الأربعاء، مارس 17، 2010

قراءة في مجموعة (مدونة الصمت) للشاعرأحمد الشطري

أمجد نجم الزيدي

قراءة في تدوين الصمت

كتابة الشعر هي محاولة للأقتراب من مناطق الحلم وتداعيات الذاكرة، محاولة لبناء ذاكرة جمعية جديدة، تكسر بها إستكانة الدلالات القاموسية وارتباطاتها المتواضع عليها تأريخياً، وتتخذ هذه المحاولات عدة تلوينات ربما تكون مجازية أو استعارية، في عملية الانزياح عن تلك المواضعات التي تأصلت بفعل قوة الزمن، ليعيد بها القارئ/ المتلقي بناء شخصيتة القرائية، وذلك بأندماجه بالنص متمردا على الحيادية التي فرضتها عليه المواضعات التقليدية، ويصوغ بتلك التلوينات نصه الذي ولدته حساسية القراءة لديه، لتتلبسها الذات القرائية متخذة من التناصات المضمرة جسرا تعبر به الى الضفة الاخرى، وهي التي يكون فيها الشعر هوية كونية، تضيع فيها الحدود المقدسة للدلالات لتندمج مع الجوهر الحقيقي للوجود، فيخرج الشعر من توصيفه البدئي الى رؤية تختزل الكون وتعيد تشكيل دلالاته بروحية جديدة.

فلو قرأنا في ديوان (مدونة الصمت ) للشاعر أحمد الشطري، الذي ضم 19نصاً، توزعت بين القصائد العمودية والتفعيلة، هذا البيت من القصيدة التي تحمل عنوان الديوان:

هل تسمع الصمت، سال الصمت من شفتي

حين استبد سعال الحرف في رئتي

والذي يرينا ذلك التلاعب أو تخريج الكلمة ومحاولة تخريب عقدها الاتصالي، لادخالها في فضاء تكويني جديد يعطيها هوية جديدة ومعنى من المعاني الجديدة، والتي ربما ترفضها القواميس التقليدية، بيد انها تفرض وجودها من خلال التأثير وتحريك الاطياف الشعرية الكامنة في العالم والوجود والذاكرة، فقول الشاعر ( هل تسمع الصمت)، يخرق قاعدة السماع التي تنبني على ( صوت) الى سماع الصمت الذي تنعدم فيه اللغة، وبالتالي ينعدم الاتصال، والتي يؤكدها بقوله (سال الصمت من شفتي)، بيد ان المقابلة بين صمت صدر البيت وصدح العجز الذي فيه يقول (حين استبد سعال الحرف في رئتي)، ترينا بأن ( الصمت واللغة ) هنا في هذا البيت، أو ربما في القصيدة كاملة، يخلعان ازيائهما القاموسية، ليلبسان لغة الشعر، بأستخدام اللعبة البلاغية وهي المجاز، الذي يصفه أدونيس في كتابه ( الشعرية العربية) بأنها وليدة ( حساسية تضيق بالواقعي، وتتطلع الى ماوراءه)، أو كما يقول في نفس المكان (المجاز تجاوز، وكما ان اللغة تجوز نفسها الى ماهو ابعد منها، فأنها تجوز الواقع الذي تتحدث عنه الى ماهو أبعد منه. كأن المجاز، في جوهره حركة نفي للموجود الراهن، بحثا عن موجود أخر)، فهذا البيت يحاول ان يتجاوز لغته والتي هي وجوده القاموسي الى بعد سيميائي أكثر بعدا اوايحاءا.

أما البيت:

كل المسافات ضاعت، بينما جملي

لازال يحمل اسفارا بأوردتي

فنلاحظ بأنه يستند على تناص قرأني مع الآية الخامسة من سورة الجمعة، بسم الله الرحمن الرحيم ((مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) بيد ان هذا التناص يفترق عن النص القرأني، إذ ان دلالة الآية القرأنية تدل على فعلي ( حركةـــــ ثبات)، بينما البيت يدل على فعل واحد وهو (حركة)، وإن كان يشترك مع النص القرأني بتأكيد الضياع المباشر بالبيت والمضمر في الآية القرأنية، وهناك ابدال للحمار بالجمل، وذلك انزياحا عن المعنى العام للآية القرأنية، بأن البيت يعيد تكوين دلالاته على الايقاع المخالف للآية القرأنية للخروج من النطاق الدلالي الذي توحي به، واستنادا للقيمة الاشارية المختلفة بينهما، بسم الله الرحمن الرحيم ((أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)) (الغاشية: 17).

أما في البيت التالي من قصيدة (رماد الندم):

لي سيف صبر وبي يستهتر الوجع

وفي غضون جروحي يورق الفزع

فسنلاحظ هذه المقابلة والتي تظهر من خلال بناء مشهد درامي بطليه ( الصبر والوجع)، حيث يظهر الاول بالاستناد على دلالة (الصبر)، والتي ربما أختزنتها الذاكرة الجمعية، على انها فعل سكوني مسالم، بينما يظهره النص يحمل سيفا يحاول به ان ينحت له وجودا مفارقا، بتخليصه لدلالة حركية جديدة حيث أصبح يقف بمواجهة درامية جميلة، مع الدلالة المضادة والمرافقة له دوما وهي (الوجع).

أما البيت:

كم طار فوقي عصفور البكا..مرحا

لكنه في جفوني راح يقعُ

ونلاحظ هذا البيت الذي يتماها بصورة تناصية مع احد الامثال الشعبية وهو (ماطار طير وأرتفع، إلا كما طار وقع)، بيد انه ينحى نحو تغريب هذا المثل، اذ أننا لو حاولنا تحليل المثل الشعبي، واظهرنا مرتكزاته لظهر لنا بأن الفعل المتمثل بالطيران هو فعل هروب من الفعل الاخر وهو (الوقوع)، بينما البيت الشعري يظهر ان الفعل الاول وهو ( الطيران) كان فعلا استعراضيا خاليا من القصدية ، و انه يرتبط ارتباطا حتميا ووجوديا بالفعل الاخر وهو (الوقوع)، عكس المثل المتناص معه، فليس حتميا ان فعل الطيران دائما يرافقه السقوط. وما يحاول المثل من توصيله يرتبط بدلالة محددة، أستخدمت المثل كجسر مجازي تعبر عليه.

أما البيت التالي من قصيدة (مدونة العراة):

هطل المساء على حقول عيوننا

الحلم انثى

والظلام لقاح

وحاولنا تتبع دلالاته، فسنجد بأن دلالة الشطر الاول وهو "هطل المساء على حقول عيوننا"، هي دلالة قائمة على استعارة ليست حديثة، اذ انها تبدو واضحة ومباشرة تقريبا، لأرتباط (هطل) بـ(حقول) و(المساء) بـ(عيوننا)، اما الجز الثاني من البيت فسيظهر فيه ذلك التلاعب الذي يولد للبيت حساسيته الشعرية، فلو أخذنا كلمتي (الحلم) و(الظلام) لرأينا بأنهما مفردتين تدلان على مذكرين، بيد ان النص ربط الحلم بالانثى وربط الظلام بالذكر الذي يمثل اللقاح، فلماذا اختار ان ان يجرد الحلم من صفته الذكورية وليس الظلام مثلا، ان الجواب يكمن في هذه المزاوجة التي اوجدها النص، والتي اخرجت كلا الدلالتين (الحلم والظلام) من ارتباطاتهما اللغوية والشفرية، الى ارتباط جديد يتولد بالمجاورة، حيث ان الظلام مثلا لو اخذ بعيدا عن هذا النص، وافرد جانبا، فمن المستحيل – ربما – ان يرتبط باللقاح، فالظلام دائما كان رمزا للعقم، ولكن ارتباط الحلم بالانثى هو الذي سيجيب عن هذا التساؤل، فهناك علاقة سببية بين الاثنين، فالحلم لن يأتي الا بوجود الظلام/ اللقاح لخصب الحلم ليلد احلاما اخر.

اما البيت التالي من قصيدة (بعد الرمال):

كل احتراقاتي (العذراء) معجزة

وكل حرف اتى بعد الرماد صبي

فسنلاحظ بأنه يحاول ان يلغي ارتباطاته التي ربما تقسرها الذاكرة والبناء اللغوي المتحكم، بدلالاتهما واشاراتهما، ويتمثل هذا الالغاء من خلال المجاورة بين فعل الاحتراق والعذرية، فربما – وهذا رايي بالتأكيد – ان فعل الاحتراق هو فعل نفي والغاء لأي عذرية، فالنار دائما فاضة لبكارة الاشياء، واللغة التي تأتي بعد هذه الاحتراقات الانثوية العذرية هي لغة ذكورية، ممكن ان تؤرخ لهذا الاحتراق بعيدا عن مصدرها الكوني الاول الممثل بالنار، الانثى، الذاكرة.

وترينا هذه القصيدة ايضا مجموعة أخرى من التضمينات والتناصات، وان لم تخرج بعيدا عن مصدرها الاشاري وهي التي تظهر بالابيات التالية:

القيت في البحر الواحي فقد فتنوا

بالعجل واستهزءوا بالمعجزات وبي

ماذا سأفعل اني واحد وهمُ

كثر واسيافهم قد مزقت قربي

وايضا بيت أخر:

البحر تحتي والطوفان يتبعني

ولات منجى إذا فاضت سوى خشبي

حيث ان البيت الاول يظهر تضمين قصة النبي موسى (عليه السلام) مع بني أسرائيل، وقد جاء هذا التضمين على وفق مبدأ القياس، ، اذ استعيرت القصة للدلالة على هذه التجربة، وكذلك البيت الثاني الذي ضمن قصة سيدنا العباس (عليه السلام) مع انزياح بسيط عن القصة المعروفة المقترنة بـ(القربة)، والتي جمعت الى (قرب) ارتباطا دلاليا مع (اسيافهم)، وعزفا متناغما مع دلالة (الجمع) في الابيات التي جائت قبلها وخاصة مع البيت التالي:

هذا ارتقاء المتخمين وقد

عروا البطون ولفوا العقل بالحجبِ

أما البيت الثالث والذي يستند على تناص مع قصة الطوفان القرأنية، لكنه يفترق عنها في صدر البيت، اذ يقول (البحر تحتي والطوفان يتبعني)،والذي يرينا استمرارية الطوفان، الذي يولد انزياحا دلاليا للبيت، بخروجه من ربقة المصدر.


ليست هناك تعليقات: