الخميس، فبراير 08، 2007

إلى شهلا الكيالي



بقلم : ناريمان مصطفى
منذ ان غادرت بيتها العتيق ،الى ليلتها الاخيرة ، وما زال لها مع حارة العشق في حي اللد القديم لقاء متجدد. موعد لم تقو سنوات الغربة الطويلة على تأجيله او الغائه ، فللياسمين هناك عبق سحري وشذى طازج ما زال يغذي خلاياها الجائعة للوطن ويشدها لصباحات معطرة برائحة النار المنبعثة من الصاج لاعداد الخبز في موسم الزيتون .
انها شهلا الكيالي ، سنديانة فلسطين ، المولودة في اللد عام 1941 والتي شاء القدر ان تتحد صرختها الاولى مع دموع امها التي فقدت اخاها ابا عوني ، وكأن الحياة بذلك تعدها لرحلة قاسية وتداعيات من الحزن الذي لا ينتهي .
شمس طفولتها غابت مبكرا، واناشيد المرح غدت هتافات وتوشيحات وطن . فلم تكن الدنيا قد حملتها على اكتافها سوى ست سنوات عندما شاركت في الجنازة الرمزية التي اقامتها مدينة اللد تعبيرا عن حزنهم بفقد القائد الكبير عبد القادر الحسيني الذي استشهد في قرية القسطل دفاعا عن ثرى فلسطين ، فصنعت بيديها الصغيرتين اكليلا من زهور حديقتها ليقدم في الجنازة ، وبذلك شاركت في اول مسيرة شعبية وطنية .
طوت شمس الثالث عشر من تموز عام 1948 آخر اللحظات السعيدة وتوقف على عتبات البيت العتيق تاريخ عمرها الذي فقد حلاوته لحظة هجوم الصهاينة على منزلهم وتهديدهم بالخروج وإلاّ سيفعلون بهم ما فعلوه بدير ياسين .
بين نظرات العجز في عيون والدها ، وبنادق الجنود وبساطيرهم الحديدية ، تغادر الاسرة المنزل وهي تعزف سيمفونية حزينة على ما تركته من ذكريات حول الصفصاف وورد الياسمين ورائحة الكستناء الشتوي والقمح المحصود في ارضه الذي ينتظر من يجمعه ويرسله للمطاحن ، وتأخذ معها المفتاح العتيق املا بالعودة ، ولم تكن تعلم انها اغلقت على ذكرياتها بالمفتاح الى الابد .
تسير الاسرة بأمسٍ مثقل بالذكريات ويوم ينذر بالشتات ومستقبل مجهول يجمّل صورته امل العودة في وقت قريب ، الى ان تصل الى منزل الشيخ سليم الكيالي
قرب المسجد الحسيني الكبير في عمان لتقيم فيه اسبوعا ثم تنتقل الى الزرقاء وبعدها الى مخيم اللاجئين فيها .
انستها معاناة المخيم أنها انثى وجففت قسوته نهر الطفولة داخلها لتصير احلامها أسراً جائعة تحت قباب المخيم .
فها هي وهي تحمل التموين تلمح المدرسة الهاشمية فتدلف لادارتها وتعرّف بنفسها وتُسمع المدير والاساتذة نشيد تحرير فلسطين ، لتلقيه بعدها في حفل المدرسة حيث ارتفع صوتها عاليا وكأنها تُسمع كل العالم معاناة فلسطين :
قم صلاح الدين واشهد مجدنا
مجدك الباقي على مر الزمن
قـد أتينـاك نحيي عهدنـا
نرخص الارواح في اغلى ثمن
وطـن الاوطـان انت
يـا فلسطـين الجـدود
عشـت للشرق ودمت
لـن تكونـي لليهـود

فادركت بعد ذلك مدى تأثير الشعر في النفوس وسحره في تحريك المشاعر والعواطف.
بيديها الصغيرتين عاركت الريح وبعينيها البريئتين سهرت في تلك الليلة لينام باقي افراد الاسرة في تلك الليلة التي عصفت فيها ريح قوية كادت ان تقتلع الخيمة ، لتذهب للمدرسة في اليوم التالي مرهقة مبللة معفرة بالطين لتسمع هناك تهكم احدى زميلاتها فعادت مسرعة لتكون لها اول تجربة مع توثيق الالم ، فكتبت موضوعا بعنوان " عرفوهم من هي ابنة الخيام " وبعدها غدا همّ الوطن امانة في عنقها ورسالة يتحتم على الجميع سماعها ، وراحت تشتري من مكافئتها التي تمنحها اياها امها من مشاركتها في تسويق اللبنة والفلافل التي تصنعها كتبا ومجلات لتقرأ، الى ان كتبت في منتصف الخمسينيات في الصحف المحلية تحت اسم مستعار هو " ابنة الشرق " .
قضت حياتها في المخيم بين هتّافة وخطيبة ، فماذا تفعل واهلها في المخيم يشربون الحليب الفاسد والسمنة المتحجرة والرز المكسّر ، الاّ ان تخرج وتقود مسيرة لتردد باعلى صوتها :
ما بدنا سكّر وطحين بدنا نرجِّع فلسطين
انهت دراستها وعملت مدّرسة في احدى مدارس وكالة الغوث في الزرقاء ، ليغدو الهم اكبر والمسؤولية اشمل ،فأخذت على عاتقها تنشأة جيل يعي معاناة وطنه ويعيش على امل العودة وينخرط في الهم العربي ، وكانت له خير قدوة ، فقد تبرعت بفردة حلق لم تكن تملك سواها الى صندوق تحرير الجزائر .
تزوجت عام 1961 من (وليد احمد جابر) وانجبت منه خمس بنات وولدين .
آن لصوتها ان يعلو اكثر في ظل تنظيم سياسي ، فقد انتسبت الى حركة فتح تحت اسم (ام اسامه) وتدرجت مناضلة فيها حتى اصبحت في قيادة العمل وحصلت على مرتبة عضو لجنة اقليم وحين تسلّمت قرارها بهذه المرتبة بكت وهي تردد " كنت كبيرة دوما بشعبي وانا الآن كبيرة بفتح " .
عقدت على الطفل آمالاً كبيرة فقد اشرفت على مؤتمر الاطفال لعامين متتاليين 1989/1990 فقد ارّقتها خطواته المبعثرة على ارصفة الغربة واعياده اليتيمة وحقيبته الملقاة على الشارع مفتوحة تشهد محتوياتها على معاناته فقالت :
عندما اغتيل الصغار
عبر ابواب المخيم
ظل لحن العيد مرفوعا يغني
عرسهم بلبنان الحزين
زفّت الشمس حساسين الجنوب
جسد الطفل يعانق
غصن زيتون ونرجس
سرقوا منه الحقيبة
مزقوها بعثروها
ملأت اوراقها ارض المخيم
تقاعدت عام 2000 وما زالت تمتليء بالطاقة وعبء التشرد ، وما زال همّ المفتاح القديم يلاحقها، فها هي تشارك في مهرجان المربد الشعري في العراق لتلقي قصيدتها ( جئتكم في يدي مفاتيح بيتي ) :
بين كفّيك غربتـي وعذابي
فاعد لي ملامحي يا ترابــي
نصف قرن قد اشتعلت غيابا
كان عني وليس عنك غيابـي
جئتكم في يدي مفاتيح بيتـي
والمفاتيح غربتي وعذابــي
هذه لحظة الخلاص فخذنـي
من رمادي ، فاليوم حان إيابي
وتشهر بعد انتهائها، المفتاح وسط تصفيق حزين وتقدمه هدية للرئس العراقي صدام حسين والشعراء العرب ليكون دلالة انتظار وترّقب للعودة .
توفيت وهي تعاني من سرطان الكبد في24/11/2006 ، توفيت وما زال البت ينتظر من يفتحه ومحصول القمح من يجمعه ويرسله للمطاحن .
تركت اضافة لارثها النضالي ارثا ادبيا يتمثل في مجموعة من المؤلفات :
كلمات في الجرح
انقطعت اوتار الصمت
خطوات فوق الموج
وجهي الذي هناك

وللاطفال :
بيض الحمامة
لعبة الحبل
القرد وعبّاد الشمس
في خزانة الجدة


كاتبة وقاصة فلسطينية

ليست هناك تعليقات: