من بعد تجربته الأولى في الكتابة الروائية أصدر الزميل الكاتب والأكاديمي البحريني الدكتور عبدالله المدني مؤخرا روايته الثانية التي نشرته له أيضا "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت. و الرواية التي إختار لها صاحبها عنوانا غريبا هو "بولقلق" وتدور أحداثها في دول جنوب شرق آسيا، تقع في 152 صفحة، موزعة على عشرة فصول هي : بولقلق، أرزاق التيوس، في عمارة صامباقيتا، الرحيل إلى بانكوك، حانة "براون شوغر"، العودة إلى مانيلا، في هونغ كونغ، رسالة من فيتنامية، فتاة "لوفتهانزا"، العودة إلى الخليج.
الأيام إلتقت الزميل المدني في حديث مطول عن أعماله الروائية، فكانت الأسئلة والأجوبة التالية:
قلت في حديث صحفي سابق لإحدى الصحف البحرينية حول روايتك الأولى "في شقتنا خادمة حامل" بأنك ستنتظر لترى ردود الأفعال على تلك الرواية، قبل أن تباشر في كتابة عمل روائي آخر. فهل كانت ردود الأفعال مشجعة، وبالتالي هي التي دفعتك إلى إنجاز "بولقلق" بهذه السرعة؟
نعم ردود الأفعال على روايتي الأولى كانت أكثر من مشجعة! بطبيعة الحال إنتقدها البعض، ووجدوا فيها بعض النواقص الفنية كأية تجربة أولى لصاحبها. لكني في هذا السياق يكفيني ما كتبه عنها قامة أدبية ونقدية كبيرة مثل أستاذ النقد في آداب عين شمس الدكتور صلاح فضل.
ما مدى إختلاف عملك الروائي الأول عن الثاني؟
كل من سيقرأ العملين سيجد إختلافا كاملا بينهما، سواء لجهة المكان أو الزمان أو الشخوص أو الأحداث أو المشاعر أو الحوارات. ربما كان القاسم المشترك بين العملين هو شخصية البطل. فخالد في "بولقلق" مثل سالم في "في شقتنا خادمة حامل". بمعنى أن كليهما يمتلكان حسا إنسانيا شاعريا، وعلى قدر كبير من الجاذبية و الثقافة والأناقة، فضلا عن عشق كليهما لمباهج الحياة ولهوها. بل أن كليهما حائر وجزوع وتواق إلى الحرية في الوقت نفسه، كما لو كانا في بحث دائم عن الجديد والمختلف.
بعض من قرأ الروايتين، إستنتج بأن سالم وخالد ليسا سوى شخص واحد؟ فما رأيك؟
ليقل هذا البعض ما يريده، فهو حر في الإستنتاج. لكن من جهتي أنفي نفيا تاما أية صلة بين الشخصيتين. حيث أن الأمر لا يتعدى المشتركات التي أتيت على ذكرها.
قلت في تصريحات صحفية سابقة أن "بولقلق" رواية يمتزج فيها الواقع بالخيال، أي على العكس من رواية "في شقتنا خادمة حامل" التي رسمت شخصياتها وأحداثها من وحي الخيال؟ كما أضفت أن الواقع ينحصر في "الحكايات التراجيدية التي كلف بطل الرواية "خالد" بالتقصي عنها في جنوب شرق آسيا كجزء من عمله مع المفوضية السامية لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. سؤالي هو عن مصدر تلك الحكايات التراجيدية ومدى دقتها؟
قضيت وقتا طويلا أدرس وأتفحص تلك الحكايات المدونة في تقارير المفوضية السامية لشئون الللاجئين التابعة للأمم المتحدة. وقضيت وقتا أطول في تكييف تلك الحكايات بطريقة يمكن معها توظيفها في عمل روائي. وعلى العموم، فدراسة تلك الحكايات والإطلاع عليها كانت من ضمن شغفي وإهتمامي بالشئون الآسيوية التي تخصصت فيها أكاديميا. وأستطيع أن أؤكد للقاريء الكريم أن كل الحكايات التي وردت في "بولقلق" واقعية، لكني إضططرت فقط إلى تغيير أسماء أبطالها الحقيقيين.
هل نستطيع القول، باعتبارك متخصصا في الشئون الآسيوية، أنك إلتقيت بواحد أو أكثر من أصحاب تلك الحكايات التراجيدية؟ أو أنك زرت كل أو بعض الأماكن التي أتيت على ذكرها في الرواية؟
نعم! إلتقيت بشخصيات تتشابه وتتقاطع حكاياتها مع حكايات من أتيت على ذكرهم في الرواية، وذلك حينما كنت طالبا في الولايات المتحدة الأمريكية. أما الأماكن التي ذكرت في الرواية فقد زرتها أو مررت بها كلها مرات عديدة أثناء زياراتي المتكررة لدول جنوب شرق آسيا.
الملاحظ أن كلتا الروايتين لم يتم تدشينهما رسميا في البحرين؟ فما السبب؟
هذا السؤال يوجه إلى من يعنيهم الأمر، ولا يوجه عادة إلى الكاتب! وعموما فإني غير متلهف للتدشين بترتيب من الجهات الرسمية. بمعنى أني أفضل أن يكون التدشين بترتيب من مركز ثقافي غير رسمي من مراكزنا الثقافية ذات الحضور الجماهيري. والقائمون على أحد هذه المراكز لديهم علم برغبتي تلك، لكنهم لم يحركوا ساكنا حتى الآن لأسباب لا أعرفها، و أنا بدوري لم أكرر طلبي حتى لا أبدو لحوحا ومزعجا مثل "الطرارين".
إتهمك البعض بوجود تشابه ما بين روايتك الأولى "في شقتنا خادمة حامل" ورواية الدكتور غازي القصيبي "شقة الحرية"! فهل هناك رواية عربية على حد علمك تتشابه مع رواية "بولقلق".
هذا إتهام باطل جملة وتفصيلا. التشابه الوحيد بين روايتي الأولى ورواية الصديق الدكتور غازي القصيبي (شافاه الله وعافاه وأعاده إلى محبيه الكثر سالما) يكمن في كلمة "شقة". وطالما أن كلتا الروايتين تتحدثان عن شقة يعيش فيها طلبة جامعيون مغتربون عن أوطانهم، فلا بد أن تدور أحداث ومقالب وحكايات وقصص عاطفية وغير عاطفية متشابهة إلى حد ما، لكن ليست متطابقة. أما إجابتي على الشق الثاني من السؤال فهو أن رواية "بولقلق" هي أول رواية عربية يدور كل أحداثها في جنوب شرق آسيا مثلما قيل لي.
هل ننتظر منك عملا روائيا جديدا في المستقبل القريب؟
بالتأكيد. فالروائي لا يتوقف عن الكتابة إلا لإلتقاط الأنفاس، بمعنى أنه لا يتوقف إلا لمتابعة مدى نجاح عمله السابق. لم أبدأ بعد كتابة عمل روائي جديد، غير أن خطوطه، بل وحتى عنوانه و تفاصيل شخصياته جاهزة. وسيكون هذا العمل مختلفا تماما عن سابقيه أيضا سواء لجهة الزمان أو المكان أو الشخصيات أوالأحداث أو الحوارات أو المشاهد.
هل من الممكن ان تخص جريدتك "الأيام" بعنوان العمل القادم، طالما أنه قد وقع الإختيار عليه؟
حسنا! العنوان هو "محمد صالح وبناته الثلاث: شهربان وخير النساء وفاطمة جول". ومن العنوان يمكن للبيب أن يستنتج مضمون الرواية الذي هو بإختصار شديد حكاية أناس يعيشون بين ظهرانينا لكن لم يسلط ما يكفي من الضؤ على ظروفهم ومشاعرهم وأحلامهم وتحولاتهم.
الأربعاء، مارس 31، 2010
صحيفة الأيام تحاور د. عبدالله المدني عن روايته الجديدة "بولقلق
خمس قصص قصيرة جدا ـ 23
محمد شوكت الملط
"1"
دموع متنوعة
فى أحد المنازل الفرنسية ، وبعد انتهاء مباراة كرة القدم ، سالت دموعٌ غزيرة من عينى مغترب جزائرى،فرحاً بفوز فريق بلاده على الفريق المصرى, يجاوره مغترب آخر انهمرت الدموع من عينيه ولم تتوقف ، حزناً على هزيمة فريق بلاده ، لأنه مصرى ، وكان ثالثهما مواطن ماليزى، ذرفت عيناه بالدموع ومازالت ، حسرةًعلى ما وصل اليه المسلمون من انحطاط .
"2"
ناجح وراسب
بمجرد اعلان نتيجة الثانوية العامة،هُرع الجميع إلى الناجحين ليقدموا لهم التهانى ، ويشاركوهم الفرحة،الا رجلا واحد ، آثر المرور أولاً على الراسبين لمواساتهم ، والشد من أزرهم ، وزرع الأمل فى نفوسهم من جديد، قبل أن يقتلهم اليأس والقنوط،ونسيان الناس لهم.
"3"
اضطراب غلام
فى البيت غُلام ، .يعيش فى اضطراب،طالما نصحه أبوه بالصدق،وكثيرا ما يرى أباه يتخذ من الكذب منجاة، و فى المدرسة يطالبهم المعلم بتنظيف أسنانهم ، وأثناء حديثه الحماسى تظهر أسنانه يكسوها اللون الأصفر ، يسير فى الشارع ،لم يُعد يفرق بين الكاذب والصادق ، بين الخائن والأمين ، بين العدو والصديق، لم يجد طريقا للتخلص من هذا الاضطراب الا طريق المسجد.
"4"
صورتان للزوج
صبرت على زوجها كثيرا كثيرا، داخل البيت دائما شديد البخل عليها وعلى أولادهما، فى الخارج مع الآخرين يُضاهى حاتم الطائى فى كرمه ، معهم فى البيت مكفهر الوجه غليظ القلب،مع غيرهم بعيدا عنهم ، لا تفارق وجهه الإبتسامة ، بساما اذا ما استقبل أصدقاءه ومحبيه، بساما اذا ما ودعهم،لا يعتنى بأفراد أسرته، لايتفقد أحوالهم، طلباتهم الشرعية غير مُجابة ، زواراً للجيران والأقارب والزملاء، يشاركهم الأفراح والأتراح، نفد صبرها ، لم تستطع التحمل أكثر من ذلك ، خمس عشرة سنة، على استحياءٍ قالت له بصوت خفيض : اتقِ الله فينا ، إن لأهلك عليك حقا.
"5"
قمة الجبل
أوصاه شيخه : يا بُنى : اذا وقفت يوما ماعلى قمة الجبل فسوف ترى الناس صغارا ، فلا يفوتنك أنهم أيضا سوف يرونك صغيرا .
Msh_malt2011@yahoo.com
رابط صورة الكاتب
http://www.sharkiaonline.com/upload/images/052352009.jpg
ألمٌ يجتاحني وكأنه (فهرس الأخطاء)*
زياد جيوسي
يجتاحك الألم حبيبتي، ويجتاحني أكثر و(ترعف الريحُ أحزانه)، أقف ملتصقاً بنافذتي أتأمل المطر في هذا المساء، لعله يطهرني من اجتياح الألم، وأشعر أنه (سيقعي المساء على أربع ثم ينجب أيتامه)، وأرى الحزن يجتاحك وكأنه (نُدباً في ظهور ملائكة ذابلين)، فأشتاق إليك أكثر، فكيف لي- وأنت في البعيد- أن أصل إليكِ، وأنا (في جبتي وطن من بكاء)، ولا أرى في الحاضر إلا (رداء من الخز يستر عوراتنا، وتواريخ محمولة في الحقائب)، فتقفز بغداد إلى الذاكرة مع ألمنا في البعاد، فأذكر وطناً ضمني حين كانت بغداد (تورد ظهر الزجاج)، وأجرت في دمي ماء دجلة، فمازجته في شراييني مع فيء زيتون وطني (كي لا تطفئ الروح في جسدي).
أجول مدينتي رام الله، نسمات البحر المستلب تداعب روحي، أشعر بطيفي يرافقني وأشعر (أنه راح يجمع بقايا المدن المنهكة..!!)، ويحاول أن يرى (السماء التي لم يرها منذ زمن بعيد)، فسماء بغداد كما سماء رام الله، مليئة بالدخان الذي يحجبها عن الشمس، وتعصف بها (ريح تكنس المدن عن الخارطة)، وتقف شامخة رغم الجرح بمواجهة (قطيع من الظلال.. يمشط بأقدامه الغبار)، فمدننا تمتلك رغم العواصف (جناح مؤجل للطيران)، ومدننا اعتادت دوماً أن (تغزل أحلامها بمغازل من ذهب)، وأنا عاشق المكان الذي يعرفها جيداً، فأنا (رجل بذاكرة عارية)، ولم أكن أبداً من رواد (مقهى من أجل تكرير الجنون).
لماذا تشدني رام الله إلى بغداد؟ أنا هنا أعاني الوحدة في وطن أنغرس فيه، أفتش (في بقايا المدن المنهكة، المدن التي أخطأتها الريح، عن امرأة، وجدار..)، فلا حبيب هنا ولا أبناء يقتسمون معي ألمي، فتأتي بغداد إلى رام الله لتزيد من وهج الألم، وأنا الذي لا يمتلك متراً في الوطن، لكني أمتلك الوطن بأكمله، باقٍ رغم الألم مع طيف أحلم به، يأتيني هنا (كي يعانق آخر إبحاره.. أوّله..)، وأنا الذي (تسكن الأرض خاصرتيه نزيفاً)، و(تبرد في صدره طلقة قاتلة)، فما بين ذاكرة بغداد ومعانقتي رام الله بعد عقود الغياب، كنت أسير (في الطريق إلى وطني، كنت دوماً شهيداً، وكان الزمان صداي).
أترى لأن بغداد من ضمتني حين كنت أحلم أن أعود وألتقيكِ، حين كنت (أحلم بامرأة لا تجادل في النحو أو في البلاهة)، فكنت أكتب لكِ ما تركته فيها فضاع حين لم أعد إليها، ولم ألتقيكِ، ووأد جسدي، وبقيت أحلم بك وأنا (لم أزل أتهجى رماد المدينة)، وأحلم ببغداد سيدة (مدن العالم المشتهاة)، فيا بغداد عودي كما كنتِ (وامنحيني صلاتك أو هدهديني)، ضعي يدي بيدكِ في شارع أبي نواس وضفاف دجلة كما كنت تفعلين (فقد تعبت هذه الأرض من صخبي)، خذيني إلى الوزيرية والأعظمية والكاظمية، (فقد شاب مني الشراع)، أعيديني إلى روح أمي غريبة وابنتي نهلة في كمب الجيلاني، كي لا أكون أنا (سيد المتعبين إذا أقفرت من رفيق ذراعاي)، ضميني إلى صدرك في شارع الرشيد، فأنا بشوقي (مطر عالق في سقوف الغمام)، ودعينا نجول شارع المتنبي نلتقط بعض الكتب، شارع النهر حيث تتهادى حوريات بغداد، جولي معي في شارع المحيط وغابات النخيل حيث كنت (أتوسد الخرائط.. فتنبت على خدي الطرقات)، ودعينا نلتقي أساتذتي الذين كانوا (يغتسلون بحليب الحكمة)، وحين نتعب نحتسي القهوة في مقهى البرازيل (لكي أختصر الأرض)، ولا تتركيني (مثل جذع يتيم في عباب الحياة).
أيا رام الله، ضميني إلى صدرك وانثري على رأسي شلال شَعرك، احضنيني تحت شجرة البركة، فأنت وحدكِ من لها (أذنٌ أجفف فيها الكلام)، وأنا المغني الذي (أطلق لحنجرته عنان البكاء)، وأبذل روحي كي لا (يسقط الوطن من الخارطة)، ولا أمتلك إلا حلمي (وأوراق طرية الحبر)، بينما أرنو فأرى (ثمة أصدقاء عالقون على شفة الموت)، وأرى حلماً حلمناه وسعينا من أجله يتحطم، وأراه قد (سقط في بئر من الخرائط وتدلت فوقه أسماء المدن العتيقة)، وكان الحلم أن (يرى الشمس عنقوداً من المصابيح)، وأن يكون (القبلة لدى سماع آذان الفجر)، لكننا صرنا لا نرى الوقت إلا (من ساعة معطلة في سماء بغداد)، ولا نمتلك (سوى العمر الذي لا يأتيه النوم)، و(تحية لأرواح بعض أجدادنا).
وأسألك حبيبتي (كيف سأسرق باقة ضوء، من قمر.. سلبته النوافذ تاريخه؟)، فتعالي من بعادك كي (أصنع من نجمة.. نجمة)، وكي أخلق من وطني وطناً كي لا يقولون لي: كفاك (لك من الجغرافيا أطلس حافل بتضاريس الحنين)، أنا الذي حلمت و(أطلقت ذاكرتي للريح)، ولا أمتلك إلا حلمي (وأنا أرسم السماء بلون الدم)، وأصرخ بكل ما تمتلك حنجرة قد بُحت من كثر الصراخ: (أيها الناجون من بلادكم.. إلى أين المفر؟؟)، تعالوا ولا تكونوا مثل من (يغزو الظلام مفاصله فيحضن صورته.. ويموت)، تعالوا واسألوا أنفسكم (لماذا ينقش العابرون أسماءهم على سور المدينة.. أو على ما تبقى من جذوع الأشجار.؟).
يا صديقي الشاعر عبود الجابري، لا أريد أن أكون (عابر وطن)، فلماذا تصر أن تحملني من ميدان المنارة إلى (جسر الشهداء)، وتهمس بأذني بصمت: ترى (كم جسراً يلزمنا للشهداء..؟؟)، فأصمت كصمتك ولا تسمع مني إلا (زقزقة مبحوحة) وأهمس لك: لا تبتئس يا صديقي فما زال (ثمة أنت.. وأنا وترابٌ أحمر)، وأطفالنا (أجنحة مؤجلة)، ووطننا لن يكون مثل (غريب يموت من البرد في جنبات الفصول)، فما زلت أرى (غيمة في سماء البلاد) تحلم (بالطين المقدس) و(تمتثل لأذان الفجر)، وتحملنا أنت وأنا، رام الله وبغداد إلى جنين لننثر الورد على مقابر شهداء العراق في جنين.
* كلّ ما هو بين أقواس للشّاعر عبود الجابري (العراق)، من مجموعته الشّعريّة "فهرس الأخطاء"، الصادر عن دار أزمنة في عمّان 2007م.
الثلاثاء، مارس 30، 2010
ثقافة الذئبية
عـادل عطيـة
قال الشاعر اللبناني مراد أبو نادر :
وإذا لم تكن على الناس ذئباً أكلتك الذئـاب نهّشاً ونسـراً
أما الشاعر المصري فاروق جويدة ، فقد وصف زماننا بزمن الذئاب ، وفي أسـى ، يخاطب والـده :
أبتاه ، مازال في قلبي عتاب ..
لمَ لمْ تعلمني الحياة مع الذئاب ؟!..
وكلما واصلت القراءة عن الذئب في التراث العربي ، أشعر بتأكيدات ، وكأن جهات العالم الأربع ، تضم غابة عظمى ، والذئاب المتكاثرة تقعى أمام بيتي ، وقد كشفت عن أسنانهـا للافتراس ، والعـراك !
وتساءلت : هل البشرية كلها تذائبت ، وفقدت إنسانيتها ، وتعاطفها ، بعضها البعض ، فإذا العالم ذئاب في ثياب ؟!..
أم هي المبالغة التي يتعاطاها الشعر ؟!..
أم أن حضور الذئب في الشعر كأحد مفردات البيئة الصحراوية ، يمائل تماماً فكر هؤلاء الذين تصحّرت نفوسهم ، وتسلل الذئب إلى عقولهم ، فراحوا يروجون لنظرية المؤامرة ، وأن العالم كله على أبواب مدننا ، ينتظر الانقضاض علينا ؛ فنبغض الآخر الذي بيننا ، وحولنا ، والبعيد عنا إلى حد التحريم ، ويصبح للجهاد الدموي مبرراته ، وقدسيته ؟!..
ان ثقافة الذئبية لم تعد نستمدها فقط من شعرائنا ، ونحن نلوك خيالهم المرعب في رومانسية ، ولكن أيضاً من شيوخ الفضائيات ، ومكبرات الصوت ، الخارج من كل جامع ، وكل مسجد ، وكل زاوية ، القادرين على تعظيم الرؤى المفزعة عن الذئب المفترس ؛ لتستقر بثبات في عقلنا الباطني ، حتى اننا ننقل صورة هذا العدو إلى الحقيقة الواقعة ؛ لتنطلق بعد ذلك المسيرات الغاضبة كالطوفان الجارف ، الذي يأخذ أمامه : البشر ، والشجر ، والحجر ، وشرعنتها بنداء : الله أكبر !
وهي ثقافة ، ان لم نتداركها ، مدمرة لإنسانية الذين لم تلوثهم بعد الذئبية الشعرية ، والجهاد غير المقدس .
يا قلبي انسى
محمد محمد على جنيدي
يا قلبي انسى ما عاد لينا
غير الرحمن يواسينا
كفايا دموع وقوم بينا
لذكر الله يقوينا
أنا اللي عشت مخلص ليه
راضي بحالي ولم يعنيه
عذاب روحي ما كان يكفيه
وكنت اتمنى بس ارضيه
يا قلبي انسى ما عاد لينا
غير الرحمن يواسينا
أنا مجروح قوي والله
ولم يرحمني في مره
وكان الحلم لعيوني
سلام من روحه في طله
يا قلبي انسى ما عاد لينا
غير الرحمن يواسينا
أنا يا صاحبي من يومي
بداري جراحي ف.هدومي
ولم خنته وكان لومي
يواسيك يوم على همومي
يا قلبي انسى ما عاد لينا
غير الرحمن يواسينا
داريت عنه سبب نوحي
وضمة نفسي لجروحي
ويوم ما كنت اشوف طيفه
بتسبقني أليه روحي
يا قلبي انسى ما عاد لينا
غير الرحمن يواسينا
على اللي خان بكيت قلبي
زرعت الآه هنا ف. جنبي
أسيت منك ومن غلبي
رجعت اشكي الأسى لربي
يا قلبي انسى ما عاد لينا
غير الرحمن يواسينا
كفايا دموع وقوم بينا
لذكر الله يقوينا
الاثنين، مارس 29، 2010
الضياع: 5-7
أنطوني ولسن
أستراليا
تحذير: هذه القصة للكبار فقط
تعبت عفاف من كثرة الحركة في المنزل، وهي التي لم تذق طعم النوم منذ أسبوع تقريباً، أضف الى ذلك مشقات سفرها بالطائرة.. ما أطولها وما أتعبها من رحلة؟.. لكنها ابتسمت عندما تذكرت المضيفه التي كانت تخاطبها بالاشارة وتمنت رؤيتها مرة ثانية.
وسط الضباب الكثيف المحيط بها وبمستقبلها في هذه البلاد.. وسط احزانها لفراق والديها واخوتها وأهل حارتها ورفاقها في المدرسة.. وسط كل هذه الشجون سمعت صوت والدها يناديها، ارتجفت ووقفت تبحث عن الصوت، عن صاحب الصوت، لكنها لم تجده، رغم ان الصوت أصبح واضحا. لكنها لم تفهم منه ماذا يريدها أن تفعل.. فقط سمعت صوته الذي أخذ يتلاشى رويدا رويدا.
حدة البرق والرعد تزداد في الخارج، وزوجها فريد غائب عن عينيها، ولا تدري الى أين ذهب؟ وصوت والدها كان كالزائر الغريب الذي لم يجد راحته فأثر العودة الى ربوعه.. وهي وحيدة غريبة في بلاد الإفرنج.. انهارت واخذت تبكي بصوت عال، وما من احد يسمعها، كأن الارض انشقت وبلعت فريد. مسحت دموعها بيديها ونهضت تبحث عنه. دخلت غرفة النوم، قادها فضولها الى الخزانة. فتحت الباب وتطلعت بالصورة العارية الملصقة عليه، لم تصدق عينيها. أخذت تحدث نفسها.
- أمن المعقول ان تتصور امرأة بهذا الوضع المشين الفاضح؟ والأغرب من هذا ان تكون صاحبة الصورة صديقة لزوجي.. وسوف أراها الليلة اوغداً كما قال.. ياه.. بلاد الخواجات ياما فيها وياما.. آخ يا بت يا عفاف، دي لو كانت عندنا لقاموا بتقطيعها قطعاً قطعاً وألقوا بها للكلاب، وما الفرق بين تقطيعها وإلقاء جسدها للكلاب، وبين وقوفها عارية تماماً في وضع مخز امام عدسة المصور رجلا كان أم امرأة، وعيون الرجال تنهش جسدها العاري في الصورة.
استمرت في حديثها مع نفسها في صمت وهي تتفحص الصورة العارية، لكنها جميلة.. لم أر في حياتي امرأة بجمالها.. الشعر الأشقر الطويل يغطي الجهة اليمنى من صدرها، بينما الجهة اليسرى تشرئب بفضول وكأنها تتحدى الوجود، ويداها متجهتان الى أسفل، ووجهها الغجري تزينه عينان شقيتان توزعان نظرات التحدي والرغبة والاغراء، وشفتاها حبتا كرز يفصل بينهما شط لؤلؤ جميل.
تذكرت عفاف عُريها في تلك الليلة التي لم تتكرر. كم كان جسدها جميلاً وقوامها ممشوقا كقوام هذه المرأة، وإن كان اقصر منه بقليل.. هي في ريعان شبابها، في ربيعها السابع عشر.وصاحبة الصورة قد ناهزت الثلاثين من عمرها. يكفي عفاف انها محترمة وبنت عائلة لم ير جسدها انسان سوى زوجها فريد في تلك الليلة المشؤومة.
تطلعت خلفها، فوجدت طاولة التجميل «التسريحة»، ومرآة كبيرة، ولم تعرف أي شيطان دفعها الى الاستدارة نحو المرآة، وزرع بداخلها رغبة شديدة جامحة لأن تخلع ملابسها وتقف عارية تماماً كصاحبة الصورة.
عاد فريد من (الجراج) وحالة من الغيظ الشديد تجتاحه، بحث عن عفاف فلم يجدها. همّ ان يناديها، لكنه أحجم عن ذلك، بعد ان رأى باب حجرة النوم شبه مغلق. أطل برأسه، هاله ما رأى.. عفاف عارية. تسلل الى الغرفة بخفة، لكنها رأته من خلال المرآة، ابتسمت له لأول مرة، استدارت نحوه ووضعت يديها على كتفيه.. فوضع يديه حول خصرها، بعد تردد، وحاول تقبيلها. فإذا بدقات قوية ومتلاحقة تهزّ خشبات الباب الخارجي للمنزل.
ارتبكت عفاف وخافت من تلك الدقات المتلاحقة، التي ازدادت حدّتها، أبعد فريد بسرعة يديه عن جسدها، وطلب منها ارتداء ملابسها. أغلق باب غرفة النوم خلفه، واتجه صوب الباب الخارجي، وصوته يسبقه باللغة الانجليزية:
- من هناك؟
- الشرطة.. افتح وإلا..
أخذ يتلفت يمنة ويسرة، كأنه يبحث عن شيء يخفيه، أو يبعده عن عيون رجال الشرطة. بعد لحظات تماسك نفسه وفتح الباب بيد مرتعشة، فإذا به أمام مفاجأة..
- هالو فريدي.. انت ليه تأخرت في فتح الباب؟!
- يا اولاد الأبالسه.. هو انتو.. وقعتو قلبي بين ركبي..
- يا سلام.. ليه بقى.. انت جايب معاك من السفر ممنوعات؟
- ممنوعات إيه روجينا انت وسوسو..
- آه ممنوعات.. جايب معاك واحده ست.. مش كده برضه؟
- ما انت عارفه ان المدام بعتتني علشان اتجوز.. يبقى أجيب معايا واحده ست والا واحد راجل؟!
- ايوه كده.. أحسن كنت ازعل منك لو كنت جبت راجل معاك..
- هي فين عروستك يا فريدي؟
هنا ارتبك قليلاً وأجاب:
- في غرفة النوم..
- آه ياشقي.. وانت ما بقاش لك كام ساعة.. اشتقت خلاص؟
- لا أبداً روجينا.. انا مشتاق لك انت صدقيتي.. استنو شويه رايح أنده لها..
اتجه الى غرفة النوم، فتح الباب، وجد عفاف متكورة على الأرض، في جلستها المعتادة، عندما تكون في حالة نفسية سيئة، تطلع فيها.. ولأول مرة شعر بالعطف والحنان نحوها، ربت على شعرها، فرفعت عينين حزينتين ملؤهما الخوف والضياع. هدأ من روعها، طمأنها بان صديقه جاء للترحيب بها.
نهضت من جلستها، أخذت تصلح هندامها وشعرها. بينما هي على وشك الخروج، إذ بسوسو وروجينا يدخلان عليها. ما ان وقعت عيناها على روجينا حتى انتابها اعصار داخلي موجع. لم تتبين ان الواقفة امامها هي بشحمها ولحمها، صاحبة الصورة العارية الملصقة خلف باب خزانة غرفة نومها.. لكن هالها جمالها الشيطاني، ولجمتها الجرأة في عينيها، وفي حديثها الذي لم تفهم منه شيئاً.
أخذت روجينا تدور حول عفاف، وسوسو يضحك والدهشة تغمر فريد..
- حلوة.. أوريجنال خالص.. انت عندك ذوق حلو كتير فريدي..
رمت روجينا بفرمانها الهمايوني هذا، وسوسو يحاول رفع فستان عفاف الى أعلى ليرى مفاتنها عن كثب، مما جعل فريد ينتفض ويصيح:
- إيه اللي بتعمله يا مجنون.. انت ناسي دي مين؟ دي مراتي يا بني آدم؟!
صعق سوسو من تصرف فريد الذي لم يكن يتوقعه، فوقف مذهولاً كطفل كسروا لعبته، ولا يعرف كيف يعلل فعلته. فخيم على الغرفة صمت غير محبب بينهم بدده سوسو بصوته.
- أنا آسف فريدي.. الحقيقة انا عايز أشوف ركبها بعدما وقعتها انت خارج المطار.
- إيه.. انت كنت هناك؟!!
- أيوه.. المدام بعتتني علشان تطمن انك وصلت بالسلامة..
- تطمن وبس.. مش كده برضه؟
- دي أوامر المدام.. وانت عارف المدام.
تدخلت روجينا بالحديث وقالت لفريد:
- على العموم حصل خير.. يا الله بقى يا جماعة أحسن المدام مشتاقة جدا تشوفك وتشوف امورتك الحلوه.. ياه دي اوريجنال خالص يا فريدي.
استأذن فريد وذهب الى (الجراج) ليأتي بحقيبة من المؤكد انه وضع بداخلها هداياه للمدام ولكل الذين يعمل معهم.
ركب فريد إلى جوار سوسو، وجلست عفاف وروجينا في المقعد الخلفي.
كانت مفاجأة كبرى لعفاف عندما رأت ان الشمس المشرقة محت في وقت قصير كل اثار الرعد والبرق والمطر، وأصبحت السماء صافية كعيون اخوتها الصغار. نظرت الى الشوارع فلم تجد أثرا يذكر لمياه المطر، فتمتمت في سرها:
- عجيبة البلد دي.. المطر دا كله بعديه شمس وسما صافية، وشوارع نظيفة لا وحل ولا طين.. والناس عجايب.. يبقى ايه دا سي سوسو والست روجينا.
عندما ذكرت اسم روجينا في سرها، رشقتها بنظرة سريعة، وفي داخلها شعور خجول يقول لها انها رأتها قبل اليوم. لكن كيف يكون لي هذا.. وهذه هي المرة الأولى التي أتعرف بها عليها في أستراليا.
بينما هي تلقي بنظرهاعلى روجينا، كانت هذه الأخيرة على وشك اشعال سيجارة، وعندما وقعت عيناها على عفاف قدمت لها علبة السجائر، لكن عفاف هزت رأسها علامة للرفض، وازاحت بيدها الناعمة علبة السجائر.
وصلت السيارة الى منزل المدام، أو بالأحرى الى قصر المدام.
نزلت عفاف مع روجينا، وهرول فريد الى داخل القصر وهو يحمل حقيبته. دخلت عفاف القصر ولم تر أثرا لزوجها. أخذتها روجينا الى بهو كبير، كل شيء فيه يصلح لأن يكون في معرض للتحف، طلبت روجينا من عفاف الجلوس بعد ان استأذنت لبضع دقائق.
كان فريد قد دخل مكتب المدام بمفرده. سلم عليها بشوق ورفع يدها ليقبلها. نظرت اليه نظرة متفحصة وكأنها تسأله عن محتويات الحقيبة، فقال لها:
- مفاجأة يا مدام.. يا ست الستات وأجمل الجميلات.
إبتسمت المدام في حياء مشوب بتكبر وغطرسة.
- المفاجأة في الشنطة واللاّ في المفعوصة اللي رحت واتجوزتها؟!
- حضرتك شفتيها؟!
طبعاً، أمال جهاز الامان والتلفزيون بيعملوا ايه!
طبعاً.. طبعاً.. انا نسيت.
- ما تبقاش تنسى يا فريد.. احسن.. شغلنا اللي ينسى فيه بيروح ورا الشمس.. فاهم.
- أيوه فاهم.. طبعاً.. المهم لحظة واحدة وتشوفي المفاجأة..
فتح الحقيبة وأخرج العديد من الهدايا.. بعدها أخرج لفافة من القماش وقدمها للمدام..
- ايه يا فريد.. جايبلي لفة قماش؟
- روق يا جميل.. ما تبقاش حامي علي.. أمال.. شمي اللفة وقوليلي رأيك ايه.
قرّبت لفافة القماش من أنفها وصاحت:
- حشيش.. يخرب بيتك.. إزاي قدرت تطلع بيه من الجمرك؟!
أشار الى عفاف الظاهرة في شاشة المراقبة الجالسة وحدها في هدوء وكأنها طفل بريء مطيع يسمع وينفذ.
- شوفي يا مدام.. المفعوصة دي قدرت تطلع أربع طرب حشيش درجة أولى من غير ما حد يشك فيها..
- اما انت ابن جنية حقيقي.. قوللي كانت تعرف ايه اللي شايلاه؟
- تعرف ايه يا مدام؟!.. دي تلميذة غلبانه.. يعني كنت عايزاني اتجوز واحدة مفتحة ومدردحه وتبوظ علينا الشغل.. هي دي «مشيرا الى عفاف» البنت اللي تنقصنا.. واللا ايه رأيك يا وحشاني؟!
- فرد إحنا(في دلال) دلوقتي في وقت بيزنس.. دا كل اللي جبته معاك؟
- آه.. ايوه دا كل اللي جبته.. وكمان شوية هدايا للزملا..
- فيك الخير.. احكيلي اتعرفت عليها ازاي؟ ولما اتجوزت ايه اللي عملته معاها؟
اخذ يقص عليها قصته مع عفاف، ويصور لها ليلة دخوله عليها، وما كان في تلك الليلة من سكر ومخدرات.. بل حكى لها بالتفصيل كل امورهما الجنسية.. واشمئزازها الساخر منه لدى مجامعته لها.. ولم ينس ان يخبرها كيف رأت لدى وصولها الى البيت، صورة روجينا العارية في غرفة النوم.. وكيف وقفت مثلها امام المرآة ولم تشمئز منه عندما حاول تقبيلها، وكأن الغيرة دفعتها الى ملاطفته.
إستمعت المدام اليه بأذن صاغية ولم تقاطعه اثناء حديثه.
بعد ان انتهى من سرد قصته، قامت بفتح خزانتها الحديدية واخرجت منها علبة قطيفة وطلبت منه اخفاء الحشيش وعدم اخبار احد به.. بعدها ضغطت على زر مثبت فوق مكتبها، فجاء سوسو مهرولاً. فطلبت منه ان ينادي على روجينا وباقي البنات.. وطلبت من فريد احضار زوجته بنفسه.
ما هي الا لحظات حتى امتلأ مكتب المدام بالعاملات معها، فطلبت منهن استقبال فريد وزجته بالتصفيق.
وقف فريد وزوجته امام المدام في أدب واحترام، والدهشة تعلو وجه عفاف من كثرة التصفيق والهتاف. كان على يمين المدام سوسو وعلى يسارها روجينا. تقدم فريد وسلم على المدام وقبل يدها، وقدم زوجته لها. اقتربت عفاف وصافحتها في خوف وارتباك، وهي لا تعرف اذا كانت في حلم ام يقظة. هل هذه هي أستراليا واهل أستراليا؟ ام من يكون هؤلاء؟ وأهم من ذلك.. من يكون زوجها فريد!!. قطع عليها حيرتها صوت المدام وهي ترحب بها وتأخذها بالاحضان.
رحبت المدام بعفاف وكان فريد يقوم بالترجمة. وإن كانت الترجمة لطرف واحد، فقد شلّت المفاجأة عقل وتفكير عفاف.
أهدت المدام طقما ذهبيا مرصعا بالماس لعفاف كهدية جوازها من فريد.
سهر الجميع حتى ساعة متأخرة من الليل في فرح ورقص وشرب، وعفاف ما زالت في ذهولها مما يجري حولها.
بعد ذلك أمرت المدام بوقف الاحتفال وطلبت من فريد ان يأخذ زوجته الى غرفته في القصر التي أعدتها لهما ليقضيا أجمل لحظات عمرهما.
ستة أشهر مرت منذ وطئت قدما عفاف ارض سدني.. ستة أشهر وهي تعيش في حلم وردي جميل. لم تر المنزل الذي نزلت فيه يوم وصولها. بل عاشت في قصر المدام، مثل بقية النساء والرجال الذين يعيشون داخل القصر الكبير.
الليلة الأولى نامت مع فريد.. ولا تتذكر ان تم اتصال جسدي بينهما ام لا.. او حتى ان كان قد نام معها في الغرفة من اصله.
عندما افاقت في اليوم التالي لم تجده بجوارها.. ولم ينم معها بعد ذلك.. فقد كانت روجينا رفيقتها صباحاً ومساء والمسؤولة عنها. وهي التي كانت تنام معها وقامت بتعليمها اللغة الانجليزية وأشياء اخرى كثيرة.
لم تقف اللغة عائقاً بينهما، لأن روجينا تعلمت اللغة العربية على يد عشيقها وحبيبها فريد. فكانت روجينا همزة وصل بين الجميع.
تخرج يوميا من القصر وتذهب مع روجينا او سوسو احيانا الى أماكن مختلفة، من سدني، وعندما يرخي الليل ستارته السوداء على المدينة، يبدأ السهر والرقص والغناء، حياتها ولا أجمل، شربت الخمر ودخنت السيجارة، ارتدت الملابس وفق أحدث ما تنتجه الموضة الاوروبية. لبست (الجينز) فبدا جسدها ملفوفاً وملفتاً ومغرياً. التف حولها الشباب كل يريد ان يراقصها او أن يعلمها رقصة ما. كل هذا وروجينا لم تغفل عنها لحظة واحدة، فعندما تحتاجها كانت تجدها بقربها.
تغيرت عفاف.. إزداد اعجابها بنفسها.. انانيتها جعلتها تطلع بمفاتنها في كل مرآة تجدها.. وروجينا تشجعها وتمدح جمالها ومفاتن جسدها.
رؤية زوجها أصبحت نادرة.. واذا رأته، يكون على عجلة من أمره، أما روجينا فكانت تقص عليها حكايات وحكايات عن كل مكان ترتدانه، وكانت قبل ان تنام تقدم لها شراباً ذا طعم غريب ولكنه لذيذ. بعد ان تنتهي من الشرب، كانت تعيش في عالم غير هذا العالم. عالم كله احلام جميلة تأخذها الى البعيد.. البعيد، لتحلق في سماء النغم الهاديء الحالم. انها نائمة مستيقظة، تدري بما يدور معها و حولها ولكنها لا تستطيع المقاومة.
ذات مرة، وهي على تلك الحالة، خيل لها انها رأت المدام وزوجها فريد ينظران اليها. فريد يبتسم ويتطلع الى المدام بكل فخر واعتزاز ولسان حاله يقول.. ها هي زوجته تفعل ما تفعله روجينا.. وكأنه يريد ان يثبت للمدام انه كان محقاً بزواجه من هذه (المفعوصة) حسب تعبير المدام.
(يتبع)
الأحد، مارس 28، 2010
السكوت ممنوع
محمد محمد علي جنيدي
لما انت بتعرف تتكلم
طب ساكت ليه!!
خايف تصرخ أو تتألم
ما تقول من إيه..
أصبح من حقك ترفضني
تقدر تتحاور وتفدني
فيك انت هشوف نفسي كويس
من غير تلوين
وهتعرف نفسك وتميز
بعنيك لتنين
نفسي تقول لأه بعلو نداك
نفسي بحرية أقول وياك
لما تقول لأه بأعلى الصوت
أنا فعلا هسمع صوتي معاك
بس انت اتكلم من قلبك
ولا تخضع يوم إلا لربك
لو فاكر لسه زمان موجود
تبقى بتحلم
أو ليل الظلم ملهش حدود
مش راح تسلم
فتح عينك تسمع وتشوف
إيه اتغير ف. الكون حواليك
وارفع صوتك تجتاز الخوف
الدنيا بحالها هتسمع ليك
متخفش بجد
دا سكوتك مش راح ينفع حد
واتناقش رد
كل سدودك بإيديك تنهد
ممنوع الخوف وبلاها سكوت
رأيك من حق بلادي عليك
قول لأه وأيوه بأعلى الصوت
بحياتي وروحي وقلبي افديك
ممنوع تسكت.. أرجوك ممنوع
أطلقوا سراح الدموع
عـادل عطيـة
adelattiaeg@yahoo.com
أيها الأباء ،
لا تزجروا دمعات رقيقة ،
تحاول الخروج من مآقي أطفالكم إلى مقاصد الحرية .
لا تنالوهم بسياط السخرية :
إن الدموع عيب .
إن الدموع نسائية .
فدموعهم :
مراثي نبيلة تحكي عن قلوبكم القاسية .
وستبقى صلاة مقدسة تهز شفاعتها أقبية ضمائركم الخشنة ؛
لتصبح ظلالاً إلهية .
... ... ...
أيها الأباء ،
لماذا تتهربون من البكاء ،
وتبحثون عن العزلة ، عندما تلبي عيونكم النداء ؟!..
الدموع يا اخوتي إنسانية ..
خُلقت ؛
لتفيض في أفراحكم ،
و أحزانكم .
ولتكونوا أحراراً محررين حتى من أنفسكم في ليالي الخشوع ،
والرجوع .
الدموع يا اخوتي أزلية ..
وهي أكثر المعاني تمسكاً بأهداب الأبدية ..
فقد ننسى ضحكة صديق رنّت في فرحنا ،
وأبداً لاننسى بكاء رفيق في آلامنا ، واحزاننا الطاغية .
... ... ...
أيها الأباء ،
لا ترغموا عيون أطفالكم أن تكون بلا دموع .
لا ترغموا عيونكم أن تكون بلا دموع .
أبكوا ،
فلا عار في سكب الدموع ..
فقد بكى يسوع ..
وكلنا يولد بالبكاء ، وبالدموع .
جديد ناعوت، عن النيجيرية: تشيمامندا نجوزي آديتشي، بالعربية
عن سلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامة للكتاب؛ صدرت رواية "نصف شمس صفراء" في ثوبها العربي بترجمة الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت. الرواية كتبتها بالإنجليزية الكاتبةُ النيجيرية الشابّة "تشيماماندا نجوزي أديتشي" وفازت بجائزة الأورانج البريطانية الرفيعة عام 2004.
تقع الروايةُ في أكثر من 600 صفحة من القطع الكبير، وتحكي عن علاقة حبٍّ ناضجة، بين بروفيسور في جامعة نيجيريا، ومثقفة شابة جميلة تنتمي إلى طبقة الأثرياء الجدد في نيجيريا. نشأت قصة الحب تحت ظلال الحرب الأهلية في نيجيريا، بين عامي 1967 و1970، تلك التي اندلعت فيها الصراعات البيافرية في محاولة من قبائل الإيبو الاستقلال وتكوين دولة، علمُها "نصف شمس صفراء"، رمزًا للتحرر والخروج من ظلامية النظام الفاشي المحافظ الذي كان يحكم نيجيريا آنذاك. ورغم تصوير الرواية المجازرَ والانتهاكاتِ البشريةَ العنيفة التي مورست على تلك القبائل المسالمة، إلا أن الروائية نجحت في الخروج بها من الحسّ التراجيديّ، عبر سردِها الوقائعَ على لسان طفل أسود صغير "آجوو"، بطل الرواية، الذي يخدم في بيت البروفيسور "أودينيبو".
تحمل الرواية فيضًا من أجواء الجنوب الأفريقي الساحر بطقوسه الغرائبية وشعائره الغريبة على القارئ العربي، إلا أن المترجمةَ نجحت في نقلها إلى اللسان العربي بلغة شعرية رفيعة تجعل القارئ يتوحَّد مع أحداثها، مع الحفاظ على أجواء القارة السمراء الفاتنة، كما صرّحت بذلك د. سهير المصادفة، رئيس تحرير السلسلة. خمسةُ أبطال رئيسون تدور حولهم الرواية: " أودينيبو"، أستاذ الجامعة الثوريّ ابن البرجوازية الوسطى، "أولانا"، المثقفة التي تنتمي لأبوين من طبقة الأثرياء الانفتاحيين، وتوأمتها "كاينين" نقيضُ أولانا، سيدة الأعمال التي تهوى جمع المال، ووقعت في هوى البريطاني "ريتشارد تشرشل" المتعاطف مع قضية السود، سوى إنه في النهاية سيكتشف أنه غير متورط بما يكفي في قضيتهم، بسبب بشرته البيضاء وعينيه الزرقاوين وشعره الناعم، فيترك الكتاب الذي بدأه بعنوان: "كان العالم صامتًا ونحن نموت"، ليكمله الصبيّ الأسود "آجوو"، الذي تدور معظم أحداث الرواية على لسانه، ومن خلال عينيه اللتين ترصدان أهوال الحرب والمجازر.
يذكر أن "نصف شمس صفراء" هو الكتاب السادس بين ترجمات فاطمة ناعوت، فقد سبق وأصدرت العديد من الأنطولوجيات الشعرية والقصصية من عيون الأدب الإنجليزيّ والأمريكي منها: مشجوج بفأس، قتل الأرانب، المشي بالمقلوب، وكتابين عن فرجيينيا وولف: جيوب مثقلة بالحجارة، وأثر على الحائط، اللذين صدرا مؤخرًا عن المركز القومي للترجمة.
الجمعة، مارس 26، 2010
ماهو السَماويّ ؟
عـادل عطيـة
adelattiaeg@yahoo.com
عندما نَطلق على لون أنه لون سَماويّ ،
فنحن نعني أنه يُعبّر عن مانراه من لون السماء الهيولية ،
السماء التي تظهر فوق رؤوسنا ،
وتسمى القبة الزرقاء .
ولا نقصد أن مصدره سماويّ ..
فكل الألوان هي من ابداع الخالق .
وعندما نقرأ نصوصاً للمفكرين الفراعنة ..
رؤاة القيم ،
والاخلاقيات المتسامية ،
ونجد تناغمها مع الاسفار الإلهية ،
ونقارنها بنصوص يدّعي أصحابها انها سماوية ،
فإذا هي بعيدة كل البعد عن السمائية ،
بل الإنسانية ..
ألا يجعلنا ذلك نفكر في أن النصوص التي قد لا يكون مصدرها سماوي عن طريق الوحي ، هي سماوية من حيث سماتها السماوية .
وألا نشعر بالخزي والعار ،
عندما نجعل السماوي غير سماوي :
فبغض الخطيئة ، يصبح بغضاً للآخر .
و المحبة لله ، تصبح محبة للمال ، والسلطة .
و العدل في الحق ، يصبح عدلاً في الظلم . ؟!...
وماذا نقول عن المسلم ،
الذي يحب ، ويرحم ، ويمد يد المعونة والمساندة لمن يخالفه المعتقد ،
مخالفاً بذلك نصوص قرآنه ، واحاديثه ..
ألا يصبح إنساناً سماوياً ؟!..
وماذا عن المسيحي الذي يحمل من المسيحية اسمها ،
ولا يحمل صفاتها ..
هل يمكن أن يكون منتمياً للسماء؟!..
،...،...،...
السمائية ، ليست اسماً ..
هي انتماء ، وارتباط ، وحياة ..
بالسماء ، وللسماء .
الأربعاء، مارس 24، 2010
أنت صادق أيضا
نبيل عودة
وقع خلاف بين أصحاب المزارع . كانت المزرعة الأولى تقع على شاطئ النهر ، وبقية المزارع لا طريق لوصول قطيعها الى الماء الا بالعبور عبر المزرعة الأولى . وكان عبور القطيع عبر الأراضي المزروعة يترك دمارا كبيرا للمزرعة الأولى .صاحب المزرعة المتضررة حاول منع قطيع الأخرين من عبور أراضيه الى النهر ..ووصلت القضية للقضاء.
جلس القاضي ينظر في الشكوى وفي الرد على الشكوى.. وكان مساعده بقربه يدون تفاصيل الجلسة. اعطي الكلام لصاحب الدعوى ليشرح مشكلته:
- سيدي القاضي .. أملك مزرعة على ضفاف النهر.. ورثتها أبا عن جد .. ولكن قطيع المزارع المجاوره يدمر زرعي كلما عبر الى النهر.. وهذا أمر يسبب لي الخسائر الكبيرة ولم يعد محمولا... ومن حقي ان احافظ على زرعي وأمنع قطيعهم من العبور في أرضي.
فكر القاضي وأجاب:
- انت صادق .. هذا حقك .
وتوجه لأصحاب المزارع الأخرى
- لماذا تصرون على المرور من أرضه وتسبيب الأضرار الكبيرة له ؟
انتدبوا متحدثا عنهم . وقف وقال:
- سيدي القاضي ، قطيعنا سيموت عطشا اذا لم يصل الى النهر ليشرب الماء . أجدادنا وأباءنا ونحن من بعدهم نستعمل هذا الطريق منذ مئات السنين. وهذا يعني انه يحق لكل راع الوصول مع قطيعه الى مصادر المياه عن طريق المزرعة الأولى كما كان متبعا دائما. ومنعنا يعني موت قطيعنا وافلاسنا .
قال القاضي بعد تفكير:
- حقا .. انتم صادقون .
واجلت الجلسة لموعد آخر لاصدار الحكم .
كان مساعد القاضي يستمع ويسجل ، وسؤال كبير يجول في خاطره . قال بعد ان اختلى بالقاضي:
- يا سعادة القاضي ، لا يمكن ان يكونوا جميعهم صادقين ؟!
نظر اليه القاضي وقال:
- أجل .. أنت صادق أيضا !!
نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي فلسطيني – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com
تحليل هادئ لأسلوب حسين سليمان في كتابة الرواية
د. محمود عباس
أو قراءة في روايتي ينزلون من الرحبة والضجيج للروائي حسين سليمان
الرواية مثلها مثل غيرها من فروع العلوم الإنسانية؛ تدرجت من مرحلة إلى أخرى، وتبدلت أوشحتها مع مرور الزمن، متأثرة بالظروف الإقتصادية والاجتماعية، فكانت الرواية الكلاسيكية هي الحلقة الأساسية الأولى في هذه السلسلة من تاريخ مسيرة الرواية. رغم البعد الزمني والأختلافات الفكرية ونماذج الحياة الإقتصادية بيننا الآن وبين أشواطها الأولى، لا تزال لها المذاق الخاص لدى الفكر، فهي التي تحوي على الزمن والمكان والحدث والإثارة والكثير من لذة العلوم الأخرى، لكن الرواية بعد هذه المدرسة تحررت من تلك السمات التي راحت توصف بالقيود وتشعبت من حيث اسلوب الحدث أو اسقاطه، الزمن أو الفكرة المطروحة، تغيرت من حيث الشكل والمضمون، فراحت على سبيل المثال تسقط في طاياتها الأفكار الفلسفية المعاصرة لها، كالعبثية واللامنتمية وغيرها، وتدحرجت مع الأفكار والإيديولوجيات والمذاهب الفكرية وتطوراتها، إلى أن كانت روايات مابعد الحداثة، فتشعب الروائيون بنوعياتها، لكن بقي هناك شيء أسمه الفكرة والمنطق، وشيء أسمه الزمان، أي كان؛ ما وراء الخيال أو الماضي أو الحاضر أو القادم أو الزمن في البعد الرابع، وبقيت الحبكة أو ما شابهها؛ يستطيع القارئ وحسب مستواه الفكري في تذوق الرواية وفهمها أو استيعابها، وقد لا تكون هذه الحبكة أو الحدث مرئي ، ثم المكان له أختلافات وتدرجات، وقد لا يكون المكان مستقراً، كثيراً ما يتداخل الزمان والمكان ويندمجان تناسباً مع نظرية النسبية أو ما بعدها، لا أود الدخول في متاهات الرواية و أبعادها. ومنذ إن كنت أحمل قصة أو رواية كنت على قدرة أن أبين نوعية الرواية، وما الغاية منها وأفهم أسلوب الكاتب، والفكرة التي يطرحها، وإلى أي مرحلة من مراحل الرواية تنتهج، وإلى أي مدرسة تنتمي على الأغلب. إلى أن قرأت للكاتب حسين سليمان، رواية (ينزلون من الرحبة) و (الضجيج)، والتي أراه بإنه لا ينتمي إلى أي مدرسة من المدارس الفكرية او المنهجية، أحياناً، كنت أسأل نفسي أثناء قراءة الصفحات هل كتبت هذه الرواية لقارئ معين سوي الفكرأم لشارد يقلب الصفحات بشكل عشوائي، حيث بمقدوري أن أقرأ عدة صفحات من صفحات الرواية وأعود إلى مقدمتها وأقرأ عدة صفحات أخرى وثم أذهب إلى النهاية، وهكذا دون أن أشعر بإنني أضعت حبكة الرواية أو أضعت زمناً في الرواية أو ضاع عني مكان تواجد شخصيات الرواية، فالرواية لدى حسين سليمان متداخلة عن قصد وبعشوائية؛ الزمان مع المكان؛ والحدث مع الفكرة، وبإمكان الزمان أن يحل مكان زمن آخر أو يزول، والحدث يكون باقياً دون تطور، ومن الممكن أن يلاحظ إن المكان أختلف، وقد لا يكون مكان ولا حدث ولا حديث يربط، عشوائية في الفكر، أو فكر عشوائي، أختلاطات لا تحدث مثلها عند الإنسان السوي، أو حتى الثمل، يحدث عادة مع الثمل الذي غاب عنه المكان والزمان،حيث لا يكون ثمة قدرة للسيطرة على التحليل ولا على ترابط الفكر، فتختلط الأمور بدون إرادة ولا وجود للوعي كلياً، وربما تحدث مثل هذه الحالات مع الفرد في فترة اللاوعي بين النوم والصحو والخيال أوأثناء الحركة العشوائية للفكر بينهما، الفترة التي لا يكون هناك سيطرة على الفكر، فيندمج الزمن والأحلام وأختيارات اللامكان، رغم إن حسين سليمان، أستطاع أن يتتبع الزمن بعد أكثر من مرور ثلاثة أرباع الرواية من حيث الصفحات، في روايته الأولى، ينزلون من الرحبة، وأنتقل مكانياً من مجتمع إلى آخر؛ ومن حضارة إلى أخرى، فأختلفت الأساليب في الرواية، من حيث السرد والفكرة والخطاب والتحليل، كما تتبع الزمن بعض الشيء، رغم محاولاته الكثيرة؛ ليعود إلى الأسلوب المستعمل في البداية كإستحضار الماضي وإبعاث الحدث بأسلوب آخر ربما بدون علاقة بالزمن أو المكان الذي ذكر فيها نفس الحدث بهيئة أو شكل آخر، دمج الماضي بالحاضر أدماج عدة أماكن معاً وإشغال أحداث في حدث واحد، الخلط والدمج.
أكاد أن أتيقن بإن الكاتب قلما إستطاع ويستطيع التأكد من المسافات البعيدة وتذكر الحوادث وتنوعاتها وتبديل تلك الحوادث والأزمنة وملاحقة لعبة الروائي في استبدال حتى أبطال الرواية نفسها، في النهاية يكون الروائي كالقارئ، يحاول أن يمسك الخيط الوهمي ويتبعه ليجد في النهاية أن الخيط قد ضاع منه ولكن في الحقيقة لم يضيع الخيط، حيث في الأصل لم يكن هناك خيط للأمساك به، وهكذا، يكتشف القارئ أن الكاتب نفسه يكتب بدون قيود ودون تركيز دائم أو ربما يوهم القارئ إنه يكتب دون تركيز، التركيزالمرحلي الذي يستعمله الكاتب ينتهي عند الفترة التي ينتهي منها في الكتابة، ويبدأ تركيز آخر ومن نوعية أخرى، أي زمن مخالف لمكان مخالف وأفكار مخالفة لحدث ربما في الماضي يدمج مع الحاضر، وكثيراً ما يلاحظ، يبدأ حيث لا زمن ولا مكان فقط عشوائية وخلط أفكار غير سوية، كانت في صفحات سابقة لشخصية في الرواية، لتأخذها شخصية أخرى في الصفحات التالية، حتى المادة الموجودة أو التي يصفها الكاتب، كثيراً ما تتغير بعد صفحات، والذي ساعد الكاتب على أن يبقى على هذه التنقلات الزمانية والمكانية والفكرية، و أن يغير في مفاهيم ابطال الرواية هي طول الرواية نفسها، أي عدد صفحاتها، وإلا لكانت مثلها مثل رواية الضجيج، يضيع القارئ مع الكاتب في حدود المقدمة ولا يلقى في نهاية الصفحات التي لن أسميها نهاية الرواية، حيث رواياته لا تحوي مقدمة ولا نهاية، كما ذكرت الزمن والمكان والحدث والفكرة تراهم ولا تراهم وتظن إنك تقرأهم ولكن في الواقع لا وجود لهم كما هو متعارف عليه.
لا أعلم لأي قارئ يكتب حسين سليمان، هل لقارئ سوي؟ كما سألت في المقدمة، أم لقارئ يتمتع بالعشوائية؟ وليست الفوضوية من طرائقه، حيث رواياته لا تنتمي إلى الفوضوية بشيء، وربما يأتي إلى الكتابة عندما يكون في حالة اللاتحكم في الفكر، أو أنه يقصد حالة اللاتحكم،اللاتحكم هو الذي ينتهجه ويريده لكتابة رواياته، يرى أحياناً بإنه لا يستطيع أجبار نفسه في البقاء في حالة اللاتحكم تلك، فتندثر صفحات وأحياناً بعض المقاطع بسوية رواية نموذجية فيها المكان والزمان والحدث والشخصيات واردة وبهدوء، اللاتحكم في كل عناصر الرواية، وبدون أستثناء، وأنطلاقاً منه ككاتب فإنه لا يأمل إلا إلى غاية وحيدة لديه الا وهي إدخال القارئ في عشوائية ولاتحكم ويخرج من صفحات رواياته دون لذة أو فكرة وفي حيرة من سبب الوقت الذي أمضاه في قراءة صفحات بدون نتيجة، وهذا ما يصبوا إليه الكاتب ، حيث يفرض الكاتب على نفسه التقمص لحالة اللاوعي أو اللاتحكم أوالأختلال الفكري حيث لا ثمة سرد منطقي للحوادث في الروايه، وفي الحقيقة للوصول إلى هذه الحالة الفكرية يحتاج الإنسان إلى قوة ذهنية غير عادية وربما تمرين مستمر للحصول على تلك القدرة الذهنية لكتابة الرواية وفي الفترة التي يرغبها الكاتب.
وفي النهاية ما الذي يبغيه الكاتب نفسه من نفسه ومن القارئ أيضاً، ماذا يقدم أو يطرح إلى الساحة الأدبية؟ وهذا ما لا قدرة لي في الجواب عليه.
حاولت أن أكتب نقدي أو تحليلي المختصر هذا بنفس اسلوب سليمان، الكتابة في حالة الوعي اللاتحكمي، وفي الحقيقة، حالة صعبة تحتاج إلى قدرة نوعية للوصول إليها والكتابة بأسلوبه يحتاج إلى مران، حاولت لكنني لم أفلح.
ملاحظة:
يكتب حسين سليمان من عدة أفكار مختلفة، أو بالأحرى يحمل مفهوماً أو منهجية مختلفة كلياً عن الذي سبقه، يحاول جاهداً أن لاتتكرر الحالة النفسية والفكرية ولا حتى ذاكرة ماكتبه في السابق عند البدء من جديد، وتحضرني هنا فكرة : كأن نقدم مختصراً عن حادثة ما لعدة طلاب لايملكون قدرة في كتابة الرواية ونطلب منهم كتابة مختصر عن ذاك الحدث حسب القدرات التي لديهم، ويأتي المدرس الذي هو حسين سليمان ويدمج هذه الأساليب المختلفة عن تلك الحادثة الواحدة و ويدمجها بأسلوبه الخاص ليجعلها رواية كاملة.
كم كان من الممتع لو توقف حسين سليمان في رواية الضجيج عند نهاية الفصل العاشر، لكنه أبى ذلك لغاية في نفسه، ألا وهي اللاتحكم واللا وعي واللانهاية ...ولذلك لم يقف، فالنهاية يجب أن لاتكون مثلها مثل المقدمة.
أطياف متمردة لزياد جيوسي عن دار فضاءات – الأردن
صدر حديثا للكاتب والإعلامي زياد جيوسي كتاب " أطياف متمردة" عن دار فضاءات وقد جاء الكتاب في 212 صفحة من القطع المتوسط وصمم غلافه الفنان نضال جمهور.
قدم للكتاب الشاعرة الفلسطينية منى الظاهر ببورتريه بعنوان "زياد جيّوسي سادنُ لقالأطياف المتمرّدة" فتقول:
أنتَ القارئ وأنتِ القارئة، وهو السّابح في ملكوت عشقه الدّاني؛
كما لو أنّكَ تتخيّله: هو المستند على نمارق أحاسيس ملوّنة، يصخي السّمع لبوح الياسمين الـ يتسلّق لبلاب الرّوح المتأتّية من نور الله/ شفافية الطّبيعة.
كما لو أنّكِ ترقُبينه مِن حبره العابق بوضوح لما يعتمل هذيانات دواخله ودواخلك، ليخطّ حالات من وطن/ حبّ يجتاح الكينونة كلّها.
كما لو أنّنا نهجس بما ينكتب فينا من نوستالجيا غائرة في أجساد الفوضى، الّتي منها ننبثق بمباسم من نسرين وروائح صفصاف ومذاقات زيتون.
هو زياد جيّوسي/ غريب مع الواحة الملهِمة، قريب من طيفه الرّاقص على أنغام نيران قلبه، المقاتل بحقيقيّته في قارب أوراقه المثقلة بحنين ذاكرة، تلهج بزمكانيّة الهويّة الصّامدة المترسّخة فينا/ في قلب المليكة/ فلسطين.
نصوصه المتمرّدة بأطياف مضمونها تتحنّى بنسغ خطاب يتوق لإنسانيّة حقّة، فيها ولع لأرواح زاخرة بجوّانيّة معادن تمتشق سراديب مغلقة في عمق أعماقنا نحن البشر.
في قهوة صباحاته تتفتّح الزّنابق من خلف إطلالة المنفى والاغتراب ومن أمام غيوم الشّتات والوطن، لتتنشّق الكلمات روائح الأمكنة وتَرصّد تراب الأرض والحجر.
وبنهاراته استعادة للمنسيّ قسرًا والمُبعد جبرًا، المنْشَقّ في أنهار الوجدان الّذي استلبته آلة القمع والاحتلال.
وفي أعشاب مساءاته هو العرّاب، تصدح صور الشّخوص الملتهبة من مخيّلته المسكونة باندلاع الطّرقات والبيوت وتنقّلاته في أسْره وحصاره والدّفء في حريّته وملاذه.
"أطياف متمردة" كتاب ضم الكثير من الألم والعشق حتى استباح دمع العبارة ووجدها حد استحضار الأخر، هذا الغائب الحاضر الممتد عبر السنوات على خارطة التمني ، الفارد خطاه على جسد الذاكرة بانحفار غريب ، يحتل هذا الكتاب مشروعيته ووهج مفردته من رائحة الياسمين التي تعطر النصوص بكليتها تلك النصوص العابقة بذاكرة تأبى أن يتخطفها وحش الضياع فمن السجن إلى رام الله تظل الحبيبة / الإنسان امتدادا حقيقيا لوجود إنساني مرهف .
****
زياد جيوسي وعلى امتداد سنوات الألم الذي عاشه ظل يحاول لملمة طيفه الحارس/ طيفه الذي لا تنطفئ ناره ولا ينتهي وهج ضوءه رغم اختلاف الأمكنة والأزمنة، ربما هي محاولة منه لإبقاء نبضه حيا وحقيقياً في زمن صار فيه كل شيء معروضا للبيع. ربما هي محاولة للغياب في بياض الطيف القابل للإنولاد والتجدد عشقيا في كل صباحاته ومساءاته في ظل صورة غطى السواد قامتها حد الفجيعة.
*****
مودتي واحترامي
مدير دار فضاءات للنشر والتوزيع- الأردن
الشاعر جهاد أبو حشيش
0096264650885
00962777911431
dar_fadaat@yahoo.com
الثلاثاء، مارس 23، 2010
اضمحلال الثقافة من مجتمعنا العربي - اضمحلال للمجتمع المدني
نبيل عودة
هل يمكن وصف المجتمعات العربية بأنها مجتمعات ثقافية؟
يبدو السؤال من البديهيات ، فمن يجرؤ على انكار الثقافة العربية ؟ و نشوء مثقفين عرب ، وانتاج ثقافي عربي بعضه يترجم للغات الأجنبية ، ويعتبر ضمن الابداعات الثقافية الهامة في عالمنا المعاصر ؟
حقا توجد تفاوتات واضحة وعميقة بين المستويات الثقافية في مجتمعات العالم العربي ، تفاوتات بين المراكز والضواحي ، اذا صح هذا التعبير ، اذا اعتبرنا ان القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد تشكل المراكز ، فسائر العواصم العربية ما تزال تدور في فلك مراكزها .
ما هو المعيار لمدى ثقافية المجتمع؟ لمدى مشاركته في النهضة الثقافية لأفراده ؟ وانا أستعمل الثقافة مجازا للتعبير عن كل ما يمت لابداع الانسان الاجتماعي، من فنون وعلوم وأداب وتقنية واقتصاد ورفاه اجتماعي .
الغرب يستعمل اصطلاحين للدلالة على الثقافة ، اصطلاح الثقافة واصطلاح الحضارة . الثقافة تدل على الابداع الروحي من فن وقصة وشعر ومسرح وسينما وموسيقى ورقص ، والحضارة تدل على الابداع المادي من تطوير صناعي وعلمي وتقنيات رفيعة تعطي لمجتمعها اسباب القوة والرفاهية والأمن في جميع المجالات ، الاجتماعية والغذائية والصحية والعسكرية.
نحن العرب نستعمل الثقافة للدلالة على شكلين من الابداع ، الابداع الروحي ( الابداع الأدبي والفني ) والابداع المادي ( ما ينتجه المجتمع من خيرات مادية – علوم وتكنلوجيا واقتصاد ). ولكن كثيرا ما نفهم الاصطلاح بمفهومه الروحي فقط ، خاصة في ظل غياب دائم للانتاج المادي في العالم العربي أو تدني مستواه والاعتماد على استيراد الضروريات المادية من الغرب..
ان استعمالنا لمفهوم الحضارة ، لوصف حالتنا الاجتماعية فيها الكثير من عدم المطابقة. ببساطة أنا لا أرى حضارة . لا أرى ان مجتمعاتنا العربية أنجزت ولو القليل الذي يضعها على خارطة الابداع العلمي والتقني ( الحضاري ). لا أر ان مجتمعاتنا ساهمت في حركة النهضة والتنوير ، التي غيرت وجه اوروبا ، ومن ثم وجه العالم ، رغم ان فلسفة ابن رشد ( التي تطورت في العصر الذهبي للحكم العربي في الأندلس ) تعتبر فلسفة تنويرية عقلانية تركت أثرها على الفكر التنويري والعقلاني الأوروبي، وان لاننسى ان العرب في وقته ، اعتبروه كافرا ، وما زالت حتى اليوم تيارات الفكر الماضوي والديني المتعصب تعتبر ابن رشد كافرا وزنديقا. فهل من المستهجن ان وجه مجتمعاتنا العربية وما يعرف بدول العالم الثالث ،ظلت متحجرة في مكانها ، عدا بعضها الذي بدا يلحق بحركة النهضة الحضارية والثقافية ، مثل الهند والصين والبرازيل وبعض دول جنوب شرق ؟!
لا أرى ان مجتمعاتنا العربية ، أضافت شيئا للنهضة الاوروبية التي انتشرت في العالم الواسع ، والتي بدأت منذ عصر الرنيسانس في القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر ، محدثة نقلة عظيمة لأوروبا من عصر القرون الوسطى وسيطرة عقلية محاكم التفتيش الكنسية ، الى العصر الحديث وبناء الأنظمة الدمقراطية الليبرالية التي حررت الانسان من عقلية العصور الوسطى الغيبية المغلقة . ولم تتوقف مسيرة النهضة الانسانية ، وراء عصر الرينسانس جاء عصر النهضة الاوروبية الأول ، نهضة أخرى متمثلة بالثورة الصناعية ومن ثم الثورة العلمية ، وصولا الى ثورة المعلومات والتكنلوجيات بالغة الدقة ، وما زلنا نواجه كل يوما مزيدا من الاكتشافات العلمية والتقنية والرقي للعقل البشري.
هل سألنا أنفسنا لماذا نحن في قاع الركب الحضاري ؟ لماذا نحن لا نساهم الا في الاستهلاك الحضاري ؟ لماذا نحن لا دور لنا في التصدير العلمي والتقنيات ؟ لماذا نحن لا نؤثر في برمجيات وسياسات عالمنا ؟ لماذا لا يحسب حسابنا من دول تعتمد في الطاقة على مصادر في بلادنا نملكها شكليا على الأقل ؟
هل سألتم أنفسكم لماذا تقبل الرواية الاسرائيلية وترفض الروايات العربية ؟ لماذا يقبل الخطاب السياسي الاسرائيلي ولا يستمع أحد لخطاب العرب السياسي ؟
هل سأل أحدكم نفسه كيف يصل الاسرائيليون للحصول على جوائز نوبل في العلوم والاقتصاد والطب والأدب ولا نجد اسما عربيا نرشحه ، الا اذا كان مغادرا لوطنه ويقوم بابحاثه ويعيش في بيئة غير عربية ؟
اذن هل يمكن وصف مجتمعتنا العربية بالمجتمعات الثقافية لآننا ننتج الأدب ، شعرا وقصة ومسرح ؟
حسنا ، الواقع العربي مخجل ، هناك 350 مليون عربي بينهم 60 % - 70% أميين ، وهذا لا يعني ان الآخرين يقرأون ويكتبون أو يفهمون المقروء. هناك أطفال لم يصلوا للمدارس بعد ، وهناك من يفكون الحرف ولا يدرجون ضمن الأميين . وهناك من لا يقدرون على تعبئة نموذج بسيط ، هم أيضا غير أميين ، وهل من يقرأ 100 كلمة في السنة ، يعتبر متعلما غير أمي؟
ما اريده هنا اثارة التفكير بماهية الثقافة العربية ، وقدرتها على التأثير الاجتماعي على المواطن العربية ، بغض النظرعن اسم الدولة او موقعها الجغرافي ؟
ان تأثير الثقافة العربية الروحية له مساحة ضيقة جدا ، وهذا نابع من غياب حركة نهوض حضاري في المجتمعات العربية. ومن غياب فلسفة عربية . لماذا لم تتطور فلسفة عربية ؟ كيف يمكن تطوير مجتمع وعلوم بدون فلسفة ؟ للفلسفة قيمة تتجاوز الثرثرة التي تفهم فيها الفلسفة حتى في أوساط بعض المثقفين.
الفلسفة هي القدرة على التفكير وفهم العمليات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية وما شئتم ، اقرأوا ما يقول فيلسوف الثورة العلمية والحضارية الحديثة، الفرنسي رينيه ديكارت ::"لأن يحيى المرء بدون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما، والتلذذ برؤية كل ما سيكشفه البصر ، لا يمكن أن يقارن بالرضى الذي ينال من معرفة الأشياء التي تنكشف لنا بالفلسفة".
حسنا ، نثرثر كثيرا حول تاريخنا الحضاري ، عدا الابداع الأدبي في العصر الجاهلي ، ثم في العصر العباسي ، وصولا الى الأندلس ، لا أجد ان العرب أنتجوا حضارة . ان تطور العلوم والموسيقة والفنون والترجمة ، في العصر العباسي الذهبي ، عصر هارون الرشيد وابنيه ، الأمين والمأمون ، كان عصر الانفتاح والحريات والتحرر من الكبت الديني ، واشراك القوميات والديانات الأخرى في النهضة الحضارية للدولة العباسية ، ومن ثم لدولة الأندلس ، اي ان الحضارة لم تكن نتاجا عربيا بقدر ما كانت استمرارا للحضارات التي ظهرت في ارض العراق عبر تاريخه الطويل ، من العصر الوثني ثم العصر المسيحي – الأشوري. والمتتبع للأسماء التي برزت في العلوم والطب والموسيقى ، وحتى في الشعر ، لا يحتاج الى مرشد مثلي ليعرف من أين جاءوا . ونفس الأمر ينسحب على الأندلس ، الحرية الدينية والانفتاح على حضارة الأسبان التي انتجت قبل الغزو الاسلامي ، هو وراء الانجازات الرائعة في كل مجالات العلوم والفنون والبناء والأدب والفلسفة والطب للدولة الأندلسية ، والتي انهارت مع تحولها الى دول طوائف ( 22 – 23 دولة متعادية ) منغلقة دينيا.
اذن المسألة تتعلق بالماهية الاجتماعية ، ومساحة الحرية التي يوفرها النظام لمجتمعه وانسانه.
هل يمكن ان تتطور حضارة مثلا في دولة مثل السعودية ، التي تضاعف دخلها عشرات المرات من ارتفاع أسعار النفط ؟
يمكن ان تظهر أعمال روائية جيدة ، هذا ممكن ويحدث فعلا .. اما ان تنشأ حضارة في جذورها تطوير الابحاث العلمية والتكنلوجيا وتحول الجامعات السعودية الى مراكز علمية وتعليمية مرموقة عالميا ، وتطوير اقتصاد معاصر لا يعتمد على بيع النفط ، الذي سيزول بعد عقود قد تطول وقد تقصر ، وتحول السعودية الى دولة تنتج بعض التكنلوجيات التي تستهلكها ، او نشوء جيل من الباحثين في مختلف مجالات العلوم والتكنلوجيا والتصنيع فهو الأمر المستحيل ، حتى لو وجدت العقول القادرة .
اذن لماذا نستهجن هجرة العقول العربية ؟ لماذا نستهجن وجود أكثر من 500 عقل مصري ، من أبرز الاختصاصات وأهمها في العالم ، في الدول الغربية وليس في مصر أو الدول العربية؟
هل اكتفينا بما نسمه بثرثرتنا :" حضارتنا العربية" ؟ أين هي جذور هذه الحضارة التي لم أجد عليها ولو شاهدا واحدا ، الا اذا اعتبرنا ان تراثنا الشعري والأدبي هو معيار حضارتنا الوحيد ؟
أين الحضارة العربية في مواجهة حضارات العراق القديمة ؟ في مواجهة حضارة مصر القديمة ؟ في مواجهة حضارة سوريا القديمة ؟ في مواجهة حضارة الكنعانيين القديمة ؟ في مواجهة حضارة اليونان القديمة ؟ في مواجهة حضارة الرومان القديمة ؟ في مواجهة حضارة الفرس القديمة ؟
أين الحضارة العربية في مواجهة عصر الرنيسانس في البندقية بين القرن 14 – 16 ؟ في مواجهة الثورة الصناعية الاوروبية ؟ في مواجهة الثورة العلمية والتكنلوجيا وثورة المعلومات التي تعصف بعالمنا وتتجاوز مجتمعاتنا ؟
أين الحضارة العربية من مجاراة الانطلاقة الحضارية العاصفة لدولة الصين الحديثة .. ودولة الهند الحديثة ؟ حتى سنغافورة الفقيرة تتطور وتنطلق نحو آفاق حضارية . وكوريا الجنوبية تتحول الى منتج تكنلوجيات راقية . وتايوان المحاصرة من الصين تتفوق على العالم العربي كله بانتاجها ؟
اسبانيا (المستعمرة العربية السابقة) يتجاوز انتاجها القومي الاجمالي انتاج كل الدول العربية. ايطاليا الصغيرة تصدر أكثر من 1.5 % من التصدير العالمي ، والعرب لا يتجاوز تصديرهم مع كل مليارات نفطهم ال 1.25% من التصدير العالمي.
لا اريد ان اقدم اسرائيل نموذجا حتى لا اتهم من قليلي العقل وفاقدي المنطق بمدح العدو، ولكن أكتفي بالقول ان مستوى حياة الانسان ، بما في ذلك العربي المواطن في اسرائيل ، يتجاوز بعشرات المرات مستوى حياة المواطن في سوريا مثلا ، أو في مصر ، او المواطن العادي حتى في دول النفط . هذا عدا الحقوق المدنية والاجتماعية والتأمينات الصحية وتأمينات العجز والشيخوخة ...
هل هذا نتيجة الحضارة أم التخلف الحضاري؟
وهل يساعد "التاريخ الحضاري المجيد" ، الذي يعيش الغيبيين على وقع أنغامه ، على اطعام الجياع العرب ومحو اميتهم ؟
وهل يساعد "التاريخ الحضاري المجيد " على تطوير اقتصاديات الدول العربية ومستواها التكنلوجي ؟
استمعت قل فترة الى حوار من قناة "الجزيرة " بين مفكرعلماني عربي ( لا أذكر اسمه ) والمفكر الاسلامي المصري محمد عمارة . محمد عمارة ثرثر حول الحضارة العربية وتجاوزها للحضارة الغربية الساقطة .. الخ . المفكر العلماني سأله : قل لي كيف وصلت من القاهرة الى قطر لتشارك في برنامج " الجزيرة " ؟ هل وصلت بواسطة الحضارة العربية أم بواسطة الحضارة الغربية ؟ واوضح ، حضارتنا العربية لم تتجاوز الجمل والحمار .. لو جئت على ظهر حمار لما وصلت خلال شهر ، بل جئت بطائرة من انتاج الحضارة الغربية ، لذلك وصلت خلال ساعتين .
نعود للسؤال الأول : هل يمكن وصف مجتمعاتنا العربية بانها مجتمعات ثقافية ؟
وما هي شروط نشوء مجتمع ثقافي أو مجتمع حضاري ؟
من الواضح ، من التجربة التاريخية للشعوب المختلفة ، و تجربتنا المريرة في السنوات الأخيرة ، داخل المجتمع العربي في اسرئيل ، ان غياب المجتمع المدني ، والعودة لسيادة العقلية العائلية - القبلية ، والطائفية ، او الدينية السلفية المغلقة ، هو في صميم غياب الحضارة وغياب الثقافة بمفهومها الاجتماعي وليس الفردي.
نحن أيضا لم نصل بعد لنكون شركاء كاملين في النهضة الحضارية داخل اسرائيل ، بعضها عوائق سلطوية وبعضها عوائق ذاتية أيضا ، ولكن الحقيقة المجردة ان بعض العقول العربية في اسرائيل تساهم في الكثير من مجالات تطوير الابحاث العلمية والاجتماعية والتقنية ، وبابحاث لها قيمة عالمية نادرة . وهناك أسماء تعتبر رائدة في الابحاث ، وتقدم لها من المؤسسات العلمية ، كل الامكانيات المادية ، وبمقاييس ضخمة جدا .
ولكن ما يقلقني ليس هذا الجانب الذي نتقدم فيه ببعض الصعوبات ، انما قضية واقعنا الاجتماعي كما يرتسم في السنوات الأخيرة.
مجتمعنا العربي الفلسطيني داخل اسرائيل لم يكن في تاريخه القصيرالممتد منذ ستة عقود ، مفسخا مجزءا متعاديا مثل ما هو عليه اليوم .
ان التجزئة في مجتمعنا ليست سياسية فقط ، التجزئة السياسية لا تخيفني ، بل من المفروض ان تطلق الحوار الفكري والاجتماعي وتحقق نهضة ثقافية سياسية فكرية اجتماعية نقدية واسعة ، غير ان ما حدث هو العكس تماما .
لم تتكاثر الأحزاب في مجتمعنا على قاعدة تطور مجتمعنا المدني الثقافي ، انما تكاثرت على قاعدة عائلية وطائفية بغيضة ، همشت مدنيتنا واعادتنا الى فكر داحس والغبراء *.
ان يقول شخص يدعي الماركسية والوطنية ، في جسم سياسي اساسي ، ان ارتفاع شأن العائلية في قرانا ، يفرض علينا التعاون معها ، فهذه جريمة أخلاقية قبل ان تكون جريمة سياسية . هذا يعني ان أحزابنا ، الماركسية والوطنية على الأقل ... التي تعتبر منظمات للمجتمع المدني ، تشطب قاعدة وجودها الشرعية ، حين ترى بالطائفية قوة سياسية يجب بناء تحالفات معها لتحقيق مكاسب سياسية "؟؟!!"
ان الثقافة لن تتطور الا في المجتمعات المدنية المتحررة من الطائفية والعائلية . والحضارة لن تقوم لها قائمة في مجتمعات دينية طائفية متصلبة او عائلية قبلية متعادية.
هل من المستهجن اذن ركودنا الثقافي وفراغنا الفكري ، وفقرنا للابداع الأدبي بالمستوى الذي عايشناه في سنوات الستين والسبعين ، بل وما قبل الستين أيضا؟ وحتى في المدن الفلسطينية قبل عام النكبة نشأت قاعدة للمجتمع المدني المتماسك ، وتطورت الصحافة والنشر وانتشرت النوادي الثقافية والمسرحية والنقابات والأحزاب .
ان المجتمع القبلي لن ينتج ثقافة أو حضارة ولم ينتج سابقا حضارة تذكر.
المشكلة ليست في الدين ، الحضارات البشرية القديمة كلها انتجت أديانا عديدة ، لخدمة نهضتها الحضارية ، اليوم ننتج الدين لخدمة ركودنا الثقافي والحضاري . هذا هو الواقع العربي اليوم .
ما اراه ان المدينة العربية تخفض الرأس امام زحف الصحراء .. حسنا ، الكتابة الابداعية لا تحتاج الى مؤسسات للبحث العلمي ، ولا الى تكنلوجيات دقيقة . الكتابة الابداعية قد تتأثر سلبا أو ايجابا بالواقع المدني ، لذا ليس بالصدفة أن أبرز الأسماء الأدبية جاءت من اليسار ، واليسار الأكثر التزاما بايديولوجية ثورية ، والمنفتح على التراث الثوري العالمي بكل تياراته وامتداداته الكونية ، ورفضا لزحف الصحراء وما تمثله من فقر فكري ومدني.
ان مجتمعنا ، بتراجعه مدنيا ، يتراجع ثقافيا أيضا ، وهو تراجع بالغ الخطورة ليس على الابداع الأدبي ، على القصة والشعر ، انما على تطوير الفكر وتطور انسان المستقبل . ان من ينشأ في ظل الفكر العائلي المغلق أو الفكر الطائفي المتزمت ، سيواجه اشكاليات عويصة للغاية في شق طريقه نحو حياة مدنية راقية. وفي الوصول الى المساهمة في الانجازات الحضارية للمجتمع البشري.
* داحس والغبراء :هي حرب من حروب الجاهلية ( قبل الاسلام ) كانت بين قبيلتي عبس وذبيان.
و داحس والغبراء، هما اسما فرسين لفارسين من القبيلتين.
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com
هنا يكمن الأمان
ميمي أحمد قدري
أسكب دموعي بكأس الألم
تترنح خطواتي
ويلهو بها سراب من أمل
أرتوي بكوب فارغ
أملأه بآهات نبض قلب يعشق العدم
التهيت بزمن ليله يتيه بين طياته النهار
ويُقتل على أعتابه الكلم
وتتساقط وريقات النور ليغرق قلبي بالأنين
وأتأرجح بين قلب وقلب لأنتشي بأريج الحنين
وأتوضأ بمياه سكبتها دموع العاشقين
وتشهق النفس وتطيل الأنتظار
وتنادي على بقايا العمر
وأمد كفي لأقبض على بقايا من نسائم العشق
الجرح فاغرٌ فاهه ليُقصي عني الحبيب
وهذا يمد ذراعاً من الضوء
ويسأل الرفق بهواه
فتطرب النفس بأناته وشكواه
أنتظر وأنتظر وأتشوق لفجر لقياه
وينادي حفيف الشجر ونسائم الربيع
هاهو الحبيب ملَّكك كل دنياه
فاملأي مسبحك بعذب المياه
وأستكيني فوق السحاب وأعشقي الحياة
فيغوص القدر بعمق الجرح
ويولد عقيق الصبر
وزخاااااااات المطر
ليطفئ أناااااااااااااات الفرااق
ويسكب بين كفي داناااات الرجاااء
أملاً وتمنياً باللقاء
فأتشح بأمر إله الأرض والسماااء
وأنتقي من بذر النبض
لينتفض البركان
ويبذر حبات المرجاااااااااااان
وأنتشي برحيق الشوق والحنااان
ويرتفع صوت العاشق الولهان
هنااا يكمن على صدرك الأمان
الاثنين، مارس 22، 2010
محاضرة د. إبتسام إبراهيم حول: المقاومة اللاعنفية لدى الحركة الإسلامية في الأراضي الفلسطينية
(أستاذة مادة العلوم الإجتماعية في الجامعة الأميركية بواشنطن)
ندوة "مركز الحوار العربي" في واشنطن، بتاريخ 17 مارس/آذار 2010
مقدّمة
منذ أوائل التسعينات، بدأت السلطات الإسرائيلية بسياسة تضيق للخناق على القدس الشرقية تشمل توسيع مسطح حدود البلدية، فرض ضرائب متعددة ومتنوعة على السكان الفلسطينيين، خاصة ما يعرف بضريبة الأرنونا، أي ضريبة البلدية، وجعل حصول السكان الفلسطينيين على تأشيرة للسماح لهم ببناء أو ترميم منازلهم ليس فقط مستبعدا بل مستحيلا. وتهدف هذه العوائق الى تفريغ مدينة القدس من سكانها العرب وتشجيعهم على الهجرة خارج القدس الشرقية. وبدت سياسة الخناق بأنّها تُصعّب على السكان العرب منذ بداية انفجار انتفاضة الأقصى. بينما في الواقع بدأت سياسة شد الحصار على مدينة القدس منذ عام 1993 عندما أصبح ممنوعا على سكان المناطق المجاورة للمدينة وعلى سكان الضفة الغربية وغزة الوصول للمدينة ممّا أسفر عن إغلاق حوالي 50% من المحلات التجارية في المدينة.
كما أن جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل في الاراضي الفلسطينية لأسباب أمنية زاد بشكل سافر المتاعب وأثقل على حياة السكان العرب المقدسيين وضعضع اقتصاد المدينة أكثر مما كان عليه، وعزلها عن بقية المناطق الفلسطينية أكثر مما كانت عزلتها عليه سابقا. أما من بقي عليه التمكّن من الوصول للقدس من دون عائق فهم فلسطينيو الداخل أي فلسطينيو مناطق ال-1948، أي من هم من السكان المعروفين بمواطني دولة إسرائيل.
هذه الورقة تناقش ظاهرة الزيارات اليومية لفلسطينيي الداخل للقدس والمسجد الأقصى والتي تقوم بتنظيمها مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية والتراث والتي تديرها الحركة الإسلامية في منطقة ال-1948، وكيف أن هذه الرحلات والتي أخذت وما تزال طابعا دينيا متمثلة بعمل فرض ديني ولكنها تهدف بالوقت نفسه لتثبيت الهوية العربية لمدينة القدس، وتعبيرا عن رفض السياسة الإسرائيلية التي تهدف الى محو الطابع العربي لمدينة القدس وتفريغها من سكانها العرب وتحويلها، خاصة البلدة القديمة، مرتعا لليهود.
لكي نستطيع أن نتعرف على أهمية الدور النشط لمؤسسة الأقصى للوقف والتراث الإسلامي ومن أجل إعمار المقدسات الإسلامية وتثبيت الهوية العربية لمدينة القدس ودعم اقتصادها، سأقدم مقتطفاً يوضّح الأسس التي قامت عليها مؤسسة الأقصى ودورها كظاهرة سياسية تناضل ضد السيطرة الإسرائيلية للمواقع والأماكن المقدسة الإسلامية وحتى المسيحية في داخل إسرائيل وفي القدس العربية. ولكن سأضطر قبل ذلك أن أعطي فكرة عن دور الحركة الإسلامية في منطقة فلسطين ال48.
مؤسسة الأقصى والحركة الإسلامية في إسرائيل
تختلف الحركة الإسلامية في منطقة ال1948 عن بقية الحركات الإسلامية في فلسطين وفي العالم العربي، وبالتحديد تختلف بوسائل نضالها عن حركة حماس والجهاد الاسلامي في المناطق الفلسطينية المحتلة، وذلك لأن وضع فلسطينيي الداخل، حسب تصريحات قيادييها، يختلف بشكل جذري عن الوضع العربي ككل وعن المناطق المحتلة بالأخص. ولذلك، فإن اهتمام ونشاطات الحركة الإسلامية في إسرائيل ما هو الا عبارة عن ميكانيكية بديلة لدعم الأقلية الفلسطينية في إسرائيل. وبما أنها مؤسسة غير حكومية مُصرّح لها فمعظم جهود الحركة ترتكز في تعزيز الطابع الإسلامي لمسلمي الداخل الفلسطيني من خلال إقامة مشاريع تطويرية مختلفة تشمل مشاريع اقتصادية، تعليمية، دينية، اجتماعية، ومؤسسات خدماتية إنسانية. ولقد حدّد الشيخ كمال خطيب مهمّة الحركة الإسلامية لفلسطينيي ال 1948 في إحدى المقابلات معه قائلا: "ليس مهمة الحركة الإسلامية في البلاد أن تتحمّل مسؤولية العالم الإسلامي أجمع بل مسؤولية حركتنا تصب في حفظ النسل والنفس والأرض والدين والعقل والمال ودفع المظالم النازلة علينا كمسلمين في هذه البلاد ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وفي هذه الأثناء تصبح مهمة الحفاظ على مقدساتنا وعلى رأسها المسجد الأقصى من ضمن مسائل حفظ الدين كعلامات دالة عليه وذلك بما نملك من وسائل وآليات وإمكانيات وقدرات." (أجرت المقابلة وكالة قدس نت، 2004).
وماذا تقصد الحركة الإسلامية بموضوع الميكانيكية البديلة لدعم الأقلية الفلسطينية في إسرائيل؟ المقصود هنا هو مبدأ مشروع المجتمع العصامي والذي حدّده قياديو الحركة بأنه عبارة عن فكر ومشروع يعبّر عن رفض الحركة الإسلامية للخيارات السياسية المطروحة، مثل خيار جعل إسرائيل "دولة كل المواطنين" أو فكرة "الحكم الذاتي" أو "دوله ثنائية القومية"، كما وضّحها باحثو علم الاجتماع والعلوم السياسية لفلسطينيي الداخل، وأذكر بالتحديد نهاد علي (2004) وأسعد غانم ومهند مصطفى. (2009).
وفكرة المجتمع العصامي تعني "بناء مؤسسات أهلية مستقلة في مجالات الحياة المختلفة... بهدف خدمة الجماهير العربية حسب المنظور الإسلامي، ولقطع التبعية بين الوسط العربي وبين دولة إسرائيل ومؤسساتها... [وذلك من خلال] إقامة مجتمع يعتمد على ذاته (أي بما يعني: مجتمع عصامي)." (غانم ومصطفى، 2009، ص. 241-5 )
فعلى سبيل المثال: فمنذ انتفاضة الأقصى تمّ إنشاء 30 جمعية ومؤسسة قطرية تعكس فكر المجتمع العصامي وترعى شؤون الطفولة، الطلاب الجامعيين، الإغاثة، الرياضة والشباب، الإعلام، الأدب والفن، الأبحاث والدراسات، الأرض والمقدسات، الرعاية الصحية والمستشفيات الأهلية والمدارس الأهلية.
فكما جاء على لسان الشيخ رائد صلاح صاحب فكرة المجتمع العصامي، فإن المشروع يعتمد على ثلاثة أصول:
1. إحياء الموارد المالية. من أجل تأصيل إحياء الموارد الذاتية من خلال المنظور الإسلامي، مثل إحياء فريضة الزكاة وباب الوقف الإسلامي وباب الصدقة وباب الوصية، وهذا بحد ذاته "يفكك حالة التبعية الموجودة ويعمق من استقلالية القرار السياسي العربي، ويؤكد على ثوابته ويزيد من استقلالية المجتمع العربي دون الانفصال عن الدولة." (غانم ومصطفى، ص.342)
2. إقامة مشاريع ذات صلة شمولية والمقصود مشاريع من شأنها بناء الحياة الاقتصادية والصحية والاجتماعية وإدارتها بأيد عربية، مثل إقامة المدارس والمستشفيات الأهلية. وبالفعل تمّ تطبيق هذا المشروع فتمّ بناء مدرسة أهلية في أم الفحم وبناء مستشفيات أهلية في طمرة، الناصرة وأم الفحم.
3. التواصل مع العالم العربي الإسلامي من حيث تشجيع التواصل في الخبرات والقدرات المالية ورفض فكرة التواصل مع الجمعيات والمؤسسات الأوروبية والأميركية الداعمة والتي تهدف وتسعى الى الهيمنة من خلال تقديم المساعدات المالية تحت شعار كاذب تسمّيه المساعدات الإنسانية." (المصدر نفسه).
إحدى أهم مؤسسات الحركة الإسلامية والمعروفة في الداخل الفلسطيني هي مؤسسة الأقصى للوقف والتراث ولإعمار المقدسات الإسلامية الفلسطينية في إسرائيل، والتي أُنشئت في عام 1991، من أجل إعادة بناء المقدسات الإسلامية، وأيضا المسيحية، والتي قسم كبير منها هُدّم وتضرّر على أيدي الدولة اليهودية قاصدة بذلك اقتلاع الجذور التاريخية للشعب المسلم والمسيحي الفلسطيني في البلاد، فهدمت ما يزيد عن 1200 مسجد، وجرفت مئات المقابر وصادرت الأوقاف الإسلامية، وحوّلت الكثير من المساجد إلى خمارات وحظائر للأبقار وفنادق ومواقف سيارات، ووضعت يدها على الأوقاف الإسلامية متذرعة بعشرات القوانين التي سنّت خصيصاً لمصادرة الأراضي، وعلى رأس هذه القوانين قانون أملاك الغائب. وما زالت إلى الآن عشرات من المساجد تنتهك حرماتها، فبعضها تستخدمه بعض الجهات الإسرائيلية خمارات ومطاعم وحظائر لتربية المواشي، وتقوم دائرة أراضي إسرائيل بوضع المخططات الخبيثة الرامية إلى تهميش الوجود الإسلامي، فقامت بتحويل مسجد قيساريا ومسجد عسقلان وعين حوض إلى خمارات، وتصوير فيلم للعراة داخل المسجد الأحمر في صفد، وتحويل المساجد إلى حظائر للأبقار والأغنام.
وقد اعتمدت مؤسسة الأقصى في عملها في الدفاع عن المقدسات الإسلامية وحمايتها من خلال ترميم المقدسات وصيانتها. كما ونجحت بذلك في إيقاف الكثير من الاعتداءات مثل جرف المقابر الإسلامية والمسيحية في القرى المهجَّرة. ثم نجحت أن تسترد الكثير من هذه المقدسات بعد أن حاولت السلطات المؤسسات الإسرائيلية طمس هويتها. وعملت المؤسسة أيضا على إنقاذ عشرات المساجد والمقابر التي كادت تطمس بسبب الإهمال وعدم رعايتها، ووصول بعضها إلى درجة الانهيار أحياناً. وقد تم ذلك من خلال القيام بتنظيم المعسكرات العملية التي كان يشارك فيها المئات من الشباب الذين عملوا على إعادة بنائها وترميمها، كما وشمل العمل على صيانة المقدسات في المدن المختلطة (عكا، حيفا، يافا، اللد والرملة) التي يسكن فيها اليهود والعرب والتي تعرّضت فيها كثير من المقدسات الإسلامية والمسيحية الى الطمس.
بالإضافة الى ذلك، عملت مؤسسة الأقصى على توثيق كل الأوقاف والمقدسات بالكتابة والصورة الفوتوغرافية وأشرطة الفيديو وبادرت إلى إعداد النشرات المرشدة إلى مواقع الأوقاف والمقدسات لزيارتها. ثم تابعت وما زالت مؤسسة الأقصى أي تطور أو انتهاك، وتقوم بمعالجته بالطرق القانونية كنصب خيام الاعتصام والتوعية الإعلامية. ومنذ بدء عملها حتى يومنا هذا عملت مؤسسة الأقصى وما تزال على مطالبة الجهات الإسرائيلية بتحرير جميع المساجد التي حُوّلت إلى خمارات وبارات ومخازن.
العقبات التي تواجه مؤسسة الأقصى خلال عملها كثيرة وأهمها المعوقات التي تتلقاها من قبل المؤسسات الرسمية في البلاد، مثل " دائرة أراضي إسرائيل " والتي تسمّى "المنهال"، التي تضع أيديها على كثير من الأراضي الوقفية الإسلامية، تحت ستار قانون "أملاك الغائبين"، فتمنع قياديي وناشطي المؤسسة من الدخول الى المواقع الإسلامية في البلاد، ويتعرضون في حال دخولهم للملاحقة القانونية والشرطية. كما وواجهتهم عقبات وعراقيل من خلال أقسام الهندسة القطرية التي تقوم بتغيير الإحداثيات الهندسية، البلوكات والقسائم والخرائط التفصيلية. ثم أن أهم ما يصعب على عمل المؤسسة هو ما يسمّى بـِ" سلطة الآثار " التي تملك قوة قانونية هائلة، وتقوم بالدخول الى المواقع الإسلامية دون إذن من أحد وتنتهك حرمة المساجد في القرى المهجرة أو المقابر، ويصعب مواجهتها بسبب الدعم القوي الذي تتلقاه من قبل المؤسسة الإسرائيلية. ثم إن هناك عراقيل من قبل السلطات المحلية اليهودية أو الشركات الإسرائيلية الرسمية والتي لها سلطة على بعض المواقع الإسلامية في البلاد والتي لا تبدي تعاونا مع مؤسسة الأقصى فيما يخص الأوقاف الإسلامية التي تحت سلطة هذه المجالس المحلية والبلديات اليهودية.
كما أن التعامل من قبل محاكم القضاء الإسرائيلي التي كثيرا ما تتهرب من إصدار القرارات بحق الأوقاف الإسلامية بحجّة أنها غير مخولة بإصدار مثل هذه القرارات.
زد على ذلك تخاذل الشرطة الإسرائيلية المتعمّد من القيام بدورها في المحافظة على الأوقاف الإسلامية أو منع الاعتداء عليها أو انتهاك حرمتها، خاصة أن هناك محاولات كثيرة من قبل جماعات يهودية متطرفة تهدف لتحويل بعض المصليات والمساجد الى كنس يهودية، كما أن وزارة الأديان الإسرائيلية تنكر حق المؤسسة بإقامة مشاريع لصيانة المساجد والمقابر.
كل هذه العقبات والعراقيل توضع أمام أعمال مؤسسة الأقصى، وهي لا شك عقبات كبيرة تحاول مؤسسة الأقصى تقليصها ومواجهتها وتجاوزها.
وقد اعتمدت مؤسسة الأقصى في نضالها من أجل إعادة الممتلكات التابعة للوقف الإسلامي والمسيحي من خلال حملات نضال لا عنفية متمثلة، كما ذكرت، بمتابعة قضائية ضد السلطات الإسرائيلية ومتمثلة بالتأكيد على التسامح الديني والعمل المشترك مع الأديان الاخرى وبالذات الديانة المسيحية من أجل إعادة هذه الممتلكات لأصحابها الشرعيين.
لكن معظم نشاطات جمعية الأقصى واجهت رد فعل عدائي من السلطات الإسرائيلية، وكما جاء على لسان المؤرخ الإسرائيلي ميرون بينبينيستي "تحدث مشادات بين المؤسسات الإسرائيلية الحكومية والجهات البلدية وبين مؤسسة الأقصى وعلى فترات متباعدة." ولكنْ قياديو الحركة الإسلامية يدركون بأن السلطات الإسرائيلية ناقمة على مشاريع مؤسسة الأقصى وبالذات على مسيرة البيارق من خلال التضييق على سائقي حافلات " مسيرة البيارق " إمّا بسحب رخصهم أو بتغريمهم الغرامات المالية العالية وفرض أوامر على المشاركين في مسيرة البيارق تمنعهم من دخول المسجد الأقصى المبارك لمدة فترات زمنية محددة.
ومع استمرار النقمة والعداء من قبل المؤسسات الحكومية والملاحقة القضائية لمؤسسة الأقصى وقيادييها، تحافظ هذه المؤسسة على نوع من التعامل السلمي بالوسائل القانونية/القضائية ورفض الانجرار لاستعمال العنف، ووفق منشوراتها على موقع الإنترنت، تؤكد المؤسسة بتمسكها بالنضال السلمي المتسامح والذي يعبّر عن ماهية وطبيعة الدين الإسلامي المتسامح.
القدس والمسجد الأقصى
إضافة لتأكيدها على إعادة الوقف الاسلامي لأصحابه الشرعيين وإعمار المقدسات التى هُدّمت على أيدي الإسرائيليين في داخل إسرائيل، فإن ما تقوم به مؤسسة الأقصى خاصة في القدس المحتلة هو تعبير عن مؤازرة ومساندة فلسطينيي الداخل للأهل في الاراضي الفلسطينية وبالتحديد مؤازرة أهل القدس الشريف من أجل تثبيتهم في بيوتهم وممتلكاتهم والتي تعتبر، أي تلك الممتلكات، صمّام الأمان للمسجد الأقصى المبارك.
ولقد حظي المسجد الأقصى المبارك باهتمام كبير من قبل مؤسسة الأقصى، وذلك لمكانته الرفيعة لدى المسلمين بشكل عام كونه أول القبلتين. ومن خلال النداء بأن "الأقصى في خطر" تخاطب مؤسسة الأقصى كل المسلمين في العالم وخاصة المسلمين الفلسطينيين في إسرائيل، للتأكيد على أن وجود الأقصى وكل الحرم الشريف في خطر. وبذلك فقد عزّزت المؤسسة الحس الديني والتضامن الوطني لدى الاوساط المختلفة في المجتمع الفلسطيني وتعزيز النضال من أجل الأقصى.
وتعتبر المؤسسة بأن الواجب القومي والديني يفرض عليها العمل من أجل حماية الأقصى ونشر تقارير مفصلة عن الحفريات الإسرائيلية في أسفل المسجد الأقصى والمناطق المحيطة به وخطر هذه الحفريات مما أدّى الى تصدعات وانهيارات والتي بدت تظهر علنا في بعض الجوانب من مباني المسجد والبيوت في القدس القديمة والتي بات أهلها يعيشون في خطر دائم لتعرض منازلهم للانهيار بأي وقت.
قياديو مؤسسة الأقصى واعون لدور السلطات الإسرائيلية بتوفير الإمكانيات للمتشددين اليهود والذين يعملون على إثارة الشغب من خلال وصولهم للأقصى ومحاولاتهم المستمرة بتنفيذ أضرار لإحدى أهم المقدسات الإسلامية في القدس العربية. ولهذا، قامت المؤسسة بإنجاز عدّة أنشطة.
من برامج وفعاليات مؤسسة الأقصى بالحرم الشريف القيام بمعسكرات عمل أسبوعية ثابتة منذ عام 1996 وتحت إشراف وإدارة هيئة الأوقاف ولجنة الإعمار في المسجد الأقصى المبارك، والتي يتطوع فيها الشباب المسلم من مناطق الجليل، المثلث، النقب، مدن الساحل مثل عكا، حيفا، يافا، اللد والرملة، وأيضا من القدس والقرى المجاورة ملبيين بالمئات نداء مؤسسة الأقصى من أجل نجدته، فأنجزت هذه الإنجازات العملية والتي هدفت المؤسسة من خلالها الى إعمار المسجد الأقصى وحل مشكلة الإزدحام فيه والمساعدة على ترميم ما يحتاجه هذا البناء المقدس.
بينما يعتبر أهم مشروع تقوم به مؤسسة الأقصى من أجل حماية المسجد الأقصى هو مشروع "مسيرة البيارق" وهو مشروع شد الرحال إلى المسجد الأقصى، حيث تسير عشرات الحافلات يومياً إلى المسجد الأقصى مجاناً من جميع القرى في الداخل الفلسطيني على نفقة مؤسسة الأقصى حاملة معها الآلآف من مسلمي فلسطينيي الداخل من الجليل والمثلث والنقب لتأدية الصلوات في الحرم الأقصى الشريف وأيضا من أجل تثبيت وتعزيز التواجد الإسلامي العربي في القدس العربية بشكل يومي خاصة بعدما منعت سلطات الاحتلال الإسرائيلية أهالي المناطق المحتلة في الضفة والقطاع وحتى القرى المجاورة لمدينة القدس من الدخول الى القدس.
سميَّ هذا المشروع بالبيارق تيمناً بالمسيرة التاريخية التي نادى بها صلاح الدين الأيوبي والذي جندَّ جيوش المسلمين من كل البلاد العربية والإسلامية وخاصة مصر وسوريا للانضمام لصفوف حملة الدفاع عن القدس وتحريره من أيدي الغزاة الصليبيين في عام 1187. فبعد التحرير، أعلن الأيوبي عن يوم ثابت في كل عام، يستنفر فيه المسلمين من خلال تنظيم مسيرات تنطلق من كل الولايات العربية الإسلامية وتسير بعشرات الآلاف باتجاه المسجد الأقصى المبارك في الدفاع عنه وأيضا لدعم وإظهار مساندة للتواجد العربي والإسلامي في القدس. وسمَّى صلاح الدين هذا اليوم بيوم البيارق، كما شرحها الشيخ رائد صلاح، لسببين:
1. أن المسيرات الحاشدة التي سٌيرت للمسجد الأقصى كانت ترفع البيارق، أي الاعلام.
2. كما أن البيارق، وهي جمع بيرق والبيرق يعني النور، فلذا عُرفت مسيرة الأنوار، إذ أن المشاركين في مسيرة البيارق كانوا يحملون الأعلام نهارا والأنوار أي "المشاعل" ليلا من أجل إدخال الرعب في قلوب الصليبيين من حجم الآلاف المؤلفة المتجهة من أكثر من قطر إسلامي الى القدس وثم من رفع قيمة ومكانة المسجد الأقصى في قلوب أبناء الأمة الإسلامية وتذكيرهم بقبلتهم الأولى.
عملا بتجربة صلاح الدين الأيوبي قررت مؤسسة الأقصى تسيير حافلات تنقل كل من يريد شد الرحال الى المسجد الأقصى الشريف. وقد بدأت المؤسسة بهذا المشروع في عام 2001 بتسيير حافلات/باصات تنقل مجانا من يود السفر الى المسجد الأقصى من القرى والمدن في المثلث والجليل والنقب والمدن الساحلية لأداء الصلاة في ساحات المسجد الأقصى المبارك. ففي الشهر الأول للمشروع شاركت 17 حافلة ونقلت 850 مصلي ومصلية الى الأقصى. أما في الشهر التالي فقد وصل عدد الباصات الى 74 ونقلوا 3700 رجل وامرأة. ومنذ ذلك الحين ازدادت شعبية المشروع وأصبحت تصل العشرات من الباصات بشكل يومي الى القدس محمَّلة بالمصلين من كافة القرى العربية في الشمال والجنوب الفلسطيني. وحسب احصائيات المؤسسة، وصل الأقصى حوالي 3158 باصا حاملا 157900 مصليا في عام 2001، وفي عام 2002 وصل عدد الباصات الى 6406 حاملا 325300، وأما في عام 2009، فقد وصل عدد الباصات الى 10500 باصا حاملا 610800 مصليا.
والأهداف من وراء مشروع "مسيرة البيارق" كثيرة وأهمها:
1. تضامن ودعم الأهل الفلسطينيين المسلمين في القدس من أجل الدفاع عن مسجد الأقصى. السياسات الإسرائيلية عززت سيطرتها على منطقة الجامع من أجل السيطرة. بل إنّ هذا ما تهدف اليه الجماعات اليهودية المتشددة. أما الرحلات المتكررة وبشكل يومي ستزيد من عدد المصلين المسلمين بشكل كبير، وهذا التواجد يحمي بحد ذاته المسجد ويعمّق الصلة الروحية بينه وبين المصلين. كما أن الفعاليات السنوية مثل "مهرجان الأقصى في خطر، ومهرجان صندوق طفل الأقصى، واحتفالات مصغرة في كل بلد عربي في فلسطين ال1948 يصب في تعميق الصلة مع الأقصى.
2. هداية جيل الشباب المسلم الى الطريق السليم من خلال توفير دروس دينية في باحة الأقصى من أجل تعميق صلتهم بالأقصى وربطهم به ربطا عقديا وحسيا. ويؤكد الشيخ علي سعيد أبو شيخة رئيس مؤسسة الأقصى بأنه من خلال جلب وإعادة جيل الشباب إلى درب الهداية من خلال الدروس اليومية في الأقصى المبارك وإحياء سنَّة الاعتكاف في المسجد الأقصى وزيادة عدد المصلين يكون "إحياء الأيام الخوالي والدور الريادي للأقصى المبارك عبر تكثيف وجود المرابطين فيه لتعود للأقصى منارته المفقودة."
3. انعاش ورفع الاقتصاد في البلدة القديمة (داخل أسوار القدس) والذي تعرض وما زال لظروف صعبة نتيجة الحصار وتضييق الخناق من قبل السلطات الإسرائيلية. ففي هذا الدعم الاقتصادي نوع من التثبيت للأهل في القدس " البلدة القديمة " والرباط حول المسجد الأقصى المبارك.
4. إعادة التواصل بين فلسطينيي ال1948 بالأقصى من خلال تكرار هذه الزيارات.
وتقريبا لا يوجد بيت أو عائلة مسلمة من فلسطينيي ال1948 الا ورافق بعضٌ من أفرادها الرحلات المجانية ل"مسيرة البيارق" الى القدس. فقد جاء على لسان الشيخ كمال خطيب، أحد قياديي الحركة الإسلامية، أنه بمعدل 30000 شخص رافقوا مسيرة البيارق في كل شهر من عام 2004 مع العلم أن العدد الاجمالي لسكان مناطق ال1948 قد وصل تقريبا الى المليون ومائتين ألف عربي، حيث يصل عدد المسلمين إلى 900000 ولكن أكبر عدد يرافق مسيرة البيارق عادة ما يكون في شهر رمضان. فعلى سبيل المثال، في رمضان 2002 وصل 940 باصا إلى القدس من مناطق ال1948 بينما وصل عدد باصات مسيرة البيارق في رمضان 2009 إلى 1500. ووصل عدد الباصات الآتية من مناطق ال1948 في ليلة القدر في رمضان 2009 إلى أكثر من 200 باص.
يمكن تفسير إقبال الناس وتزايد الأعداد المرافقة لمسيرة البيارق خلال شهر رمضان بالتحديد بتعميق وازدياد الحس الديني والذي بالطبع يحتل حيزا أساسيا في قرار الناس بالسفر الى القدس من أجل الصلاة بالأقصى. ولكن، المعطيات من خلال المقابلات التي أجريت مع المسافرين يظهر أن الرغبة بالتسوق وعمل مشتريات العيد في سوق البلدة القديمة بالقدس يعتبر أيضا عاملا مهما في قرار السفر. وهذا العامل بالذات ترك أثرا بالغا على الاقتصاد والتجارة في بلدة القدس الشرقية والتي كانت تعتمد سابقا وبشكل أكبر على أهل القرى الفلسطينية في ضواحي القدس وأهل الضفة الغربية، بالإضافة لفلسطينيي 1948. ولكن ومنذ تفجر انتفاضة الأقصى انخفض مدخول التجارة بمدينة القدس العربية الى نسبة 40% مقارنة لعام 2000 حسب ما جاء في بحث عزام ابو السعود عام 2007. وهناك عوامل عدة ساعدت على هذا الانخفاض:
· حواجز الجيش الإسرائيلية والتي منعت مواطني قرى الضواحي ومناطق الضفة وغزة من الدخول للقدس الشرقية؛
· انخفاض حاد بمعدل الدخل للفرد في القدس والاكتفاء بشراء المؤن الاساسية وبمقادير قليلة؛
· انعدام السياحة في القدس العربية خاصة بين الأعوام 2002 – 2004؛
· وانخفاض حاد في عدد الزائرين المسلمين والمسيحيين للأماكن المقدسة في البلدة القديمة للقدس نتيجة الحصار الإسرائيلي والتوتر السياسي بالمنطقة. (أبو سعود، 2007، ص.106).
ومع أن هذا االتدهور الاقتصادي القاس والحاد والذي استمر خلال كل سنوات انتفاضة الأقصى، إلا أن أَوجُه اشتد منذ البدء ببناء جدار الفصل العنصري خاصة وبعدما أصبح مستحيلا على سكان بعض أحياء المدينة وقرى الضواحي القاطنين خارج الجدار من الدخول للمدينة. وحسب بحث لبرنارد سابيلا (2007)، فإن الجدار منع أكثر من 55000 مواطن قدسي من حاملي البطاقات الزرقاء والذين يسكنون في الأحياء الشمالية والشرقية للمدينة مثل حي الرام وأبو ديس من العبور الى القدس بعدما فصل الجدار أحياءهم وبيوتهم من التواصل مع مدينة القدس وفرَّق حتى بين أفراد العائلة الواحدة. (سابيلا، 2007، ص.30).
وهذا يؤكد بأن الهدف الرئيس لإسرائيل من بناء جدار يفصل قسم من سكان المدينة الواحدة بهذا الشكل هو التخلص من أكبر عدد ممكن من سكان القدس الفلسطينيين وفرض واقع ديموغرافي جديد يقلل من التواجد العربي في المدينة مع زيادة التواجد اليهودي الإسرائيلي بالوقت نفسه. ولهذا، فإن جدار الفصل، ونتيجة التقييدات المفروضة على تحرّك وتنقل السكان العرب والتقييد على نقل البضائع من وإلى القدس الشرقية، بأن ما تهدف اليه إسرائيل بلا شك هو ضرب وخنق اقتصاد القدس العربية، كما جاء على لسان ليلى فرسخ. (2006).
قياديو مؤسسة الأقصى يعللون انضمام آلآف المسلمين الفلسطينين من مناطق ال1948 لرحلات مسيرة البيارق المتكررة للقدس العربية وبتعريف ظاهرة عادة التسوق في سوق البلدة القديمة بعبادة اقتصادية شبيهة بعادة الزكاة، وهدفها دعم وتضامن مع الأهل الفلسطينيين المصممين على البقاء في القدس رغم عمليات الحصار والتهويد من خلال سياسة فرض الضرائب القاسية على أهل القدس.
فعلى سبيل المثال: يقول أحد أصحاب المحلات التجارية القريب من باب الحديد وهو أحد أبواب المسجد الأقصى بأنه "عبر مسيرة البيارق أصبحت الحركة التجارية تتقدم شيئا فشيئا خاصة في أيام السبت"، أما آخرٌ من الباعة في الطريق المؤدية إلى باب الأسباط فيقول: "مع اقتراب عيد الأضحى المبارك نرى هناك تزايداً في عدد الوافدين من عرب الداخل ونرى حركة تجارية نشطة خاصة أيام السبت ".
وما أناقشه في بحثي هذا أن هناك وجهاً آخر لازدياد شعبية مسيرة البيارق يهدف الى خلق وجه معنى جديد لفكرة التضامن وخلق هوية جديدة عند عدد كبير من فلسطينيي ال1948 داخل الخط الأخضر. فالمشاركون برحلات المسيرة يرون بأن هذه الرحلات عبارة عن دعم لمدينة القدس والتأكيد على إبقائها مدينة حية يملؤها حضور وتواجد عربي وإسلامي من خلال زياراتهم اليومية والمتكررة لأقدس المقدسات الإسلامية في فلسطين، وأيضا من أجل الحفاظ على اقتصاد القدس العربية حيا ومزدهرا. فرغم أن هناك اختلافا عميقا بين الحافزين—الصلاة والتسوق—اللذين يجعلان كثيرا من الناس تنضم لرحلات مسيرة البيارق إلا أنهما يصبان في هدف واحد ألا وهو تعزيز الهوية العربية والمسلمة للقدس وتعزيز بالوقت نفسه الهوية الفلسطينية والإسلامية للسكان المسلمين العرب الفلسطينيين في إسرائيل.
هل هي عادة أم عبادة
كما ذكرت سلفا، فإن عددا من الذين تمّت مقابلتهم خلال الرحلات المنظمة لمدينة القدس بحافلات مسيرة الأقصى أجابوا بأن الهدف الأول للذهاب للقدس هو الصلاة ومن ثم التسوق في سوق البلدة القديمة. وظاهرة التسوق أصبحت تعتبر عادة وأن أداء فريضة الإيمان لا يكتمل إلا إذا تضامنوا مع أهل القدس من خلال التسوق من متاجرهم ودكانينهم بعد صرف بضع ساعات وبضع مئات من الشواقل قبل الدخول لمنطقة الحرم يقضونها في التبضع مما يحتاجونه من كتب، وملابس، وحتى بعض الأغذية والمواد التموينية مثل الحلويات والفواكه وورق العنب الطازج من فلاحات قرية الخضر وقرى الخليل. المقابلات التالية جمعتها من نشرات مؤسسة الأقصى والتي أرسلها لي أحد قيادييها عبد المجيد أغبارية.
فمثلا سفيان من أم الفحم: "اعتدت في الأشهر الأخيرة زيارة المسجد الأقصى والمشاركة في مسيرة البيارق، أقضي معظم وقتي داخل المسجد الأقصى للعبادة من صلاة وتسبيح وقراءة القرآن...، لا أذهب إلى السوق ولكني اعتدت بعد الخروج من المسجد الأقصى عبر باب الأسباط أن أشتري دائما بعض الهدايا لطفلي عبد الحميد من ألعاب وملابس وبعض المستلزمات البيتية، وبصراحة أشتري لأنني قد تعودت دائما في كل سفر أن أحمل بعض الهدايا للبيت... وأرى فعلا أن هذا التسوق يمكن أن يتحوّل من مجرّد عادة إلى عبادة يراد بها وجه الله وتثبت الأهل حول المسجد الأقصى المبارك ".
أمّا عبد الفتاح فيؤكد بأنه اعتاد منذ انطلاقة مسيرة البيارق المشاركة أسبوعيا كل يوم سبت وشدّ الرحال إلى المسجد الأقصى، فالركعة هناك بخمسمائة ركعة. ولا يترك فرصة سنحت خلال أيام السنة من عطل واستراحات في العمل إلا واستغلها لزيارة المسجد الأقصى المبارك: " إن هذه المسيرة التي انطلقت قبل أعوام قليلة تعتبر مبادرة هامة من أجل إعمار المسجد الأقصى، أذهب أسبوعيا للصلاة، وأُكثِر من اصطحاب العائلة والأولاد معي كنوع من التوعية والارتباط مع المسجد الأقصى... أمّا عن المشتريات فأنا شخصيا أقوم بشراء الأشرطة الإسلامية والكتب والهدايا والألعاب، لنفسي ولأهلي وأقربائي وجيراني. وقد نويت هذا الأسبوع شراء معظم مستلزمات عيد الأضحى المبارك من السوق في القدس من حلويات وهدايا".
"إننا نقوم بذلك كنوع من التعاطف والدعم لتثبيت سكان القدس القاطنين حول وقرب المسجد الأقصى، خاصة مع الوضع الاقتصادي الخانق هناك، وحبذا لو بادرت مؤسسة الأقصى بإقامة سوق مرتب ما بين باب الأسباط والموقف الذي تقف فيه الحافلات، فالوضع هناك بحاجة إلى تنظيم وترتيب، الأسعار الرخيصة نسبيا هي أحد أسباب إقبال الناس على الشراء، ولعل هذا سبب إضافي يجعل فكرة وإقامة سوق مرتب خاصة أيام الجمعة والسبت وفي مواسم الأعياد فكرة في محلها. حبّذا لو خرجت إلى حيّز التنفيذ ".
أكثر جمهور المتسوقين من المشاركين في مسيرة البيارق هم من النساء، والحاجة تمام تسافر أسبوعيا وغالبا يوم السبت إلى الأقصى عبر مسيرة البيارق. كانت تسافر من قبل ولكن بعد انطلاقة مسيرة البيارق ازداد سفرها وشد الرحال الى المسجد الأقصى وترى أن التجاوب يزداد يوما بعد يوم. والمبلغ الذي تصرفه الحاجة تمام محسن في كل رحلة ليس بالقليل: "أقوم بشراء الهدايا من ألعاب، وملابس لنساء أخوتي وهدايا لأبناء أخوتي وأخواني بمبلغ 600-700 شيكل في كل مرة ".
الحاجة تمام صاحبة دكان وهي تلاحظ أن الحركة التجارية مشجعة، وأن ما تقوم به هو نوع من التشجيع لأصحاب المحلات التجارية كي يعمروا الأقصى ويقفوا في وجه الخناق والتضييق في لقمة العيش عليهم، وهي في الوقت نفسه تشجّع الجميع على التسوق هناك، فالأسعار مقبولة وشعبية والأمر مهم."
الحاج محمود خضر "أبو خليل" وزوجته رافقا تطور مسيرة البيارق منذ انطلاقها. كانا عندما انطلقت ينتظران هما وبعض الأفراد القلائل مرور حافلات مسيرة البيارق عبر الشارع الرئيسي، أمّا اليوم فينتظر المئات أسبوعيا الحافلة داخل القرية كل يوم أربعاء وسبت، وهذا أكبر دليل على ازدياد التجاوب والزائرين للمسجد الأقصى المبارك.
الحاج "أبو خليل" لا يوفّر جهدا لاقناع جيرانه وأهله وأقاربه وأهل بلده بالتوجه الى المسجد الأقصى، ويفنّد بكل ما أوتي من قوة الاشاعات المغرضة التي يحاول البعض من خلالها تخويف الناس من الأوضاع الأمنية وإمكانية التعرّض للضرر حين المشاركة في مسيرة البيارق وزيارة المسجد الأقصى المبارك.
يتحدث "أبو خليل" عن حاجة سكان القدس وخاصة داخل الأسوار وبجانب الأقصى الى الدعم المادي، ويجعل من التسوق إسهاما مباركا لمثل هذا الدعم، فقد صارحه أكثر من تاجر " في الأيام التي لا تأتي به حافلات مسيرة البيارق " لا نستفتح – لا نبيع شيئاً". هذا دليل واضح على مساهمة مسيرة البيارق بالانتعاش الجزئي للاقتصاد في المحور القريب من المسجد الأقصى المبارك. إن هذا البائع يعرف أو يعترف أن هذه المئات التي تشتري وتحمل البضائع والهدايا لا تفعل ذلك لرخص في الاسعار فحسب، بل تفعل ذلك كنوع من التثبيت والعون والدعم للباعة وأصحاب المحلات.
تلخيص
وأودّ أن أنهي وأكرّر بأن مؤسسة الأقصى للوقف والتراث الفلسطيني في منطقة 1948 ومنذ بدء تأسيسها ركّزت كل مهامها ونشاطاتها بمواجهة السلطات الإسرائيلية من أجل الحفاظ على المقدسات الفلسطينية في أراضي ال48 والحفاظ على المسجد الأقصى، واعتمدت في مواجهة مخططات الحصار على الأقصى بالعمل بمبدأ نضال اللاعنف. فقد رأى قياديو الحركة الإسلامية في مناطق ال48 بأن طبائع وعقائد الدين الإسلامي من أجل عمل الخير والمعروف ومساندة الضعيف والمظلوم فرضت عليهم الاعتماد في نضالهم على مبدأ اللاعنف في مواجهة السياسيات الاسرائلية، ليس فقط لشؤون فلسطينيي الداخل بل شؤون وقضايا كل الأهل في الوطن الفلسطيني وبالتحديد قضية المسجد الأقصى والقدس.
فقد بادرت مؤسسة الأقصى بعدة مشاريع تشمل مشروع الخارطة المفصلة للمقدسات، ويعني ذلك مسحاً وتوثيقاً هندسياً وتاريخياً لكل المقدسات الإسلامية والمسيحية في البلاد؛ ترميم المقدسات وصيانتها وتنظيم زيارات المصلين بشكل مستمر لهذه المقدسات؛ إظهار وفضح الدمار الإسرائيلي للمقدسات الإسلامية والمسيحية من خلال نشرات وكتابات بشكل مستمر عن الموضوع وخاصة من حفريات وهدم تحت وبجوار المسجد الحرم الشريف والأقصى؛ وتأسيس فكرة وتنظيم الرحلات اليومية لمسيرة البيارق الى القدس والحرم الشريف.
بقدر ما تعتبر رحلات مسيرة البيارق كمنسك ديني تأتي يوميا بالآلآف من المصلين الى الأقصى بقدر ما تعتبر بالوقت نفسه وسيلة لدعم وتثبيت الهوية العربية والإسلامية لمدينة القدس من خلال رفضهم للسياسة الإسرائيلية الهادفة الى تفريغ المدينة من سكانها العرب. وهذا الرفض يأتي من خلال تعزيز التواجد العربي الإسلامي وتعزيز الهوية الفلسطينية المسلمة عند غالبية فلسطينيي ال48.
بحثي هذا لم ينتهِ بعد بل ما زلت أعمل عليه، وكما يقولون ما زال قيد البحث. هناك حاجة لإجراء مقابلات مُعمّقة مع قياديين آخرين في مؤسسة الأقصى والحركة الإسلامية لدى فلسطينيي ال48. هذه المقابلات سوف تفسر مدى نجاح المؤسسة بتعزيز التواصل وربط فلسطينيي الداخل بالقدس وأهالي القدس والأهمية السياسية لما ينتج من تعزيز الهوية العربية للقدس وبمَ يختلف عمل مؤسسة الأقصى في القدس وعن ما تفعله أحزاب ومؤسسات نضالية أخرى في فلسطين الداخل.
كما أنني قرّرت مع باحث زميل مراجعة الانشقاق في الحركة الإسلامية ورؤية خاصة بأن عمل مؤسسة الأقصى بدأ قبل أن يحدث انشقاق في عام 1996. فعلى سبيل المثال، نود معرفة ما إذا كانت نشاطات مؤسسة الأقصى تمثل الحركتين معاً أم الحركة الشمالية فقط والممثلة بقيادة الشيخين رائد صلاح وكمال الخطيب؟
Work Cited”
· Mohammed Abu-Nimer. Nonviolence and Peace Building in Islam. University of Florida Press، 2003.
· Azzam Abu Saud. “Closures and Separation and Their Impact on East Jerusalem’s Economic Sectors.”
· Nohad Ali، “Political Islam in an Ethnic Jewish State: Historical evolution، Contemporary Challenges and Future Prospects.” Holy Land Studies. 3.1 (2004) 69-92
· Meron Benvenisti. City of Stone: The Hidden History of Jerusalem. University of California Press، Berkeley، 1996
· Meron Benvensiti. Sacred Landscape: History of the Holy Land since 1948. University of California Press. Berkley، 2003
· اسعد غانم ومهند مصطفى. الفلسطينيون في إسرائيل: سياسات الأقلية الأصلية في الدولة الأثنية. مدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، رام الله. نيسان 2009
· Mahdi Abdul Hadi، “The Ownership of Jerusalem: A Jordanian View.” In Ghada Karmi. Jerusalem Today: What Future for the Peace Process? Garnet & Ithaca Press، 1997.
· Andre Raymond، “The Arabs، Islam، and Jerusalem.” In Salma Khadra Jayyusi & Zafar Ishaq Ansari (eds). My Jerusalem: Essays، Reminiscences، and Poems، Olive Branch Press. 2005
· Omar Karmi. “Arab identity under threat.” The National. (a new English newspaper launched by the Abu Dhabi Media Company، UAE). March 22. 2009
· Rekhess، Eli. “The Arabs of Israel after Oslo: Localization of the National Struggle.” Israel Studies. Volume 7، Number 3، 2002، pp. 1-44
http://www.alwan.co.il/full.php?ID=1210
صالب ومصلوب
عـادل عطيـة
كأحد أفراد الأسطورة الهومرية ، فضلت البقاء مع آكلي اللوتس ..
أمضغ اللوتس ، وأنسى الوطن ..
وطني السماوي .
وجدت نفسي حيث كرسي الشيطان ،
الذي أخذ يعرّيني من كل شيء :
يعرّيني من محبة الله ، ويربطني بمحبة العالم ، ويجلدني بالسقوط في الخطية !
يعرّيني من التواضع ، ويربطني بالكبرياء ، ويجلدني بحب الظهور والسيطرة !
يعريني من المحبة الإنسانية ، ويجلدني بجلدات الإساءة للآخرين !
كل جلدة من هذه الجلدات :
تترك في النفس جروحاً عميقة ،
وعبودية أكثر للخطية في خضوع لا ينتهي .
وبكل شيطانية ،
سلمني لأصلب على صليبه المؤرّخ للعار، والخزي ..
سَيّرني على درب بابل الملعونة ،
تصطدم قدمي باشواكها الحادة في كل خطوة من خطواتي البائسة ..
فإذا بشوك النجاسة يمزّق ثوب طهارتي .
وشوك الأماكن الشريرة يُجرّح رجلي ،
ويدميها .
وشوك أعمالي الرديئة يمزق يدي ، ويجعلها عاجزة عن فعل الخير .
وشوك المناظر النجسة ،
يُجرّح عيني ،
ويفقدها بصيرتها الروحية ؛
فلا ترى نور القداسة .
،...،...،...
وفي لفتة إلهية أعظم من أي حلم ..
هناك فوق رابية الموت ،
خارج أسوار الحياة ،
أُعطيت قلب ومشاعر ديماس ، الذي اشتهى الفردوس ..
فرأيت يسوع مثخناً بالجروح ،
نازفاً في حبه لي ..
اصغيت إلى روحه التي تكافح معي ؛
وتجاوبت مع ذراعيه الممتدان نحوي في ملء نعمته الفياضة الغنية ،
وصرخت بصوت عظيم :
كفاك أيها المصلوب جرحاً مني ..
أريد أن أتبعك ،
وأحمل صليبك كسمعان القيرواني .
ولكن هذه المرة بإرادتي النابعة من حبي .. لحبك .
معك أصعد جلجلتك بعزم وإيمان ،
مستجيباً ببسالة لهذه الدعوة إلى القداسة ،
محتملاً الألم بجد وإجتهاد حتى النهاية ،
من أجل الوقوف ضد العالم الشرير الذي يسبيني .
وبشجاعة المؤمنين بك ،
أطلب صارخاً :
سمّر خوفك في قلبي ؛ كي لا أخطيء إليك .
سمّر يديّ ؛ كي لا تصنعا الشر .
سمّر رجليّ ؛ كي لا تذهبا إلى مكان أنت لست فيه .
سمّر فكري ؛ كي لا يفكر إلا فيك .
سمّر حبك في قلبي ؛ كي لا يحب غيرك ..
ويحب كل الذين أحببتهم إلى المنتهى .
ثبت حبي فيك .
ثبت إيماني فيك .
ثبت نظري فيك .
ثبت آمالي فيك .
ثبت وداعتك واتضاعك في قلبي ؛
كي لا أرتفع من فرط الكبرياء ، والغرور ..
،...،...،...
في الأمس كان صليبك ثقيلاً ..
أنفر منه ، وأثور ..
واليوم ،
بقوة نعمتك ،
أنضم إلى أسرتك : راضياً ، مرضياً .
وأسير في قافلة المصلوبين ،
وقد أضحى لي صليبك :
منهل الرجاء ، والتعزية ، والسرور ...
أهل الجيرة
محمد محمد علي جنيدي
أهل الجيرة ليه الحيرة
ظلم الغاصب واضح لينا
ليه ساكتين عن كل جريمه
مش حاسين ولا احنا نسينا!
ليه بنشحت أمن الفاجر
ليه نسمحله يخادع فينا!
ليه يتحكم سفاح ظالم
خاين العهد سهامه علينا
عمر الغاصب ما بيسمعنا
ولا هيمد إيديه بإيدينا
شدوا الهمة وقولوا بصوتكم
يللي حبستم أقصى نبينا
يللي ظالمتم يللي قطعتم
كل طريق للسلم يجينا
بكره نياب القطه تطولكم
بكره ذئابكم تخضع لينا
سيف الباطل من أحلامكم
عمره ما يجرح إصرار فينا
قولوا لأهل الأقصى عشانكم
بكرة هنروي الأرض حنينا
بكرة هيرجع حقنا بنكم
والعزة ترفرف حوالينا
أهل الجيره لِمُّوا جراحكم
واتجمَّعوا صوت واحد لينا
قوموا بحول الله وإخلاصكم
لبوا نداء الأقصى علينا
الأحد، مارس 21، 2010
ثورة الشياطين
عـادل عطيـة
adelattiaeg@yahoo.com
من مركز الأرض من فوهات براكين الجحيم ،
تنطلق زبانيته ،
وتغمر كوكبنا ..
تنتخب للصحبة الأبدية من الهالكين : تلاميذاً ، ورسلاً ،
تضع عليهم الأيدي ،
وتطلقهم ؛
ليجولوا يصنعوا كل انواع الشر !
ومن كرسي زعيمهم ،
الجالس على عرشه في العقول ، والقلوب ، والنفوس ..
والمالك عـلى : اجتماعاتهم ، ومبادئهم ، وتصرفاتهم ..
يصدر أوامره بإضرام ثورة عارمة ؛
لمحاربه الله ، وطرده من ملكوته !
وهاهي ذا عصابات البغضة والاحقاد ،
تحاول أن تنهي الكنائس المزعجة جداً لمن يريدون التسيّب من كل ضابط ! ،
وأن تخرس صوت المسيح إلى الأبد ؛ لأنه يدعو إلى السلام ، ولأنه يدعو إلى المحبة !
هوذا الرجيم القاسي ،
ينتقم من شعب الله ،
الذين يهددون سلطانه ،
بطريقة تفوق اي امكانية للفهم الإنساني ،
فيلصق كل جريمة وفرية ؛
ليزج بهم في اعماق السجون ، ويصدر عليهم أحكام الموت !
هوذا ينطق جهراً في خطابه الديني اليومي بإهدار الدم المسيحي ،
وإعطاء الركلة الأخيرة لمن أتّبعوا التسامح والغفران !
هوذا يجوب شوارعنا ، وحاراتنا ، وازقتنا ،
صارخاً ، ومنذراً ، بهتافات الوعد ، والوعيد :
"خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود" !
"الكنيسة وقعت والقسيس مات .. قوم يا محمد فرّق الشربات" !
"لا يهودية لا نصرانية .. إسلامية إسلامية" !
هوذا كتبه منشورة على الارصفة ،
وعناوينها ، لا تخطئ العين :
"رمز دافنشي" ، لرسوله العظيم : دان براون !
و "عزازيل" ، لتلميذه المجتهد : يوسف زيدان !
،...،...،...
إن ثورة الشياطين ، التي تغلي في اسافل الأرض ،
و أقلامها وأفواهها الإعلامية ، التي ترقص وتنتشي فوقها ،
نهايتها معروفة ، وهي الفشل الذريع .
ولأن هدفها هو : "أنّ كثيرون يضلون في الأزمنة الأخيرة ، حتي المختارين" .
فلنعمل سوياً على أن تخرج شباكهم من بحرنا فارغة
الضــياع 4- 7
أنطوني ولسن
أستراليا
تحذير: هذه القصة للكبار فقط
... هل تأكد الناس من ان الماشية لاتبكي وهي تسير الى الموت؟ وهل تملك الماشية حرية الاعتراض والرفض؟
هكذا الانسان المحروم من الحرية، حرية إبداء الرأي، حرية التعبير، وحرية القبول والرفض وفتاة في ريعان شبابها تؤخذ أسيرة المجهول. وما هي الحجة؟ هل هي الحاجة.. المستقبل الأفضل.. الحياة الأجمل.. العيش الكريم.. اقتناء الأثاث والسيارة والثلاجة والملابس الإفرنجية.. خروج الأسرة من خندق الفقر.. من حارة الغلابة والمساكين.. من العمل الشاق المضني الذي لا يثمن ولا يغني عن جوع؟!!
هذه الفئة التي منها اهل عفاف، لا امل لها، لا في زواج بناتها من اي رجل يأتي من دول الخليج او الدول الغنية، او دول المهجر.
هذا النوع من الزواج ماذا نسميه؟ هل نسميه زواجاً شرعياً يرضي عنه رب العباد؟ غالبا ما تنتهي هذه الزيجات بالطلاق، وطرد الفتاة البريئة بعد ان يقطف الثري زهرة بكارتها ويستمتع بألامها وانكسارها وقبولها لرجل لا مودة بينهما ولا رحمة او شفقة في قلبه، لكنه يدفع الثمن!! مهما كان الثمن فإنه لن يعوضها فقدان طهارتها، شخصيتها وبالأخص حياتها.
إذن ما الفارق بين هذه الزيجات والدعارة العلنية او المستترة!! لأنه في كلتا الحالتين جسد المرأة هو الغاية ويدفع الرجل الثمن. لا من اجل الإستقرار وتكوين الاسرة، بل من أجل تحقيق شهوة طارئة ورغبة الاذلال للمرأة التي لا ذنب لها سوى انها من اسرة فقيرة وحقوقها كإنسانة مهدورة من حكام غلاظ القلوب لا يفكرون إلا في السلطة والحكم ولا يقلون عن الاثرياء الذين يجدون في ضعف المرأة لذة لشهواتهم ..
عندها ماذا ينفع الأهل.. التلفزيون، الفديو، الثلاجة والبوتوجاز؟! ماذا تنتفع به الأم.. فساتين الحرير المستوردة؟!! وماذا ينتفع به الأب.. بذلات الجوخ الانجليزي التي يتأنق بها؟! والابنة تتعذب مع رجل اشتراها بما له، وما من قانون يحميها من غدره، فتترك بعد ذلك للضياع.
قالت عفاف لنفسها... سأحاول ان اعوّض أبي عن فقداني.. سأرسل له شهرياً مبلغاً كبيراً من المال. سأخلصه من عمله المضني وسأرسل له العلاج. بل، سأجعله يسافر الى أستراليا لأعرضه على اكبر الاطباء. نعم يا ابي سأفعل ذلك من أجلك. كما تزوجت هذا الغريب لارضائك، سأبذل ما بوسعي من أجل شفائك وراحتك وراحة امي واخوتي.
في الطائرة وجدت النافذة التي بجوارها صغيرة جدا، حاولت فتحها لكنها لم تفتح، فأدركت أنها جزء من الطائرة لا يفتح، لا إلى الخارج ولا الى الداخل. وما بدأت الطائرة تتحرك، حتى لفها خوف شديد، حاولت معه ان تمسك بيد زوجها، فنظر اليها وطلب منها ان تضع حزام الأمان حول خصرها. لكي يفهمها ما يريد بدأ بوضع حزامه لتفعل مثله. عندما بدأت الطائرة بالاقلاع شخص ببصره الى أعلى، وأمسك بكلتا يديه بساندي المقعد. تغير لون وجهه، أصبح بلون الزعفران،وشفتاه تتمتمان صلوات غير مسموعة. فسرت العدوى اليها. ومع هذا الارتفاع شعرت وكأنها خسرت سمعها. لم تعد تسمع صوتاً في الطائرة، ولا تعرف إذا كانت قد توقفت أوأنها تسير او تطير. خافت ان تلتفت الى ناحية زوجها، فتصاب بصدمة تفقدها وعيها، لو رأته قد لفظ أنفاسه ومات.
حاولت ان تشغل نفسها بالنظر الى شباك الطائرة. رأت كل شيء صغيراً. لم تر صديقاتها وهن يلوحن بمناديلهن البيضاء كما وعدنها. لم تر منزلها ولا حارتها ولا مدرستها. إنها في قلب السماء تسأل نفسها.. هل تسبح روح الانسان، عند موته في السماء مثل الطائرة؟ وهل الطائرة في السماء! انها المرة الأولى التي تسافر فيها. لم تحلم يوما بالسفر بالقطار، فكم بالاحرى بالطائرة. ذلك الجسم المعدني الذي كانت تراه يحلق فوق الحارة عاليا في السماء.
ها هي الآن تتربع على عرشها في الطائرة، والطائرة تشق غيوم السماء. ترى اي سماء؟! هل هي سماء القاهرة؟ وهل هي تطير الآن فوق منزلها؟! انها السماء يا عفاف، السماء التي لا يمكن حصرها مثل البحر تماماً. وهل بإمكان الضائع في وسط البحر ان يعرف في اي اتجاه هو متجه؟! الارض يعرفونها بالطرقات والشوارع والاسماء التي تطلق عليها. امافي السماء، فلا طرقات ولا شوارع ولا لافتات توضح الاتجاه الذي تتجه اليه الطائرة. والأدهى من هذا كله انها لم تشعر بادنى حركة للطائرة، لم تسمع ذلك الهدير الذي كانت تطلقه فوق الحارة. لولا ازيز المحرك لحسبت ان الطائرة خرساء.
فجأة، سمعت صوت جرس أفزعها، وبدد تخيلاتها، وجعلها تلتفت الى الجالس بجوارها، رأت أساريره بدات تنفرج، والحياة تعود الى محياة، ورأت يديه تتلاعبان بحزام الأمان وتنقذان خصره من الطوق الذي يمنعه من الحركة، نظرت اليه مستفسرة عما يفعل، لكنه لم يلتفت اليها. مرت بهما مضيفة، ناداها تحدث معها بالانجليزية، ولم تفهم عفاف من كلامه سوى (سكوتش)، لأنها كانت أوضح كلمة نطق بها، وإن كانت لم تفهم معناها. لم يكلمها ولم يطلب شيئا لها، وكأنها غير موجودة. أحنت رأسها على شباك الطائرة وأطلقت لناظريها العنان، وكأنها تريد الافلات ومعانقة الفضاء وزرع نجومه وغيومه في عينيها.
إحتسى فريد أكثر من ثلاثة كؤوس من الخمر، في فترة زمنية قصيرة، وتجاهل كليا تلك الزوجة المسكينة الجالسة بجواره.
عندما احضرت المضيفة الطعام، اشار اليها بنرفزة واضحة، ان تفعل مثله كي يتسنى للمضيفة وضع الطعام أمامها. لم تعرف ماذا تفعل؟ كانت جائعة وعطشى وكان فمها يمتنع عن استقبال الطعام، نظرت اليه بطرف عينها، فوجدته لايأكل، بل يمسك بعلبة معدنية يصب منها بين الحين والحين سائلا أصفر. تطلعت بكوب عصير البرتقال الذي امامها، ازاحت غطاءه وشربت ما بداخله.
أطل الليل بأعناقه السوداء، فأظلمت الطائرة بعد ان أطفأوا الانوار فيها، وتراخى الركاب في مقاعدهم. حاولت عفاف ان تنام، لكن الهواجس والمخاوف كانت تدق على أعصابها الحاناً مزعجة جعلتها تقلق، لماذا يعاملها بهذه الطريقة الجافة؟ ماذا يخفي لها الغد، مع رجل غريب في بلد غريب ليس فيه صديق او قريب؟ إرتجف جسمها كورقة في مهب الريح. سالت دموعها في صمت قاتل، ومنعها خوفها من ان تتزحزح من مكانها بغية قضاء حاجتها.
لا تعرف إذا كان النوم قد سرق من عينيها ام لا؟ لكنها أحست بنور الشمس يدق على شباكها. فرحت باستقبال شروق الشمس. لكن فرحتها لم تدم، إذ تذكرت ذلك الزوج الجالس بقربها. تطلعت صوبه .. أين هو؟!
جاءت احدى المضيفات، حاولت ان تحدثها لكن عفاف لم تفهم كلمة واحدة. مع ذلك أمسكت المضيفة بيدها وأخذتها الى الحمام، وهي تبذل كل ما بوسعها لطمأنتها.
زيادة بالإهتمام، انتظرتها حتى قضت حاجتها، فقادتها الى مكانها السابق لتعود، بعد فترة، وهي تحمل لها فنجانا من الشاي وقطعتين من البسكويت.
أما فريد.. فقد تقيأ في الحمام كل "السكوتش" الذي أفرغه في جوفه، ولم يشعر بما حدث لزوجته. والحقيقة لم تكن اصلاً في تفكيره ليشعر بما حدث لها.عندما عاد الى مقعده وجدها تشرب فنجان الشاي فتعجب دون ان يبالي.
جاءت نفس المضيفة وطلبت منه ان يتبعها وبعيدا عن مسمع زوجته والناس، لفتته الى الإهمال الذي يعامل به المرأة التي معه، والتي تبين لها منه أنها زوجته، شرح لها ان سبب الإهمال خوفه من ركوب الطائرة، وان شعوراً غريباً ينتابه، فيحاول ان يتغلب عليه بكثرة الشرب، عله يغيب عن الوعي وينسى انه داخل طائرة شبح في الفضاء. لم تعلق المضيفة على ما قال، بل تركته يعود إلى مقعده ليرمي زوجته بنظرة بلهاء كأنه يقول.. ماذا تريد مني؟ فلتتركني وشأني ولتذهب الى الجحيم.. مالي ولك يا امرأة؟
شعرت عفاف براحة نفسية لأول مرة في الطائرة، رغم حاجز اللغة الذي يفصل بينها وبين المضيفة، الملاك التي اعتنت بها.. انه العمل الانساني الذي لا يحتاج إلى لغة ولا الى تفاهم.. انه شيء رائع ينبع من القلب ليصب في قلوب الآخرين.
لم تترك المضيفة عفاف لحظة واحدة. كانت كلما مرت من أمامها تبتسم لها وتتحدث معها بلغة العيون وتقول لها.. لا تخافي.. أنت لست وحيدة. أحضرت لها الشراب بعد الشراب، عند تقديم وجبات الطعام كانت تقدم لها السندويتشات المحشوة باللحم والسلاطات، غير ما يقدم للآخرين حتى تأكل ولا تشعر بحرج.
تصرف المضيفة الغريبة، زرع البهجة في صحراء عفاف الجافة، وشجعها على استقبال حياتها المقبلة في البلد الغريب بأمل كبير، وثقة بالله الذي لا يترك عبيده يتعذبون.
حاول فريد أن يتجاوب مع حنان المضيفة وإهتمامها بزوجته، ليشعرها بصدقه، فبدأ بالاهتمام والعمل على راحتها والتلطّف بها. لكن المضيفة استطاعت ان تقرأ ما بنفسه وان تكشف معدنه، فلم تعره اي اهتمام، بل كانت ترعيه بنظرات مشحونة بالسخرية منه ومن لغته الانجليزية التي يحاول ان يثبت لزوجته انه يعرفها جيداً ويعرف كيف يحادث ويلاطف بها الستات الخواجات.
عفاف البسيطة الطيبة كانت تبتسم في سرها، وتحمدالله الذي أرسل لها هذه المضيفة التي استطاعت ان تتحدث معها، وتستجيب لها، وترعي طلباتها، بلغة هي أعمق واقوى من لغات البشر كافة. انها لغة المحبة، لغة الإنسانية، فما أعمقها، وما ابدعها من لغة!!
قبل ان تصل الطائرة الى مطار سدني، وزع المضيفون والمضيفات اوراقاً خاصة بالجمارك والجوازات والهجرة. أعطته نفس المضيفة، الأوراق الخاصة بهما، وطلبت منه ان يجيب على الاسئلة ويملأ البيانات المطلوبة بالانجليزية له ولزوجته التي بامكانها ان توقع بلغتها إن شاءت، وهي (المضيفة) ستعيد قراءة البيانات المتعلقة بها.
جاءت لحظة هبوط الطائرة. فعاد فريد الى حالته المزرية ساعة الاقلاع، فربتت المضيفة على كتفه وابتسمت له لاول مرة إبتسامة مشجعة، وهمست في أذنه.. لا تخف، فكل شيء سيكون على ما يرام. تطلعت الى عفاف، وهي ترفع ابهام يدها اليمنى وابتسامتها المشرقة تقول لا تخافي.. الله معك.
بعد الانتهاء من الاجراءات الجمركية، خرج فريد وزوجته عفاف من مطار سدني، كان المطر غزيراً، وكأن الملائكة تذرف دموعها حزناً على عفاف في بلاد الغربة، وصوت الرعد وبريق البرق، كانهما الشيطان وجنوده يصرخون ويرقصون فرحاً بقدومها الى أستراليا.
تلفت فريد حوله، عله يجد احداً ما جاء لإستقباله. لكنه لم يجد هذا (الأحد) فزمجر وسب الأصدقاء ومن يعرفهم او يعمل معهم، دفع بقوة «تروللي» الحقائب الصغيرة التي كانت عفاف قد إتكأت عليه، فقدت توازنها، وراحت تزحف على الأرض تحت هذا السيل المنهمر من المطر وهي تصيح بأعلى صوتها..؟إلحقني يا بابا..
في اللحظة التي سقطت فيها عفاف على ارض سدني، في أول خطوة لها. كان والدها على فراش الموت قد صاح وبأعلى صوته أيضاً عفاف بنتي، سامحيني.. واسلم الروح.
الدم المتدفق من ركبتي عفاف يلوّن مياه المطر بارجوانه الطاهر، ويسبقها الى اكتشاف شوارع سدني. اما فريد فقد نظر اليها بلؤم بالغ. فخافت المسكينة من نظراته، نهضت دون ان تفكر بالآمها، ومدى احتياجها الى يد تسندها في محنتها هذه.
سيارة الاجرة تخترق شوارع المدينة، والمطر الشديد يحجب عن عفاف الرؤية، لتتمتع بمنظر مدينة سدني، في لحظات وصولها الأولى.
صوت الرعد واشتداد البرق زادا من وحشة المكان. فأخذ الخوف يسري في عروقها، ورعشة محمومة تنتاب جسدها المبلل، فأخذت اسنانها تصطك محدثة صوتاً مسموعاً، جعل السائق يلتفت اليها، ويوقف السيارة ليخرج من صندوقها الخلفي «بطانية صوف» أعطاها للرجل كي يغطي عفاف بها.
إغتاظ فريد من تصرف السائق. لكنه لم يعترض. بل قام بوضع البطانية على عفاف دون ان يتطلع بها، فهدأت رجفتها بعض الشيء، وما هي إلا لحظات قليلة حتى وصلت بهما السيارة الى حي ماركفيل، حيث يسكن فريد. أوقف السائق السيارة والمطر يزداد إنهمارا. طلب من فريد الاجر وهو جالس وراء المقود، وفي عينيه نظرات تحد واشمئزاز منه. فتح السائق صندوق السيارة الخلفية اتوماتيكيا من الداخل، فنزل فريد تحت المطر ليأخذ حقائبه. فما كان من عفاف إلا أن ازاحت البطانية واعطتها للسائق وهي تتمتم باللغة العربية.
- متشكرة يا عم.. كتر خيرك..
وكانت المفاجأة الكبرى لها عندما قال لها السائق باللغة العربية
- العفو يا بنتي.. لا مؤاخذه الراجل دا يقربلك إيه!!
- جوزي يا عمي..
- الله يكون في عونك.. دا باين عليه كلب.. ما تزعليش مني يا بنتي.. ما تنزليش من السيارة.. انتظري.
بسرعة أحضر السائق مظلته، وفتح باب السيارة لتنزل منها عفاف. اصطحبها حتى مدخل المنزل، كي يحميها من المطر، وشتائم فريد تخدش سمعيهما وهويفتح الباب لتدخل عفاف وتخطو خطواتها الأولى في هذا المنزل. بينما السائق يعود الى سيارته وهو يقول محدثاً نفسه:
- الله يكون في عونك يا بنتي مع انسان زي دا.. كان إيه الي رماكي الرمية السودة دي!!.. استغفر الله.. لك في ذلك حكم لا نفهما!
صاح فريد بعفاف كي تتحرك وتساعده في حمل الحقائب غير عابيء بالترحيب بها في بيتها الجديد، الذي من المفروض ان يكون عشّ الزوجية في أستراليا. تصرف معها كأنها خادمة وليست زوجة وشريكة حياة. الفرحة التي ملأت قلبه ليلة دخوله عليها لم يعد لها مكان في قلبه. لم تمنحه نفسها من بعد كما منحتها له تلك الليلة، بل كانت تتسلل من الفراش الى الحمام، بعد ان ينام، لتتقيأ كل ما في جوفها، وكانها تريد ان تلقيه، هو بالذات، في حوض الحمام وتدفعه بالماء الى حيث يستحق، ومن ثم تعود الى جلستها الحزينة فوق الكنبة الاسلامبولي.
مرّ الوقت كئيبا موحشا، وهي تجري من غرفة الى غرفة، من الصالون الى المطبخ، لتزيل الغبار والأتربة من داخل هذا المنزل المهجور وصوت فريد المرتفع يغطي على هدير الرعد في الخارج.
بعد تنظيف المنزل، دخلت غرفة النوم لتضع ملابسها وملابسه في الخزانة، وما ان فتحت بابها حتى فوجئت بصورة امرأة عارية ملصقة خلف الباب، صرخت وألقت بالملابس أرضا. ركضت الى الخارج وهي تبكي. جاء فريد ليستطلع الأمر، عندما عرف السبب صفعها علىوجهها وهو يصيح.
- حسك عينك تفتحي حنكك بكلمة اعتراض علي اي حاجة في البيت اللي تشوفيه ما تحاوليش تعترضي عليه. واللى تسمعيه ما ترديش عليه، إلا اذا طلبت منك تردي عليه. صاحبة الصورة دي واحدة صحبتي حتشوفيها النهارده او بكره بالكتير علشان تعرفي الفرق بين الستات يا جربوعة با بتاعة الحواري.
لم تصدق اذنيها.. هل هذا معقول؟ لكنها مغلوبة على أمرها.. وحيدة في غربتها، ليس لها اقارب أو معارف.. فأحست انها قد جاءت الى العذاب.. الى جهنم وبئس المصير.
فكرت في والدها، في سائق التاكسي الذي يتحدث لغتها في بلاد الفرنجة، فقد ظنت ان سكانها لا يتكلمون سوى اللغة الانجليزية. شعرت بنوع من الارتياح النفسي، تضرّعت الى الله وطلبت منه ان يساعدها في حياتها المقبلة، حيث بدأت تعاستها تظهر منذ اليوم الأول.
حاول فريد ان يستخدم الهاتف فوجده معطلاً. كان قد طلب في آخر مكالمة له قبل عودته الى أستراليا، من (الواد) سوسو أو سام كما ينادونه، ان يتحدث الى المدام بغية استقباله وزوجته في المطار وارسال من يقوم بتنظيف المنزل وإجراء اللازم في كل ما يتعلق بالهاتف والسيارة وما شابه.
تذكر السيارة فركض الى (الجراج)، وجدها كما تركها، حاول تشغيلها فلم يفلح. كيف يتحرك وكيف يقضي أشغاله والمطر غزير في الخارج، والبيت خالٍ من كل شيء إلا من الكهرباء، وما الفائدة، لا شاي ولاقهوة ولا حليب ولا هاتف يستطيع ان يتصل به بسوسو ليحضر احتياجاته.
ضرب أخماساً بأسداس وأخذ يتساءل أين المدام التي أرسلته، ليتزوج بأبنة الحلال الطيبة التي يمكنها أن تعمل معهم؟ اين روجينا صاحبة الصورة العارية المعلقة خلف باب خزانته؟ أين الذين أحضر لهم الهدايا التي طلبوها من قبل سفره؟
تعبت عفاف من كثرة الحركة في المنزل، وهي التي لم تذق طعم النوم منذ اسبوع تقريباً، أضف الى ذلك مشقات سفرها بالطائرة ما أطولها وما أتعبها من رحلة؟.. لكنها إبتسمت عندما تذكرت المضيفة التي كانت تخاطبها بالإشارة وتمنت رؤيتها مرة ثانية.
(يتبع)