن لا نخلط بين الغرب، كدول وككيانات سياسية، والقيم التي يؤمن بها الغرب كالحرية والديمقراطية. هذه القيم هي بالفعل قيم إنسانية تمت إلى العالم كله وليس إلى الغرب وحده . بل نقول أكثر من ذلك، إن هذه القيم كانت هنا في الشرق، قبل أن هاجرت إلى الغرب.
ثالثاً : الديمقراطية . وهنا نسارع إلى القول بأن النظام السياسي اللبناني يحتاج إلى تغيير جذري في هيكليته، ويحتاج إلى الكثير من فن ممارسة الديموقراطية، إلاَ انه ربما يبقى النظام العربي الوحيد حيث يتم تناوب السلطة فيه من دون عنف؛ وحيث لا تمارس السلطة باليد الحديدية للحاكم الواحد. فعلى مساحة العالم العربي، وفي معظم دوله، هناك الحاكم الواحد، وهناك الشعوب المسطحة والمهمشة سجينة الأفكار البالية، والشعارات الزائفة, والثورات الكاذبة. وحدها، الديمقراطية هي الضمان ضد تهميش الشعوب. والديمقراطية وحدها هي الضمان ليكون المواطن الفرد فاعلاً في مجتمعه، مشاركاً في صنع مستقبل وطنه. وهي الضمان ليكون الإنسان صاحب كرامة في أرضه. ونود أن نذكر العالم إن إسرائيل ليست الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق، فالديموقراطية كانت هنا، كانت في لبنان، قبل أن تكون إسرائيل.
رابعاً : التعددية الحضارية، وعالمية لبنان. فبالإضافة إلى التراث الحضاري الديني المتراكم بفعل وجود وتفاعل ثماني عشرة طائفة مختلفة في لبنان؛ هناك الثقافات الأخرى المتعددة، كالثقافة العربية والثقافة الفرنسية والثقافة الانغلوسكسونية. وتخال إن ثقافات العالم كلها تتعايش في هذا الوطن الصغير. لذلك قيل " إذا ذهبت إلى بيروت، تذهب إلى العالم كله". إلا انه يجب أن نعترف بانه لم نتمكن من تثمير هذه التعددية الحضارية في صنع لبنان عظيم؛ وبدل أن تكون هذه التعددية مصدراً للوحدة والتقدم والغنى، فقد نجحنا في استعمالها كأداة للتفرقة بيننا والتشرذم في صفوفنا. وبدل أن تكون قوة هائلة معنا حولناها إلى قوة هائلة ضدنا.
وعالمية لبنان لا تنحصر في وجود العالم كله فيه، بل تكون أيضاً في وجود لبنان في كل العالم. فلبنان موجود وفاعل وحاضر في جميع بقاع الأرض بفضل أبنائه الذين حملوه وأخذوه معهم أينما انتشروا في الأرض. لذلك نقول إن لبنان وطن عربي في الهوية السياسية، ولكنه وطن عالمي في الهوية الحضارية. هو من الشرق ألا انه للعالم كله.
هذا المربع الحضاري، من الانصهار المسيحي – الإسلامي إلى الحرية والديمقراطية والتعددية الحضارية وعالمية لبنان، هو معنى لبنان وجوهره. دونه لا يكون لبنان. من هنا خطر الأزمة التي تقبض على لبنان اليوم، وتهدد بتدمير هذا المربع. الخروج من الأزمة لا يكون إلا بالعودة إلى الجوهر، إلى هذا المعنى الكياني للبنان. والطريق إلى ذلك لا يكون بجعل لبنان ساحة لقوى إقليمية كإيران وسوريا والسعودية ومصر ولا بجعله ساحة لقوى دولية كفرنسا وأوروبا والولايات المتحدة. لقد رددنا مراراً إن الطريق الوحيدة المتاحة لقيامة لبنان لا تمر بالشرق ولا تمر بالغرب. إنها طريق الشرعية الدولية – الأمم المتحدة، ومجلس الأمن وقراراته. لقد قلنا هذا الكلام من زمان، يوم كان الكثير ممن يمتطون اليوم الشرعية الدولية، يعملون ضدها.
في بداية هذه السنة، نتوجه إلى السياسيين ونقول لهم: لقد أنزلتم لبنان إلى الحضيض، فارتفعوا؛ ونقول للبنانيين بل نطلب منهم، ما قد جاء في إحدى مسرحيات الرحابنة، انه " بعد الله، تعبدوا لبنان" .
**
"فهنا تأخذ الأرض صورة سماوية حيث يمتزج الحب اليسوعي مع الحكمة المحمدية"
الرئيس الإيراني محمد خاتمي
**
تبدأ هذه السنة الجديدة, واللبنانيون لا يزالون يحملون صليب الألم على طريق الجلجلة. وكلهم، مقيمين ومنتشرين، في حزن عميق، وخوف كبير على الوطن الصغير، والأرض المصلوبة في الشرق. الأرض المصلوبة بين إسرائيل وسوريا والبحر. وحده، هذا البحر في هذه الجغرافية, يعانقها بمحبة، ويخفف من آلامها.
كانت القضية اللبنانية تتمحور حول كون لبنان رهينة للصراع العربي_الإسرائيلي؛ وكان السؤال عن هوية لبنان السياسية. أما اليوم، فلقد أصبحت القضية اكبر واخطر، فبالإضافة إلى كونه رهينة للصراع بين العرب وإسرائيل، أصبح لبنان أيضا رهينة أخرى لصراع جديد، وهو الصراع بين الغرب وإيران. والسؤال اليوم، ليس فقط حول هوية لبنان السياسية بل يتعداها إلى هوية لبنان الحضارية. هذه هي المرة الأولى في تاريخ الأزمات المتراكمة في لبنان، تهدد الأزمة لبنان بالمفهوم الحضاري. ولبنان لم يكن وطناً بقدر ما كان رسالة؛ ولم يكن مجده يوما نابعاً من كيانه السياسي. كان مجده دائما نابعاً من كيانه الحضاري. من كونه مساحة للحضارة، من كونه "أكبر من وطن"، من كونه "رسالة للعالم". فالخطر اليوم يهدد جوهر لبنان وحقيقته. يهدد معناه الكياني الذي من دونه لا يكون لبنان.
في بداية هذه السنة، تعالوا نبدأ من هنا، من نقطة الصفر. تعالوا نحدد معنى لبنان وجوهره، علنا نجد حلولاً للخروج من الظلمة التي نحن فيها.
إن معنى لبنان في رأيي ، يرتكز على المداميك الأربعة الآتية:
أولا: الانصهار المسيحي_ الإسلامي. إن عظمة لبنان ورسالته تكمنان في تعانق المسيحية والإسلام فيه. هنا، في هذه البقعة الصغيرة من الأرض يعيش التفاعل الحي المتراكم من مئات السنين بين المسيحيين والمسلمين. وحده ، في لبنان تقوم حرب مدمرة لخمسة عشرة سنة, يسميها العالم " حرباً أهلية" بين المسيحيين والمسلمين، وفي الدقيقة التي يصمت فيها الرصاص ، يعانق المسلم أخاه المسيحي ويعود التفاعل الخلاق كأن الحرب لم تكن. كان ذلك منذ فجر التاريخ وسيبقى، إذ عندما تنفسخ المسيحية عن الإسلام في لبنان، يزول سبب وجوده بل واجب وجوده. إن النموذج اللبناني من الانصهار المسيحي_ الإسلامي، هو أرقى ما في الحضارة، إذ يعلو الإنسان فوق الدين إلى الإنسانية. وهذا هو التحدي الكبير في القرن الحادي والعشرين، كيف يعلو الإنسان فوق الدين والعرق والايدولوجية إلى الإنسانية. هذا النموذج اللبناني ، هو اليوم في خطر شديد. فهو أولا عكس النموذج الإسرائيلي حيث قامت الدولة على أساس الدين. فإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي أنشئت لتكون لشعب واحد يعتنق ديناً واحداً ألا وهو اليهودية. وإسرائيل تخاف أن يطلب منها العالم يوماً أن تعيش في فلسطين موحدة، يكون فيها اليهود والفلسطينيون، مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، تماماً كما يعيش المسيحيون والمسلمون في لبنان. لذلك فهي تعمل على إجهاض النموذج اللبناني القابع شمال حدودها وتعمل أيضاً على تفتيت هذا الشرق إلى دويلات طائفية. وإسرائيل، ليست وحدها في هذا الشرق ضد هذا النموذج اللبناني، فإيران أيضاً ترفض هذا النموذج. وعندما تكلم الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي في بيروت عن لبنان الأرض " حيث يمتزج الحب اليسوعي مع الحكمة المحمدية"، هل تجرأ أحد وسأله إذا كان هناك احد غيره في القيادة الإيرانية يرى العظمة في هذا المزيج؟ إن إيران دولة قوية ولها تاريخ حافل بالمجد والإبداع. إلا أنها اليوم في قبضة الثورة الإسلامية، و"ثوارها" لا يريدون فقط التفوق العسكري والتفوق النووي، وهذا حقهم؛ بل يريدون أيضا فرض إيديولوجية دينية متطرفة في هذا الشرق، وهذا ليس من حقهم. إن إسرائيل دولة عدوة, أما إيران فهي دولة صديقة، ويجب أن نبني معها أفضل العلاقات، وأفضل جسور المحبة؛ إلا أننا يجب أن لا نسمح لها بتدمير أهم انجازات الحضارة اللبنانية ألا وهو الانصهار المسيحي الإسلامي. هذا الانصهار هو الجواب لمشكلة الغرب مع الإسلام، وهو الجواب لصدام الحضارات، وهو الجواب لظاهرة الإرهاب.
وقد يكون من أهم الأبحاث العلمية التي أجريت في السنين العشر الأخيرة، هو رسم خريطة دقيقة للجينات عند الإنسان. وكانت نتيجة هذه الدراسة أن أثبتت إن البشر جميعهم متشابهون في 99.9 في المئة من جيناتهم ويختلفون فقط بنسبة 0.1 في المئة من الجينات. وهل يعقل أننا نختلف بتكويننا البيولوجي بنسبة اقل من الواحد بالمائة؟ ولماذا إذاً هذه الحروب وهذا العنف وهذا البغض الذي يلف العالم؟ من هنا أهمية الارتفاع من الطائفة إلى الدين ومن الدين إلى الإنسانية. فقط عندما نرتفع إلى الإنسانية نستحق الله. فقط عندما نرتفع إلى الانسانية، يكتمل الانصهار. ليس فقط بين المسيحية والإسلام بل بين جميع الديانات السماوية. وليتمكن الإنسان من الارتفاع فوق الدين، يجب فصل الدين عن الدولة، وأهم من ذلك، فصل الدين عن التربية. من أكثر من ستين سنة جاء رجل في هذا الشرق، وقال بفصل الدين عن الدولة، فقتلوه.
ثانياً : الحرية. وهنا لا نذيع سراً إذا قلنا بان الصراع الدائر في الشرق، ليس صراعاًً فقط على ملكية الأرض وعلى الثروة المائية والنفطية لهذه الأرض، بل هو صراع أيضاً على ماهية الإنسان، وماهية الحضارة في هذا الشرق. فليست هناك حضارة دون حرية، وليس هناك إبداع دون إنسان حر. والسؤال المحوري اليوم، هل سيبقى الإنسان في هذا الشرق، أسيراً للأيديولوجيات الفارغة، المجمدّة، ومسحوقاً "بجزمة" الانظمة التوتاليرية؟ وهل ستتمكن الأيديولوجيات الدينية المتطرفة الممتدة من أفغانستان إلى إيران إلى بعض الدول العربية، من سحق آخر معاقل الحرية في هذه المنطقة من العالم. ونود أن نتقدم من جميع الذين يريدون الحرب مع الغرب، ونقول لهم: يجب أن لا نخلط بين الغرب، كدول وككيانات سياسية، والقيم التي يؤمن بها الغرب كالحرية والديمقراطية. هذه القيم هي بالفعل قيم إنسانية تمت إلى العالم كله وليس إلى الغرب وحده . بل نقول أكثر من ذلك، إن هذه القيم كانت هنا في الشرق، قبل أن هاجرت إلى الغرب.
ثالثاً : الديمقراطية . وهنا نسارع إلى القول بأن النظام السياسي اللبناني يحتاج إلى تغيير جذري في هيكليته، ويحتاج إلى الكثير من فن ممارسة الديموقراطية، إلاَ انه ربما يبقى النظام العربي الوحيد حيث يتم تناوب السلطة فيه من دون عنف؛ وحيث لا تمارس السلطة باليد الحديدية للحاكم الواحد. فعلى مساحة العالم العربي، وفي معظم دوله، هناك الحاكم الواحد، وهناك الشعوب المسطحة والمهمشة سجينة الأفكار البالية، والشعارات الزائفة, والثورات الكاذبة. وحدها، الديمقراطية هي الضمان ضد تهميش الشعوب. والديمقراطية وحدها هي الضمان ليكون المواطن الفرد فاعلاً في مجتمعه، مشاركاً في صنع مستقبل وطنه. وهي الضمان ليكون الإنسان صاحب كرامة في أرضه. ونود أن نذكر العالم إن إسرائيل ليست الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق، فالديموقراطية كانت هنا، كانت في لبنان، قبل أن تكون إسرائيل.
رابعاً : التعددية الحضارية، وعالمية لبنان. فبالإضافة إلى التراث الحضاري الديني المتراكم بفعل وجود وتفاعل ثماني عشرة طائفة مختلفة في لبنان؛ هناك الثقافات الأخرى المتعددة، كالثقافة العربية والثقافة الفرنسية والثقافة الانغلوسكسونية. وتخال إن ثقافات العالم كلها تتعايش في هذا الوطن الصغير. لذلك قيل " إذا ذهبت إلى بيروت، تذهب إلى العالم كله". إلا انه يجب أن نعترف بانه لم نتمكن من تثمير هذه التعددية الحضارية في صنع لبنان عظيم؛ وبدل أن تكون هذه التعددية مصدراً للوحدة والتقدم والغنى، فقد نجحنا في استعمالها كأداة للتفرقة بيننا والتشرذم في صفوفنا. وبدل أن تكون قوة هائلة معنا حولناها إلى قوة هائلة ضدنا.
وعالمية لبنان لا تنحصر في وجود العالم كله فيه، بل تكون أيضاً في وجود لبنان في كل العالم. فلبنان موجود وفاعل وحاضر في جميع بقاع الأرض بفضل أبنائه الذين حملوه وأخذوه معهم أينما انتشروا في الأرض. لذلك نقول إن لبنان وطن عربي في الهوية السياسية، ولكنه وطن عالمي في الهوية الحضارية. هو من الشرق ألا انه للعالم كله.
هذا المربع الحضاري، من الانصهار المسيحي – الإسلامي إلى الحرية والديمقراطية والتعددية الحضارية وعالمية لبنان، هو معنى لبنان وجوهره. دونه لا يكون لبنان. من هنا خطر الأزمة التي تقبض على لبنان اليوم، وتهدد بتدمير هذا المربع. الخروج من الأزمة لا يكون إلا بالعودة إلى الجوهر، إلى هذا المعنى الكياني للبنان. والطريق إلى ذلك لا يكون بجعل لبنان ساحة لقوى إقليمية كإيران وسوريا والسعودية ومصر ولا بجعله ساحة لقوى دولية كفرنسا وأوروبا والولايات المتحدة. لقد رددنا مراراً إن الطريق الوحيدة المتاحة لقيامة لبنان لا تمر بالشرق ولا تمر بالغرب. إنها طريق الشرعية الدولية – الأمم المتحدة، ومجلس الأمن وقراراته. لقد قلنا هذا الكلام من زمان، يوم كان الكثير ممن يمتطون اليوم الشرعية الدولية، يعملون ضدها.
في بداية هذه السنة، نتوجه إلى السياسيين ونقول لهم: لقد أنزلتم لبنان إلى الحضيض، فارتفعوا؛ ونقول للبنانيين بل نطلب منهم، ما قد جاء في إحدى مسرحيات الرحابنة، انه " بعد الله، تعبدوا لبنان" .
**
Philip A. Salem, M.D.
Director, Cancer Research Program
St. Luke's Episcopal Hospital
Clinical Professor of MedicineUniversity of Texas Medical School
E-Mail: salem@pasalem.com
Director, Cancer Research Program
St. Luke's Episcopal Hospital
Clinical Professor of MedicineUniversity of Texas Medical School
E-Mail: salem@pasalem.com
website: www.pasalem.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق