الثلاثاء، أبريل 01، 2008

أَحُجْرَةٌ أم مَغارةُ رُهْبان ؟!



سامي العامري

حديث مع رَبّة الشفاء


وها انا ذا دخلتُ حقيبتي كي أستريحَ
فليس وقتُ الناسِ وقتي
هنا قلبي حليقٌ
لا سلامَ ولا خصامَ
وإنما
تُخفي الحقيبةُ كلَّ بيتي !

-----------

قالت الربة بابتسامتها المحببة : حقيبة وناس وسلام وخصام ... أأنت على وشك السفر ؟!

أجبتُ : ما أروعك وأروع هبوطك الضوئي وكرمك الذي لا يُضاهى , لستُ على سفر والى أين عساه يسافر مَن هو عليلٌ مثلي ؟! ولكني تذكرتُ – والذكرى أوَّل وأحنُّ العُوّاد - تذكرتُ بما يشبه الطيف سنواتٍ كنتُ فيها صعلوكاً مُميَّزاً وكان ما يميزني حزني الذي أخفيه وفرحي الذي أُظهره والذي أصيب بسببه أغلبُ أصحابي بلوثة السخرية من الدنيا , كانوا يشاركونني الضحك وقلبي لا يشاركه النزيف أحد ! ليست مسايرة ولكن طبعي أن أُعزّي كل بائس وأضيف الى فرح الفرحان أفراحاً أخرى ولأني أعرف أن حزني الشرقي لا ولن يبرحني مَهما أصبح لي من سلطان او جان رغم ازدرائي للسلطان وعدم رؤيتي للجان !
ولكن حقيقة كانت هناك رغم كل شيء الكثير من الغبطات , الكثير من الغبطات رغم السرقات والخيانات !
أما بُقيا روح المرح هذه والتي لم تستطع الحروب أن تقضي عليها فقد كانت تلقي بي تلقائياً وسط مجموعة عابثة من الشبان والشابات حيث إمكانية أن تحاور الخمر خلاياي الجسدية والروحية في أعسر الأوقات وحيث كنتُ أُصفّي بعض حسابي مع أشباح الحرب وهي تمدُّ مخالبَها المرعبة بخراطيم حتى سريري !
قلتُ سريري وهذه عبارة مهذبة فالحقيقة كثيراً ما كان سريري في الفترات الأولى هو المحطات او الأرصفة حتى يتمَّ التعرف على الخفايا التي تحرك المدينة
وعندما وصلتُ مدينة ميونخ دون تخطيط كالعادة كتبتُ خلال الأيام الأولى في ذلك نثراً ومنه :

هل ستَعودُ لترميمِ شعائر التَشَرُّدِ مَرَّةً أُخرى ؟
نعم .
وإذا وافاكَ الشتاء ؟
سأَلتَحِفُ الحيطان !
كانَ ذلكَ يومَ كنتُ عنيداً كالقَدَر
مُنَغِّصاً هَدأةَ أوروبا
ومُتَوَعِّداً عواصفَ الأَطلسيِّ
فلا تَتَفَوَّهُ بِغيمةٍ الى حين !

--------

ومنه أيضاً :

في المساء أفتحُ عُلبة سردين
وأتمدَّدُ مع أسماكها
راضياً بالزحمة الخانقة !

--------
وفي كل مرة يمسكني المؤجِّر متلبِّساً بما هو غير مدوَّن في عقد الإيجار فيطردني , فيطردنا ! ولكن هل كنتُ أبالي ؟ أبداً , كل شيء إبنُ يومه فقط وانتهى , وآخر ذلك غرفة صغيرة ولكنها شعرياً كانت بحجم العالم وهذا ما جعلني أشبِّهُها بمغارة رهبانٍ من العصر الوسيط ! وفيها أرَّختُ ودونت الكثير وقرأتُ الكثير وكان وطني جريدة !
قالت الربة : كلام ذو مغزى ! وهل دخلتَ مستشفيات وقتذاك أيضاً ؟
أجبتُ : نعم ولكن لأوقات قصيرة وتعرفين ما معنى فورة الشباب .
علقت الربة : مهلاً أيها البوهيمي الغريب , لا أظنك تتحمس للعودة الى تلك الأيام فهذا وباءُ مَن لا وباء له ! ولا شك أنك تعلم أنَّ عصر الصعلكة ولّى فأرِني كيف تتأمل تلك الأوقات بهدوء كدرس حياتي وتستلهمها كجنائن خيال فهذه تعويذة وظَفَر !
قبل سنواتٍ كنتُ أحنو عليك بضوئي حيث ناجيتَني لأول مرة وكنتُ أعلمُ أنك تصغي اليَّ بسرورٍ وثقةٍ رغم بعض النزق او الطيش الذي أبعدتك عنه وفي هذه المرة أجدك أكثر قدرة على تَمَثُّل أنواري فالطبيب لا يستطيع الدخول الى المنطقة الروحية والذهنية التي أدخلُها معك وحسناً أنك عرفت هذا مبكراً والطبيب أيضاً غير مُلام
لذا فاذا أبديتَ سلوكاً ( شعرياً ) هنا وعَلِمَ الطبيب به فستمكثُ في مستشفاك فترة لا يعلم بها أحد إلاّ السماء وانا فاحرصْ !
قلتُ : شكراً أما عن قولك بشأن الأطباء فقد عرفت الشيء الكثير عنه , والكلام المألوف مَهما سطع يبقى قاصراً :

وكم قد تحدَّثتُ ثُمَّ نَدمْتُ !
لماذا ؟
لأنَّ حديثي يقول ظِلالَهْ
او ينبري في عُجالهْ
ولا فرصةٌ كي أقلّبَ ما قُلْتُهُ
فأعيدَهْ .
غالباً لا أُجيد الحديثَ
سوى بلسانِ القصيدهْ !

-------
وأضفتُ : أغلب مَن عشتُ معهم في تلك الفترة البوهيمية كانوا طيبين وودودين غير أنهم لم يتركوا هزة مهمة في روحي باستثناء عدد بسيط وأذكر منهم في آواخر تلك السنوات كاتباً كان أكبر مني في السن قليلاً والملفت بشأنه أنه كان ارستقراطياً حاقداً على طبقتهِ ولكنه غاب عنّا لجهةٍ مجهولةٍ فجأةً
وشابة واحدة ستصبح صديقتي ونديمة كأسي لعام او يزيد فكان لي معها أكثر مما كان لأحد شعرائنا وهو يحكي أنْ له نشوتان وللندمان واحدة .
كانت كبيرة بكل شيء ولكنها خجلى وأحسُّ بأنَّ لي الفخر في اكتشافها !
وعن الإلهام فالإلهام لا يحضر دائماً فيلوذ إنسان مثلي بالخمر وهي لذة تستدعي لذة أخرى وأحياناً لأمورٍ غير اللذة وهذا له مُمَهِّدات ففي سجن الوحدة العسكرية مثلاً كنتُ أوصي سائق سيارة التبضُّع أن يجلب لي كل يوم زجاجة عطرٍ حتى أثارت هذه القضية أسئلة عن السر ومن هذه الأسئلة ( هل هو داخلٌ في عُرسٍ كلَّ يوم ) !! لم يكونوا يعرفون أنني كنتُ أرتشف هذا العطر كأعتق نبيذٍ لأنسى قليلاً , واقعاً ورُتَباً وتفاصيل !
قالت الربة : إن كانت تلك بوهيمية تجسدها الذات فعلياً او مادياً فهي الآن ربما تريد أن تتجسد روحياً أكثر او لأقُلْ إنها بوهيمية الروح ولكنها على أية حال , الذات التي تريد أن تبقى تتجسد وترى نفسها في كل الأشياء ومَهما حاولتْ فهي لن تصل والعجيب أنها تعرف ذلك إلاّ أنها مع ذلك لا تكف عن المحاولة !
قلتُ : ومن نافذة تلك الحجرة رميتُ أوراقاً جديدة اعتبرتُها في وقتها قد أصبحت قديمة ومضيتُ لا ألوي على شيء :

أقدامي يُضُيءُ لها المجهولُ الدرْبَ فَتَسعى
لا تعرِفُ حَدَّاً من وسَطِ
وكأُمِّ صِغارِ القِطَطِ !
في بَلَدي المُتَصَوِّفِ للغَلَطِ
لم أتركْ حاضِرةً
إلاّ وركلْتُ بلادَتَها بالشِعْرِ الوحشيِّ
وهل مِن بَعْدِ الشِعْرِ كلامٌ غيرُ الشَطَطِ ؟
ووجودٌ غيرُ النَمَطِ !؟

-------

أجابت الربة وهي تهدهد مركبها فوق أمواج من الريح : جميلٌ أنك واصلتَ المضي حتى وصلت ولكن بعد أن وجدتَ البحر بسواحله قد تحول الى بخار والآن تغمض عينيك وتقول , لا شيء من هذا حصل !


----------------------------
(*) نصٌّ من كتاب يجمع بين القصِّ والنثر الأدبي والشعر يحمل عنوان : حديث مع ربة الشفاء .
----
alamiri84@yahoo.de

ليست هناك تعليقات: