الاثنين، أبريل 14، 2008

شعلة السناء: حوار بين المتنبي ونيتشة

عدنان الظاهر

(( إنني لم أجدْ حتى اليوم إمرأة ً أريدها أمّا ً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها ، لأنني أحبكِ أيتها الأبدية // الفيلسوف نيتشة ـ هكذا تكلم زرادشت )) .
لقاء غريب ، جد َّ غريب ، جمعت فيه بعد لأي ٍ كلاً من الشاعر أبي الطيب المتنبي والفيلسوف الألماني نيتشة . رجلان معروفان وشهيران فكيف لا أسعى للجمع بينهما مهما كانت المشاق والصعوبات ؟ هل تود أن تلتقي الفيلسوف في مدينتك العراقية الكوفة أم في بلده المانيا ؟ سألت المتنبي فقال بل أفضل أن نجتمع على أرض ملعبه ... في بلده ألمانيا . كما تشاء يا أبا الطيب . تقابل الرجلان فإعتنقا كأنهما معارف وأصدقاء منذ الأزل . تم اللقاء في بيتي وكنت قد أعددت مبكراً كل مستلزمات مثل هذا اللقاء التأريخي الذي لا يجود الزمن به إلا نادراً . كان كلاهما قد جاوز الخمسين بقليل وكان هذا عاملاً عجّل من سرعة التآلف فيما بينهما . لكأنَّ العمرَ جسرَُ حديد يمتد بشكل سري ٍّ تحت سطح الأرض ليربط البشر ببعضهم بقوّة وإحكام . قال المتنبي لي هيا تكلمْ يا رجل ، ما مناسبة هذا اللقاء ؟ معك حق ، معك حق يا شاعر ، المناسبة هي أني أعرض على أخينا نيتشة ْ صفقة زواج من فتاة مثقفة بالغة الحسن إسمها [ شعلة السناء ] فما رأيك ؟ إحتج َّ قائلاً ولماذا تعرضها على هذا الخواجة وليس عليَّ ؟ لأنه مثقف وفيلسوف وشاعر أوربي أما أنت يا صاحبي فلستَ سوى شاعرٍ بدوي أو متبدّ ٍ تجوب البلدان سعياً وراء الرزق والمغامرات . قال محتجاً ومن قال لك إنَّ الحَضَري أفضلُ من البدوي ؟ قلت إسألْ إبن خلدون !! ضحك عالياً فجامله الفيلسوف وضحك بدوره عالياً . ثم ، واصلت كلامي ، لم تقلْ أنت ما قال هذا الصديق بشأن الحب والمرأة . سألني : وماذا قال بهذا الخصوص ؟ قال [[ إنني لم أجدْ حتى اليوم إمرأة ً أريدها أمّا ً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها ... ]] . واصلَ المتنبي هز َّ رأسه مبهوراً بما قال الفيلسوف . ظل يردد مع نفسه : [ إمرأة أريدها أماً لأبنائي ... إمرأة أحبها ... ] . غاب عنا لبرهة ثم تساءل : أفلم يتزوج بعد هذا الفيلسوف ؟ بلى ، لم يتزوج . رفع المتنبي حاجبيه مستفسراً عن السبب . لأنه لم يجد بعد المرأة المثال التي يرومها ، لم يلتقِ بهذا المثال وقد فاته سن الزواج . علّق المتنبي قائلاً : أما نحن الشعراء وسكنة البوادي والبراري والقرى فلا من سن محددة بعينها لزواج الرجل . يستطيع الواحد منا أن يتزوج حتى ولو كان في أرذل العمر . ما رأيك يا فيلسوف ، سألته ؟ قال إنَّ المتنبي على حق ، لم أجد المرأة التي أحبها وتستحقني ولا أقول تستحق عبقريتي ، فالبعض يعتبرالعبقرية جنوناً وهكذا كان حالي في بلدي مع الكثير من الناس . سألته : إذا ً أنت تحب المرأة لكنك لم تجدها ، لم تجد التي تستحق حبك ؟ قال مضبوط . لكن َّ المعروف عنك أنك تكره المرأة وتحقد عليها ، ألهذا الأمر من صلة بعزوفك عن الزواج أساسا ً ؟ قال هذا ليس صحيحاً ، جدْ لي مَن هي جديرة بي وبحبي سأقترن بها على الفور هنا أمامكا . عالْ ... صرختُ ... ما رأيك بهذه الفتاة الساحرة التي تحمل إسم < شعلة السناء > ؟ جميلة ومثقفة وبنت عائلة وتحب مجالسة المثقفين والأدباء والشعراء والمبدعين ؟ قال ولِمَ لم ْ تتزوج هي حتى اليوم إنْ كان أمرها كذلك كما وصفتَ ؟ سؤال جيد يا نيتشة ْ ، جيد جداً . الجواب هي أنَّ هذه التحفة النادرة مثلك لا تتزوج إلا من تقع في حبه ولم يسعفها حظها في العثور على هذا الرجل . فيها منك مشابه كثيرة فتوكلْ ونحن شاهدان . هي لا غيرها مَن سينجب لك خيرَ وأجمل الأبناء . قال قد أوقعتني في حيرة . أتيت إليك ففاجأتني بهذا المشروع العويص الخطير . أحتاج لإتخاذ قرار مناسب إلى ما لا يقل عن فترة عامين من الزمن . تململ المتنبي وقد فقد صبره ... تنحنح ثم قال : قرر الآن يا رجل ، ماذا أفادك عزوفك عن الزواج كل هذه الأعوام وماذا حملت لك عزوبيتك غير مرض السفلس الذي شرع ينخر خلايا دماغك . تجهّم الفيلسوف وقطّب جبينه ثم قال : هذا هو سبب عزوفي عن الزواج !! السفلس ينتقل إلى دم الأطفال من ذويهم والطفل أثمن ما في الوجود . به تتم دورة الحياة وبه تبتدئ ، تماماً كحلقة الزواج !
ما رأيك لو دعوناها لتشاركنا مجلسنا دون التعرض لموضوع الزواج ، فلعلها تكره الخوض فيه مع أناس ما سبق لها وأنْ خالطتهم . كثيراً ما يأتي الزواج كضربة الصدفة العمياء أو الحب من أول نظرة . دعونا نلتقيها هنا لتتعرف علينا بشكل جيد والمقسوم مقسوم ويظل المقسومُ مقسوماً . إنشرح صدر المتنبي لمقترحي وكان به بالغ السرور . أما الفيلسوف فسرح بعيداً عنا يفكر في مسألة فلسفية عويصة . عاد القهقرى إلى مغارته في أعلى الجبل ليختلي بنسره وأفعوانه وليناجي البحر من هناك . كان واضحاً أنه لا يرغب بالزواج ، بل ويتهرب من موضوعه أو الخوض فيه . يريد نظرياً إمرأة ً يحبها لكي تنجب له أبناءً ، إنه يعبد الأطفال لكنه متردد بشأن المرأة التي تنجب له هؤلاء الأبناء . يريد أبناءً بدون إمرأة ، خلافَ أمر ذاك الأمير الشرقي المستبد الذي كان يعاشر مئات الجواري والمحظيات والمسبيات لكنه يشترط عليهن َّ أن لا يحبلن ، والويل لمن تحمل منه كل الويل : جزاؤها الخنق أو الرمي في البحر مقيدة اليدين والقدمين مكممة الفم . هل في الدنيا من إمرأة طبيعية التكوين الجسدي والوظيفي لا تحبل ؟
إفترقنا ولم نتفق على قرار معين . وعدت صاحبي َّ أن أتابع الموضوع خلال الإيمل مع الصديقة < شعلة السناء > منفردين ... فلعلها ترضى بالمتنبي زوجاً وإنْ كان في عمر أبيها ! الزواج من رجل كالمتنبي أفضل من حياة العزوبية ، فهل ستحبه أو هل ستتزوجه بدون حب ؟
تبادلنا الرسائل عَبرَ البريد الألكتروني وأطلعتها على ما دار بيننا نحن الثلاثة من حديث . لم تعلّق ، ظلت صامتة صمتاً حيرني وأضناني . أفلا ترغب بالزواج من المتنبي إذا ما إستنكفت من نيتشة الملحد وهي متدينة على طريقتها الخاصة ؟ قالت بعد صمت طويل : لكنَّ المتنبي رجل متزوج وله ولد إسمه مُحسَّد . نعم ولكنْ ، قلتُ ، ماتت زوجه فترك ولده الوحيد في كنف جدة أبيه في الكوفة ، أي إنه رجل مثلكِ عازب في هذا اليوم . الزواج يا بُنية أفضل من حياة العزوبية . قالت أوافقك في هذا الرأي ولكن ْ ، سوف لن تكون حياتي سعيدة ولا مستقرة مع المتنبي . إنه رجل مغامر جوّاب آفاق لا يقر ُّ له قرار طويل اللسان يسب هذا وذاك فتأتيه العداوات من كل حدب وصوب . إنه وقع في غرامك يا حورية . قالت كيف ولم يرني بعدُ ؟ عرضت عليه بعض صورك فكاد أن يُجن . قال هذه ليست (( شعلة السناء )) إنما شعلة السماء ومليكة النساء . قلتُ له هيا إذا ً إعزمْ وتوكل وزرْ أباها في بيته وأطلب يدها منه فهو في سن تقارب سنّك والرجال تفهم بعضها بعضاً وتقدِّر حاجاتهم . قال أشعر بتردد وبعض التهيب حتى من الفكرة نفسها . أتود يا أبا مُحسَّد التعرف عليها وجهاً لوجه ؟ قال أتمنى لكني أخشى . ممَ تخشى الرجال من أمثالك وهل نسيتَ ما قلتَ من أشعار في الفروسية والقتال والشجاعة ؟ أهمل سؤالي وإنصرف بوجهه عني مردداً (( الرأي قبلَ شجاعةِ الشجعانِ )) ... فأكملت هذا البيت قائلاً (( هو أول ٌّ وهي المحلُ الثاني )) . هزَّ رأسه موافقاً وظل َّ قلقاً متردداً فشجعته على إتخاذ موقف سليم حاسم ناجز وذكرت له بعض شعره الذي قال فيه (( إذا كنتَ ذا رأي ٍّ فكنْ ذا عزيمةٍ // فإنَّ فسادَ الرأي أنْ تترددا )) . قال مُحنقا ً : لا رأي لي في هذا الموضوع الخطير ولا من عزيمة فكفَّ يا هذا ولا تحرث في البحر . داعبته للتخفيف من أزمته الحقيقية فقلت له : إذا ً ... سأعرض أنا عليها الزواج ! ضحك المتنبي من أعماقه لأنه على ثقة من أني أمزح معه لا أكثر . قال وقد توقف عن الضحك : هيا أقدمْ يا رجل ، أقدم وسأكون والسيد نيتشة شاهدا خطبتك لها من أبيها وشاهدا عقدة النكاح ثم الراقص في ليلة عرسك . ما رأيت المتنبي في حياتي جذلا ً هازئاً ساخراً كما أراه هذه اللحظات . قلت له : جميل منك يا صديق أن تحضر ليلة العرس ولكن كيف سترقص وأنت الرجل الوقور المحافظ والإسلام لا يسيغ الرقص والغناء ؟ قال سأرقص رقص الرجال الأشداء على القوم الظالمين ... سأرقص رقصة
[ العَرَضات ] بالسيف المعروفة في بلاد الحجاز ونجد . ضحكتُ ... ضحكتُ وأعجبني مرح الرجل ودعابته وسرعة َ خاطره فرأيت أن أسأله عن رقصة [ الدحّة ] البدوية أو [ الجوبية ] العراقية لكني أعرضتُ ولم أسالْ .
زرتُ بلاد [ شعلة السناء ] وطلبت مقابلتها في مقهى أو مطعم فإعتذرتْ . قالت إنها ليست من مرتادي المقاهي والمطاعم . بدل ذلك ، قالت ، تعالَ زرني في بيتنا وتعرّف ْ على أهلي فسيرحبون بك ضيفاً شرطَ أن لا تطرح نفسك عليهم خاطباً لإبنتهم . ماذا سأقول لهم إذا ً ؟ ما سبب هذه الزيارة التي تشبه الخيال ؟ قلْ لهم جئتُ أعرض على كريمتكم أمراً قد تقبلونه وقد ترفضون . قلْ لهم جئتُ أعرض عليها أن تختارَ لها زوجاً واحداً من إثنين : إما الشاعر العراقي المتنبي أو الشاعر والفيلسوف الألماني نيتشة ْ . قلت لها لكنَّ المتنبي مصاب بمرض جنون العَظمة وهو مَن قال ( أنا الذي بيّنَ الالهُ به الأقدارَ ... ) والفيلسوف مصاب بداء السفلس فأيهما تفضلين ؟ قالت أعوذ بالله من آفة السفلس ولم تزدْ . إستنتجتُ أنها لا تمانع من الزواج بالمتنبي طالما أنَّ علته نفسانية ، أما الآخر فالعلة في جسده ولا يصح ُّ ولا يتم الزواج إلا بالجسد . أثناء اللقاء معها في دار أبيها سألتها هل ترغب في أن تلتقي مع خطيبها الشاعر الكوفي المفترض ؟ قالت أين ؟ قلت في بلدي ... قالت كلا ، تعالَ معه لنلتقي في بلدي تحت سمع وبصر أبي وأمي . قلت لها ألديك مانع أن أتكلم معه خلال تلفونك النقال هذا ؟ ناولتني التلفون فتكلمتُ مع المتنبي وهي تصغي . مرحباً صاحبي ... حصلت الموافقة الأولية على ترشيحك خاطباً لشعلة السناء على أن تأتي إلى بلدها وتطلب يدها من أبيها كما تقتضي العادات والأصول والتقاليد . سأكون معك وفي صفك مدافعاً ومزكياً ونافياً عنك الكثير مما أُلصقَ بك من تهم وإفتراءات . صمتَ المتنبي على الطرف الآخر وكنت أسمع صوت تنفسه لاهثاً . بعد فترة قال مُجهداً : إنسَ الموضوع . لا حاجةَ لي بالزواج . زواج ٌ واحدٌ يكفي بشره وخيره . ثم ، فاتني سن الزواج . لم يزدْ . لم ينتظر ردي . قال تصبح على خير وأغلق التلفون

ليست هناك تعليقات: