الأربعاء، أبريل 02، 2008

من ذاكرة المُطلَق


سامي العامري

حديث مع رَبّة الشفاء


أيَّ الملائكِ ناديتُ ؟
ثُمَّ إذا الافقُ نهرٌ
فدائرةٌ من يخوتْ
يقولونَ : لا تحتجبْ
وامنَحِ الشوقَ فُرصةَ أنْ يجتبيكَ
وإيّاكَ إيّاكَ أنْ لا تموتْ !
وإياكَ أنْ لا تجوبَ المَعابِرَ
مُنْتَظِراً لحظةً آزِفهْ
تقولُ بها : يا مَدارُ ,
غيابي جوابٌ
على كُلِّ أسئلة العاصفهْ .

-----------

بعد صبيحة عاصفةٍ حيث كان نزلاء المستشفى مسرعين رغم عدم وجود سبب ظاهر وتحاياهم لبعضهم مقتضبة وحيث النافذة المغلقة يُسمع صريرُها رغم إحكام ثبوتها على جدار أبيض صلد , تنفَّس الجميع الصعداء إلاّ انا فقد كنت أتمنى الطيران مع العاصفة ولكني هدأتُ ما أن مضى الصباح وجاء إثرَهُ صباح آخر هو مَقدم الربة بينما انا أُهِمُّ بفتح النافذة .
قالت بمرحٍ : تقولون الهدوء يسبق العاصفة , ولكني أرى هدوءك بعد العاصفة !
قلتُ : لستُ الوحيد فالكل هكذا الآن رغم أنّ هدوئي اقترنَ بعدة أسئلة أثارها حديث عابر مع إنسان لطيف هنا قبل يومين .
انا في العادة لا أخاف باستثناء خوفي البشري الغريزي وقد تلاشى او خفَّ الكثير منه بتطويعي له ولكني مع ذلك فكرتُ قبل قدومك بأنه شيءٌ مخيف وكثيرُ العجب أن أشعر أنه من بين هذه المليارات العديدة من البشر لا يوجد فردٌ واحد , فردٌ واحدٌ يهمُّهُ أن يعرف ماذا سأفعل بعد ساعة مثلاً !
قالت الربة : مثير ! ولكنَّ إحساس الإنسان بالوقت في الغالب إحساس بليد واذا اهتمَّ به فعلاقته ستكون علاقةَ مُصالحة فَيُهمُّه مثلاً أن يعيش ويحسُّ لحظتَهُ ولا يهمه أن يعرف ماذا سيفعل هو بعد ساعة اذا لم يكن هناك اضطرار , وانت انت تطلب منه ...
وأضافت : انا أرى العكس , إنها حالة فريدة ومدهشة : كينونتك والمطلق !
او اذا حاذيتُ رأيك هذا , وأعني عجبك فإقول قد سمعتك تؤكِّد عدة مرات على عاطفة شرقية الخ ...
قلتُ : هذه العاطفة زائداً التجربة الشخصية زائداً ما قد أحمله من مثالية مُعيَّنة هي بعض ما يجعلني لا أحسَّ بحاجتي للناس مثل حاجة الناس الطبيعية لبعضهم البعض , وإنما أحس أحياناً بأني أحتاجهم لشيء آخر لا أدريه وكأني أريد أن أُنذِرَهم !
علقتْ وهي تبتسم : تحتاج الى توفيق بين قولين , ولكني سأفهمه بكونك تملك فيضاً حيوياً تخاف على نفسك منه !
قلتُ : شيئاً من هذا !
وأضفتُ : أترين ذلك الرجل الجالس الى طاولته ويشرب القهوة في الممر ؟
تعرفتُ عليه صدفةً هنا وكان هذا في غرفة الإستراحة , إنه روسي الجنسية , لديه عدة شهادات عليا وكان مساهماً في تأسيس شركة بناء في بلدهِ , كانت لها عدة فروع , منها فرع في بلدي الذي يقول أنه عاش فيهِ لفترة , والطريف أنه راح يصف لي مدناً من بلدي لم أرَها ! ففكَّ ارتباطه بهذه الشركة وهاجر قبل سنوات الى هنا مع رأس مال كبير نوعاً ما ولكنه تصرَّفَ بمالهِ كالمُغفَّل كما شبَّهَ نفسه لي , أي باختصارٍ حاول لوحده أن يناطح شركات عملاقة ! وعلى أية حال عاد قبل فترة من إجازة يومية تُمنح هنا عادة لبعض النزلاء عندما تتحسن صحتهم قليلاً فسألته مازحاً عن حال الناس والدنيا في الخارج فقال : وماذا تظن ؟ هل سيحصل انقلاب ؟ الناس هُم هُم ولم تتغير سوى الأزياء !
قلتُ : تتغير الأزياء خلال إسبوعين ؟
قال : نعم , والقلوب خلال إسبوع !
هذا الرجل لم يكتفِ بخمرة وطنه – الفودكا – وإنما اعتاد منذ سنة على مادة مخدرة كذلك أضاع عليها صحتهِ وبقية ماله وقد عاد هذه المرة الى هنا تحت تأثير تلك المادة فمُنِع من مغادرة المستشفى الى فترة يُقررها الطبيب .
الليلة قبل البارحة حكيتُ لهُ - جواباً على سؤاله - بعضَ الشيء عن نفسي , فعلَّق من بين ما علَّق قائلاً : روسيا تبقى تنتمي للشرق ثقافة وتأريخاً , هذا الدرس الأول الذي تعلَّمتُهُ هنا وبما أنك من الشرق فلا بدَّ أن تتخلَّى عن الكثير من جذورك لكي تعيش هنا ناجحاً على المستوى الإجتماعي والمادي أيْ أن تتناسى كل نزوع عفوي تمتلكه , هل هذه حكمة ؟ لا أدري .
هذه هي خلاصة ما قاله لي مع أني أعرفها منذ البداية وهي ليست حكمة كبيرة او جديدة ولا هي صحيحة مئة بالمئة ولكنها أشبه بالآثار التي تدعو للتنقيب والفضول المستمر وعلى هذا الأساس شكرتُهُ قاطعاً كلامي معه ورحتُ مفكراً بك وقائلاً لنفسي : هي وحدها تعرف الجواب !
سألتْ الربة باهتمامٍ : أي جواب ؟
قلتُ : عن الحرية التي كثيراً ما يُساء فهمها .
فسألتْ : وكيف تفهم الحرية ؟
أجبتُ : كتبتُ يوماً تعبيراً في السياق :

ومُطلَق اليدينِ في السجن
أفضلُ من مُقيَّدٍ وسط خِضمِّ الحياة .
---------

فعلَّقتْ : لكل حالة شرطُها المحدَّد في زمانه ومكانهِ ولكن الحرية لدى الإنسان توهُّجٌ أعماقيٌّ ومتى توفَّرتْ القوانين المدنية التي تحمي الإنسان وتراعي فطراتِهِ يُعبِّر هذا التوهج عن نفسهِ أحسن تعبير لذلك فقد يشعر به حتى السجين .
قلتُ : الحرية ظلتْ لغزاً كبيراً بالنسبة لي أمّا كتوهُّجٍ أعماقي داخلي حسب تعبيرك فكثيراً ما أحسستُ بها في أوج الإنغماس بالكتابة وفي الساعات التي أصبو فيها وكذلك مع الخمر وفي تأمل عمل فني مُعبِّر .
سألتْ : وبعد ؟
قلتُ : اذا كان لا بد من الحديث عن الجنس :

هاجسُ الرغبةِ مفتوحٌ على شتّىً
ولِلإنسانِ تركيزٌ على كلِّ القُطوفْ
فاذا ما كنتَ لا تقطفُ إلاّ الجزءَ في شَكٍّ
ففنّاناً ستبقى
وإذا ما كنتَ لا تُلقيَ إلاّ نظرةً حَيرى فانتَ الفيلسوفْ !

---------
ومع هذا أقول أحياناً بأن الفعل الإبداعي يلتقي مع الفعل الجنسي في ميزة هامة هي أن اللذة المتحصلة من كِلا الفعلين مبعثها خوفٌ من الموت , خوف يبدو خفيَّاً ولكني لدى التأمل الدقيق أجده واضحاً او لنقُلْ إنهما , الإبداع والجنس , مواجهة صريحة مع العدم واعتراف به !
عدا عن ذلك فالعملية الإبداعية تفترق عن الجنس في نقطة حاسمة وهي أنها دائمة التجدد والتحول أما الجنس فهو – كما أعتقد - ما زال على صورته منذ أن كان !
قالت الربة : اذا كنتَ تعني الجنس من دون حبٍّ فهو كذلك ومن ناحية أخرى اذا كان الفرد غير مُحصَّن روحياً وفكرياً بما يكفي فالأفضل له أن لا يتعمَّق بهذا النمط من التفكير لأنه يضخّمُ شعورَهُ بالحياء وبالتالي قد يزيد من اغترابه , ومن العبث لومُ قِوى الطبيعة لأنها في الوقت الذي اقترحتْ على الحياة هذا الشكل من أجل الإستمرار والذي لم تجد أنسب منه منحتْ الإنسانَ أيضاً مَلَكات كبيرة ومنها إمكانية أن يحس بهذا الحياء او الترفُّع , إذاً فواضحٌ أنَّ الإنسان كائن أسمى مما يبدو وهو مخلوق لسبب أبعد , وربما من حسن حظ الكثير من البشر أنهم لا يهتمون بهذا الأمر او لنقُلْ لا يفلسفونه !
هنا سألتُ : وماذا عن الحرية لديكم ؟
أجابت ببساطة : نحن لا نحتاج الى حرية !
لأنَّ الحرية مقترنة بالقيود وهذا ما لا نملكه وإنما نحن نعيش المطلق وهو فوق القيود , فوق الحريات ولكن اذا أردتَ فنحن نحبُّ الأحرار .
فأنشدتُ لها :

عقدتُ العزمَ أنْ أمضي
ولو حُرَّيتي بأواخرِ الأرضِ
وإنْ نبتتْ على دربي مغارةُ أفعوانْ
وإنْ كانت وراءَ البحر أُبحرُ
قائلاً : لا فرقَ ,
موجُ البحرِ بَرٌّ
والفنارُ ليَ العصا والصولجانْ
وأرضى باصطداماتِ العواصفِ لا السكونْ
وبالأعرافِ يردَعُها أتونْ
وأرضى بالهوى دونَ الهواءْ !
وكيفَ يفوتني موتٌ ؟
ومَن ذا يُغْضِبُ الشعراءْ ؟
على كتفي أُربِّتُ او على كتف الفؤاد , فإنهُ سِيّانْ
قد اشتبكتْ خيوطي
كاشتباكِ الجانْ !


---------------
(*) نصٌّ من كتاب يجمع بين القصِّ والنثر الأدبي والشعر يحمل عنوان : حديث مع ربة الشفاء .
----
alamiri84@yahoo.de


ليست هناك تعليقات: