الخميس، مارس 11، 2010

الشعر العامي/الشعبيّ، ميزاته, فنونه ونوادر شعرائه

د. حبيب بولس
بداية أشير الى انه منذ كانت اللغة العامية كان الشعر الشعبي أو الزجل. فالشعر الشعبي وليد العامية والشعرية في ان معا. هو شعر أنشده الزجّالون ورواه الرّواة وحفظ في ذاكرة الناس قرونا عديدة, ولم يحظ باهتمام او تدوين الا في ايام الاندلس, حيث هناك وجد المناخ المناسب كفن شعري فأكثر فيه الاندلسيون نظما وقرضا وتصنيفا, ويكفينا في هذه العجالة الاشارة الى شاعره الكبير "ابن قزمان".
وان كان الاندلسيون يعتبرون السباقين في هذا المجال, الا اننا لا نعرف شعبا كالشعب اللبناني عنده ثروة ضخمة وفنون متعددة من الوان الشعر الشعبي. ولعل في طبيعة لبنان الساحرة, وفي لغته العامية المموسقة الطيّعة يكمن سر انتشار وازدهار هذا اللون.
و "لئن كان الشعر الشعبي نتيجة طبيعية لظهور اللغة العامية, فانه من الثابت ان تطوره في لبنان كان ب
تأثير الألحان السريانية الكنسية" (1). و "لما كانت جبال لبنان قاب قوسين أ


أدنى من جبال الجليل كان الطقس الزجلي الذي يظلّل لبنان ويظلّلنا واحدا" (2).
فالحداء أو الزجل في فلسطين كما في لبنان فن قديم أيضا وشاهدنا على ذلك تلك الأشعار الشعبية التي شكّلت شواهد على أحداث تاريخية مهمة منذ أيام الجزار والظاهر عمر وغيرهما.
ونحن اذا تقصينا شعراء هذا اللون الشعري في لبنان وفلسطين منذ ار هاصاته الأولى ولغاية الان تفجأنا قائمة طويلة. وكي نتعرف على ألمع الزّجالين في البلدين ما علينا الا أن نعود الى خمسة كتب تناولت الشعر الشّعبي بالبحث والتأريخ هي: كتاب منير الياس وهيبة, وكتاب أمين القاري, وكتاب سعود الأسدي, وكتاب مارون عبود, وكتاب جبور عبد النور (3).
ومع أن هذا اللون الشعري تخطى حدود لبنان وفلسطين الى سائر الأقطار العربية كالعراق ومصر وغيرهما الا أننا هنا سنعرض عن هذا اللون في الأقطار العربية الأخرى- ذلك لأن لكل قطر مناخا خاصا به وميزات تختلف عن شعرنا الشعبي وتبعده عن ذائقننا الأدبية, فصوره مستمدة من واقع كل قطر وحياة أبنائه. ومع ما فينا من مشترك الا أن المختلف قائم والفوارق كثيرة تجعل استساغتنا بعيدة صعبة.
مع تطور الحياة وتزايد الوعي تطور شعرنا العامي وازداد الاقبال عليه والحرص على توثيقه. فالزجل اليوم يتناول جميع أغراض الشعر الفصيح من غزل ومدح, ورثاء, وحكمة, وحماسة, وهجاء, وفكاهة, ومسرحيات, وملاحم. كما أنه يطال جوانب الحياة جميعها ويعكس الأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومع تطوره صار فنا قائما بذاته له ما يميّزه عن الفصيح. اذ له تعابيره وصوره واستعاراته ورجاله, وخياله وتشبيهاته وكناياته, وبديعه, وأوزانه, وعروضه, وأساليبه.
ونحن هنا لن يكون في وسعنا الالمام بكل جوانب هذا اللون الشعري ذلك لأنه بحر واسع كبير متعدد الجوانب والأبعاد. ولكننا سنحاول أن نقف على بعض خصائصه التي تعطيه فرادة وتميزا وتفردا. ومن هذه الخصائص:
1. الأوزان
من المعروف أن شعرنا الرسمي-الفصيح التزم الوزن الواحد والقافية الواحدة الى ان جاء الموشح فكسر رتابة هذا الوزن وانطلق ينوع في الاوزان والقوافي. وما الزجل سوى موشح ولكنه نظم بالعامية, وكما نظم الموشح أصلا للغناء هكذا نظمت الزجلية أيضا. لقد تتبع الباحثون قصائد الزجل قديمها وحديثها أعني تتبعوا أوزانها وأنظمة تقفيتها فوجدوا أنها تشترك مع القصائد الفصيحة في بحور معينة وتختلف عنها في أخرى. وأرى من المفيد هنا أن أسجل ولو بشكل طائر هذه الاوزان التي درج عليها شعرنا الشعبي وامتنع عن سياق النماذج, ذلك لأنها موجودة في الكتب المشار اليها سابقا (4).
ان معظم شعرنا العامي نظم حسب البحور التالية:
• البحر الأسواني.
• البحر المتساوي.
• البحر المتوسط.
• البحر المتقارب.
• البحر المزدوج.
• البحر المتفاوت.
• البحر المتناهي.
• البحر السريع.
• البحر البسيط.
• البحر اليعقوبي.
• البحر الوفائي.
• البحر المتوازي.
• البحر الكامل*.
2. أنواع الشعر الشعبي وفنونه
ومثلما تنوعت بحور هذا اللون الشعري, تنوعت فنونه أيضا, فكان من أشهرها:
• العتابا: وهي مأخوذة من العتاب أي العتب بمعنى الموجدة. ويروي بعضهم حكاية شعبية حول "العتابا" تقول (5): ان فلاحا كان يقيم في جبل الأكراد وكانت له امرأة جميلة اسمها "عتابا", راها اقطاعي المنطقة, فأحبها وانتزعها من زوجها, ولما لم يكن الفلاح يستطيع استردادها منه, أو كتمان غيظه, أو نسيانها, هجر قريته, وما زال ينتقل من مكان الى اخر حتى استقر به المطاف في عكّار في شمالي لبنان, وفي غمرة ألمه غنّى:
"عتابا بين بَرمي وبين لَفتي
عتابا ليش لغيري ولَفْتِي
أنا ما روح للقاضي ولا افتي
عتابا بالثلاث مطلّقا"
ولعل العتابا تعتبر من أهم فنون الشعر الشعبي وأحبه على الناس وذلك لما يلازم هذا الفن من الكثير من العواطف والحب الى جانب العتاب, نظرا الى الهوة التي تفصل عادة بين أمل المحب والواقع, أو الى شدة اهتمام المحب بمن يحب. ولذلك تحتل العتابا مكانة بارزة في الاغنية الشعبية عندنا, التي تدور على قاموس الحب المؤثث بالعذول, والعتاب, والصدود, والوصال والسهر والأرق, والحنين, والشوق, واللهفة والقلق, الخ... وما يجعلها محببة أيضا كونها تقوم على فن الجناس, وعلى الايجاز, وعلى حشرها لقصة صغيرة أو معنى جميل في بيتين. وبيت العتابا يتكون من بيتين أو من أربعة أشطر الثلاثة الأولى قافيتها مجنسة والرابع ينتهي عادة بالباء الساكنة المسبوقة بالألف أو بالفتحة. أما أوزانها فأربعة هي: المتناهي (18 مقطعا), السريع وهو الغالب (20 مقطعا), البسيط (22 مقطعا) واليعقوبي (24 مقطعا).
والنماذج على العتابا كثيرة جدا نختصر منها ما يلي بهدف التدليل:
أ‌- المرج ع خمرها سكّر نباتو
نسي ع شفافها سِكَّر نباتو
السبع لما شافها سكّر ناباتو
لأنُّو العين سِطْيِتْ عَالنياب
(بطرس ديب)
ب‌- جمال السحر من عينك مين يجيب
بَعَتنا كتاب ما لقينا مين يجيب
اغنجي ولا تلبسي الا ميني جيب
الدهب للعين أغلى من الثياب
(موسى زغيب)
ردّ عليه أحدهم فقال:
مين يجيب بِرِقّة وْرِقّتين
وبدل الورقة بمضيلك وَرَقتِين
حوا الماضية لبست ورق تين
منيح البنتها لبست ثياب
ت‌- ناوي على ايدين حبّك انتشي
ونشوان فيكي وبعد بدي أنتشي
الحلوين كلن شي بعيني, وانتي شي
يا أجمل وأحلى ما صوّر ربّنا
(أسعد سعيد)
ث‌- اغمزيني بجاوبك بال (يس) بال (وي)
ارقصي برقص والوي الخصر بلوي
واذا قالو هوى الحلوين بَلْوِي
ابعتولي ألف بَلْوِي عالحساب
ج‌- يا دنيا ما غراني كثر مالك
ولا لفتة عبلة بنت مالك
واللي كان برّ وبحر مالك
طلعت حصّتو حفنة تراب
(أبو سعود)
• الميجنا: اختلف الدارسون في المصدر الذي جاءت منه كلمة ميجنا. هنالك من قال: جاءت من يا ما جانا- ما أكثر ما جاءنا- (مارون عبود) وهنالك من يقول انها من عبارة يا ماجنة- ايتها العابثة المستهترة- (لحد خاطر), او من اللفظة السريانية الارامية "نجن" بمعنى اللحن والغناء (انيس فريحة). او من عبارة يا ما جنى- ما اكثر ما ظلم- (انطوان طوق). ام انها اسم لابنة امير كان اسمها "ميجنا". (انطوان عكاوي) (6) الخ... من هذه الاجتهادات. مايهمنا معرفته هنا ان الميجانا توأم للعتابا, لذلك تحتل هي الاخرى مكانة بارزة في الاغنية الشعبية عندنا. وبنيتها تبدأ بمطلع أي بيت شعريّ شطره الاول: يا ميجنا, يا ميجنا, وعجزه جملة تامة. بمعناها, مستقلة. في هذا المعنى عمّا بعدها. على أن تنتهي بالمقطع الصوتي (نا), وهي تتركب من (12 مقطعا). امّا البيت فهو أشبه ببيت العتابا, مؤلف من بيتين شعريّين كل واحد منهما مؤلف من شطرين الرابع ينتهي بلفظة (ن) أما نهاية الأشطر الثلاثة الأولى فنوعان:
1. مجنسة وهو الشائع.
2. مقفّاة دون تجنيس.
والميجانا كالعتابا عليها نماذج كثيرة نقتطف منها ما يلي:
أ‌- يا ميجنا, يا ميجنا, يا ميجنا
يحيا الزمان اللي جمعنا وْلَمِّنا
يا بنت عشر سنين شعرك جدلي
واحكي المزح للغير خلي الجدّ لي
لو تعلمي بغيابكن شو جدّ لي
مجنون ليلى ما تعذب قدنا
(أدوار حرب)
ب‌- بْغَمْزات عينيكي عْلّيي اجهزي
وْنَقِّي لَعُرْسِك من فؤادي أَجْهِزِة
بِمْخَابَرات الحب عندك أجْهِزِة
عَمْ يِسْهَرُوا تَ يُقُبْضُوا عْليّي أنا
(جورج خليل)
ت‌- لو طار عمري وصار جسمي بالبلي
وْعملوا بْمَوْتِي الناس فوضى وْبَلْبَلِة
وِسْمِعْت حدّ القبر نغمة بُلْبُلي
بْشُقِّ الكفن وبْقُوم من طيِّ الفنا
(جورج خليل)
ث‌- جروح قلبي من الليالي وَزَّمِن
وكَلُّو من جور الليالي والزّمنْ
النار ال في قلبي يا عشيري وَزَّمَن؟
غير التباعد والتجافي الْبَيْنَنا
(توفيق الريناوي)
• الموشّح: شبيه بنظام الموشح الأندلسي الفصيح ومثاله:
ضاق البحر حواليكي وما استرجى هاجْ
لما شاف بعينيكي بحر بلا مواجْ
قلتِلك يا حورية قلبي موجوعْ
قسيتي وعبستي فِيِّي وقِلتي ممنوعْ
كُنَّا نْمُرّ بْحِنِيِّة نْزَمِّر عَالْكوعْ
صار يْمَرِّك عَالميِّة الكيلو متراجْ
ألف اسم الله حْواليكي ما فيكي لَوْ
وْلَوْلا لَمْبِة خدَّيْكِي ما طلِّ الضَّوْ
وْلَو صَوَّبْتِي عَيْنَيْكي عاسْلاح الْجَوْ
بِتْنِخ تْبَوِّس دَيْكي رْفوفِ الْمِيراجْ
(بطرس ديب)
• المعنّى: سريانية وتعني المغنى أي أغنية. وهو أنواع عديدة منها: العادي, والقصيد, والموشح والمجنس. العادي يتألف من مطلع ودور والمطلع بيتان, قافية الصدر وعجزه في الاول وقافية البيت الثاني واحدة, أمّا قافية صدر الثاني فحرّة.
والقصيدة أنواع: الأول يتألف من عدة أبيات, قافية صدر البيت الأول, وقافية عجزه وقوافي أعجاز الأبيات الأخرى واحدة, أما قافية صدر البيت الثاني وما يليه فواحدة وغالبا ما تكون هناك خرجة قافيتها حرة. ولكن قافية البيت الأخير من القصيدة تعود الى القافية العامة.
والنوع الثاني تكون فيه قافية الصدور جميعها واحدة, وقافية الاعجاز واحدة أيضا. أما مْعَنَّى الجناس فيتألف من عدة أبيات, قافية صدر البيت الاول وبقية الأعجاز واحدة. وصدور الأبيات التي تلي هي عبارة عن لفظة متشابهة في اللفظ مختلفة في المعنى, اما قافية عجز البيت الأخير, فتعود الى القافية العامّة.
من المعنّى اخترت النماذج التالية:
أ‌- يا جارتي بالحب وِلْيالي الهوى
يا ريت فينا بهالعمر نبقى سوى
بذكر وقت ما الخصر عازندي التوى
وخمر الدمع من كاس عينيكي كوى
من يومها قلبي على حبك نوى
وبين السعادي عشت عمري والنوى
تاصِرت اسمع صوتك بنبض الحياة
والمح خيالك كل ما هب الهوى
(أنطوان عكاوي)
ب‌- عاخدود ليلى شفت للتموين سوق
قهوي وحليب وقشقوان ولبن نوق
خدودها عزمو شفافي عالغدا
صرخت سهام العين, شِم ولا تدوق
(زين شعيب)
ت‌- يا دير يا مهجور شو عندك اخبار
الاجيال عاشبابيك السمرا غبار
حتى الجرس والحبل نسّل واهترى
والعشب عاسطحك نبت داير مدار
وبالعنكبوت مْلَتّمي حروف الصور
والتريا ما بقي منها اثر
وارضك تركها الدلف مفروشي جُوَر
العقد فسَّح والشتي عرّا لِحجار
(اسعد السبعلي)
• القرادي: وهي لفظة من القَرَد أي لجلجة اللسان, ووزنها خفيف سريع وهي كثيرة الأنواع: العاديّ, المخمس المردود, المحبوك, المطبق, المغصوب, المرصود, كرج الحجل, طرق النمل, المرصع, المهمل, المنقّط, القلاب, المجزّم. ونحن نمثّل القرّادي بما يلي:
جسمك شاعل مثل النار
وخَلْقَانِه تِحْفِة عَصْرِك
وكيف بْيِقْدَر هالزّنار
يْطَوّل بالو عَ خَصْرِك
(مخمس مردود)
أو:
لمّا النّهر زْرَعتوا دْياب
شَعرو شَاب وخافِ الدهر
خاف الدهر وشعرو شاب
لمَا دْياب زرعتِ النّهر
بْلَوْحِ وْمِسْمارَيْن وْباب
سَبعِ الغابْ حْبَستو شَهْر
حْبستو شَهْر لَسَبْع الغاب
بْمِسْمار وْبابيْن وْلَوْح
وْباب وْلَوْحَيْن وْمِسمار (7)
وبالتالي لا تقتصر فنون الشعر الشعبي على ما ذكرت وانما هناك العديد ولكنني أكتفي هنا بما أوردت وهو أشهرها (8) مع أن ألوانا أخرى من هذا الشعر لها أهميتها كالشروقي, والبغدادي, والروزانا, وأبو الزلف, والقصيد, والندب وغيرها (9).
بعد وقفتنا التي طالت عند أوزان الشعر الشعبيّ وأنواعه وفنونه يرتفع السؤال ما السّبب الذي جعل الناس تحب هذا الشعر وتُقبل عليه؟ بمعنى لماذا نجد مثل هذا الشعر مرغوبا فلا تكاد تمر مناسبة الا وكان له فيها صولة بل صولات؟ الاجابة عن السؤال المذكور انفا تتطلب الوقوف عند ميزات هذا الشعر وخصائصه فهي تحمل في طياتها الأسباب.
في رأيي أن أهم ما يميز هذا الشعر ما يلي:
*كون هذا الشعر ينبثق من حياة الناس, ومن لغته التي تصور محيطهم أصدق تصوير, وكذلك لهجتهم التي ترسم الصورة بارزة.
" وما الألفاظ الا ألوان وأصوات وأحياء وحركات عند من يحسّها ويدركها", كما يقول مارون عبود (10), ويضيف: "ان الشعور بالحياة وادراكها الكامل لا يكونان تامين اذا عبّرت عنهما بغير اللغة الدائرة على الألسنة, وبهذا يثير شاعرنا العاميّ النفوس اثارة يعجز عنها اكبر شعرائنا الرسميين" (11). والأمر الذي يجب ان يحذّر الشعراء منه- أعني شعراء العامية- هو التفاصح, لأن التفاصح في هذا الشعر يضر به ويحرفه عن مذاقه وطعمه اللذيذين في نفوس السامعين أو القراء. يقول الجاحظ:
"متى سمعت حفظك الله, بنادرة من كلام الاعراب, فاياك وأن تحكيها الاّ مع اعرابها ومخارج حروفها, فانك ان غيرتها بأن تلحن في اعرابها وأخرجتها مخرج كلام المولّدين والبلديين, خرجت من تلك الحكاية... وكذلك اذا سمعت بنادرة من نوادر العوام, وملحة من ملح الحشوة والطعام, فاياك وأن تستعمل فيها الاعراب... فان ذلك يفسد الامتاع بها ويخرجها من صورتها..., وتذهب استطابتهم اياها واستملاحهم لها"(12).
ولعلّ ما يوحيه الينا الشاعر الشعبي لا يستطيعه شاعر الفصحى, وذلك لأن الأول يعبر للناس عن الحياة بألفاظ يدركونها تماما أما الثاني فيعبر بألفاظ يدركونها ربع ادراك.
"سال الفرزدق أحد الرواة ولعله شيخهم عمرو بن العلاء: من أشعر أنا أم ذلك الكلب جرير؟ فأجابه أنت عند العلماء, وهو عند العوام. فارتاح الفرزدق لحكمه. ولما بلغ هذا القول جريرا ضرب فخذيه بكفيه وصاح: غلبته والله فليس في الألف من الناس عالم واحد" (13).
وقال الاخطل: في هذا المعنى: "قلت بيتا لم يقل مثله شاعر قبلي, فما دار على لسان أحد, ونقضه جرير فلم تبق سقاة الا وروت ما قال" (14). وما هذه الأقوال سوى أدلة على ما ذكر سابقا.
• ولعل امرا اخر يميز الشعر العامي ويقربه للناس هو كونه ذا صورة حية نابضة راقصة ملونة مسحوبة من الحياة ومن تجارب الانسان, من أفراح الناس وأتراحها, من واقعها, لذلك هو قريب منهم يمتح صورة ومركباتها وألفاظه من حياة القرية, وبساطتها وعفويتها, فالقرية بكل ما فيها من سهل ووعر, من ناس وحيوان وطيور, من الحياة الوادعة الهانئة البكر تشكّل مصدر الايحاء لهذا الشعر ومقلع ألفاظه الدالة الموحية. يقول جبران: "... وعندي أن في "الموالي" و "الزجل" و "العتابا", و "المعنى" من الكنايات المستجدة, والاستعارات المستملحة, والتعابير الرشيقة المستنبطة, ما لو وضعناه بجانب تلك القصائد المنظومة بلغة فصيحة... لباتت كباقة من الرياحين بقرب رابية من الحطب, أو كسراب من الراقصات المترنمات قبالة مجموعة من الجثث المحنطة" (15). وللتدليل على جمال صور الشعر العامي وايحائية ألفاظه نسوق ما يلي:
"حدِّ البحر شُفتِك عارملو مْشَلْقَحا
بْتِحلَمي أحلام بَيْضا مْفَرْفِحا
والليل عِمْبِيْشِلْحِك فُسْطان نور
ويقول وَيْن الكون؟ والكون انمحا"(16)
أو هذه الصورة:
يا ليلى فوق زنودك زهرة نيسان
وتغنّى بْمَشْقِة عودِك شاعر لبنان
وْلما طلِّ مْنِ جعودِك ليل الحرمان
تْفَرْفَط عَكْراسي خْدودِك جوري وْمَنتور" (17)
وهذه الصورة الرائعة:
" يا سارقة يا ناهبِي وْمِنين
زْغاليل جوز بْداخل عْبابِك
رَح يِفْطَسوا فِكّيلْهِن زِرين
مْناقِيرهُن بِتْخَزِّق ثْيابِك" (18)
وصورة أخرى:
"بدر السما لمِّن هل
قِلنا عقلاتو جنُّوا
كيف لو عِيْن عْلِيْنا يْطِلّ
وفي عنّا أحلى مِنو" (19)
وقال الشاعر مارون كرم هذين البيتين الرائعين:
نَحْلاتكُن مِدري كِفِنِّي صايرين
علَّموا عَ الشَيْطَنِة نَحْلاتنا
بْيِتْقَوشَعوا ما بِيْسْتِحوا هالدَّاشْرين
بْيتغامزوا مِن بْعيد عَ وِرْدَاتنا" (20).
أما بالنسبة لايحاء اللفظة, فقد روي عن الأديب الكبير مارون عبود أنه قال حين استقبل مطران الضيعة الجديد, الذي جاء الضيعة ماشيا, وقد كان بدينا:
الله يخلي ريّسنا, وريّسنا الله يخليه
جاي عَ الضيعة ماشي ناتع جرسه منُّه وْفيه
أرأيت الى كلمة "ناتع" في هذا السياق كم هي محمّلة بالايحاء لدرجة تعجز معها أية رديفة أو لفظة فصيحة أن تطرح نفس الايحاء. وينسجم مع هذا ما يقوله اللبناني في تعبيره عن صموده أمام محن الزمن وويلاته: "كسَّرت مناخير الدهر"
ان الايحاء الكامن في ألفاظ الشعر العامي هو أهم ما فيه فالشعر, أي شعر وليس مهما نوعه يقوم على الايحاء. وايحاءات الشعر العامي في رأيي تبزّ ايحاءات الفصيح وذلك لأنه "منبثق من قلب الحياة والواقع, يستمد خياله الحلو من محيطنا الذي ألفناه, والمرء على ما يألف" (21). والشاعر أي شاعر هو ابن زمانه ومكانه, والشاعر الشعبي قادر أن يعبر عن زمكانيته بصورة صادقة أصيلة لدرجة أن شاعر الفصحى يقصّر في تصوير العواطف وفي رسم الصور, وتوقيع الموسيقا المتناغمة المنسجمة, واختيار اللفظة الناعمة التي صقلها الاستعمال عن شاعر العامية.
يقول ميخائيل نعيمة: ".. فمن الطبيعي أن يكون الشعر المنظوم بلغة المخاطبة أحب الى قلبه (أي قلب الشاعر), وأفعل في روحه من ذلك المنظوم بلغة سيبوية, وطبقا لعروض الخليل" (22).
كما ويقول حنا الفاخوري: "... الشعر هو النغمة السحرية التي تتصاعد من القلوب والنفوس, وتعبر عنها الشفاه, وأحسن ما يكون التعبير الشعري بلغة الحياة التي هي مراة صادقة للحياة في جميع دقائقها ومنعرجاتها. ولغة الحياة في البلاد العربية اليوم هي اللغة العامية, التي اعتمدها الزجل, فكان, والحق يقال, من أصدق الشعر وألصقه بالعواطف الانسانية الخالدة" (23).
*وميزة أخرى يتحلى بها هذا الشعر هي التكثيف, فنحن قلما نجد قصيدة عامية يعتورها الترهل, سواء أكان ذلك في مضمونها أو في صورها, فهي تحاول ان تختزل تجربة كاملة بعدد من الصور المكثفة الموحية. وهذا الامر جعلها في الكثير تتكىء على المثل الشعبي الرامز الدال.
ومثالنا على ذلك هاتان القصيدتان:
" يا شعر: لا تحزن معي وانسى الاسى
وْرُش الفَرَح عَ الناس في صُبحِ ومسا!!
ان طال عمري, وجابها الله معي
لاعَلّقَك يا شعر بصدور النّسا" (34)
والمقطوعة الثانية:
"ليش بْتِنِكري يا ترى؟
شو صار؟ ايش اللي جرى؟
مَ ألف مرّة قلت لِك, وأِمك تْغَربِل قمح
والشمس أعلى من الرمح:
ايش اللي عني بِشْغِلِك
قلبي بحبك أَشْكَرى!!" (25).
يضاف الى ذلك العظة التي تحملها الزجلية, والنهايات المتفجرة التي تفتح هذا الشعر على مصراعيه ليعانق الحياة والخلود من أوسع باب.
وأحسن مثال على هذه النهايات قصيدة يونس الابن التي يقول فيها:
" شو بْيِكِذْبوا! مين قال حبَّيتو؟
عُمرو لا حاكاني وْلا حاكَيْتو!
صدفة تْلاقينا, ومن غير ما حْكَيْنا
كُل مين مِشي بْدربو. بس عيْنِيْنا
اتْلفتوا على بَيْتو.
مْشيت ومشي حدّي بدّي... وما بدي
الاّ مِسِك ايدي...
أَي ما قْدِرِت هدِّي, ولا قْدِرِت هدَّيتو
ومن غير ما نحكي, غِصَّيت بالضحكة,
مِرِقنا عَ بِركِةْ مَيِ تْفَرْكَشْت بِالبِركة
تْزَحلَقْت.. ضَمَّيتو
وْعِند هَ الضّمي, صرَّخت: يا امي".
أَزعر! وما بعرف كيف, تِمو لِحِق تِمّي,
ولا كيف عضيتو!
وْمِن يومها ما بنام, وبعيش بالاحلام
وْصِرلي عَ هالحالي شي خمس ست أيام
شو بكون حبّيْتو؟
بيكذبوا!!.. مين قال حبيتو؟!" (26).
*ولعل روح النكتة الساخرة التي تلف معظم هذا الشعر, طبعا عدا الحزين منه (الندب والنوح)- ميزة حبّبته الى النفوس فاستساغته وطلبت منه المزيد والمزيد. هذه النكتة أو ما- يمكن تسميتها بالقفشة ملفتة للنظر لما فيها من ذكاء وسرعة خاطر ولمعة. والأمثلة على ذلك كثيرة أقبس منها بعضها لما فيها من خفّة دم كما ذكرت املا أن تلقى الاستحسان, مع المعذرة اذا كانت هنالك بعض الكلمات التي من الممكن ان تخدش الحياء, قليلا, لكنه الشعر, والشعر كما قلنا يزول عنه جماله اذا تصنع أو مكيج ذاته, أو تقنع بما لا يستسيغه.
أ- طبع الراهب يوسف الصوراني, وهو راهب خفيف الروح, طبع عند أحدهم كرتات أو كما يسميها اللبنانيون "كروت". وأراد دفع الثمن, فتمنّع صاحب المطبعة أن يقبض منه. فشكره الراهب ارتجالا بقوله:
مِمْنونك, كثّر خَيْرَك
طابعلي اسمي عاكروت (27).
ب- قال نعمان شبلي في سيدة بشعة:
كل البشاعة ربّا
جَبَلها وفيها صبّا
اللي تْجَوَزْها محيِّرني
من أيّا مَطرَح حبّا (28)
ت‌- وجّه أحدهم الى الشاعر مجيد صفير الردة التالية:
ناتع قرعه طولا دْراع
لا بْتِنشرى ولا بْتِنْباع
لا مِن برّا فيها شَعر
ولا مِن جُوّا فيها نْخاع(29)
ث‌- قال الحملاوي للمحيط الاطلنطي في رحلته الاولى الى امريكا:
بتتمرجل يا أطلنطيك
والحملاوي مسافر فيك
ان الله لقّطني الشّط
وِمْسِكت الدف بْفَرجيك (30)
ج‌- رأى أحدهم غادة تبترد عند نبعة ماء فيها شلال وتمد فمها الرقيق الشفتين للشرب فقال:
" يا حِلوه بِللّي شْفافِك بِالمَيْ شْوي
بِطلَعلو يِسكَر مرّة شلال الميْ"
ح‌- وقال احدهم لانسة تحمل شمسية:
"عيونك لو لمسوني لمس
بِحْيا لِوْ كَنِّي بالرّمس
الله يعين الشمسية
الفوقا شمس وتحتا شمس" (31)
خ‌- قال الشاعر يوسف ابو ردة لسيدة لم يشاهد في وجهها غير منخارها:
" يا الله شو هالمنخار
أطول من جسر الفيدار
ما بين وجا ومنخارا
بتمشي السيارة مشوار" (32)
د‌- التقى الشاعر علي الحاج صبية تلبس "طقم فرنجي" وتقلد الرجال, فقال:
" لبستي طقم فرنجي عال
انشالله ولا عين تصيبو
بهالطقم عملتي رجال
الباقي منين بدنا نجيبو" (33)
ه- قال الشاعر جورج هبر في مارلين مونرو:
" تبسيمتك رجفة على شفاف الهوا
والعين علة حب والغمزة دوا
والبدر جارك والغزالة جارتو
وتنينهم عالخد بيطلو سوا(34)
*هذا غيض من فيض من قفشات والتماعات واشراقات شعرائنا العاميين, وهي وان دلت على شيء تدل على ليونة الكلمة وايحائها وطواعية اللغة وخفة دمها وبساطتها وعفويتها, وهذا عندي هو الشعر الصحيح.
والشعر العامي لا ييقتصر على ما تقدم, وعلى ما ذكرناه, انما هو يمتد ليطال جوانب عديدة اجتماعية واقتصادية وسياسية, ونظرة طائرة لدواوين الشعراء امثال ميشيل طراد وطليع حمدان وسعود الاسدي وغيرهم تشي بذلك, كما وتشي بان هذا الشعر صار جزءا من حياتنا لا نستطيع الاستغناء عنه, نستخدمه ونستسيغه في مجالسنا وفي حفلاتنا وفي مواسمنا, في افراحنا وفي اتراحنا. كما تجدر الاشارة الى ان هذا الشعر يحتوي في فنونه على فن الندب وفن هدهدة الاطفال والمهاهاة وغيرها, ولم نعرض لها هنا لضيق المجال, مع جمالها وايحائها وروعتها. شعر كهذا قد ادمنّا عليه وقد الفناه اعتقد انه صار بحاجة الى الدراسة والبحث. وكان الاستاذ سعود الاسدي قد سبق الى ذلك مشكورا عام 1976 في كتابه "اغاني من الجليل", وامل ان يقفو اثره اخرون واخرون.
وخير ما اختتم به قصيدة بالعامية كان قد حفرها السجين عوض على حائط سجنه في عكا. وهذه القصيدة تعتبر من الروائع لما فيها من صدق واصالة وعاطفة جيّاشة وتصوير للوضع بصورة غير مباشرة ولا صارخة, حيث فيها يقول قبل اعدامه وبعد اعدام صديقيه او اخويه:
يا ليل خلي الاسير تايْكمّل نواحو
راح يفيق الفجر ويرفرف جناحو
تايْمَرجِح المشنوق في هبةِ رياحو
يا ليل وقِّف تافضِّي كل حسراتي
يمكن نسيت مين أنا ونسيت اهاتي
يا حيف كيف انقضت بيديك ساعاتي
وْشَملِ الحبايب ضاع وتكسّروا قْداحوا

لا تظن دمعي خوف دمعي عا أوطاني
وعا كمشة زغاليل بالبيت جوعاني
مين راح يطعمها بعدي, واخواني
تنين قبلي شباب عالمشنقة راحوا

بكرا مرتي كيف راح تقضي نهارها
وِيْلها علَيِّي أو ويلها عاصغارها
يا ريتني خليت في ايدَيْها سْوارها
يوم الدعاني الحرب تا اشتري سلاحو


ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال
تِخسا الملوك ان كان هيك الملوك انذال
والله تيجانهُم ما يِصْلَحوا النا نعال
احنا اللي نحمي الوطن ونبوِّس جراحو (35)
ومن الجدير ذكره هنا أن شعراء فلسطين الذين نظموا بالعامية اشعارهم لم يعدموا القفشة الحلوة والنادرة اللطيفة واللمعة السريعة. اذ يحكى عن احد شعرائنا انه كان يقف في صف السحجة فجاء صاحب العرس ونبهه الى قدوم ضابط في الجيش من ال شنان المعروفين في جليلنا مع صديقين وفي الحال ابتكر شاعرنا ردة. جميلة مطعمة بالعبرية كي تلائم الضيف, قال:
"منحيّي ابو شنَّان ومنحيِّي سْجان سجانو
ويروى عن الشاعر عوني سبيت في احدى صولاته في كفر ياسيف انه ابتكر ردّة رائعة ما زال الشباب يرددونها الى اليوم في كل سحجة, حيث قال:
"ان دبّ المرض فيي/ عْيونك فرمشيه".
واخر ولا اذكر اسمه كان يصول في صف السحجة في قرية ما فطلع بردّة تقول: "ضَرَبتِ الصخر بايدي عصرماي"
وهربت منه الشطرة الثانية, فلم يجد مناصا الا في أحد الحضور فأكمل قائلا: "وشْواربَك أبو فلان عَ صُرماي"...
فغضب عليه صاحب العرس لاهانته أحد ضيوفه, فنام شاعرنا ليلتها دون أن يأكل بيضة السخل او معلاقه جريا على العادة, ولولا تدخل (الأوادم) ليلتها لتعشى من الصفع ما طاب وما خبث ومن النعال ما صلح وما اهترأ.
ويروى أيضا عن شاعر اخر خفيف دم كان كلما وصل صف السحجة دار أحدهم وكان متزوجا من اثنتين, أوقف الصف أمام داره مدة كان فيها يصدح بهذه الردّة التي كانت تلهب حماس الشباب: "وفايز عندو ماتورين" وتشبيه المرأة بالماتور شيء طريف حقا.
وبالتالي هذا هو شعرنا العامي, شعر نابض, حي مفعم بالواقع وبحيثياته رائع الصور, رائع الايحاء, يخاطب الناس بلغتهم ويدغدغ حواسهم وعواطفهم ومن هنا شاع وانتشر وصار على كل فم, ومن هنا ايضا تجدر العناية به وبحثه وتوثيقه. وامل ان اكون في مثل هذه العجالة قد وفيت هذا الشعر حقه, او على الاقل اضأت زاوية من زواياه ونفضّت عنها غبار السنين.

الاشارات:
1. مارون, عبود: الشعر العامي, دار الثقافة, ودار مارون عبود, بيروت, 1968, ص 53. وأمين القاري: روائع الزجل, جروس, برس, طرابلس, 1998, المقدمة للدكتور اميل يعقوب. ص 5.
2. سعود الاسدي: اغاني من الجليل, مطبعة الناصرة 1976, ص 28.
3. منير الياس وهيبة: الزجل, تاريخه, ادبه, اعلامه, المطبعة البوليسية حريصا, 1952. وكتاب الاسدي, وعبود, والقاري سبق ذكرهم.
جبور عبد النور: في الشعر العامي اللبناني, الجامعة اللبنانية, بيروت, 1957.
4. أغاني من الجليل, ص 28-ص 34.
*للاستزادة والتوسع راجع كتاب أغاني من الجليل. مصدر سبق ذكره.
5. روائع الزجل ص 51.
6. ن.م. ص 55
7. النماذج أخذت من روائع ومن أسدي.
8. للاستزادة راجع أسدي ص 53- ص57.
9. عنها اقرأ: روائع.
10. عبود, ص 63.
11. ن.م. ص63.
12. ن.م. ص 65.
13. ن.م. ص115.
14. ن.م. ص 116.
15. روائع. ص14.
16. عبود ص 192- الشعر للشاعر اسعد سابا من ديوانه "من قلبي".
17. روائع ص 81, الشعر لمشال قهوجي.
18. ن.م ص 14.
19. ن.م. ص14.
20. ن.م ص14.
21. عبود ص 65.
22. عن روائع, ص13.
23. ن.م. ص13.
24. سعود الاسدي, ديوان شبق وعبق-الناصرة 1999, ص7.
25. ن.م. ص20.
26. روائع, ص 329.
27. عبود, ص72.
28. روائع ص399.
29. ن.م. ص400.
30. ن.م. ص405.
31. ن.م. ص 407.
32. ن.م. ص411.
33. ن.م. ص417.
34. ن.م. ص 427.
35. عبد الرحمن ياغي: حياة الادب الفلسطيني, المكتبة التجارية, بيروت 1968, ص264.
الدكتور حبيب بولس ناقد ومحاضر جامعي
drhbolus@yahoo.com


ليست هناك تعليقات: