د. عدنان الظاهر
قررنا الإجتماع أربعتنا في مقهى سيدوري المطل على ساحل بحر سومر . وصلتُ والبروفسور مصدّق جميل الحبيب مبكّرين قبل الجميع فمصدّق سومري شطري يعرف طرق ودرابين وشعاب بلاد سومر ثم كان قد حجز لنا مائدة في ركن قصيّ منعزل وطلب من سيدوري تهيئة متطلبات دعوة عشاء لضيوف ذوي مقامات سامية عالية . وصلت بعد قليل السيدة الكاتبة صاحبة شقراق سومر التي أقامته من موته وأحيت عظامه وهي رميم . نهضنا مرحبين وأسرفنا في مراسم التكريم والحفاوة التي تستحق هذه الكاتبة المبدعة . جاءت ومعها شقراقها تطعمه حبّات الفستق والجوز والكازو وتُمسّدُ ريشه الجميل بأنامل الفن والرحمة فيزدادُ غروراً حتى أني تمنيتُ أنْ أكونه بين يديها حتى ولو لدقيقة واحدة . بل وأحسستُ أني أغار عليها منه . شربنا القهوة وتبادلنا النكات والأحاديث أحاديث الإنتخابات البرلمانية فقالت السيدة صاحبة الشقراق إنها مرّت في طريقها إلينا بأحد مراكز الإقتراع فرأت هياجاً وعراكاً وصياحاً لم تهدأ إلا بعد وصول فريق من شرطة مكافحة الشغب . سألتها هل عرفت أسباب ذاك العراك والهيجان قالت كلاّ ، كانوا يتصايحون ويتكلمون لغةً غريبةً عليَّ لم أفقه منها شيئاً . همهم الدكتور الفنّان مصدّق ولم يعلّق ففهمت قصده [ لا يفهمُ العراقيَّ إلاّ العراقيُّ ] . إنطلق الصديق الفنان وانشرح صدره فهو دوماً متحفظ إلى حد الحياء في بدايات التعرف على أناس آخرين لكنه والأجواء الخاصة في مقهى سيدوري والعامة في مراكز الإقتراع ثم زيارة الكاتبة وشقراقها الأثير آكل الفستق والكازو ... كل هذه العوامل مجتمعةً حررت المُصدّق من خجله المزمن وحلّت عقدة لسانه فأبدع وحلّق وقال فلسفة وشعراً وخاطب الكاتبة المبدعة بلغة موجات الألوان التي حبّبها لها جمالُ ريش محبوبها شقراق سومر . أعجبتها إنطلاقة البروفسور الفنان وزادته إعجاباً إذْ عرفت أنه من هناك من موطن الشقراق ، من سومر ، فإنه أصلاً من مدينة الشطرة التابعة لمحافظة الناصرية أو المنتفج [ ذي قار ] . لذا لم تجد أيّةَ صعوبة في مجاذبته أطراف الأحاديث التي تهتم بالفن والشعر والكتابات المنوّعة وهو كاتب رائع ومفكّرُ وخبير بشؤون علم الجمال ونظرياته الفلسفية وله فيها كتاب منشور يُسرُّ الناظرين . ما كانت العزيزة صاحبة شقراق سومر مهتمّةً إلاّ بالجانب الفني من بين باقي الجوانب المتعددة الأخرى المركّبة في هذا الصديق التحفة . قالت إنها تحب الفنون عامةً ولا سيّما فن الرسم والخط . لم أصبر فقلت لها ولمصدّق كتابات في فن الرسم والخط في منتهى الروعة والجاذبية فإنه ساحر الخلطات اللونية ورب الخطوط العربية والعارف بأصولها ومنابعها وسادة أساتذتها الأوائل . مسّدت رقبة طائرها برفق فازداد غلوّاً وتيهاً ونقر بضعة حبات من الفستق الحلبي مما كان في راحة كفها فانبسط الطائرُ المغرورُ وانبسطت معه ونقلت ناظريها برفق وموّدة من طائرها إلى الصديق مُصّدق كأنها تسأله : هل لي أنْ أتعرفَ على هذين الكتابين في الرسم والخط ولو من باب الإستعارة المؤقتة ؟ توجه بعينية نحوي فأدركتُ أنه متحرّج يستعين بي لإيجاد وسيلة لإنقاذه من هذا الحَرَج . إعتذرتُ منها نيابةً عنه ، إعتذرتُ بالحق أنَّ الدكتور يطبع عادة وعلى نفقته الخاصة عدداً محدوداً من مؤلفاته يوزعها على أصدقائه من أمثالي . أضفتُ ، فإذا شئت أعرتك هذين الكتابين لفترة شهرين لا أكثر لكي تطّلعي على ما فيهما من جواهر وآيات بيّنات . قالت على الفور : بل شهر واحد يكفي . إتفقنا وطاب جو الفنان وانشرح صدره السومريُّ فصار يشارك الكاتبة إعجابها بطائر الشقراق وود لو يستطيع إطعامه بما لديها من فستق وجوز وكازو وأنْ يأخذه منها كي تُريحَ يدها منه ... وافقت لكنَّ طائرها العنيد المدلل رفض الفكرة هازاً رأسه ومنقاره يمنةً ويسرةً علامة الرفض باللهجة السومرية . بدلَ أنْ يأخذه بين يديه طفق الصديق الفنان يشدو :
دخلك يا طير الشقراق ...
مقلّداً لحن أغنية فيروز [ دخلك يا طير الوروار ] ...
فضحكنا وضحكنا حتى حلَّ وقت طعام العشاء وجاءت سيدوري تدعونا لتناوله قبل أنْ يبرد ويفقد أغلب طعمه .
نهضنا نجرجر أقدامنا على مهل فعشتار تأخرت ولم تصل بعدُ فما عسانا فاعلين ؟ لا يطيب الطعام في غيابها فهي مليكة سومر وهذا الطير ضحيتها معنا فما الحلُّ ؟ ما أنْ دخلنا صالة الطعام حتى فوجئنا بعشتار هناك تتصدر المائدة المخصصة لنا وقد جمّلتها بأكاليل ورود وركاء سومرَ وجنائن بابل المعلّقة وأسرفت في رش أفخر العطور المستورة من باريس ووضعت في الزوايا مباخر البخور والمسك والعنبر فضجَّ المكان بأجواء مسحورة تخدّر النفوس وتأخذ بالعقول الأمر الذي شجع أخانا الدكتور مصدّق أنْ يطلب كأس بيرة مصنوع من شعير مزارع بابل وبساتين مليكها على نهر الفرات فكان له ما أراد ثمَّ أشار على النادلة سيدوري أنْ تحمل لي كأساً مُضاعفاً مماثلاً فلم أعتذر وعلام الإعتذار. طلبت صاحبة الشقراق كأس عصير برتقال طبيعي أما عشتار وما أدراك ما عشتارُ فقد وجدناها سكرى حتى حدود السكر القصوى ( 10 على مقياس ريختر للزلازل ) . لم تطلب شيئاً سوى كأس ماء بارد مع شيء من الثلج. جلس الفنّانُ في جهة الكاتبة لأنه هو الآخر وقع في غرام الشقراق فقوّته على الإغراء لا تُقاوَم ثم إنه وقد تعهّدَ أنْ يرسمه غدا لا يفارقه بحجّة دراسة تشكيلاته اللونية وضبط مقاسات حجمه الطبيعي وأطوال ريشات جناحيه ولون قزحيتي عينيه ودقّة منقاره . ليس صعباً عليه إيجاد الحجج فإذا لم يجدها إختلقها وهو المفكّر والفنان القدير . أدركت عشتارُ ، وكانت إلى جانبي تماماً في مجلسها ، دوافع ومرامي مصدّق خاصّةً وهي مثله سومرية وخبيرة في أمور الغرام والجنس المقدّس وغير المُقدّس وفنون الإغواء وهذه هي رسالتها ووظيفتها خلال الشهور الستة التي يغيبُ فيها تمّوز عنها في رحلته السنوية الدورية في العالم السفلي يستعيد هناك نشاطه الجنسي وقوة عضلاته ويمرُّ في دورات التنشيط
Fitness
وإستعادة شروط ومستلزمات الخصوبة والتخصيب والإخصاب ويتناول عقاقير وأعشاب طبية خاصة لتقوية الباه الرجولي فيه ليمارسَ مهماته الأساسية هذه كأنه مليكَ خلية نحل نسائية سومرية أصلية ولا من شيء سواها خلال الشهور الستة الأخرى التي يقضيها في عالمنا المرئي تحت شموس العراق القوية .
كنت منشغلاً في شتى الأحاديث مع عشتار حيث كلامها لا يخرجُ بعيداً عن أحاديث الآيروس المكشوف لكنها تجيدُ روايتها ولها أساليبها الخاصة في ذلك . أما الفنان إبن سومر فكان غارقاً مع الكاتبة في أحاديث شتّى وعينه ويده في صحون الطعام الذي كان أغلبه من أسماك الأهوار وطيورها في حين كانت جارته الكاتبة الجميلة تنصت لأحاديثه في عشق صوفيّ أصيل يخترق دفاعات الروح الأولى لكنَّ ذلك التصوّف وقدرة الفنان على صياغة الجمل التي تأخذ بالألباب والعقول لم تمنع السيدة من الإنشغال بمداراة طيرها وتدليله وتأمين مستلزمات طعامه وشرابه حتى أسكرته بالكثير من الويسكي الأسكتلندي حسب رغبته .
طالت جلستنا حول مائدة الطعام فأكثرنا من تناول شتى أنواع أطباق الطعام من من بركات أنامل سيدوري التي كانت قد تدرّبت على صناعة الفندقة وإدارة المطاعم في أرقى المعاهد السويدية والدنماركية . كانت تدور بيننا وبين المطابخ رائحةً غادية مثل مكّوك الحائك العم أبو عبد المنعم الذي كان يحوك عباءات المرحوم الوالد الصيفية . أما عن المشروبات الكحولية وغير الكحولية فحدّثْ ولا حَرَج . عصير بل أعاصير الفاكهة المستوردة من كل فجّ عميق من أمريكا الشمالية حتى أقاصي فيتنام وأستراليا فضلاً عن الكولات والسفن آب والسكنجبيل ولا أتكلم عن الكحوليات من الرم الكوبي وأخواته الويسكي والكونياك ثم عرق مسيّح العراقي والآخر المسمّى أبو كلبجة . ما كانت عشتار سومر بحاجة إلى دعوة أو إلحاح لتمضي معنا في سفرة السكر الطويلة لأنها ( منصوبة ) أوتوماتيكياً ومنذورة للسكر منذ لحظة مولدها حيث سقتها الجَدّة التي إستقبلتها ( الحبّوبة ) قليلاً من عرق تمور نخيل العراق بدل ماء دجلته وفراته فترسب الكحول في عروقها وفي جذورها لا يتحلل مثل الإشعاعات النووية ولا يتفكك كيمياوياً ولا يمضي إلى خارج جسدها مع البول مثلاً . هذا العَرقُ العراقي مصيبة ، أجل مصيبة يا ناس [ عَرَق = عراق ... لاحظوا التناسق وأوجه الشبهْ ] فهل كلمة عرق من عراق أو أنَّ العراق من العَرَق ؟ قالت عشتار بصعوبة ورأسها يترنح تحت وطأة ما شربت من الكحول : لا فرق . لا من فرق . المهم هو المفعول . العرق يُسكرُ شاربَه والعراقُ يدوّخ ويسطل ويلعن سلفَ سلفات ساكنه والنتيجة هي السُكر بدون عرق العراق . أنهت عشتار جملتها وكأس العرق في كفها ، رفعته عالياً وقالت للفنان عاشق الشقراق [ أو صاحبة الشقراق ... لا فرق ... ما دام العرق هو العراق وهذا هوذاك ] في صحّتك أيها الفنان المغرم برسم اللبسان النسائية الميني الصارخة الألوان ... اليوم خمرٌ وغداً أمرُ ... هيا ... هيا نعيش الحياة كأننا نحياها لآخر مرة . ثم أضافت : الفاتحة على روح أبي نؤاس ، لم يخلقْ ربّه له مثيلاً ، ثم أنشدت :
ألا فاسقني خمراً وقلْ لي هيَ الخمرُ
ولا تسقني سرّاً إذا أمكنَ الجهرُ
نهض الفنان مُصفّقاً جذلانَ فصافح عشتار سومر وقبّلها كما شاءَ وكما شاء سُكره فتجاوبت آلهة الجنس والإخصاب معه فردّت له جميله مُضاعفاً . ظلّت الكاتبة المُبدعة صاحبة الشقراق هادئةً كأنها لا تفهم ما يجري أمام شقراقها وعينيها من عجائب الأمور وكيف لها أنْ تفهم ذلك أو بعضاً منه ما دامت صاحية يقظى لا تعرف الخمر ومفعوله ولم تجرّبه في حياتها . ظلّت عشتار محايدةً مؤدّبةً رقيقة في تعاملها مع الكاتبة رغم كثرة من عبّت من مشروبات بعضها محرّمٌ دولياً خاصةً على السيدات لكنَّ المناسبة تسمحُ بل وتُجيز فإنَّ اليومَ هو الثامنُ من آذار يوم وعيد المرأة العالمي ثم إنه يوم مجيء السيدة الكاتبة لدنيانا ... عيدان في يوم واحد فلنصرخ عالياً مع فريد الأطرش حين غنّى : الحياة حلوة بس نفهّمها . تململت الكاتبة بأبّهة وهيبة لا تناسبان عمرها فاعترضت قائلةً : كيف تكون الحياة حلوة وشعبي يقاسي وأرضي يحتلها الغرباء ؟ نكّسنا رؤوسنا إحتراماً لها وتضامناً معها وخجلاً مما نحن فيه من سكر وتهتك فاعتذرنا واقترحنا إنهاء حفلنا الساهر فجاءت سيدوري لنسددَ لها الحساب لكنها فاجأتنا قائلةً : أي حساب ؟ أنتم اليوم ضيوفي واليوم هو الثامن من آذار عيدي وعيد جميع نساء المعمورة ظلّوا إذا شئتم حيث أنتم حتى صباح اليوم التالي فالمطبخ عامرٌ وأنا مثلكم أفرطت في الشراب . نهضت عشتار فقبّلت سيدوري ومسّدت خديها وشفتيها ثم بقينا في أماكننا نيامى حتى الصباح . أما الكاتبة فقد إختفت وغابت ومعها طائرها ولا أحد يعرف متى وكيف غابت .
الخميس، مارس 11، 2010
الشقراق السومري والفنّان
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق