الأحد، فبراير 11، 2007

هيا إلى ساحة الحرية يا ولدي .. الملايينُ تنتظرنا


سعيد علم الدين
حوار بين الأم وابنها حول المشاركة يوم الاربعاء 07.02.14، في ساحة الحرية تخليدا لذكرى شهداء انتفاضة الاستقلال وباني لبنان الحديث الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

- "دعيني يا أماهُ أبكي بصمت على كَتِفِكِ، كما بكتْ عينُ المريسةِ على كتفِ بيروت ودمعت عينيها على الشهداءِ الكرام، الذين سقطوا بأيدي خفافيشَ الظلام، ورووا بدمائهم الزكية، أرضَ بيروتَ الأبية. وكأن هذا الشعبَ العنيدَ الرأس، وهذه الأرضَ الصعبةَ المراس، وهذه الجبالَ الشَّامِخةَ في العلاء، لم تشبعْ بعدُ من سفكِ الدماء!"

- "لا لا يا بُنَيَّ، حقيقةً هي شبعت وارتوت، والشعب اللبناني بكافة طوائفه وأحزابه بعد اتفاق الطائف جنح إلى السلام وعاد إلى أصالته في العيش المشترك، وقرِفَ رائحةَ الدمِ والحرائقِ والحروب والدمار والخراب، يريد الحياةَ والعملَ والانطلاق، ليبني مع رفيق الحريري وكل الرفقاء المستقبلَ الواعِدَ ويصنعَ العُجاب. إلا أن عديمي الضمائرِ والأخلاق، أصحابَ القلوبِ الحاقدةِ والأيادي السوداء، قاطعي يدَ الخير والعطاء، قاتلي الرقةَ والوداعةَ والوفاء، ذابحي حمامةَ السلام الحريريةِ البيضاء، كانوا لا يريدون لشعب لبنان العيش بكرامةٍ وديمقراطية حقيقيةٍ واستقلال كاملٍ تحت ظلالِ وحدة وطنية ووئامٍ وصفاء، بل كان هدفهم وما زال التفرقةَ للهيمنة، ولتحقيق مشاريعهم وحل مشاكلهم على حسابه، وجره كالحمار المطيع إلى الحروب كما حدث في 12 تموز الماضي، وإلى الفتنة كما حدث الثلاثاء الأسود، وإلى تعطيل الحياة الدستورية كما يحدث الآن.
ولكي نتخبطَ إلى الأبد في الشقاء. وهم يتابعون دون عناء مسلسل الاغتيال البشعِ المدوي. ومن هنا هالهم يا بني أن يجمعَ الحريري اللبنانيين في الطائف وبعد الطائف على كلمة بينهم سواء، فوضعوا أمامه كل العراقيل وفرضوا عليه وعلى لبنان التعديل والتمديد وثقافة التخنيع والغش والفساد والبرطيل، فجاءهم الرد الأممي بالقرار 1559، الذي حاول أصدقاء لبنان من خلاله إعادة الأمور إلى نصابها وانتشال لبنان من ورطة سرطانية هي أكبر منه وما زالت ولن يستطيع وحده التخلص منها.

هالهم يا بني أن ترتفع هامة لبنان العنيد من خلال قادة لقاء البريستول، إصراراً على عودة السيادة المستباحة والديمقراطية المنكوبة والمصالحة الحقيقية والكرامة الوطنية من جديد، فأصابهم الهلع في الصميم، وأخذوا يخططون في الخفاء، ويتآمرون لاغتيالِ الأحرار: اغتيالا للبنان وتفجيرا لأوضاعه. كيف لا وهم المستفيدون من تَسيُّبِ البلادِ، ونشر الدويلات والمربعات الأمنية والفوضى والخراب في كل الأنحاء، ولهذا قاموا بكل برودة أعصاب بارتكاب جريمة 14 شباط الرهيبة النكراء."

- " يا أماه، بعد هذا المصاب الجلل الذي أصابنا جميعاً باغتيال رفيق الحريري فاعلُ الخير وصاحبُ اليد المفتوحة للعطاء واغتيال رفاقه الأحرار. أتساءل: أين عدالةُ الأرضِ؟ أين محاكِمُ السماء؟ متى ينتهي هذا الزمنُ الوحشيُّ البربريُّ الشرير؟ متى يُقْتَلُ التنين؟ إلى متى سيستمرُ هذا الأنين؟ و متى ستشرقُ شمسُ الحريةِ والديمقراطيةِ والعدالةِ وحُكْمِ القوانين، على الشرق الضرير؟

دعيني أبكي على كتفكِ يا أماه، فأنا بحاجة لمزيدٍ من البكاء. كيف لا ورفيقٌ كان بلسماً للجرح اللبناني النازف. هبط كسحابة تمطر ذهباً وياقوت على بيروت، يعينُ الفقراءَ والمعوزين، 34 ألف طالب يدرسون في جامعات العالم من دعمِ مؤسساته. من خلال مشاريعه واستثماراته الناجحة، التي أسسها في لبنان والعالم العربي وكل أنحاء العالم قدَّمَ فرصَ العملِ وسبلَ الحياة الكريمة لمئات الآلاف من الناس.
أتساءل لو أن كل مليونير لبناني وعربي يملك هذه الهمة والصفات الكريمة العظيمة، ويشعر بالمسؤولية تجاه وطنه وأمته، لَكُنَّا اليوم أفضل بكثير مما نحن فيه من بطالة وأمية وفقرٍ وهجرة حرمان.

كان رفيق: المستقبل الواعد، ورفيقاً لكل اللبنانيين وغير اللبنانيين، حمل هموم الجميع في قلبه الدافئ الكبير. ابن صيدا البار. ابن الجنوب الشامخ. هذا المكافح الذي نهض من ركام الحرب، شاباً هماماً مغامراً، يشتغل ليدرس. وسهر الليالي فجاءه العلى!

نهض وبنى لنا معجزة لبنانية عربية قل نظيرها في عصر الثرثارين المنافقين المتاجرين بحقوقنا. يخسرون الحروب بالأفعال وينتصرون على العدو بالأقوال. يصفقون لأنفسهم ويبيعوننا شعارات ندفع ثمنها من دم أطفالنا ومستقبل أجيالنا. وهم أول اللاهثين وراء إسرائيل وأمريكا لفتات السلام المشروط والاستسلام دون شروط. ابن المأساة اللبنانية الذي رفع اسم وطنه خفَّاقاً، واسم أمته عالياً في الآفاق بعد أن ظلل الأرزة ببسمته. ذهب إلى السعودية معلماً بسيطاً، وجاءته الفرصةُ، وفُتِحَتْ أمامه الأرزاق، واحتضنته الشقيقة المخلصة فصار ابنها المختار. دخل عالم الأعمال والمال، وأصبح بذكائه الحاد، رجلُ البناء والاقتصاد. نجح بالعمل المثمر الدؤوب الجاد، وعاد فارساً إلى البلاد، يبني بيروت المدمرة، حجراً حجراً، بصمت وهمة وعناد.

ويمسح بحنان الأب الدمع عن خدها المهشم، ويعيدُ بناء ما تهدم، ويزرع فيها زهراتِ الأمل ويبلسم الجراح.وهكذا عاد قلب بيروت ينبضُ من جديد. وفرح بما صنعت يداه".

اقتربتُ من أمي حزينا دامعا مكسورَ الخاطرِ لكي تضمني إلى صدرها، فأنا أريد على كَتِفِها أن أبكي كما بكت عين المريسة ومعها الملايين في لبنان وخارج لبنان على رفيقهم الذي رحل. إلا أن أمي فاجأتني بتراجعها إلى الوراء ونهرتني قائلة:

- " البكاء ليس للرجال ولا حتى للنساء في هذه الأوقات! انهض يا ولدي ألا تدري أن موسم القطاف قد حان! ورفيق الحريري ورفاقه الشجعان، أبناء المجد والخلود قد ربحوا الرهان، وكتبوا تاريخ لبنان بأحرفٍ من لهبِ خالدٍ ونيران، وقدموا باستشهادهم أغلى هديةً للوطن المستباح: براً وبحراً وجواً، سيادةً وحريةً واستقلالاً، حضارةً وديمقراطيةً ورسالة.

ألا تدري أن وحدة الشعب اللبناني تجلت في أروع صورها تحت بسمة شهيد لبنان! فمئات الآلاف من كل الطوائف والمناطق والأحزاب خرجت لوداعه وكأن الوطن أصبح قلباً واحداً وشعباً واحداً اسمه رفيق. وسقط في يد من قتلوه وبلعوا الخنجر الذي أرادوا أن يغرسوه في قلب الوطن، وانتفض الشعب في وجههم انتفاضة كرامة وعزة وعنفوان!

قتلوه من أجل إذكاء نار الفتنة وزعزعة الوحدة اللبنانية التي كانوا يعملون لتخريبها ليل نهار وسقط في أيديهم وأصابهم مرض الاصفرار!

ألا تدري أن هذا الشعب الذي يدَّعون أنه متناحر وقاصر وبحاجة إلى وصي كي يأخذ بيده قد خيب ظنونهم وأعطاهم دروسا في تلاحم الوحدة الوطنية الحقيقية!

ألا تدري أن هذا الجيش الذي بشروا بانه غير قادر وسينقسم: من لحود إلى كرامي إلى عبد الرحيم مراد إلى باقي شلة الدمى يؤكد يوما بعد يوم عن متانة نسيجه الوطني الرائع وهو الحامي الوحيد لسياج الوطن! كفانا تجارب مدمرة ومقاومات غير مثمرة!

لقد كانت جنازة رفيق الحريري قبل سنتين وما تبعها من مظاهرات وأحداث عظام عبرت كلها عن رفض الشعب للنظام المخابراتي الإيراني السوري اللبناني وأدواته الفاسدة، وتأكيداً لنبض الشعوب الحرة، التي تصنع مستقبلها بأيديها".

وانتصبت أمي أمامي وكأنها في عز شبابها، رأسها مرفوع كالأرزة المجللة بالبهاء، قائلةً:

- "يا ولدي: الحريةُ وردةٌ حمراء، تُقطفُ من شجرة الإرادة الحرة ولا تعطى هدية. تُسقى بالدماء الزكيةِ، لكي تزداد احمراراً ولا تذبل. هي أثمن شيء في الوجود. الحرُّ يدافع عن حريته بعنفوان. ويفضل الموت على الاستعباد. أما المستعْبَدُ فيبقى ذليلاً ويتحملُ ألوانَ الهوان، وربما تلذذ بالأصفاد كما نرى بعض اللبنانيين اليوم الذين يحلمون بعودة عقارب الساعة إلى الوراء للوقوف أمام الباب أذلاء.

الشعوبُ التي تركعُ أمام الحكام لن تصنع المستقبل. الذي حدث في لبنان ومنذ اغتيال الشهيد هي صرخات الأحرار، ليسمعها كل الأشقاء العرب ولينفضوا عنهم عصر الذل والانهزام، ويقفوا في وجه الحاكم الذي يذلهم عشرات السنين، ويُجددُ لنفسه دون أن يأخذ لهم أدنى اعتبار.

والأنكى من كل ذلك أن يأتي من بعده ابنه الطفل البشار مبشرا بديمقراطيةِ العبودية والذل والانهيار. شيء يدعو للدهشة كيف أن هذه المئات من الآلاف تدفقت كشرايين القلب من كل صوبٍ وحدب، لتعبر بكل عفوية ودون تنظيم شمولي في جنازة الشهيد عن تعلقها بلبنان السيد الحر والكيان الواحد المستقل. انتهى عصر "سايكس بيكو" يا بني وجاء عصر الشعوب الحرة في تقرير مصير الأوطان. لبنان لم تصنعه فرنسا إنما صنعته دماء شهدائه الأبرار وعشقهم للحرية.شهداؤنا يا بني هم عقدٌ من اللؤلؤ على صدر الوطن، وأنت تريد أن تبكي على صدري! تبا لك لقد أزعجتني !افرح وزغرد معي لعرس الشهداء في ساحة الحرية البيروتية.
فموسم القطاف قد حان، بتشكيل المحكمة الدولية ومعاقبة المجرمين وعودة السيادة والاستقلال والديمقراطية، ولقد تكرست الوحدة الوطنية بين اللبنانيين كالبنيان المرصوص. فلينم هانئاً الطيب رفيق، والوسيم باسل، والشجاع سمير، والهمام جورج، والبطل جبران، والعريس بيار. وأنت تريد أن تبكي على كتفي! ما كان أملي بك هكذا! انهض وانتفض على دموعك!هيا معي يا ولدي إلى ساحة الحرية البيروتية، فالملايينُ من شابات وشباب ثورة الأرز تنتظرنا يوم الاربعاء ، ولا تنسى أن تجلب معك علمين لنرفعهما خفَّاقان في السماء. ولكي تبتسم لنا من عليائها أرواحُ الشهداء!


ليست هناك تعليقات: