السبت، يناير 20، 2007

العشرة الطيبة


رشا أرنست - مصر

أتلقى تدريبا بورشة كتابة مع الشاعر والناقد جرجس شكري بمركز الجزويت للاستشارات و التدريب بالمنيا ، و ضمن فريق من الصبايا و الشباب الذين تنمو بداخلهم رغبة جميلة في التمكن من أدوات الكتابــة تلبية لبذرة موهبتهــم التي بدأت في النمــو عبر بعض المحاولات . و نرجع من خلال الورشة إلى زمن الفن الجميل حيث روايات نجيب محفوظ و إحسان عبد القدوس و يوسف إدريس و الحان سيد درويش و عبد الوهاب و غيرهم ممن كتبوا و لحنوا تاريخاً مليء بالأحداث عبر أجيال و أجيال .

جــاء لنا الأستاذ جرجس بأوبريت ربما أغلبنـا لم يسمـــع به من قبـل هو أوبــريـت " العشرة الطيبة " الذي كتبه محمود تيمور و نظم أغانيه بديع خيري و لحنه سيد درويش الذي أدخل للموسيقى للمرة الأولى في
مصر الغناء البوليفوني من خلال هذا الاوبريت و اوبريت " شهرذاد " ، أوبريت " العشرة الطيبة " مأخوذ عن المسرحية الفرنسية الهزلية « ذو اللحية الزرقاء » . و قام بالأداء فيها بالمرة الأولى في العشرينيات سيد درويش و حياة صبري .كما قدمتها فرقة نجيب الريحاني عام 1930 .
و النسخة التي سمعناها كانت تمثيل كريمة مختار و صلاح منصور في ادوار البطولــــة " نزهة ، سيف الدين " و قام بالغناء للشخصيتين كارم محمود و أحلام . ثم أعيد تقديم العشرة الطيبة بعد وفاة سيد درويش بسنوات فقدمته الإذاعة المصرية في الخمسينات موزعا توزيعا أوركسترالياً حديثا بقيادة للموسيقار محمد حسن الشجاعى ثم قُدمت بالإسكندرية في السبعينات بإشراف محمد البحر نجل سيد درويش والموسيقار محمد عفيفي .
انتبهنا في بادئ الأمر عندما علمنا أن أجيال مرت على هذا الاوبريت و زادني اهتماماً شخصياً أن الاوبريت نسمعه فقط صوتاً و هذه المرة الأولى الذي اسمع اوبريتاً دون أن أراه ، فالصورة لها اثر كبير على نجاح أي اوبريت غنائي .
دام الاوبريت قرابة ساعة و نصف ، حقيقة لم يمر الوقت بسهولة حيث اننا مللنا بعض الشيء نظراً لعيوب في الصوت و انعدام الصورة . بأغلب الوقت كنتُ اصغي جيدا حتى أتمكن من معرفة الأشخاص الذين يقومون بالتمثيل فقد جعلها الشاعر جرجس مجهولة لنا حتى نكتشفها . و من خلال سيناريو الاوبريت الذي مال إلى الإطالة و هذا راجع للوقت الذي كُتب فيه النص ، و كلمات الأغاني الزجلية التي برع سيد درويش رغم صعوبتها البالغة في تلحينها بشكل يسهل على الأذن سماعها و التمتع بها ، اكتشفت كم برع الفنانون المصريون بشتى الطرق على التعبير عن فترات قاسية مروا بها . فترات تأرجح بين الطبقة العليا من البشوات و الطبقة السفلى من الفلاحين . بين من هو حاكم و من هو محكوم . فالفترة لم تكن بقصيرة ، توالى الاستعمار و توالت الاختلافات و لكن يبقى المصري مبدعاً بقدر ما يتألم .
خلال الاوبريت تتجسد معالم الفلاح البسيط و الساذج من خلال " نزهة " الفتاة التي هي محور السيناريو ، الطفلة التي القوا بها في النيل لأنها فقط بنت ، فقد كان الباشا والدهــا ينتظر ولي العهــد و عندما خاب الأمــــل استسهل من حوله رميهــا في النيــل و المجيء له بطفل ادعوا انه ابنه . و تجيء بها تموجات النيل الهادئة لتستقر بها بإحدى القرى و يأخذها شيخ البلد ليقوم بتربيتها .
و في حبكة درامية يكتشف الباشا الأب بحقيقة وجود ابنة له بعد عشرون عاماً و يبدأ في البحث عنها و تحدث المعجزة و يجدها حتى لو بطريقة أخذت شرحاً وافيً من محمود تيمور . وسط هذه الأحداث هناك أنغام تأخذك لعالم سيد درويش الجالس على راحة القمر يُرسل لنا بالحان على ضوءه . تزداد إبداعاً بصوت كارم محمود و أحــلام و شهرزاد .
و لم ينسى تيمور أن ينسج بالاوبريت خيطان متلاحمان هما خيط الحب الدافئ بين نزهة و سيف الدين و خيطاً رفيعاً هو عالم السياسة الذي يختلط بكل شيء و الذي جسده قمر الدين أبو زعيزع الباشا و أعوانه .
أتسال لما لم يعد هناك اوبريتات كمثل هذه ؟ تمتزج فيها المشاعر الإنسانية بالسياسية في حبكة إبداع في التمثيل و الغناء ، ربما لأنه لم يعد هناك سيد درويش و ربما لأنه لم يعد بإمكاننا تحمل ساعة و نصف من الإبداع . يكفينا أربعة دقائق مع إحدى المغنيات الفاتنات و التي ستقوم بكل شيء من رقص و غناء و دلع و خلع بأقل وقت . نعلم جميعاً أننا في حوصرنا بين جيل التسعينيات أخر أجيــال الانجــاز و بين جيل الألفية الثالثة الذي لا يقوى على شيء غير الصبر . فنحن وقعنا بين المطرقة و السندان في هذا العصر ، بين زمن مليء بالبطولات و الانجـــازات و الفن الراقــــي و بين عولمة بدأت و ليس لها ملامح تُذكر تأخذنا في موجة اسمها البحث عن الديمقراطية و التطور . و لا ندري إذا كنا نحب الماضي و رضينا الحاضر ، أم أننا نلعن الحاضر و نرثى الماضي .

بقلبي حنيناً لماضي لم نعيش فيه و لكنه يعيش فينا ، و بقلبي أيضاً آمالا تنطلق من تلك المائدة التي اجتمعت عليها مع شباب وصبايا مازالوا يحلمون ، و يحملون بقلوبهم كل الحب و الخير لأنفسهم و وطنهم . و مازالوا ينبضون نحن هنا نسعى للأفضل .


ليست هناك تعليقات: