الخميس، مارس 12، 2009

ثلاثُ ليالٍ سويّا


د. عدنان الظاهر

قالت بعجب ودهشة شبيهة بالإستنكار : ما أمرُ هذه الليالي الثلاث وعهدي بك لا تُحب السهر ولستَ من طالبيه ومحبي السهر الطويل ؟ سيدتي ، أجبتُ ، لم أقصد ليالي العمر الزمنية أبداً بل كان قصدي الأوحد أسماء ثلاث سيدات مررن بعمري مرَّ الكرام حيناً ومرّ اللئام أحيانا أخرى . ثلاث ليلات أو ليال فكلا الجمعين صحيح من وجهة نظر اللغة العربية. عادت تتساءل بدهشة : وكيف إجتمعت فيك أو لديكَ هذه الليلات الثلاث وكيف كان مرورهنَّ في أفق حياتك متفاوت الوقع والنتائج ؟ طلبت منها قليلاً من الصبر فالفرَجُ في الصبر . قالت سأصبر وأصابر حتى تنفرج الغمة والأزمة . كنَّ ثلاث فتيات حملت كل واحدةٍ منهنَّ إسم ليلى فما ذنبي وما حيلتي ؟ هل أرفضهنَّ بسبب تشابه الأسماء ؟ قالت كلا ، ذلك لا يجوز ، واصلْ حديثك الشيّق . وجدتها شديدة الشوق والرغبة لمعرفة التفاصيل ، أهي الغيرة أم مجرد حب قوي للإستطلاع ؟ لا أدري ، ربما إنه الإثنان معاً . ألحّت أنْ أمضي في حديثي وأنْ لا أتوقف أبداً حتى لو طال مجلسنا وإمتدَّ حتى صباح اليوم التالي فذكّرتها أني رجلٌ لا أطيق سهر الليالي . قالت تحمّلهُ ولو لمرةٍ واحدة من أجلي وسأجهز لك خصيصاً أشهى الأكلات وما تحب وتهوى من طعام وشراب . كيف أتخلصُ من هذا الشَرك المنصوب والحبل الذي يلتفُّ حول عنقي بدون رحمة وأدنى تفهّمٍ لمجمل أوضاعي وشؤوني الخاصة ؟ كيف أقنعها أنّ قلبي الضعيف لا يتحمل ساعات السهر وقد تعوّدَ أنْ ينام معي قبل أو في الحادية عشرة ليلاً . كيف أقنعها أنَّ سَهِرَ الليالي أجهدَ قلبَ فريد الأطرش ثم قضى عليه قبل بلوغه الستين عاماً . كيف أشرح لها أنَّ قلبي يهددني بالتوقف عن الحركة إنْ فكرت أحياناً أنْ أنصاعَ لرغبات بعض الأصدقاء وأقبل السهر معهم إحياءً لبعض المناسبات ؟ هل تصدّقني مضيّفتي إذا ما أخبرتها أنَّ هذا القلب العنيد المشاكس يهددني حتى بمنعي وحرماني من عالم الأحلام ورؤى الليالي مثل باقي البشر ؟ ( كفانيَ يا قلبُ ما أحملُ / أفي كلِّ يومٍ هوىً أولُ ) للشاعر بشارة الخوري . سردت لها كل هذه المسائل إلا أنها رفضتها ولم تصدقها مدّعيةً أني أبالغ أحياناً في أقوالي ودعاواي وإني مفرطٌ في أخيلتي وسياحاتي كما هو الشأن فيما أكتب من حواريات وغيرها من صنوف الأدب . أُضطررتُ إزاءَ هذا الإلحاح وكل هذا الإنكار لما أنا فيه وما أعاني منه ... أُضطررتُ أنْ أتنازلَ وأن أقبل السهر ساعةً واحدةً فقط إضافيةً طارئة ًأي حتى الثانية عشرة شرطَ أنْ تتحمل هي سوء العاقبة وأنْ تتولى أمر دفني على نفقتها الخاصة فيما لو حصل ما لا تُحمدُ عقباه من وبيل الأمور . وافقت على الفور وأعدّت مائدةً عامرة بشتى صنوف الأطعمة ولم تسألني ماذا أودُ أنْ أشرب مع طعامي . لم أتكلمْ ، كعادتي ، إذا إنشغلتُ بما أجدُ أمامي من طعام لأنَّ قناعتي هي إمّا وإمّا ، إما كلامٌ أو طعامٌ وكلاهما بحاجة إلى لسان وليس في فمي العامر بالأسنان الطبيعية إلا لسانٌ واحدٌ لسوءِ حظي . تركت لها المجالَ رحباً واسعاً لأنْ تتكلم في وحول ما شاءت من أمور دنياها الشخصية والعامة ، المقبول منها وغير المقبول ، الطريف والسخيف وما كنتُ لأعيرَ هذا الأمر أية أهمية أو إهتمام ما دامت تركتني وشأني أتدبرُ أمرَ طعامي وحرية إختيار ما أشاءُ من لذيد ما أعدت من طبخات وطنية وعالمية . لي لسان واحد يكفيني للإنشغال في مسألة واحدة ، مضغ الطعام ، ويعفيني من مشقّة المسألة الأخرى : الكلام والثرثرة الفارغة . شعرتُ بإمتلاء معدتي حتى التُخمة وعجزَ لساني عن لوك ومضغ المزيد من الطعام لكنها لم تشبع كلاماً ولم تصلْ التُخمةُ أطرافَ لسانها فظلَّ يمارس المهمة المزدوجة الصعبة بنشاط عجيب وفعالية وهمّة عاليتين . لم ترفعْ رأسها عن نصيبها من صحون المائدة العامرة ولم تشعر أني قد إنتهيتُ وتوقفتُ عن تناول الزاد منذ فترة ليست قصيرة . كنتُ صامتاً طوال الوقت جائعاً وشبعانَ فحسبتْ أني لم أزل أمارس الأكل برويّةٍ وعلى مهل . إحترتُ كيف أُلفتُ نظرها إلى أني قد فرغتُ من طعامي وإني أنتظر لحظة فراغها هي لكي نتركَ سويةً مائدةَ الطعام لنشرب الشاي العراقي الثقيل المُهيّل ثم لأقصَّ عليها حكاياتي مع لياليَّ الثلاث [ لياليَّ بعد الظاعنين شُكولُ / طوالٌ وليلُ العاشقينَ طويلُ ـ للمتنبي ] . رفعتْ خطأً رأسها فاكتشفتْ أني كنتُ مسترخياً في أريكة جلوسي مُغمضَ العينين نصفَ إغماضةٍ ، مترهل الجسد مخدّرَ الحس بسبب ما تناولتُ من أطعمة دسمة متفاوتة في أقيام ما تحتوي من سعرات حرارية . قالت عفواً ، لدينا تقليد قديم أنْ لا نترك الضيف يتناول طعامه وحيداً . عادتنا أنْ نتركه يأكل ليشبع قبلنا ثم يأتي دورنا بعده . إنسحبنا إلى حجرة الضيوف الواسعة المزدانة بالصور واللوحات وما يتدلى من سقفها من ثريات الكريستال البوهيمي الممتاز وما يغطي أرضها من ثمين ونادر سجاد إيران الكاشان والتبريز وهَمَدان . جهزتْ على عَجَلٍ الشاي ومستلزماته المرافقة من حلوى ومعجّنات وكَرَزات والحليب والعسل . مع الشاي الأول طلبت مني أنْ أسترسلَ في سرد قصصي مع لياليَّ ، فتياتي الثلاث حسب تسلسل أزمانهنَّ وأنْ لا أترك شاردةً أو واردة بشأنهنَّ إلا وأفضتُ في الشروح والبيان . مصيبة ! نعم مصيبة ، وجدت نفسي في ورطة ومأزق أو هي التي وضعتني دونما رحمة في زاوية ضيقة حرجة حادة حتى ضاق تنفسي وهمستُ مع نفسي : أفما كان الأفضلُ لي أنْ أعتذرَ عن هذه الدعوة وأنْ أقضّي هذه الأمسية وحيداً في بيتي مع الكومبيوتر ورسائل الأصدقاء والأحباب وما أكثرهم وفي عين الحسود عود ؟ وقع الفأسُ في الرأس فما نفعُ الندم وقد صادني فخها المنصوب بإحكام وضاقت حبالها حول عُنقي فليس أمامي سوى أنْ أمتثلَ وأُلبي ما طلبت وأنا عبدها الصاغر غير الذليل . أجهزتُ من حَرَدٍ على كأس الشاي الأول فعمّرتْ على عَجَلٍ لي غيره وقدمت صحن الحلوى لكني وجدتُ نفسي زاهداً فيه فما في فمي من مرارة يكفي لتسميم بحر بأسرهِ . سلّمتُ لها أمري وسألتها إنْ كانت متأهبة لسماع قصخونياتي . إقتربت من مجلسي الوثير في لهفة واضحة ثم قالت هيّا ، إني في إنتظار ما ستقولُ ، كأني أنتظره منذ آماد وآماد ، هيّا { أخذَ شهريار دور شهرزاد ! } .

ليلى الأولى / ليلى القاسمية

(( يقولونَ ليلى في العراقِ مريضةٌ

أيا ليتني كنتُ الطبيبَ المداويا )).

ما أنْ سمعت مضيّفتي بإسم صاحبتي الأولى حتى أصابتها دهشةٌ مفاجئةُ فتساءلت لماذا هي ليلى القاسمية ؟ رجوتها أنْ تنسى هذا الموضوع وأن لا تقاطعني إلا في حالات الضرورة الأكثر من القصوى فوافقت وأذعنتْ . كانت ، يا محفوظة السلامة ، ليلى القاسمية هي ليلايَ الأولى وكنتُ في مُقتَبل عمري وفورة شبابي وعنفوان طيشي ونزعاتي للمغامرات وركوب المصاعب . هكذا كانت طبيعتي يومذاك وما كنتُ قادراً أنْ اتخلصَ منها فالطبيعة تفرضُ نفسها علينا وما أمامنا إلا الإذعان والرضوخ وتقبّل النتائج والعواقب مهما كانت . سوف لا أدخل في التفاصيل الدقيقة حرصاً على سمعتها وسمعة أهلها وأولادها . وسوف أمزج الكثير من الخيال مع الكثير من الوقائع الحقيقية التي عشناها معاً بين مدٍّ وجزرٍ ، رضى وتمنّع ، صفاء وعتمة ، ضحك وبكاء . دامت قصتنا قرابة الثلاثة أعوام تخللتها ظروفٌ سياسية بالغة الصعوبة والتعقيد قُتِلَ فيها مَن قُتل وسُجن مَن سُجن وتشرّدَ مَن تشرد وسلم مَن سلم . نَمتْ في هذا الجحيم المرعب علاقاتنا يوماً إثرَ يومٍ تُحرِّكُنا أقدارٌ غامضة بالغة القوة والعنف أدركناها وعرفنا أخطارها لكننا قبلناها تحدياً وغروراً وإسرافاً في ممارسة التهوّر والعناد وروح المغامرة . كان كلانا عنيداً صلد الرأس كثير الغرور إذا قال فعلَ وإذا عزمَ أقدم ونفّذَ . ما كانت أجمل نساء زمانها لكنها تفوّقت على جميعهنَّ بقوة شخصيتها وطيب منبتها وعلو صيت عائلتها فضلاً عن تفرّدها بين أترابها بنوع من الكبرياء المتعالي المقبول . كانت بإختصار نموذجاً فريداً بين نساء مدينتها يعرفها الكبار والصغار ويعتزون بها ويحترمونها بإكبار . لذا لم تكنْ بحاجة ماسة لأنْ تكونَ مثالاً لجمال الوجه ففيه من الوسامة والسحر الخفي ما يكفي ، بالإضافة إلى تكوينها الجسدي الرائع طولاً وتناسقاً ، تيهاً وأُبّهةً . سألتني مرةً لِمَ لا أُرّبي شارباً فالشارب هو زينة الرجال ؟ قرأتُ عليها شعراً بذيئاً قاله بهذا الخصوص شاعرٌ ساخرٌ [ لو كان عندَ اللهِ قَدرٌ للشواربِ واللحى / ما أنبتَ الشعرَ على ... ] . لم تغضبْ ولم تحتج بل وغرقت في ضحك متواصل وطلبت مني إعادة قراءة هذا البيت الشعري فقرأته كما هو وكما نظمه صاحبه رغم بذاءة بعض ما فيه من ألفاظ سوقية . كانت تبتسم مركزةً عينيها السوداوين في وجهي الحليق الخالي من الشارب زينة الرجال حسب زعمها . لكأنها كانت تتأسف لخلو وجهي من هذه الزينة وتتمنى أنْ تراني يوماً غليظ الشاربين كعادة شباب ذلك الزمان الثوري . حين افترقنا، وكانت في ضيافة أهلي ، صرتُ أفكّرُ بجدٍ أنْ أُربي شارباً ثورياً مثل باقي شباب زماني . وقعتُ تحتَ تأثير عاملين : رغبة ليلاي العزيزة وقوة طغيان المودة بين الشباب.

هل المنادونَ أهلوها وأخوتها

أم المنادونَ عُشّاقٌ معاميدُ ؟

( من أوبريت مجنون ليلى لأحمد شوقي ).

كيف جمعنا رومانس جارف غريب في أوائله وغريب في تفاصيله وأكثر غرابةً في خواتمه ؟ لوحة سوريالية شديدة الغموض شديدة التعقيد رائعة الزخارف والألوان ساحرة الرموز تحتضنها أجواء وأحوال سياسية بالغة الشذوذ والخطورة . هل هناك في حياة الناس أقدارٌ عمياء وأخرى مفتّحة العينين وأيهما أقوى وأمضى في تحديد مصائر البشر ؟ يمضي بنا الزمن كماكنة هرس وثرم جبّارة أزلية الحركة الدوّارة جبارة القوّة تعرف مصيرنا الذي نجهل . رغم عنادها وتكبّرها تجاوبت معي واستجابت لما طلبتُ متحديةً الأعاصير وقوى الرياح العاصفة غير مباليةٍ بما قد يُقالُ عنها من تقوّلاتٍ وإشاعات . مضت كاللبوءة قُدُماً نحو أهدافها التي ما كانت أصلاً إلا أهدافي أنا وتخطيطاتي أنا فكنتُ المخطط وكنا المنفذين معاً بالتكافل والتضامن مناصفةً لا من ظيزى في القسمة المفروضة . ما هذا المخلوق العجيب الذي إذا ما نطق أضحكَ أو أبكى وإذا غضبَ أبرقت السماء وأرعدت وتساقط المطرُ مِدراراً ؟ من أية طينة جُبلت ومن أي نسيج صنعها ناسجها ؟ كيف تميّزت بألوان روحية عصيّة على الوصف ومستحيلة على اللمس وقوى كهربائية داخلية تولِّدها مكائنُ تعمل بالطاقات الروحية والنووية والضوئية ؟ يتكهربُ من يدنو منها ويُصعقُ وقد يموتُ مَن يتجاسرُ على لمسها . فلتةٌ ملائكية هبطت إلى أرضنا من باب الخطأ إذْ ما كانت من رهط أبينا آدم وأمنا حواء ولم تشاركهما في قضم تفاحة اللعنة والخطيئة . لم تندمْ على مفارقتها السماء وجنّاتها وأنهارها ولبنها وعسولها وحورها وولدانها المخلّدين . لم تأسَ على مصير أبوينا آدم وحواء . قالت إنها كانت على ثقة أنها ستلتقيهما في مكان ماعلى وجه الكرة الأرضية فالكل إليها عائدون حسب أوقاتهم وآجالهم وما قُسمَ لهم من أعمار . كانت هذه فلسفتها الراسخة لذا ـ قالت ـ فلا من عجبٍ في أنها إلتقتني في الأرض لا في السماء . هبطت نيزكاً سماوياً من أثير لتلتقي كياناً أرضياً من تراب فالتحمت السماءُ والأرضَ وكان هذا الرومانس الغريب العجيب . هل الأثير السمائي ترابٌ في التحليل الكيميائي أم أنَّ الترابَ أثيرٌ ؟ هل الأرض والسماءُ شئ واحدٌ أصلاً وتركيباً وعناصرَ وأجزاءَ ؟ العلمُ عندها ففيها ولديها علم الغيب وسحرُ بابلَ القديم أيام هاروتَ وماروتَ وفريق المعهد الأكاديمي الذي أداراه وقاداه فكانت أجيال وأجيال من محترفي السحر الأسود والأبيض وبقية الألوان والتشكيلات العجيبة . كانت شديدة الوضوح رغم غموض ظروفي وعتمة الطرق أمامي وظلام مستقبلي ومصيري فما الذي أغراها وأقنعها في أنْ تقبلَ هذه المغامرة الخرقاء ؟ أهو ميل السماء للإندماج بالأرض أي عودة الفرع لأصوله ؟ خلايانا من هواء وماء وتراب والحب الذي جمعنا كان النار التي صهرت هذه العناصر الثلاثة الأزلية سالفة الذِكر . النار قاهرة الجميع وصاهرة الجميع لذا كان منطق إبليس أقوى من منطق ربه الذي عصاه وتكبّرَ عليه وتجبّرَ . إبليسُ العنيدُ العاصي خُلِقَ من نارٍ والمسكينُ آدم من تراب لا يصمدُ أمام النار إذا ما تلظّت . ألهذا عبدت بعض الأقوام القديمة النارَ ثم عبدت بعدها أقوامٌ أخرى الشمسَ وفيها ضوءُ وحرارةُ النار ؟ آخ من النار إذا أحرقت القلوب الشابة الفتية ثم آخ !! ما أنْ ذاب قلبانا في الحب واتحدا حتى حلّت النكبةُ ودقت نواقيس الفراق ! لا ينقصُ البدرُ إلا حين يكتملُ ( من شعر أجهلُ قائله ) . شرّقَ أحدنا وغرّب الآخر فعانينا ما عانينا ثلاثةَ أعوام أخرى ثم اتخذت الحياة سويتها وعادت إلى طبيعتها بعد أنْ إعتاد قلبانا على محنة الفراق فانفصلا بعد ذوبانٍ والتحامٍ [ ومضى الهوى بهما كعادته / والبحرُ لا يخلو من الزَبَدِ ـ للأخطل الصغير بشارة الخوري ] . الزمن نفسه أكبر وأعظم طبيب وفيه الدواء والشفاء مهما اكتأب المرءُ وجزعَ وبكى على طلول ليلى . هل المنادون أهلوها وأخوتها / أم المنادونَ عشّاقٌ مناكيدُ ... بدلَ معاميدُ ؟ إذا جُنَّ قيس بهوى ليلاه فليس بالضرورة أنْ يُجنَّ العشاق جميعُهُم جرّاء الخيبة في هواهم . أرض الله واسعة وما أنزلت السماءُ في سابق عهدها سيظلُ نازلاً منها ما دامت السماءُ والأرض من ذات العناصر في الأصل والتكوين .

بعُدت ليلايَ عني ونأيتُ عنها ودرست معالم دارها في ذاكرتي لكني لم أزل أردد بيتين من الشعر لن يمحوهما من ذاكرتي الزمنُ :

أمرُّ على الديارِ ديارِ ليلى

أُقبِّلُ ذا الجدار وذا الجدارا



وما حبُّ الديارِ شغفنَ قلبي

ولكنْ حبّ مَن سكن الديارا

هذه قصتي بإختصار شديد مع ليلى الأولى ، علماً أنَّ ليلى قد لا يكون هو إسمها الأصل ولكنَّ الحبَّ لا يليق ولا يستقيم إلا بإسم ليلى . ولهذا الإسم علاقة بكلمة " ليل " والحب ليلاً أشد وطأةً وضراماً منه في ساعات النهار ... إسألوا قيساً إبن الملّوَح !

ليلى الثانية / ليلى البريطانية

كيف تكون ليلى بريطانية ؟ ولِمَ لا تكون ، ما المانع ؟ أليس في بريطانيا " العظمى " جالية مسلمة كبيرة جاءتها من شتى أصقاع المعمورة فضلاً عن الجالية العربية ؟ كل الأسماء الحُسنى شائعةٌ مُشاعةٌ والإسم ليلى جميل يُثير الخيال ويبهجُ سامعه ويُغري صاحبته حدَّ إصابتها بالغرور كما قال المتنبي [ والغانياتُ يغرّهنَّ الثناءُ ] وفي الإسم الجميل ثناء لحاملته. كلّا ، ما كانت ليلاي الثانية بريطانيةً إنما كانت فتاة خليجية من دبي أو أبي ظبي جاءت في بعثة حكومية لدراسة علوم الكومبيتر في جامعة شفيلد . إلتقينا في مقهى ومطعم الجامعة في ساعة منتصف النهار ( الساعة الثانية عشرة ظهراً ) حيث يتناول الإنكليز وجبة خفيفة مع القهوة عادة . سألتها وسألتني أسئلة كثيرة منوّعة وقبل أنْ نفترق طلبت إسمي ورقم المختبر الذي كنتُ أُجري فيه أبحاثي في قسم الكيمياء . ما كانت تحملُ أوراقاً فكتبتْ إسمي ورقم المختبر في وسط راحة كفها الأيسر فأضحكتني . نسيتُ الموضوع جملةً وتفصيلاً حتى جاءَ يومٌ فاجأتني فيه طالبةٌ هندية دخلت المختبر ثم سألتني ألستَ السيدعدنان ورقم مختبرك هو

؟37 C

قلتُ أجل ، ما الخبر ؟ لم تُجبْ ثم إستأذنتْ بالإنصراف . ما كنتُ بحاجة إلى توضيح وشروح ذاك أني كنتُ أعرف أنَّ ليلى مقيمة في بناية صغيرة مخصصة لسكنى الطالبات الأجنبيات وكانت هي مصدر هذه المعلومة ! أرسلتها ليلى إذاً كي تتأكد من حقيقة إسمي

ووجودي في هذه الجامعة وفي هذا المختبر بالذات . توالت لقاءاتنا في المطعم ـ المقهى ظهيرات كل يوم وتشعبت الأحاديث بيننا ولإسباب أجهلها كانت مشوقة أنْ تعرف عني الكثير وأكثر مما تسمح به طبيعتي وتكويني الشفاف ـ العصيِّ على الفهم . ألحّت في معرفة أسباب وجودي في بريطانيا بدل العراق وهل سأعود إليه عاجلاً ولِمَ لا أحاول العمل في الجامعات العربية وهل لديَّ خَلَفٌ أم أنني رجلٌ عازب ؟ زودتها بكل ما أرادت من معلومات عني وكانت في غاية السرور من صراحتي ووضوحي في إجاباتي . ولكي أضع حداً لفضولها الذي ما كانت له من نهاية حوّلتُ حركة وسياق الحديث إليها على قاعدة أنَّ الهجوم أفضلُ وسيلة للدفاع . قلتُ لها إنَّ إسمك يعجبني كثيراً فهو رومانسي يُلهب الخيال وفيه دفء عجيب ويوحي لناطقه ما يوحي من أفكار وأخيلة . ثم قلتُ لها كاد أنْ يكون نصيبي الأول من فتاة تحمل مثلكِ إسم ليلى . وسّعت حدقتي عينيها من وراء نظارتها الطبية وحملقت في وجهي تحثني على الإسترسال في حديثي وسرد المزيد من حكايات حول تأريخي وأموري الشخصية . مرَّ عليَّ زمنٌ طويلٌ لم ألتقِ سيدةً بمثل مواصفاتها وما فيها من فضول قوي جارف . كيميائي غادر وطنه وكانت فتاته الأولى { ليلى رقم واحد } تحمل إسمها لكنَّ النصيب خاب وطاش . فما أوحى لها هذان الأمران وكلانا غريب في بريطانيا بعيد عن أهله ووطنه ؟ كانت في سن الزواج وربما تجاوزته حسب أعراف وتقاليد بلدها فهل طمعت فيَّ بعد خراب البصرة وما فعل بي زمني من تغرّب وتشرّد ؟ كيف وثقت بي واطمأنت لي ولم نلتقِ إلا مرات معدودة ؟ عرضتُ عليها أنْ نلتقي في مقهايَ المفضل منتصفَ نهار يوم سبت . وافقت على الفور وقالت ذلك يسرّني ويُبهجني . إنتظرتها فجاءت حسب الموعد المُتفق عليهِ وكانت على أفضل ما تكونُ ملبساً وهيئةً وزينةً . لم تطلبْ إلا قهوةً سوداءَ وقطعةَ كيك . اتخذنا مجلسنا في زاويتي المفضّلة وشرعنا نخوضُ في شتى المواضيع . كنتُ من جهتي شديد الحذر في كلامي وأسئلتي لئلا يتسرب مني لها هاجسٌ يوحي لها أو يوهمها أني أرغبُ فيها أو أعرض نفسي عليها ... أعوذُ بالله ! كانت ميالة جداً جداً أنْ تعرف لماذا أنا عازفٌ عن العمل في جامعات الخليج أو الكويت مثلاً . كانت تزيّن لي الحياة هناك وتسرف في تعداد مزايا العمل وما يتمتع به الأستاذ الجامعي من إمتيازات ..

كانت أذني حيال ما تقولُ صمّاء طرشاء ولم أُبدِ لما كانت تقولُ أيَّ إهتمام . كلما عادت للكلام عن نفس الموضوع رفعتُ كأسَ القهوة وقربته من فمي ثم وضعته على الطاولة متظاهراً أني أريدها أن تبردَ قليلاً أو أنَّ السُكّرَ لم يذبْ تماماً بعدُ . مجرد مناورات ساذجة لصرف نظرها وتوجيهه صوب نواحٍ أُخَرَ . ما كانت لتعنيها هذه المناورات إذْ واصلت أحاديثها التي كانت تدور حول ذات المحاور وذات الموضوعات . هي في وادِ وأنا في آخر ، لا هي معنيّة بما أقوم به من حركات ولا أنا بالمعنيِّ بما كانت تثرثر . هل ندمتُ على دعوتها إلى مقهايَ المفضّلة أيام السبت ؟ نعم ، أشد الندم . (( عرب وين طنبورة وين ! )).

تركنا المقهى فعرضتُ عليها أنْ نتناول طعام الغداء في مطعم هندي نظيف كامل التجهيزات يقدّم الدجاج المشوي ولحوم الضأن المشوية والدونر كباب ( الشاورمة ) الممتاز. إعتذرت أنها على موعد مع بعض الطالبات الهنديات ووعدت أنْ تنفذَّ دعوتي في نهار السبت القادم . أسبوع واحد يكفي أنْ أتخلصَ منها وأتملصَّ من دعوتي رغم أني لا أُجيدُ إفتعالَ الأعذار ولا مناورات التهرّب من المواعيد . سأقول لها إني مرضتُ بحمى شديدة وعطاس وإلتهاب الأنف والبلعوم ولزمتُ الفراش طوال أيام الأسبوع . إنتبهتُ : وماذا عساني سأقولُ لو بعثت بصاحبتها الهندية إلى محتبري للتثّبت من صحةَ دعوايَ بالمرض وملازمتي فراشي لسبعة أيام ؟ أصابني حَرَجٌ كبير لكني صبّرتُ النفس وهوّنت المشكلة عليها بقولي [[ لا تفكّرْ ... لها مُدبِّر ]] . مرَّ الأسبوعُ بسلام ولم تبعثْ لمختبري رسولاً رقيباً مُخبِراً ولم أزرْ مطعم ومقهى الجامعة في ساعة الغداء والقهوة

Coffee Break

طيلةَ أيام الأسبوع . يبدو أنَّ المسكينةَ قد إلتقطت الإشارةَ أخيراً فلم تبعثْ أحداً ولم تحاولْ زيارتي في المختبر أو السؤال عني . فقدتْ الأمل الذي كان بحكم الميؤوس منه منذ البداية.

كنا نلتقي صدفةً في ممرات الجامعة أُحييها وتحيّني وليس أكثر من ذلك . إنتهى العام الدراسي فغادرتْ عائدةً إلى خليجها وبقيتُ أنا مع ذكريات ليلايَ الأولى .

ليلى الثالثة / ليلى والذئب

هل ستكون ليلى صديقتي وذئبها معها ؟ سألتني مضيّفتي فتحيرتُ في أمري لأنَّ سؤالها صعبٌ وتصعب الإجابة عنه . ما خطبُ وما حكاية ليلى الثالثة هذه معي ؟ رأيتها في عالم الرؤى والأحلام تطرقُ باب بيتي قريباً من غابة جدّتها . إستقبلتها مرّحباً لأنني كنتُ مذْ طفولتي المبكّرة أعرفها وأعرف الذئب الذي أراد افتراسها فقتله خالها وأنقذها من خطر مخالبه وأسنانه الدموية . أعرف ليلى إذاً تمام المعرفة ولكنْ ما دوافع زيارتها لي هذه الغريبة وكيف جاءتني زائرةً وبرفقتها الذئب الذي كاد أنْ يبطشَ بها ؟ هل أصبحا بقدرة قادرٍ صديقين حميمين حتى أنها أمنت شرّه وحاد نظراته ومخالبه وما في أحشائه من جوع ضارب الأطناب ؟ هل أفلحت في تدجينه أمْ أنَّ الطبيعة قد تطوّرت فأنسنت بعض الوحوش وجعلتا أُليفةً وصديقةً لبني الإنسان ؟ جائز وإنْ كنتُ أشكُّ في ذلك . أهلاً بك ليلى يا عزيزتي وغاليتي فلقد كدتُ في طفولتي أنْ أُجنَّ خوفاً عليك وجزعاً من أنْ يفترسك الذئب ولم أنمْ لياليَ بطولها فجزعتْ والدتي معي وأقلقها وضعي الصعبُ حتى أنها عرضتني على طبيب إختصاصي بمشكلة الأرق وتعسّر النوم . لم يفدني الطبُ الحديثُ فصارت تأخذني لأضرحة الإئمة وقبور الأولياء الصالحين ناذرةً النذور حارقةً البخور واقدةً الشموع ذارفةً سخيَّ الدموع تدعو وتستغفر وتوّزع الصدقات وتعطي الأعطيات وتتضرع سائلةً العطف عليَّ وإنقاذي من علتي بسبب خوفي على مصير وحياة ليلاي الثالثة. جاءت العطلة الصيفية فتماثلتُ تماماً للشفاء وعاد لي نومي العميق السابق وفارقتني الكوابيس ومزعج الأحلام . تيقنتُ أخيراً أنَّ ليلاي ليست في خطر ولم تكن أصلاً في خطر . كان الذئب دمية أطفال من فراء صناعي لا أكثر من ذلك . وهذا ما كان وقد وقع بالفعل . جاءت ليلى تزورني وذئبها الدُمية معها وإنْ كانت سيماهُ سيماء ذئب حقيقي . هل أخاف من دمية ليلى وأجزع وأقلق وأتأرّق ؟ ماذا تقولين يا ليلى في هذه المسألة ؟ أجابت مضيفتي وهي في غاية الإنشراح قائلةً إنما يتوقفُ الأمر على ليلى وليس على الذئب الذي تصطحب . كيف يا كريمة النفس والمحتد ؟ قالت في طوق ليلى أنْ تحوّل ذئبها الدُمية إلى ذئب حقيقي توجهه لإفتراس مَن تشاء من البشر ! يا ساتر ! صرختُ عالياً ! أحقاً في ليلى قدرة سرية عجيبة على تحويل الجمادات إلى حيوانات مفترسة ؟ من أعطاها هذه القدرة الخارقة التي لم تعرفها الطبيعة السوية بعدُ ؟ من زوّدها بهذا العلم السحري ؟ مَن علمها سحراً لم تعرفه بابلُ قبلها ولا سَحَرةُ فرعونَ مصرَ ؟ لم تدعْ ليلى الوقتَ يمرُّ سُدى إذْ قراتْ تعويذةً سريّةً بلغة غير مفهومة ولا معروفة فسَرعانَ ما تحوّلت الدُميةُ إلى ذئب حقيقي بحجم ومواصفات ذئب الغابة ذاك الذي قرر إفتراس الطفلة ليلى ذات مساء وهي في طريقها لبيت جدتها حاملةً معها لها الحلوى والكعك والكيكات . هو هو بلحمه وعظامه ودمه وأنيابه ومخالبه الطويلة الحادة . ذُعِرتُ وتعرّقتُ وأصابني صُداع حاد فتذكّرتُ المرحومةَ والدتي وجزعها عليَّ جرّاء ما أصابني من هلعٍ وجزعٍ وخوف حقيقي على مصير ليلى طفولتي وشبابي وحلم نضجي ورجولتي . أين والدتي ؟ أين أمي ؟ إني بأمسِّ الحاجة لها الآنَ الآن . جاءني صدى صوت والدتي يشقُّ الآفاق من تحت تراب ضريحها : لا تخفْ يا ولدي لا تخفْ . إنه لم يزل دُميةً من الفراء الرخيص لكنكَّ شُبّهَ لك فخلته ذئباً حقيقياً . إنه ليس كذلك . لا تجزعْ ولا تروّعْ نفسك . نم الليلةَ هادئاً قرير العين ثابتَ الجِنان . ليلى لك موهوبةً دنياً وآخرةً . ليس في مقدور أحدٍ في الدنيا سرقتها منك . هي قسمتك وقَدَرُك ومنتهى مصيرك وكلنا منتهون إلى أجَلٍ مُسمّى دونما شكٍّ . ليلى تبقى ليلاك الأولى والأخيرة ، ليلى شبابك، ليلى التي أحببتَ وأحبّتك بشرفٍ وصدقٍ وبكت ، وهي التي لم تعرف البكاءَ ، يومَ أنْ وقعتَ في خطرٍ . أبكتك وأخلصت الود لك حتى بعد أنْ تركتها وغبتَ عنها سبعَ سنين عجاف . غاب صوتُ والدتي التي فارقت الحياةَ يوم الخامس من شهر حزيرانَ عام 1972 . غابت والدتي أو عادت لغيبتها الطويلة فصرتُ أُكلِّمُ نفسي وأسائلها وأحاورها وأُسائلها ثانيةً هل حقاً هذه ليلى طفولتي وحلم شبابي وأُمنية أُمنياتي المبكِّرة الأولى ؟ كيف عادت من غيابها بصحبة ذئب تحت إمرتها تقولُ له كنْ فيكون وتحلّه محل دُمية من فراء وتمسخ هذه إلى ذئب حقيقي يبث الرعبَ في قلوب البشر ؟ أريد ليلى القديمة بدون ذئب ! ضحكت سيدتي المضيافة وهي تقدّمُ لي صحن بقلاوة لبنان ثم قالت : عندي تفسير حلمك هذا . أجلْ ، لديَّ تفسيره . توسّلتها أنْ تفسِّرَ لي حلمي هذا فقالت : ليلى هذه لا ريبَ ليلاك الأولى التي غبتَ عنها ثم غابت هي عنك . أما الذئبُ فتقول لي عنه كتب تفاسير الأحلام والرؤى إنه زوجها الذي إختطفها منك في أعوام غيابك عنها الطويل . ولكن ... ولكنْ يا صاحبتي ومضيفتي ومفسّرة رؤيايَ ما باله كالخرقة البالية في يديها تلعب به كيفما شاءت وتمسخه دميةً حيناً وذئباً أحيانا ؟ قالت أقرأ في نصوص كتبي أنَّ زوجها هذا رجلٌ ضعيف الشخصية جبانٌ لم يملآ بَعْدَك عينيها ولم يستغرقْ حبَّها وحياتها فما هو إلا خرقة تمسح أرض بيتها به ودُمية من نسيج رخيص متهرّئ تلهو به وتسخرُ منه وتقلبه كلب حراسةٍ في هيئة ذئب وما هو في حقيقته إلا كلب يدفع عنها الخطر حين تتعرض له تشتوه فيهاجم وتأمره فيتوقف ويرتدعُ .

ودّعتُ سيدتي المضيّفة وشكرتُ كرمها وحُسنَ ضيافتها وجميلَ تفاسيرها لأحلامي ومخاوفي ورؤايَ . ودّعتها على أنْ نلتقي قريباً لنتبادل أطرافَ أحاديثَ أخرى شتّى لا علاقةَ لها بالأحلام وكوابيس الذئاب الحيوانية والبشرية وما أكثرها في هذه الأيام .

لم أنمْ ليلتي تلك إذْ ظلَّ في رأسي شبحُ الرجل زوج ليلى الضعيف الدُمية حيناً ـ الذئبُ أحيانا. هل يمكن أنْ تحرّضه عليَّ ذات يوم ليفترسني بعد أنْ تمسخه من مجرد دُمية إلى ذئبٍ ؟

ليست هناك تعليقات: