الأربعاء، مارس 24، 2010

تحليل هادئ لأسلوب حسين سليمان في كتابة الرواية

د. محمود عباس
أو قراءة في روايتي ينزلون من الرحبة والضجيج للروائي حسين سليمان

الرواية مثلها مثل غيرها من فروع العلوم الإنسانية؛ تدرجت من مرحلة إلى أخرى، وتبدلت أوشحتها مع مرور الزمن، متأثرة بالظروف الإقتصادية والاجتماعية، فكانت الرواية الكلاسيكية هي الحلقة الأساسية الأولى في هذه السلسلة من تاريخ مسيرة الرواية. رغم البعد الزمني والأختلافات الفكرية ونماذج الحياة الإقتصادية بيننا الآن وبين أشواطها الأولى، لا تزال لها المذاق الخاص لدى الفكر، فهي التي تحوي على الزمن والمكان والحدث والإثارة والكثير من لذة العلوم الأخرى، لكن الرواية بعد هذه المدرسة تحررت من تلك السمات التي راحت توصف بالقيود وتشعبت من حيث اسلوب الحدث أو اسقاطه، الزمن أو الفكرة المطروحة، تغيرت من حيث الشكل والمضمون، فراحت على سبيل المثال تسقط في طاياتها الأفكار الفلسفية المعاصرة لها، كالعبثية واللامنتمية وغيرها، وتدحرجت مع الأفكار والإيديولوجيات والمذاهب الفكرية وتطوراتها، إلى أن كانت روايات مابعد الحداثة، فتشعب الروائيون بنوعياتها، لكن بقي هناك شيء أسمه الفكرة والمنطق، وشيء أسمه الزمان، أي كان؛ ما وراء الخيال أو الماضي أو الحاضر أو القادم أو الزمن في البعد الرابع، وبقيت الحبكة أو ما شابهها؛ يستطيع القارئ وحسب مستواه الفكري في تذوق الرواية وفهمها أو استيعابها، وقد لا تكون هذه الحبكة أو الحدث مرئي ، ثم المكان له أختلافات وتدرجات، وقد لا يكون المكان مستقراً، كثيراً ما يتداخل الزمان والمكان ويندمجان تناسباً مع نظرية النسبية أو ما بعدها، لا أود الدخول في متاهات الرواية و أبعادها. ومنذ إن كنت أحمل قصة أو رواية كنت على قدرة أن أبين نوعية الرواية، وما الغاية منها وأفهم أسلوب الكاتب، والفكرة التي يطرحها، وإلى أي مرحلة من مراحل الرواية تنتهج، وإلى أي مدرسة تنتمي على الأغلب. إلى أن قرأت للكاتب حسين سليمان، رواية (ينزلون من الرحبة) و (الضجيج)، والتي أراه بإنه لا ينتمي إلى أي مدرسة من المدارس الفكرية او المنهجية، أحياناً، كنت أسأل نفسي أثناء قراءة الصفحات هل كتبت هذه الرواية لقارئ معين سوي الفكرأم لشارد يقلب الصفحات بشكل عشوائي، حيث بمقدوري أن أقرأ عدة صفحات من صفحات الرواية وأعود إلى مقدمتها وأقرأ عدة صفحات أخرى وثم أذهب إلى النهاية، وهكذا دون أن أشعر بإنني أضعت حبكة الرواية أو أضعت زمناً في الرواية أو ضاع عني مكان تواجد شخصيات الرواية، فالرواية لدى حسين سليمان متداخلة عن قصد وبعشوائية؛ الزمان مع المكان؛ والحدث مع الفكرة، وبإمكان الزمان أن يحل مكان زمن آخر أو يزول، والحدث يكون باقياً دون تطور، ومن الممكن أن يلاحظ إن المكان أختلف، وقد لا يكون مكان ولا حدث ولا حديث يربط، عشوائية في الفكر، أو فكر عشوائي، أختلاطات لا تحدث مثلها عند الإنسان السوي، أو حتى الثمل، يحدث عادة مع الثمل الذي غاب عنه المكان والزمان،حيث لا يكون ثمة قدرة للسيطرة على التحليل ولا على ترابط الفكر، فتختلط الأمور بدون إرادة ولا وجود للوعي كلياً، وربما تحدث مثل هذه الحالات مع الفرد في فترة اللاوعي بين النوم والصحو والخيال أوأثناء الحركة العشوائية للفكر بينهما، الفترة التي لا يكون هناك سيطرة على الفكر، فيندمج الزمن والأحلام وأختيارات اللامكان، رغم إن حسين سليمان، أستطاع أن يتتبع الزمن بعد أكثر من مرور ثلاثة أرباع الرواية من حيث الصفحات، في روايته الأولى، ينزلون من الرحبة، وأنتقل مكانياً من مجتمع إلى آخر؛ ومن حضارة إلى أخرى، فأختلفت الأساليب في الرواية، من حيث السرد والفكرة والخطاب والتحليل، كما تتبع الزمن بعض الشيء، رغم محاولاته الكثيرة؛ ليعود إلى الأسلوب المستعمل في البداية كإستحضار الماضي وإبعاث الحدث بأسلوب آخر ربما بدون علاقة بالزمن أو المكان الذي ذكر فيها نفس الحدث بهيئة أو شكل آخر، دمج الماضي بالحاضر أدماج عدة أماكن معاً وإشغال أحداث في حدث واحد، الخلط والدمج.
أكاد أن أتيقن بإن الكاتب قلما إستطاع ويستطيع التأكد من المسافات البعيدة وتذكر الحوادث وتنوعاتها وتبديل تلك الحوادث والأزمنة وملاحقة لعبة الروائي في استبدال حتى أبطال الرواية نفسها، في النهاية يكون الروائي كالقارئ، يحاول أن يمسك الخيط الوهمي ويتبعه ليجد في النهاية أن الخيط قد ضاع منه ولكن في الحقيقة لم يضيع الخيط، حيث في الأصل لم يكن هناك خيط للأمساك به، وهكذا، يكتشف القارئ أن الكاتب نفسه يكتب بدون قيود ودون تركيز دائم أو ربما يوهم القارئ إنه يكتب دون تركيز، التركيزالمرحلي الذي يستعمله الكاتب ينتهي عند الفترة التي ينتهي منها في الكتابة، ويبدأ تركيز آخر ومن نوعية أخرى، أي زمن مخالف لمكان مخالف وأفكار مخالفة لحدث ربما في الماضي يدمج مع الحاضر، وكثيراً ما يلاحظ، يبدأ حيث لا زمن ولا مكان فقط عشوائية وخلط أفكار غير سوية، كانت في صفحات سابقة لشخصية في الرواية، لتأخذها شخصية أخرى في الصفحات التالية، حتى المادة الموجودة أو التي يصفها الكاتب، كثيراً ما تتغير بعد صفحات، والذي ساعد الكاتب على أن يبقى على هذه التنقلات الزمانية والمكانية والفكرية، و أن يغير في مفاهيم ابطال الرواية هي طول الرواية نفسها، أي عدد صفحاتها، وإلا لكانت مثلها مثل رواية الضجيج، يضيع القارئ مع الكاتب في حدود المقدمة ولا يلقى في نهاية الصفحات التي لن أسميها نهاية الرواية، حيث رواياته لا تحوي مقدمة ولا نهاية، كما ذكرت الزمن والمكان والحدث والفكرة تراهم ولا تراهم وتظن إنك تقرأهم ولكن في الواقع لا وجود لهم كما هو متعارف عليه.
لا أعلم لأي قارئ يكتب حسين سليمان، هل لقارئ سوي؟ كما سألت في المقدمة، أم لقارئ يتمتع بالعشوائية؟ وليست الفوضوية من طرائقه، حيث رواياته لا تنتمي إلى الفوضوية بشيء، وربما يأتي إلى الكتابة عندما يكون في حالة اللاتحكم في الفكر، أو أنه يقصد حالة اللاتحكم،اللاتحكم هو الذي ينتهجه ويريده لكتابة رواياته، يرى أحياناً بإنه لا يستطيع أجبار نفسه في البقاء في حالة اللاتحكم تلك، فتندثر صفحات وأحياناً بعض المقاطع بسوية رواية نموذجية فيها المكان والزمان والحدث والشخصيات واردة وبهدوء، اللاتحكم في كل عناصر الرواية، وبدون أستثناء، وأنطلاقاً منه ككاتب فإنه لا يأمل إلا إلى غاية وحيدة لديه الا وهي إدخال القارئ في عشوائية ولاتحكم ويخرج من صفحات رواياته دون لذة أو فكرة وفي حيرة من سبب الوقت الذي أمضاه في قراءة صفحات بدون نتيجة، وهذا ما يصبوا إليه الكاتب ، حيث يفرض الكاتب على نفسه التقمص لحالة اللاوعي أو اللاتحكم أوالأختلال الفكري حيث لا ثمة سرد منطقي للحوادث في الروايه، وفي الحقيقة للوصول إلى هذه الحالة الفكرية يحتاج الإنسان إلى قوة ذهنية غير عادية وربما تمرين مستمر للحصول على تلك القدرة الذهنية لكتابة الرواية وفي الفترة التي يرغبها الكاتب.
وفي النهاية ما الذي يبغيه الكاتب نفسه من نفسه ومن القارئ أيضاً، ماذا يقدم أو يطرح إلى الساحة الأدبية؟ وهذا ما لا قدرة لي في الجواب عليه.
حاولت أن أكتب نقدي أو تحليلي المختصر هذا بنفس اسلوب سليمان، الكتابة في حالة الوعي اللاتحكمي، وفي الحقيقة، حالة صعبة تحتاج إلى قدرة نوعية للوصول إليها والكتابة بأسلوبه يحتاج إلى مران، حاولت لكنني لم أفلح.
ملاحظة:
يكتب حسين سليمان من عدة أفكار مختلفة، أو بالأحرى يحمل مفهوماً أو منهجية مختلفة كلياً عن الذي سبقه، يحاول جاهداً أن لاتتكرر الحالة النفسية والفكرية ولا حتى ذاكرة ماكتبه في السابق عند البدء من جديد، وتحضرني هنا فكرة : كأن نقدم مختصراً عن حادثة ما لعدة طلاب لايملكون قدرة في كتابة الرواية ونطلب منهم كتابة مختصر عن ذاك الحدث حسب القدرات التي لديهم، ويأتي المدرس الذي هو حسين سليمان ويدمج هذه الأساليب المختلفة عن تلك الحادثة الواحدة و ويدمجها بأسلوبه الخاص ليجعلها رواية كاملة.
كم كان من الممتع لو توقف حسين سليمان في رواية الضجيج عند نهاية الفصل العاشر، لكنه أبى ذلك لغاية في نفسه، ألا وهي اللاتحكم واللا وعي واللانهاية ...ولذلك لم يقف، فالنهاية يجب أن لاتكون مثلها مثل المقدمة.

ليست هناك تعليقات: