الثلاثاء، يناير 16، 2007

الجمل المتمرد

د. رامي قحوش
يحكى أن جملاً وقف يخطب في قافلة للجمال قائلا, عذرا يا أصدقائي فقد ضاق بي العيش في هذه الصحارى و سئمت الحر ّ الشديد و قساوه الترحال و جفاف الطعام و ندرة المياه . وقد أخبرني ابن آوى أن هناك خلف تلك الكثبان صوب البحر خضرة و ماء وفير . إن كنتم أنتم لا تبالون بالعيش هنا , فقد سئمته أنا وسوف أقصدها في الصباح لتكون موطني.
التفت اليه الجمل العجوز الذي كان يسير في أول القافله ورمقه بنظرة غاضبه ثم نظر إلى الامام معاوداً قيادة القافله, أما الجمل المتمرد فقد انفصل عن قافلته وودعها بتظرات حذره و مشى في حال سبيله.

تابع الجمل سيره , وإذا بالرمل يتحول إلى تراب و الشوك إلى عشبٍ أخضر نضير أما الكثبان فقد اختفت و حلّت محلها التلال ثم الجبال. تمدد الجمل تحت ظل شجرة باسقه بعد ان ارتوى من مياه عين بارده, ثم استيقظ على زقزقات الحساسين و اخذ يمتع ناظره بثلّه من السناجب تلاحق بعضها بعضا و تتبارى في تسلق الاغصان النضره.

بئس عيشكم يا إخوتي من معشر الجمال , قالها الجمل في خلده. كيف تطيقون حمل مياهكم على سنامكم الثقيل وقد أنعم الله علينا هنا بالماء الرقراق الغزير, و كيف كانت شفاهكم تتشقق بقطع شوك الصحراء أما هنا فالارض ملأى بالكلأ. وكيف كنتم تطيقون المسير على الرمل الحار أما هنا فقد فرشت الطبيعه لنا سندساً من زهر و من ورد.
مرّت السنون والعقود و كان الجمل يقضي نهاره بين الرعي بين الأبقار و اللهو مع الجداء أو الاستلقاء قرب العين في ظل شجرّ الحور . سقط وبره و حلّ محله جلد ناعم و وسقطت أظفاره و أصابت الطراوة خفّيه و ضمر سنامه فلم تعد هناك من حاجه اليه.
في صبيحة أحد الأيام استيقظ الجمل مذعوراً و شعور من الحنين يعصره عصراً. شوق لأخوانه ولرفقاء الدرب حتى زعيم القافله الفظ , أحس الجمل أنه بحاجة إلى حكمته ورشده. التهبت عواطف مجهوله في داخله بعد أن شاهد حسوناً في الصباح يسرع بدودة الى فم أنثاه الراقدة على البيوض. عندها أحسّ بأنه يفتقد شيء قد خلع من روحه و أحس برغبة جامحة للعودة من حيث أتى.

يممّ الجمل شطر الشرق و أخذ يسير باتجاه الصحارى. كان الجو قاسياً و الحر الشديد يكاد يشقق جلده الرطب. أما شفتاه فلم تعدا قادرتين على مضغ أشواك الصحراء و سنامه الهزيل لم يعد قادراً على أن يطفي عطشه . كان المسير متعثراً بين وقوف و سقوط فلم يعد خفاه الطريين قادرين على تحمل حرارة الرمال.
سقط الجمل منهكاً قرب تخوم إحدى الكثبان ينظر للبعيد, إلى تلك الرمال الذهبيه موطن آبائه وأجداده وحلم العودة الى قافلته يزداد تصميماً في عينيه.

بعد عدة أيام وُجد الجمل جثة هامدة قرب أحد الكثبان .و حدثني ابن آوى أنه وجد عبارة على الرمل قد خطها الجمل بخفيه قبل أن يلفظ أنفاسه الاخيرة تقول " قد تحيا عندما تخرج من وطنك, ولكنك تموت عندما يخرج الوطن منك"

د. رامي قحوش

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

صدقت يا دكتور، وشكرا على هذه العبرة الفيمة . مر على الشعب الفلسطيني ما يقارب من ست عقود من الزمن ، ولكنه لم يقدر بأن يطرد الوطن من قلبه . فألأجيال المتعاقبة والتي ولدت خارج فلسطين ، هم الذين يطالبون بالعودة