بقلم: إبراهيم علي
"حكايات مصرية" برنامج تبثه قناة الحرة، وفي حلقة هذا الأسبوع، كانت هناك ثلاثة مشاهد تبعث على الحزن والأسى والضيق لما وصل إليه الحال في أول دولة عربية وجد على أرضها مشروع نهضوي، و نعني بها مصر التي أراد حاكمها محمد علي باشا في الفترة من 1805- 1849 أن يجعل منها نموذجا حضاريا في الشرق.
إننا الآن في العام 2007م ،أي مضي أكثر من مائة وخمسين عاما على انطلاق تلك النهضة العربية، فماذا نجد في مصر؟ نجد حكايات يشيب لها الولدان، شاهدنا بعضها على شاشة قناة الحرة، و ربما كان ما لم نشاهده أكثر مرارة و مدعاة للألم. ففي الحكاية الأولى رأينا مشاهد لأفران الرغيف البائسة، ورأينا كيف ينتظر الناس امامها منذ الخامسة فجرا، ليتدافعوا صوبها بمجرد فتحها ثم ليتعاركوا بضرب بعضهم بعضا من اجل الحصول على الرغيف الذي من يتمكن من الوصول إليه قبل إعلان الفرن عن نفاذ مخزون الدقيق يعتبر محظوظا في ذلك اليوم " السعيد".
الحكاية الثانية كشفت لنا عن مدى صعوبة العثور على اسطوانات الغاز التي لا يحصل المواطن المصري على واحدة منها إلا بشق الأنفس، فان حصل عليها وجدها رديئة الصنع و غير مستوجبة لأدنى معايير السلامة، وبما يحولها حقيقة إلى قنابل موقوتة، خاصة و أنها توضع في اغلب الأحايين قرب غرف النوم بسبب ضيق المنازل و تكدس عشرات الأفراد من أبناء الأسرة الواحدة في غرفة أو غرفتين بحيث لا يمكن التمييز ما بين المطبخ أو الحمام أو غرفة الجلوس أو غرفة النوم.
في الحكاية الثالثة، عرض البرنامج الذي تعده و تقدمه مذيعة مصرية شابة و موهوبة ،عذابات الإنسان المصري اليومية مع أزمة المواصلات التي لا تفتقر لأبسط شروط الأمان فحسب، و إنما تتميز أيضا بالندرة المعطوفة على غلاء الأجرة الذي لا يتناسب إطلاقا مع الإمكانيات المادية للسواد الأعظم من الناس.
ما يعنينا من الصور الكئيبة السابقة، هو الدروس والعبر التي يمكن أن نستخلصها ونمعن فيها النظر دونما مكابرة من أجل البدء ببناء مستقبل أفضل للأجيال الحاضرة والقادمة. من أهم تلك الدروس:
أولا: على الرغم من أن محمد علي باشا بدأ مشروعا متكاملا للنهضة في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلا إن ما نشاهده اليوم من تراجع ونكوص وتخلف على كل الأصعدة يشير إلى أن السبب الرئيس في ما حدث هو الثورات والانقلابات العسكرية التي لم تعمل على رفد ما تم إنجازه بإنجازات أخرى، إنما عمدت إلى الإطاحة به و وضع بدائل عشوائية و مشوهة، كي لا ينسب أي تغيير و إنجاز إلا لها وحدها. والمعروف أن عملية التراكم الحضاري تعد عاملا حاسما في إحداث النهضة والتقدم والازدهار في أي عصر من العصور وفي أي بلد من البلدان.
ثانيا: لقد قوضت الحروب العبثية والمغامرات الخارجية كل ما تم تحقيقه في الداخل من منجزات حضارية واقتصادية، بدءا بحرب فلسطين عام 1948م فحرب السويس عام 1956م، فمغامرة التدخل العسكري في اليمن التي بدأت في عام 1962 و استمرت لمدة خمس سنوات عجاف، فحرب حزيران عام 1967 ، و أخيرا حرب أكتوبر 1973 التي أعقبتها اتفاقية سلام كان من الممكن إبرامها بشروط أفضل و خسائر اقل في عام 1948 أو في عام 1956 ، بدلا من الانتظار ربع قرن من الزمان حدثت فيه الكثير من المغامرات و المناكفات و الصراعات و التدخلات التي حركها أو أدارها نظام القاهرة، لا سيما زمن قيادته لمعسكر عربي و إقليمي ضد السعودية و حليفات الأخيرة، الأمر الذي تسبب في خسائر بشرية واقتصادية و تنموية انعكست سلبا على أحوال شعب مؤهل كان قبل ذلك على موعد مع الرخاء و التقدم الشبيهة بما تحقق في كوريا الجنوبية مثلا.
ثالثا: لقد لعبت الديكتاتورية السياسية دورا تخريبيا ورجعيا في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لجهة إجهاض التطور الحضاري الحديث والمتدرج و ضرب مظاهر الدولة المدنية الحديثة، الذي لو لم يتم الانقلاب عليها تحت حجج ثورية و شعارات بائسة، لكان من شأنه أن يحدث النهضة المنشودة، بلا تراجع ولا نكوص. إن هذا تحديدا ما يفسر لنا العجز الحالي التام الذي تعاني منه الدولة المصرية، و المتمثل في عدم قدرتها على القيام بأبسط واجباتها تجاه مجتمعها مثل توفير متطلبات المواطن الأساسية من الرغيف إلى اسطوانة الغاز مرورا بوسائل النقل و المواصلات.
رابعا: إن على الأجيال العربية الجديدة ألا تنخدع بما تراه وتسمعه من شعارات طنانة جوفاء حماسية، يطلقها اليوم بعض القوى والأنظمة السياسية المتهورة من تلك التي لا هم لها سوى توتير الأجواء والساحات بحجة وجود مؤامرات خارجية تستهدف المنطقة ، بينما في الواقع هي وحدها المسئولة عن الإخفاقات و التآمر على مصير الشعوب والأوطان بممارستها النفاق السياسي والتضليل والتعتيم على حقائق الواقع والتاريخ، و بدغدغتها عواطف الدهماء. إن شعوبنا وأوطاننا بحاجة ماسة إلى نخب وقيادات سياسية وثقافية وإعلامية، لا تنافق لا رجل الشارع ولا الحكومات، ولا تكرر أخطاء الماضي البعيد والقريب، وتمتلك مشروعا حضاريا تنويريا منفتحا على كل الثقافات، عماده بناء دولة عصرية واقتصاد وطني حديث ومتطور باعتباره وحده البوصلة التي تضع الأمة على السكة الصحيحة نحو المستقبل.
"حكايات مصرية" برنامج تبثه قناة الحرة، وفي حلقة هذا الأسبوع، كانت هناك ثلاثة مشاهد تبعث على الحزن والأسى والضيق لما وصل إليه الحال في أول دولة عربية وجد على أرضها مشروع نهضوي، و نعني بها مصر التي أراد حاكمها محمد علي باشا في الفترة من 1805- 1849 أن يجعل منها نموذجا حضاريا في الشرق.
إننا الآن في العام 2007م ،أي مضي أكثر من مائة وخمسين عاما على انطلاق تلك النهضة العربية، فماذا نجد في مصر؟ نجد حكايات يشيب لها الولدان، شاهدنا بعضها على شاشة قناة الحرة، و ربما كان ما لم نشاهده أكثر مرارة و مدعاة للألم. ففي الحكاية الأولى رأينا مشاهد لأفران الرغيف البائسة، ورأينا كيف ينتظر الناس امامها منذ الخامسة فجرا، ليتدافعوا صوبها بمجرد فتحها ثم ليتعاركوا بضرب بعضهم بعضا من اجل الحصول على الرغيف الذي من يتمكن من الوصول إليه قبل إعلان الفرن عن نفاذ مخزون الدقيق يعتبر محظوظا في ذلك اليوم " السعيد".
الحكاية الثانية كشفت لنا عن مدى صعوبة العثور على اسطوانات الغاز التي لا يحصل المواطن المصري على واحدة منها إلا بشق الأنفس، فان حصل عليها وجدها رديئة الصنع و غير مستوجبة لأدنى معايير السلامة، وبما يحولها حقيقة إلى قنابل موقوتة، خاصة و أنها توضع في اغلب الأحايين قرب غرف النوم بسبب ضيق المنازل و تكدس عشرات الأفراد من أبناء الأسرة الواحدة في غرفة أو غرفتين بحيث لا يمكن التمييز ما بين المطبخ أو الحمام أو غرفة الجلوس أو غرفة النوم.
في الحكاية الثالثة، عرض البرنامج الذي تعده و تقدمه مذيعة مصرية شابة و موهوبة ،عذابات الإنسان المصري اليومية مع أزمة المواصلات التي لا تفتقر لأبسط شروط الأمان فحسب، و إنما تتميز أيضا بالندرة المعطوفة على غلاء الأجرة الذي لا يتناسب إطلاقا مع الإمكانيات المادية للسواد الأعظم من الناس.
ما يعنينا من الصور الكئيبة السابقة، هو الدروس والعبر التي يمكن أن نستخلصها ونمعن فيها النظر دونما مكابرة من أجل البدء ببناء مستقبل أفضل للأجيال الحاضرة والقادمة. من أهم تلك الدروس:
أولا: على الرغم من أن محمد علي باشا بدأ مشروعا متكاملا للنهضة في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلا إن ما نشاهده اليوم من تراجع ونكوص وتخلف على كل الأصعدة يشير إلى أن السبب الرئيس في ما حدث هو الثورات والانقلابات العسكرية التي لم تعمل على رفد ما تم إنجازه بإنجازات أخرى، إنما عمدت إلى الإطاحة به و وضع بدائل عشوائية و مشوهة، كي لا ينسب أي تغيير و إنجاز إلا لها وحدها. والمعروف أن عملية التراكم الحضاري تعد عاملا حاسما في إحداث النهضة والتقدم والازدهار في أي عصر من العصور وفي أي بلد من البلدان.
ثانيا: لقد قوضت الحروب العبثية والمغامرات الخارجية كل ما تم تحقيقه في الداخل من منجزات حضارية واقتصادية، بدءا بحرب فلسطين عام 1948م فحرب السويس عام 1956م، فمغامرة التدخل العسكري في اليمن التي بدأت في عام 1962 و استمرت لمدة خمس سنوات عجاف، فحرب حزيران عام 1967 ، و أخيرا حرب أكتوبر 1973 التي أعقبتها اتفاقية سلام كان من الممكن إبرامها بشروط أفضل و خسائر اقل في عام 1948 أو في عام 1956 ، بدلا من الانتظار ربع قرن من الزمان حدثت فيه الكثير من المغامرات و المناكفات و الصراعات و التدخلات التي حركها أو أدارها نظام القاهرة، لا سيما زمن قيادته لمعسكر عربي و إقليمي ضد السعودية و حليفات الأخيرة، الأمر الذي تسبب في خسائر بشرية واقتصادية و تنموية انعكست سلبا على أحوال شعب مؤهل كان قبل ذلك على موعد مع الرخاء و التقدم الشبيهة بما تحقق في كوريا الجنوبية مثلا.
ثالثا: لقد لعبت الديكتاتورية السياسية دورا تخريبيا ورجعيا في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لجهة إجهاض التطور الحضاري الحديث والمتدرج و ضرب مظاهر الدولة المدنية الحديثة، الذي لو لم يتم الانقلاب عليها تحت حجج ثورية و شعارات بائسة، لكان من شأنه أن يحدث النهضة المنشودة، بلا تراجع ولا نكوص. إن هذا تحديدا ما يفسر لنا العجز الحالي التام الذي تعاني منه الدولة المصرية، و المتمثل في عدم قدرتها على القيام بأبسط واجباتها تجاه مجتمعها مثل توفير متطلبات المواطن الأساسية من الرغيف إلى اسطوانة الغاز مرورا بوسائل النقل و المواصلات.
رابعا: إن على الأجيال العربية الجديدة ألا تنخدع بما تراه وتسمعه من شعارات طنانة جوفاء حماسية، يطلقها اليوم بعض القوى والأنظمة السياسية المتهورة من تلك التي لا هم لها سوى توتير الأجواء والساحات بحجة وجود مؤامرات خارجية تستهدف المنطقة ، بينما في الواقع هي وحدها المسئولة عن الإخفاقات و التآمر على مصير الشعوب والأوطان بممارستها النفاق السياسي والتضليل والتعتيم على حقائق الواقع والتاريخ، و بدغدغتها عواطف الدهماء. إن شعوبنا وأوطاننا بحاجة ماسة إلى نخب وقيادات سياسية وثقافية وإعلامية، لا تنافق لا رجل الشارع ولا الحكومات، ولا تكرر أخطاء الماضي البعيد والقريب، وتمتلك مشروعا حضاريا تنويريا منفتحا على كل الثقافات، عماده بناء دولة عصرية واقتصاد وطني حديث ومتطور باعتباره وحده البوصلة التي تضع الأمة على السكة الصحيحة نحو المستقبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق