زياد جيوسي
من شرفتي في عمان
بعدستي الشخصية
هو الصباح في عمان يشد بي الشوق لرام الله ودروبها وياسمينها وكل ما فيها، وكأن قدري أن ينازعني هوى عمان في رام الله وهوى رام الله في عمان، أجلس إلى شرفتي الصغيرة في بيتي العماني الفسيح وأفتقد فيه صومعة عشت فيها أحد عشر عاما، تركت في الروح ما تركت، وأفتقد أصدقاء وأحبة عايشوني تلك السنوات بحلوها ومرها، أتابع عبر البريد الالكتروني انطلاق مئوية تأسيس بلدية رام الله والاحتفالات التي ستنطلق اليوم، فأرى برام الله عروس تحتفل بعرسها في غيابي، فأستعيد ذكرى زواج ابنتي الوحيدة في عمان وأنا بعيد في رام الله لا أقدر أن أشاركها الفرح والبهجة.
بالأمس كنت ألتقي الأكبر من أبنائي الذكور بعد سنوات من الغياب، فآخر مرة التقيته فيها كانت بعد تخرجه من الجامعة الهاشمية وسفره للعمل مهندسا في أحد الأقطار العربية، حضر لنلتقي ولنحتفل بخطوبته على الفتاة التي أختارها عقله وقلبه، وفي المساء كنت أمارس هوايتي التي لا تفارقني بمتابعة معارض الفن التشكيلي، فحضرت المعرض الثالث منذ حضوري عمان في مركز "رؤى" ففي الأيام الأولى حضرت معرض الفنان السوري ناصر نعسان آغا "مقامات حلبية" والذي كان في آخر فترة العرض، وبعدها معرض للفنانة لمى حوراني "حجوم"، وفي الأمس كنت التقي مع الفنان التشكيلي العراقي إبراهيم العبدلي في معرضه الجميل "بين بغداد وعمّان والقدس"، فكان الفضل "لرؤى" أن أعيش أجواء اعتدت عليها منذ زمن، كما كان "للسكاكيني" الفضل في ذلك في رام الله.
عمان الهوى والطفولة والشباب والجمال تغيرت كثيرا، فحق لها أن ترخي "جدائلها فوق الكتفين"، أرقب بعيني الغائب المقارِنة بين ما كانت وبين ما أصبحت عليه عبر سنوات الغياب، فأرى عمان مدينة بدأت تتسيد المدن بجمالها وعمرانها، فامتدت إلى مساحات شاسعة على أراض كانت بورا، وأراض شهدت عيناي لها أنها كانت بيادر قمح وحبوب، وفي كل المؤسسات الرسمية التي راجعتها لانجاز معاملات رسمية وجدت التعاون والابتسامة والترحيب، فزاد ذلك من حبي لعمان وعشقي لها واعتزازي بها.
في الأوقات التي تمكن فيها أصدقائي الجميلون هنا من اختطافي من أفواج المهنئين والزوار، والتجول بي في أنحاء المدينة كنت أرى كل ما هو جديد، وفي الأيام الأولى حين ذهبت بمعية أصدقاء هم أقرب للروح من الروح، جلسنا في مقهى جفرا الجميل الذي أعادني بتصميمه وتركيبته وكل ما فيه إلى مقهى زرياب في رام الله، شعرت كم للروح الواحدة من تأثير على المدينتين، وحين تجولت برفقتهم في وسط المدينة مرورا بشارع الملك فيصل حتى المسجد الحسيني ومن هناك إلى شارع الملك طلال حتى جسر الحمام وعودة إلى مطعم هاشم الذي شكل عبر سنوات طويلة وما يزال أحد معالم وسط المدينة، كنت استعيد معهم ذكريات عمان القديمة المتمثلة بوسطها، والتغيرات النسبية التي حصلت على وسط المدينة وقلبها النابض، فكانت هذه الجولة الأجمل، ربما لأنها كانت جولة من قلب عشق المدينة يجول في قلبها، وفي لقاء آخر مع أصدقاء من اتحاد كتاب الانترنت العرب في مقهى عمون في العبدلي، كانت استعادة أخرى لروح عمان، وأما جولتي مع صديق طفولتي في أطراف عمان الشرقية واستعادة ذكريات أربعون عاما مضت فكان لها في الروح ما لها من تأثير.
وفي لقاء مع أصدقاء "جفرا" في الشميساني كنت أنتقل إلى جزء آخر يحمل روحا عمانية جديدة لم تكن في فترة إقامتي فيها، وإن تميزت دعوة غداء عائلية في مطعم بالقرب من جرش بميزة خاصة، فقد أخرجني صديقي محمد سناجلة من جو عمان إلى الأطراف والطبيعة في أحضان جرش التاريخ والرواية التي ما زالت تروي الحكاية التي رسمت فيلادلفيا، وفي ظل جو اسري حميم وحضور أطفاله المتميزين بخفة الروح والذكاء وتهامس الزوجات وربما "بنميمة" لم نسمعها قضينا نهارا ولا أجمل بين الطبيعة وأثار ما زالت شاهدة على تاريخ عريق، وفي هذه الأجواء لم يفارقنا صديقنا المشترك رقيق الروح الشاعر عبد السلام العطاري، فاتصلنا به هاتفيا لنشاركه فرحنا ولو من بعيد.
عمان حارة الأجواء هذه الأيام، ووجودي في عمان غير من برنامجي المعتاد في رام الله، فهي ضريبة الغياب الطويل والابتعاد عن أجواء الوحدة التي عشتها عبر تاريخ طويل، لكن الشوق لعمان يجعلني أشعر في كل وقت بالفرح ويدفعني لأن أجدد الأمل أن تشفى الوالدة وهي على سرير شفاؤها منذ شهور طويلة، وأشعر بالروح رغم كل ضعفها تتجدد في جسدها الذابل بتأثير المرض، فأجلس كل يوم بجوار سريرها أمازحها وأداعبها وأمنحها من روحي طاقة الابن الذي أذواه البعد والشوق والحنين.
هي عمان ترافقني هذه الأيام التي اقضيها في أحضانها، فتمازج بين هواها وهوى رام الله وبين حاضر وماض وذكريات العودة لعمان بعد حزيران والتي كنت أواصل حديث الذكريات فيها عبر الصباحات السابقة، وفي مساء الأمس وحين مغادرتي مركز "رؤى" فضلت السير على الأقدام مسافة طويلة، فالنسمات الناعمة وجمال الحي الذي يقع فيه المركز يغري على السير المنفرد إلا من روح الحبيبة، وتأمل هذه المباني الجميلة والأرصفة المزينة بالأشجار، فسرت مسافة تزيد عن الساعة لفت نظري فيها اهتمام أمانة عمان بأن تكون الأرصفة يمكنها أن تخدم ذوي الاحتياجات الخاصة، وهذه لفتة رائعة فهي جزء من مطالبتنا الدائمة لبلدية رام الله، فذوي الاحتياجات الخاصة جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع الواحد.
عدت بالذاكرة لعمان بعد حرب حزيران ونزوحنا لها من رام الله، حيث تنقلنا بين أكثر من بيت في أحياء عمان الشرقية بين النظيف والمريخ والدبايبة واليمانية، حتى استقر بنا المقام في جبل الأشرفية في بيت جميل وهادئ في بناية من عدة طبقات، وكان لي في هذا البيت شبه خصوصية وشرفة جميلة كنت أقضي أجمل الأوقات في قراءة الأدب والشعر والفلسفة، وبعد أن أكملت الأول إعدادي في إعدادية الأشرفية كنت قد نقلت إلى مدرسة صلاح الدين في حي الأرمن، وفي تلك الفترة كانت معركة الكرامة التي انتصرت فيها وحدة الجيش العربي والمقاومة على العدوان الإسرائيلي الذي ظن أنه جاء للنـزهة، فترك آلياته المدمرة وقتلاه في ساحة المعركة، وسحبت هذه الآليات إلى ساحة الأمانة في عمان، لنصعد إليها فرحين بنصر الله وعودة الروح بأول انتصار في مواجهة العدوان، وكان لي الاعتزاز أن أشارك بجنازة شهداء الكرامة من جنود ومقاومين، قدموا أرواحهم بكل شجاعة وإقدام في سبيل الوطن.
أجالس ذاتي التي تسكن ذاتي في نسمات عمان الناعمة في هذا الصباح، استمع لزقزقة العصافير التي تحط على دالية العنب وتطير، نسمات شمالية ناعمة، تذكّر لرام الله والياسمين والدروب العتيقة، فنجان قهوتنا أنت أنا كلانا كما اعتدنا فنجان قهوة واحد، فيروز تشدو لنا:
"يا من يحن إليك فؤادي، هل تذكرين عهود الوداد، هل تذكرين ليالي هوانا يوم التقينا وطاب لقانا، حين الوفا للأغاني تعالى، طاف الجمال على كل وادي، هل تذكرين غداة الورود حنت علينا وطاب السهود، كانت لنا في الغرام عهود صارت حديث الربى والشواطي، حين الوفا للأغاني دعانا طاف الجمال على كل وادي"
صباحكم أجمل.
بعدستي الشخصية
هو الصباح في عمان يشد بي الشوق لرام الله ودروبها وياسمينها وكل ما فيها، وكأن قدري أن ينازعني هوى عمان في رام الله وهوى رام الله في عمان، أجلس إلى شرفتي الصغيرة في بيتي العماني الفسيح وأفتقد فيه صومعة عشت فيها أحد عشر عاما، تركت في الروح ما تركت، وأفتقد أصدقاء وأحبة عايشوني تلك السنوات بحلوها ومرها، أتابع عبر البريد الالكتروني انطلاق مئوية تأسيس بلدية رام الله والاحتفالات التي ستنطلق اليوم، فأرى برام الله عروس تحتفل بعرسها في غيابي، فأستعيد ذكرى زواج ابنتي الوحيدة في عمان وأنا بعيد في رام الله لا أقدر أن أشاركها الفرح والبهجة.
بالأمس كنت ألتقي الأكبر من أبنائي الذكور بعد سنوات من الغياب، فآخر مرة التقيته فيها كانت بعد تخرجه من الجامعة الهاشمية وسفره للعمل مهندسا في أحد الأقطار العربية، حضر لنلتقي ولنحتفل بخطوبته على الفتاة التي أختارها عقله وقلبه، وفي المساء كنت أمارس هوايتي التي لا تفارقني بمتابعة معارض الفن التشكيلي، فحضرت المعرض الثالث منذ حضوري عمان في مركز "رؤى" ففي الأيام الأولى حضرت معرض الفنان السوري ناصر نعسان آغا "مقامات حلبية" والذي كان في آخر فترة العرض، وبعدها معرض للفنانة لمى حوراني "حجوم"، وفي الأمس كنت التقي مع الفنان التشكيلي العراقي إبراهيم العبدلي في معرضه الجميل "بين بغداد وعمّان والقدس"، فكان الفضل "لرؤى" أن أعيش أجواء اعتدت عليها منذ زمن، كما كان "للسكاكيني" الفضل في ذلك في رام الله.
عمان الهوى والطفولة والشباب والجمال تغيرت كثيرا، فحق لها أن ترخي "جدائلها فوق الكتفين"، أرقب بعيني الغائب المقارِنة بين ما كانت وبين ما أصبحت عليه عبر سنوات الغياب، فأرى عمان مدينة بدأت تتسيد المدن بجمالها وعمرانها، فامتدت إلى مساحات شاسعة على أراض كانت بورا، وأراض شهدت عيناي لها أنها كانت بيادر قمح وحبوب، وفي كل المؤسسات الرسمية التي راجعتها لانجاز معاملات رسمية وجدت التعاون والابتسامة والترحيب، فزاد ذلك من حبي لعمان وعشقي لها واعتزازي بها.
في الأوقات التي تمكن فيها أصدقائي الجميلون هنا من اختطافي من أفواج المهنئين والزوار، والتجول بي في أنحاء المدينة كنت أرى كل ما هو جديد، وفي الأيام الأولى حين ذهبت بمعية أصدقاء هم أقرب للروح من الروح، جلسنا في مقهى جفرا الجميل الذي أعادني بتصميمه وتركيبته وكل ما فيه إلى مقهى زرياب في رام الله، شعرت كم للروح الواحدة من تأثير على المدينتين، وحين تجولت برفقتهم في وسط المدينة مرورا بشارع الملك فيصل حتى المسجد الحسيني ومن هناك إلى شارع الملك طلال حتى جسر الحمام وعودة إلى مطعم هاشم الذي شكل عبر سنوات طويلة وما يزال أحد معالم وسط المدينة، كنت استعيد معهم ذكريات عمان القديمة المتمثلة بوسطها، والتغيرات النسبية التي حصلت على وسط المدينة وقلبها النابض، فكانت هذه الجولة الأجمل، ربما لأنها كانت جولة من قلب عشق المدينة يجول في قلبها، وفي لقاء آخر مع أصدقاء من اتحاد كتاب الانترنت العرب في مقهى عمون في العبدلي، كانت استعادة أخرى لروح عمان، وأما جولتي مع صديق طفولتي في أطراف عمان الشرقية واستعادة ذكريات أربعون عاما مضت فكان لها في الروح ما لها من تأثير.
وفي لقاء مع أصدقاء "جفرا" في الشميساني كنت أنتقل إلى جزء آخر يحمل روحا عمانية جديدة لم تكن في فترة إقامتي فيها، وإن تميزت دعوة غداء عائلية في مطعم بالقرب من جرش بميزة خاصة، فقد أخرجني صديقي محمد سناجلة من جو عمان إلى الأطراف والطبيعة في أحضان جرش التاريخ والرواية التي ما زالت تروي الحكاية التي رسمت فيلادلفيا، وفي ظل جو اسري حميم وحضور أطفاله المتميزين بخفة الروح والذكاء وتهامس الزوجات وربما "بنميمة" لم نسمعها قضينا نهارا ولا أجمل بين الطبيعة وأثار ما زالت شاهدة على تاريخ عريق، وفي هذه الأجواء لم يفارقنا صديقنا المشترك رقيق الروح الشاعر عبد السلام العطاري، فاتصلنا به هاتفيا لنشاركه فرحنا ولو من بعيد.
عمان حارة الأجواء هذه الأيام، ووجودي في عمان غير من برنامجي المعتاد في رام الله، فهي ضريبة الغياب الطويل والابتعاد عن أجواء الوحدة التي عشتها عبر تاريخ طويل، لكن الشوق لعمان يجعلني أشعر في كل وقت بالفرح ويدفعني لأن أجدد الأمل أن تشفى الوالدة وهي على سرير شفاؤها منذ شهور طويلة، وأشعر بالروح رغم كل ضعفها تتجدد في جسدها الذابل بتأثير المرض، فأجلس كل يوم بجوار سريرها أمازحها وأداعبها وأمنحها من روحي طاقة الابن الذي أذواه البعد والشوق والحنين.
هي عمان ترافقني هذه الأيام التي اقضيها في أحضانها، فتمازج بين هواها وهوى رام الله وبين حاضر وماض وذكريات العودة لعمان بعد حزيران والتي كنت أواصل حديث الذكريات فيها عبر الصباحات السابقة، وفي مساء الأمس وحين مغادرتي مركز "رؤى" فضلت السير على الأقدام مسافة طويلة، فالنسمات الناعمة وجمال الحي الذي يقع فيه المركز يغري على السير المنفرد إلا من روح الحبيبة، وتأمل هذه المباني الجميلة والأرصفة المزينة بالأشجار، فسرت مسافة تزيد عن الساعة لفت نظري فيها اهتمام أمانة عمان بأن تكون الأرصفة يمكنها أن تخدم ذوي الاحتياجات الخاصة، وهذه لفتة رائعة فهي جزء من مطالبتنا الدائمة لبلدية رام الله، فذوي الاحتياجات الخاصة جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع الواحد.
عدت بالذاكرة لعمان بعد حرب حزيران ونزوحنا لها من رام الله، حيث تنقلنا بين أكثر من بيت في أحياء عمان الشرقية بين النظيف والمريخ والدبايبة واليمانية، حتى استقر بنا المقام في جبل الأشرفية في بيت جميل وهادئ في بناية من عدة طبقات، وكان لي في هذا البيت شبه خصوصية وشرفة جميلة كنت أقضي أجمل الأوقات في قراءة الأدب والشعر والفلسفة، وبعد أن أكملت الأول إعدادي في إعدادية الأشرفية كنت قد نقلت إلى مدرسة صلاح الدين في حي الأرمن، وفي تلك الفترة كانت معركة الكرامة التي انتصرت فيها وحدة الجيش العربي والمقاومة على العدوان الإسرائيلي الذي ظن أنه جاء للنـزهة، فترك آلياته المدمرة وقتلاه في ساحة المعركة، وسحبت هذه الآليات إلى ساحة الأمانة في عمان، لنصعد إليها فرحين بنصر الله وعودة الروح بأول انتصار في مواجهة العدوان، وكان لي الاعتزاز أن أشارك بجنازة شهداء الكرامة من جنود ومقاومين، قدموا أرواحهم بكل شجاعة وإقدام في سبيل الوطن.
أجالس ذاتي التي تسكن ذاتي في نسمات عمان الناعمة في هذا الصباح، استمع لزقزقة العصافير التي تحط على دالية العنب وتطير، نسمات شمالية ناعمة، تذكّر لرام الله والياسمين والدروب العتيقة، فنجان قهوتنا أنت أنا كلانا كما اعتدنا فنجان قهوة واحد، فيروز تشدو لنا:
"يا من يحن إليك فؤادي، هل تذكرين عهود الوداد، هل تذكرين ليالي هوانا يوم التقينا وطاب لقانا، حين الوفا للأغاني تعالى، طاف الجمال على كل وادي، هل تذكرين غداة الورود حنت علينا وطاب السهود، كانت لنا في الغرام عهود صارت حديث الربى والشواطي، حين الوفا للأغاني دعانا طاف الجمال على كل وادي"
صباحكم أجمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق