الأربعاء، أبريل 30، 2008

صباحكم أجمل \ زهرة الجنوب


زياد جيوسي
من حديقة "رؤى" في عمان
بعدستي الشخصية


كان من المفترض أن أكون في صباح اليوم متجها إلى رام الله، عائدا إليها بعد شهر من الغياب، لكن مجمل مستجدات أخرت من عودتي إليها، أطالت من لقائي عمّان الهوى، رام الله معي أحملها في كل زاوية من عمان، أزرعها ياسمينة وهوى، أجول كلما أتيح لي الوقت في أنحاء المدينة التي اتسعت بشكل كبير، لكن عماننا التي عشقنا وعرفنا منذ الطفولة ما زالت تمتلك الكثير من سمات الماضي الأقرب، وليس الماضي الأبعد الذي عشناه في طفولتنا، وعبق عمان القديمة ما زال في كثير من الزوايا، ففي زيارة لأسرة رائعة بمناسبة عيد الفصح كانت ماركا تهمس لي كما كانت في تلك الفترة من سبعينات القرن الماضي، فما زال دوار المطار فيها يعج بالمتنـزهين والراغبين في السير، وما زالت حركة المشاة تعج بالطريق الواصل بين الدوار والمشفى العسكري القديم، فأعادتني الذاكرة إلى تلك الفترة من أواخر ستينات القرن الماضي وأوائل السبعينات، حين كنا في بداية الشباب وأواخر الطفولة ونذهب للتجوال هناك، فقد كانت المنطقة التي أتحدث عنها من المطار والدوار حتى المشفى العسكري، قبلة للمتنـزهين والراغبين بالتجوال في منطقة تعج بالحياة، فبعد المشفى العسكري بمسافة ليست بالطويلة كانت حدود عمان، وحين انتهاء الزيارة تجولت بالسيارة في وسط المدينة وشوارعها، وأجزم لو أني من كان يسوق لكنت صيدا سهلا لرجال شرطة السير المنتشرين في كل أنحاء المدينة رغم الوقت المتأخر، فمعظم الشوارع قد تغيرت اتجاهاتها وما تبقى في الذاكرة فهو كيف كانت حين غادرتها قبل أحد عشر عاما من الزمن، لكني كنت اشعر بالنشوة وأنا أنظر الأمكنة وأستذكر الكثير من الذكريات فيها، وإن طال التغير النسبي الكثير من الساحات والأبنية، ولم تعد عمان تلك المدينة الهادئة ليلا، بل أصبحت تعج بالحركة في كل الأوقات، مما أفقدها الكثير من السمات التي عايشناها وعشقناها فيها، هي سنة الحياة والتغير والتطور، لكن آمل أن يكون التغير في المراحل القادمة يحافظ على روح المدينة في قلبها وحشايا القلب، حتى تبقى لعمان نكهتها التي عرفناها ونقلناها لأبنائنا وأحفادنا.
من أجمل الجلسات في الفترة الأخيرة هي جلسة حوار أدبي جميل جمعتني وصديقي د. أسامة المجالي، فقد اختطفني من بيتي وتجولنا سيرا على الأقدام لوقت طويل، ومن ياسمينة متعربشة على سور منـزل، اقتطف لي بعض من أوراقها ووردة جورية وقال لي: كي لا تفتقد الياسمين يا عاشق ياسمين رام الله، فحدثته عن أنواع ياسمين رام الله وأصولها مستذكرا ما كتبه صديقي الجميل د. تيسير مشارقة عن ياسمينها، كل هذا قبل أن نستقر على مقهى الفاروقي الشهير، المتميز بقهوته وقطع البسكويت المعجونة بالقهوة، والتي تقدم بجوار فناجين القهوة، والفاروقي بفرعيه في جبل الحسين وشارع الثقافة في الشميساني، له في الذاكرة ما له إبان إقامتي في عمان، ففي فرع جبل الحسين كنا نلتقي مجموعات الأصدقاء نتحدث بالأدب والفن والسياسة، وفي فرع الشميساني كنا نلتقي أصدقاء ندوات مؤسسة شومان، فما أن ننتهي من الندوة الأسبوعية، إلا ونتجمع لمواصلة الحوار في فاروقي الشميساني، أو نلتقي في تلك الفترة في مجمع النقابات الذي كان قلب الحركة السياسية في مرحلة ما قبل الديمقراطية وترخيص الأحزاب، وكان المجمع يشهد ندوات أدبية ومعارض فنية ونشاطات كثيرة، وكنا نتنقل ما بين الفاروقي وما بين المجمع، لذا كان لجلستي الجميلة مع د. أسامة ما لها من إثارة الذاكرة وجمالها، إضافة لجمال الحوار الأدبي والثقافي، فهو يكتب الكثير عن الذاكرة وهذا ما يشد من أواصر الصداقة بيننا، إضافة لأصدقاء مشتركين لهم عنده وعندي كل جمال وذكرى طيبة، ومساء الأمس كنت سعيدا بلقاء في مركز "رؤى، لبعض المهتمين الذين دعتهم السيدة سعاد مديرة المركز، من أجل المشاركة بالفكرة والعمل من أجل انجاز معرض يضم المقتنيات التي تعود لما قبل الهجرة من فلسطين اثر النكبة، مما جعلني أعتز بهذا النشاط وهذا الاهتمام، وتحويل الذكرى إلى شواهد تؤكد حق العودة.
ما أن أجلس إلى حاسوبي وقلمي في شرفتي المغطاة بأوراق دالية العنب، إلا وتكون رام الله هي الحاضر الأكبر، وفي كل جلسة مع أصدقائي تكون رام الله لها حصة الأسد من الحديث، ويكون لأصدقاء الصومعة الدائمين حضور طاغ أيضا، فترافقني مقاطع من دوثان للعطاري الجميل، وبعض من ترانيم أميرة السراب للدكتور هاني الحروب، ولا بد من تذكر الجميل جميل حامد وزاويته على الطاير، وجلساتنا تحت شجرة الجوز وأضواء ساحل يافا المغتصبة تواجهنا، وزياد خداش ونساءه الغريبات في قصصه المتميز والخارج عن المألوف، وأصدقاء الصومعة من الجزء الأقدم بالاحتلال عام 1948، وأصدقاء غزة المحاصرين بين الحديد والدم والجوع، كل ذلك يرافقني وأنا أتابع ما يستجد في رام الله يوميا بشكل خاص، والوطن بشكل عام، وغزة زهرة الجنوب التي تقدم الشهداء كل يوم وتعاني الحصار والقتل والجوع، والتي قدمت أما وأبنائها الأربعة بمجزرة واحدة على درب الحرية، ومنذ أيام كانت رام الله والبيرة وبيتونيا تتعرض للاقتحامات والعبث والتخريب، في نفس الوقت الذي تصر فيه أن تجعل من الثقافة والفن وسيلة من وسائل المقاومة واستمرار الحياة، فتحتفل بلدية رام الله بمرور مائة عام على تأسيس البلدية، وتحتفل سرية رام الله بالمهرجان السنوي الثالث للرقص المعاصر، ويشهد القصبة والسكاكيني والثقافي الفرنسي الألماني العديد من الفعاليات، وكالعادة أيضا لا يخلو الأمر من هجوم على المهرجانات ممن لا يروق لهم ذلك، متناسين أننا ومنذ ستون عاما ونحن نقاوم الاحتلال، وفي كل يوم هناك مجزرة يرتكبها الاحتلال، يوميا ينـزرع في الأرض شهداء كالسنديان، يوميا تسيل الدماء الطاهرة، وفي نفس الوقت لم نتوقف عن الفرح، ولم نتوقف عن خلق الحياة من قلب الموت والدمار، ولم نتوقف عن زرع الزيتون واللوز الأخضر، وكان الفن والفرح عبر هذه السنوات وقبلها في فترة الانتداب البريطاني، جزء لا يتجزأ من حياتنا، وأن الثقافة والفن كانت وما زالت بعض من وسائل المقاومة والمحافظة على الحياة.
هي عمان ترافقني ورام الله والذكريات، ففي تجوالي في عمان تقفز دوما صورة عمان التي عدت لها بعد هزيمة حزيران من رام الله، ففي تلك الفترة كانت حدود عمان الغربية هي القصور الملكية ما بين الدوار الثالث والدوار الرابع الذي لم يكن موجودا بتلك الفترة، وكان آخر ما في الذاكرة بناء كان يعرف باسم قصر الطباع أو الصباغ، فالذاكرة لا تذكر بدقة، وكان مبنى مميز بجماله والفسيفساء التي ترصع لوحة على جداره، وفي مرحلة لاحقة بني قصر الشريف الذي أصبح فيما بعد مقرا لرئاسة الوزراء، والطريق من هناك حتى معهد وكالة الغوث في وادي السير كانت خالية من السكان، وفي غالبيتها بيادر للقمح والشعير والعدس، وكانت منطقة البيادر في وادي السير تحمل اسم البيادر نسبة لبيادر القمح، فالمنطقة سهلة ومشرفة تصلح لزراعة القمح، وأما بلدة وادي السير فقد كانت في الوادي الواقع خلف معهد التدريب، ومن ناحية جبل الحسين فقد كانت حدود المدينة ما عرف باسم دوار فراس لاحقا، نسبة للشهيد الطيار فراس العجلوني، ومن هناك حتى بلدة صويلح كانت أراض مزروعة أو جبال صخرية، ولم تبدأ حركة البناء على هذا الشارع الذي بنيت فيه الجامعة الأردنية إلا متأخرة، فالجامعة كانت في بداية عهدها تعتبر بعيدة، واذكر أنه في عام 1969 أو 1970 أن الثلوج هطلت بغزارة، فعزلت الجامعة عن العالم الخارجي، وقامت آليات الجيش العربي بشق الطريق لفك الحصار الثلجي عن الجامعة، والإفراج عن المحاصرين من الثلج الأبيض، وأذكر صورة للمرحوم الملك حسين وهو يقفز عن آلية مجنـزرة أمام بوابة الجامعة، نشرت بالصحافة آنذاك وان لم تخني الذاكرة فقد كانت منشورة في صحيفة الدفاع، أما حدود عمان الجنوبية فلم تكن تتجاوز مقبرة الشهداء، والتي كانت تعتبر بعيدة عن العمران بتلك الفترة، وفي الشرق كان جبل النصر هو أقصى امتداد لعمان، بينما الآن أعجز عن وصف امتداد عمان واتساعها بكافة الاتجاهات، هذا الاتساع الذي لم يترك من أراض كانت تقينا غائلة الاستيراد شيئا.
صباح آخر من صباحات عمان، أجالس شرفتي ودالية العنب وحيدا مع فنجان قهوة، أستذكر أحبة يسكنون القلب والروح رغم الغياب، أحلام ترف في صباحي مع كل رشفة قهوة، أشعر بالحنين والشوق المتجدد، أستمع لشدو فيروز:
"اسوارة العروس مشغولة بالذهب وأنت بقلوب يا تراب الجنوب، رسايل الغياب مكتوبة بالذهب وأنت بالعز مكتوب يا تراب الجنوب، وبتولع حروف وبتنطفي حروف وبتظلك حبيبي يا تراب الجنوب".
صباحكم أجمل.

ليست هناك تعليقات: