الثلاثاء، مارس 02، 2010

بوح الروح

زياد جيّوسي

2 - 4


كتابات ونصوص فايز محمود تمثّل حكاية العمر، محاولة قويّة للدّخول في أعماق الرّوح البشريّة، البحث في مجالات الحياة، فلسفة الأمور الّتي نمر بها بسرعةٍ فيمنحها حكمة ومحتوى يدفعنا للتفكير بها من جديد؛ إنّها الفلسفة وحبّ الحكمة حين تتمازج مع روح إنسان يعبّر عن فكره بأسلوب أدبيّ شاعريّ، ومن أراد أن يفهم الحياة أكثر ومعناها وأهدافها، فلا بدّ له من المرور عبر رحلة فايز محمود الفلسفيّة والأدبيّة، فهو لا يكتب من أجل الكتابة فقط، بل من أجل البحث عن الحقيقة، من أجل فلسفة الوجود، لذا فإنّ لحروف فايز اشراقة خاصة وفيها فهم شامل لمن يغوص فيها، فهي أشبه بالمنارة الّتي ترشد السّفن الضّالّة في أعالي البحار، وفي الوقت نفسه لا يلجأ فايز بأطروحاته وأفكاره إلى فرضها وكأنّها الحقيقة المطلقة، فهو يعتبر كلّ حصيلة حياته ليست أكثر من محاولة للبحث في الحياة والحقيقة، فيترك لمن يغوص في عباب بحره أن يتفكّر ويصل للنّتائج بدون إعطائه نتائج محددة على طريقة قوانين الرّياضيّات.

فايز في كتاباته يخاطب الرّوح الإنسانيّة الّتي يؤمن بها كثيرًا، يؤمن بمستقبلها وإشراقة هذا المستقبل، فنراه في الجزء الثّاني من ثلاثة نقوش محجوبة ومن خلال مخاطبة الأنثى الحبيبة يتحدث عن التّاريخ يقول: "تمنحني دراسة التّاريخ استشفاف مكابدة الإنسان عبر الزّمن"، فهو لا يطرح أفكاره من الفراغ، فهو يبحث الإنسان ومسيرته عبر التّاريخ، ليعبّر في الحاضر رحلة عشقه في الوجود، ويبحث كم للحبّ من تأثير في تصويب الرّوح البشريّة والإنسانيّة، فيصبح الإنسان من خلال الحبّ حياة تصعد وتفيض من نبعه وإليه تصبّ، وفي الوقت نفسه لا يغفل المكان ويتحدّث عنه، فهو يتكلّم عن جذوره وتنقّله عبر تنقّل والده بين الأمكنة، الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي مر بها الأب، تأثيرها على نشأته وفكره، فهو ليس كالفطر نما فجأة، لكنّه تشبّع الحياة وأثّرت فيه ووجّهته نحو البحث عن الحقيقة، وتسامت بروحه الإنسانيّة ضمن معاناة يوردها من خلال سيرته الذّاتيّة في هذا الجزء الثّاني من "ثلاثة نقوش محجوبة"، فندرك حجم المعاناة الّتي خلقت في روح فايز الفلسفة والبحث عن الحقيقة.

يستمرّ فايز في الغوص والبحث، فهو يغوص في دياجير روح الإنسان وأعماقه، يبحث فيها عن كلّ ما هو مخفيّ، يجول في تلافيف العقل بدون كلل أو ملل، لا يكفّ عن البحث والتّمحيص، يبحث عن الحقيقة. فأراه يذكّرني بالفيلسوف ديوجين الّذي كان يحمل مصباحًا منارًا في النّهار كي يبحث عن الحقيقة، فالحقيقة عند فايز محمود هي الإنسانيّة، هي الحلم الّذي يؤدّي إلى حياة أجمل وأفضل بين الشّعوب. وبدون الحقيقة لا مكان للصّداقة ولا مكان للحبّ، الصّداقة والحبّ بالمفهوم الإنسانيّ الكبير، مفهوم الرّوح الإنسانيّة بدون بثور سوداء، روح نقيّة تحلم بالخير والإبداع، تعيش بالحبّ والصّداقة. ونجد فايز محمود يكرّس كتابه "شروق.. نصوص الخفاء" في البحث عمّا هو رهن حياته من أجله، البحث عن الحقيقة، فهو يقول: "الطّفل يسبح في سديمه الغامض، تمامًا كما كان وضعه السّابق في فترة حمل والدته به؛ إنّه يتكوّن وينمو في أحشاء المجهول، في فترة حمله كان في أعماق والدته، وفي هذه الفترة اللاحقة- أيّ في فترة طفولته المبكرة، ها هو الآن في أعماق مجهول آخر، في أعماق أُمٍّ أشمل، في أعماق الحياة الواسعة، البيئة والتكوين الاجتماعيّ".

ولهذا يبدأ بحثه بعنوان: "لماذا أعيش، وكيف، ولماذا؟"، ويسير في حياة الإنسان منذ كان طفلاً حتّى كبر، باحثًا في كلّ العوامل والمؤثّرات الّتي تلعب دورها بالتّأثير عليه، فليس من إنسان بدون تأثّر بارتباطه ببني جنسه، ببيئته وظروفه الاجتماعيّة، ويستمر الإنسان بالسّير حتّى يكبر فتنقلب حياته، فهو قد خرج من إطار التّوجيه والإشراف في الأسرة، تبدأ في حياته قواعد جديدة للحياة، "نحن كبشر في مواجهة أنفسنا لأنفسنا لا غير"، وتستمرّ حياة الإنسان حتّى "تتفتّح الحياة أخيرًا على مشهدها في الفصل الأخير".

"فالإنسان معاناته الأساسيّة أنّه يعيش وحيدًا"، رغم وجوده في مجتمع وعلاقات اجتماعيّة وعاطفيّة. وهذه المسألة يبحث فيها فايز بعمق، فهو يؤكّد على أنّ الّذين عزلوا أنفسهم عن الغير وعن العلاقات العامّة، رغم أريحيّة إنسانيّة العلاقات في مثل هذه العلاقات، كلّ منهم "يحلم بعلاقة مستحيلة مع حبيب أو صديق يكملان فيها بعضهما بعضًا بمدار العشق وفلك الصّدق في فضاء حلم الحياة.

ويؤكّد فايز من خلال بحثه المستمرّ من جديد على الصّداقة كما أكّد على الحبّ، فهو يرى أنّ الصّداقة "لا تبهت ما دامت قائمة على صدق الذّات وصدق الآخر، تظلّ حرّة تعطي دون مقابل". ويعود للتّأكيد على "أنّ الحبّ في وضع العشق يشترك بهذه الميزة الحرّة المبدعة، ويفوق الصّداقة إشعاعًا ومعنى"، رغم اختلاف بواعث الحبّ وحوافز الصّداقة، فهو يرى "أنّ الصّداقة ثمرة للرّوح الإنسانيّة السّامية، بينما الحبّ والعشق قنطرة احتالت بها الطّبيعة علينا لأجل الإنجاب واستمرار النّسل"، لذا يؤكّد دومًا على ضرورة البحث في الدّاخل الإنسانيّ حتّى يجد الإنسان المخرج، فالأرض تدور حتّى لو أجبرنا على قول آخر.

فايز يرى أنّ هذا الدّور منوط بالمثقّفين فهم أقدر على البحث والتّمحيص والتّفكير، رغم صعوبة المهمّات الملقاة على عاتقهم، فهو يقول: "ما أتعس الوظيفة الثّقافيّة في أمّة لا تقرأ ولا تعي دورها الثّقافيّ"، ويبقى المثقّف الحقيقيّ يشعر بالوحدة في مثل هذه الأجواء، لكن ليس أمامه إلاّ أن يستمر حتّى لا يستمرّ بالسّوق الثّقافيّ الفارغ، ورغم كلّ المعاناة من الوحدة في هذا الواقع، ورغم إمعان الليل في زمنه ورغم تكاثف الظّلمات، عليه أن لا يتوقّف أبدًا عن رحلة البحث عن الحقيقة الفلسفة الفعليّة للحياة القائمة على الصّداقة والحبّ، بدون جزع أو لهفة من الموت أو الحياة، فالحقيقة هي الهدف. وفايز رغم كلّ شيء يرى "أنّ الحقيقة لم تهجرني وأزداد كلّ لحظة شوقًا إليها".

ليست هناك تعليقات: