الأربعاء، مارس 10، 2010

صباحكم أجمل/ آهات كسوانية



زياد جيوسي

فترة مضت سرقني بها الوقت ولم أكتب مقالي صباحكم أجمل، فمنذ مقالتي "صباحكم أجمل/ نهيل نسمات كرمية"، أخذتني دواوين الشّعر ونصوص التناص التي مازجت بها روحي بين نثري وشِعر الشعراء، فكنت أسكب فيها عشقي للوطن، الحب، وتحليقي في عالم الجمال، حتى كان الأسبوع الفائت، فأثارت بعض من أحداثه روحي للتجوال في الصباحات الأجمل، فقد زارتني الكاتبة الفلسطينية الجذور والانتماء ديانا سليم، قادمة من أستراليا حيث تقيم لزيارة الداخل الفلسطيني، حيث أهلها واللد مدينتها، ورتبت يوماً لرام الله، ففاجأتني ذات صباح مبكر بالاتصال: وصلت رام الله وأنتظرك، لنقضي يوماً في التجوال في رام الله ولقاء الكُتاب والأصدقاء، الذين تجمعنا رام الله الجميلة معاً، فكانت فرصة للقاء والحوارات الجميلة، والتجوال في رام الله التي سطعت شمسها بذلك اليوم بعد فترة من تساقط الأمطار وسيطرة الأجواء الباردة، وكأنها تحتفي بضيفتها الروائية، وحين غادرتنا بالمساء، كانت روحها باقية معنا، محلقة من خلال ثلاث روايات من إبداعها أهدتني إياها "تراتيل عزاء البحر"، و"الحافيات"، و"الحلم المزدوج"، لأقضي الليلة في القراءة.

الخميس الفائت الرابع من آذار، كنت مدعواً لبلدة الجيب، والتي سبق أن كتبت عنها مرتين. لقاء نظمه رئيس مركز التنمية الريفية الأخ أحمد المصري للعديد من الضيوف وممثلين عن وزارة السياحة والآثار، في محاولة أخرى من محاولاته للفت النظر للجيب وما تعانيه، فألقيت كلمة تحدثت فيها عن قصتي مع الجيب وتراثها والتاريخ، مرفقاً الحديث بعرض للصور التي التقطتها عدستي أثناء زيارتي الأولى، وأنهيت الحديث بالقول: أنا لا أمتلك بالجيب أو بالوطن كله متراً من الأرض، لكني أمتلك الوطن بأكمله، وما أسعى من أجله من خلال القلم وعدسة التصوير، أن أدق على جدران الخزان لعل أحداً يسمع، وبعد تناولنا الغداء المكون من وجبة تراثية رائعة، وجبة (العصيدة) الشعبية، همس بأذني صديقي الذي التقيته بالجلسة بدون ترتيب مسبق، د. سعادة الخطيب قائلاً: ما رأيك أن نحاول الدخول إلى بلدتي بيت إكسا؟ رغم أنها ستبقى محاولة ولا أعرف إن كان سيسمح لنا حاجز الاحتلال بالدخول أم لا، فالحاجز يحاصر البلدة ولا يسمح لغير سكانها بالدخول؟ فوافقت فوراً وقلت له: عدستي وقلمي معي، ولعل هذه الرغبة القديمة تتحقق.

ركبنا عربته المتواضعة، هو وأحد أبناء بلدته، رافقتنا الفنانة التشكيلية حنان حرز الله، والتي أبدت رغبة كبيرة بالزيارة معنا، واتكلنا على الله مارين بعدة بلدات حتى وصلنا للحاجز الاحتلالي، وكان حظي كبيراً بعدم اعتراضي ومنعي من الدخول مع صحبي، ولعل الشيب الذي يغزو مفرقي ومكان الولادة في الشتات ساهم أيضاً بالدخول، وما أن أطللنا على مدخل البلدة حتى كنت أمارس إزعاجي المعتاد لمن يرافقني، فكلما سارت العربة خطوات كنت أناديه أن يقف وأقفز من السيارة لالتقاط الصور، حتى وصلنا إلى قلب البلدة القديمة، فأوقف عربته، وبدأنا التجوال على الأقدام، وحقيقة بمجرد أن أرى المباني الأثرية والقديمة، تتألق روحي، وتلقي عن أكتافي خمسة وثلاثين سنة، لأجد نفسي شاباً في العشرين من العمر، يتقافز بين الأزقة والمباني، يتسلق بدون وعيٍ الجدران والأسوار، لا تتوقف عدستي عن التقاط الصور، حتى أن صديقي د. سعادة اضطر أن يشدني أكثر من مرة، خوفاً عليّ من الوصول للمناطق التي تواجه الانهيارات، فهو يعرف الأمكنة أكثر مني بكثير، فهو ابن البلدة ويسعى دوماً من أجل لفت الأنظار إليها، العمل من أجل دفع الجهات المعنية لترميم هذه الآثار التي تروي الحكاية، حكاية شعبنا منذ القديم.

تقع بيت إكسا شمال غربي القدس، وكم تألمت روحي وأنا أنظر من تلالها للقدس، بقايا بلدة لفتا ودير ياسين، ونحن محرومين من الوصول للقدس، وأرى مساحة الاستيطان التي تحتل مساحات القدس وتحاول أن تخلق واقعاً جديداً هناك، فأذكر وأنا أنظر إلى القدس القائد صلاح الدين الأيوبي الذي أتخذ من بيت إكسا مركزاً لقواته ومركزاً لكساء القوات ولباسها، ويقال إن اسمها جاء من روايتين، مركز بيت الكساء لقوات صلاح الدين، وفي رواية أخرى أنها سميت نسبة لشخص اسمه إكسا قدم إليها في القديم من بلاد الشام وسكنها، وكان بيته مطلاً على طريق مرور المسافرين، وكان كريماً ومضيافاً فحملت المنطقة اسمه، لكن المهم أن بيت إكسا بموقعها المطل على القدس وعلى الشارع الذي يصل إلى يافا، تتعرض باستمرار لمضايقات الاحتلال، فكثير من أراضيها جرت مصادرتها، والمستوطنات تحيطها، وكان هناك مخطط لضمها داخل الجدار البشع، لكن بسبب تشبث سكانها بها لم يضمها الاحتلال، وإن واصل المضايقات عليها ووضع حاجزاً على مدخلها يمنع المواطنين من الدخول، إلا لمن يحمل بطاقة هوية مكتوب فيها أنه من بيت إكسا، في محاولة مستمرة للتضييق على السكان ودفعهم للهجرة.


قلعة آل الخطيب كانت من أهم الآثار التي تجولنا فيها، قلعة تعاني من الإهمال رغم أنها شاهد التاريخ وراوية الحكاية، فقد بنيت في العام 1832م وبقيت مسكونة حتى العام 1967م، حيث كانت مقراً في البدايات من عمرها للشيخ عبد القادر الخطيب، الذي كان ملتزم الضرائب للخلافة العثمانية، وهي قلعة ضخمة واسعة المساحة، تحمل تقسيماتها نظام العيش للأسر الفلسطينية، فهي مقسمة إلى غرف ومقرات مختلفة، قسم منها للسكن وقسم للضيافة ومساحات أخرى للخيول والمواشي، مواقع تخزين الطعام التي كانت تسمى الخوابي. كنت والفنانة التشكيلة حنان حرز الله مأخوذين بهذه المشاهد، فلم أتوقف عن التصوير، والسؤال لمضيفنا د. سعادة، وكانت بعض من الإشراقات الفنية قد بدأت بالتفاعل في روح الفنانة، فبدأت تهمس ببعض الأفكار، ورغم حجم الدمار والخراب بفعل الإهمال وعوامل الزمن، إلا أننا تجولنا رغم صعوبة التجوال بسبب الحجارة المنهارة، والأعشاب والشوكيات النامية بارتفاع يعيق الحركة، إلا أننا كنا مأخوذين بما نراه، فتجاوزنا كل هذه العقبات، وأكملنا الجولة بعد القلعة في العديد من المباني القديمة والتراثية، ولسان الحال يقول: إلى متى ستبقى هذه المواقع مهملة ولا يجري ترميمها؟ فترميم هذه المواقع واجب وطني كبير، وبالتأكيد فإن اهتمام أهل البلدة بمتابعة ذلك مسألة في غاية الأهمية، وقد لفت نظري حديث لأكثر من شخص من أهل البلدة عن ابن لبلدتهم اسمه زهير جبران، يعطي أهمية كبيرة لأهالي بلدته، فهو يقوم بتدريس سبعين طالباً في الجامعات ويساعد عشرات العائلات المحتاجة، ويتحمل عبء أربعة حافلات تحمل من أهل البلدة للحج والعمرة، إضافة إلى صرفه مكافأة لكل مدرس من أهل البلدة بمقدار ألف دولار سنوياً، لكي يشجعهم على الاهتمام أكثر بطلاب البلدة، إضافة إلى بنائه مدرسة ومسجد، وغير ذلك من الأعمال الحافلة بالخير لأهل بلدته، فشكل من خلال ذلك رغم إقامته بالخارج أنموذجاً طيباً للانتماء للبلدة والأهل والأرض، ولعلي تمنيت حين سمعت ذلك أن نجد في كل بلدة من بلداتنا من يقتدي به ويعمل من أجل أهله ووطنه.

في المساء وفي موعد الغروب، كنا نغادر بيت إكسا، لنقف باندهاش أنا والفنانة حنان أمام عدة أشجار تاريخية بالغة القدم، جرى الاهتمام بها من أهل البلدة وتسويرها، فشعرت بها تهمس لنا الحكاية، حكاية شعب راسخ الجذور كتلك الأشجار، ملتزم أن لا يغادر وطنه، متحمّل كل قسوة الاحتلال، يرنو إلى السماء ويتشبث بالأرض، يحلم بيوم حرية..

صباح آخر لرام الله، أحتسي قهوتي، أهمس لطيفي البعيد القريب وروحه تحلق في صومعتي، لا بد من حرية الوطن، لا بد من اللقاء، أرقب المدينة من النافذة، أبتسم ليوم جديد، أستعيد رحلتي لبيت اكسا، فأشعر بالآهات الكسوانية ما زالت تنسكب بأذني وروحي، ملتقى القصة القصيرة جداً عبر اليومين الماضيين التي شاركت بكل جلساته مع مؤسسة أوغاريت، لقائي منذ مساء الأمس حتى بعد منتصف الليل مع صديقي الشاعر طلعت شعيبات قادماً لزيارتي ورام الله والأصدقاء، فيروز تشدو: (لنا مكان مغمس حيث المروج سندس، في مرتمى أشجاره يهيم صفو مشمس، جئناه واللحن سكيب والشذى مكدس، بحنا فلا الورد حكى ولا شكانا النرجس).

صباحكم أجمل.

ليست هناك تعليقات: