زياد جيوسي
قلب عمان
بعدسة زياد جيوسي
أول الأمس كنت برفقة رام الله أودعها في الصباح تحت قطرات المطر ونسمات البرد، أجول في دروبها محتضنا ياسميناتها وصنوبرها وشجرة البركة، ساعة كاملة من التجوال وأنا معها، أضم خاصرتها بيدي، تسدل شعرها كشلال من نور على كتفي، تنظر لي بعينيها الجميلتين، بلمعة الحب تشرق في عينيها، تهمس في أذني: أنتظرك بكل الحب فلا تتأخر عليّ، ومن عمّان أكتب لي، فحروفك أينما كنت تعني لي الكثير، سأسبقك لعمّان، أفتح يداي وأحتضنك حين تجتاز النهر المقدس، أجول معك في عمّان وأينما ذهبت. فأهمس لها بكل الحب: وهل من مدينة أنثى إلاك؟ ستكوني معي في عمّان وفي المدينة الحُلم التي سأغادر إليها من عمّان، تصبين لي القهوة كل صباح، نشربها معاً بكل الشوق والمتعة، نشربها من فنجان واحد، أنت أنا كلانا، نستمع معا لشدو فيروز، أغوص في بحر حبك وعينيك، الست أنت الثريا والمطر، الحلم والأحلام، الشوق الجارف عبر العصور، الحب الذي ولد منذ ألف عام مضت وأحتاج لألف عام أخرى كي أعبر عن حبي وعشقي.
صباح الخير يا عمّان، صباح الخير يا حلوة، صباح الذكرى والذاكرة، الشوق والحب، ألتقي حبك في هذا الصباح وزرقة سماؤك والغيم الأبيض، أهمس بأذنيك همسات فيروز: "موعود بعيونك أنا موعود، وشو بعطي كرمالهن ضيا وجروح وأنت عيونك سود ما انك عارفه شو بيعملوا فيّ عيونك السود"، أقف للنافذة في شرفتي التي أحلتها إلى صومعة عمّان، أتأمل مئات الكتب في مكتبتي والتي تجمعت عبر الزمان والطفولة حتى سفري الذي طال عن عمّان، التقط بعض الدفاتر التي حملت إشارات وكتابات على الحواشي، أقرأ بعض منها وأبتسم لما حملته من معانٍ في الذاكرة، أنظر لحوض النعناع الذي زرعته في زيارتي الماضية، ما زال في البدايات، أتأمل الصبّارات التي تركتها غضة قبل أثنا عشر عاما وعدت إليها ووجدتها كبرت وتنتظرني، لدالية العنب التي صعدت حتى ظللت النافذة في الغياب وتحلم بالربيع القادم كي يعود لها الرداء الأخضر وقطوف العنب، كما حلمنا بشتاء ومطر من ثريا حنونة على من أحبها، فتغسله بالمطر.
أغادر رام الله وصومعتي وكتبي، أحواض النعناع والورود على نافذتي، أغلق الباب وأضع حقائبي في مكتب السفر وأجول، لا أستطيع مغادرة رام الله بدون عبق ياسمينها وتقبيل بركتها، أتجه بالسيارة للنهر المقدس الذي يفصل بحراب الجند والأسلاك الشائكة بين ضفتي القلب، بين مدينتين توأمين مثلتا دوماً طيفي الأجمل البعيد القريب، أشعر بألم الأفعى الضخمة البشعة الممتدة والملتفة حول القدس بمجرد الوصول لقلنديا بإتجاه أريحا، الجدار الذي أقامه الاحتلال ليلتهم أراضينا ووطننا، يستولي على القدس ويُهودّها، وقيادات شعبنا ما زالت تتصارع حيناً وتتحاور حيناً، والعدو يلتهم الأرض وما فوق الأرض، يمعن في غيه وضلاله ويمارس كل أنواع القتل والاضطهاد.
نجتاز الحواجز الاحتلالية حاجزاً إثر حاجز حتى نصل مدينة أريحا بشمسها المشرقة، وفي المعبر الفلسطيني التقي ببعض من القيادات الفلسطينية تصعد الحافلة معنا، ثلاثة منهم من قيادات فصائلية تربطني بهم عبر التاريخ علاقة صداقة ومودة، وبعضهم جمعتنا السجون والمعتقلات سوياً، متجهين لجلسات الحوار في القاهرة ويحملون الأمل بداخلهم، أمل بالمساهمة في إنهاء هذا الصراع الداخلي الدموي والذي أعادنا عصور للخلف، أتبادل الحديث مع أحدهم الذي جاورني بالجلسة بين نقاط التفتيش والإذلال حتى نصل لنقطة المغادرة، نفترق متمنياً لهم النجاح فيما هم ذاهبون إليه، ويوقف الاحتلال النائب في التشريعي خالدة جرار ويمنعها من السفر، فأصافحها هامسا لها: إنه الاحتلال يا خالدة، فتبتسم وتقول: نعم إنه الاحتلال.
كلما اتجهت الحافلة صوب النهر أزيح الستارة وأنظر للنهر المقدس، يقفز للذاكرة دوماً صديقي الكاتب مفلح العدوان وهو يتحدث عن النهر المقدس: "بيني ، وبينك خوف، وجند، ودعوات الجدات بأن تعود أليفا كما ألفناك ..أيها النهر!! أمطر بحضورك، وجهي الآن.. من زمان.. وأنا أنتظرك .. من قبل مقولة أل (كان، يا مكان..) !! من زمان ، لم يصلني سائلك المقدس ، فما الذي بنى السواتر بيني وبينك؟"، فأهمس له من البعيد: وأنا أعبر النهر المقدس لألتقي رئة القلب الثانية عمّان، وأنا أعود عبر النهر إلى رام الله الهوى، أنظر من وراء الستائر المغلقة للحافلة التي تقلنا، أنظر لنهر الأردن نظرة طويلة، أبحث بين الشجيرات على ما تبقى من خيط ماء بالكاد يظهر، فتسقط الدمعة من عين عرفته دافقاً متدفقاً، عرفته مقدساً يروي الأرض والروح، هادراً كما الأرواح في ضفتيه، ليحوله العدو من قبل هزيمتنا الحزيرانية ليروي صحراء كانت لنا، ويترك أرضنا تبكي، عجزنا يبكي، أرواحنا تبكي، فيستلب النهر الذي كانت تمتد حوافيه مساحات، فأصبح خيطاً بالكاد مرئياً، يبكي أنه لم يعد يروي البحيرة الميتة فيجعلها ترفض الموت، فأصبح جسدها ميتاً يجف كل يوم مع حرارة شمس الأغوار، وماتت أسماك النهر وانتشرت من حوله الزواحف الصحراوية، أنظر شرق النهر إلى أهلٍ و أحبة أشتاقهم في القدوم، أحن إليهم في الغياب، أنظر غرب النهر إلى أهل وأحبة أسرّع الخطى للوصول إليهم، فيقفز النهر المقدس مرة أخرى إلى عيناي، فتقفز دمعة أخرى فأكتب: يا صديقي مفلح العدوان.. في زمن نسيت الحروف فيه الشريعة المقدس، لا تترك الأمكنة أبداً، فأنت كما الأمكنة التي عشقنا تسكن الروح بمحبة.
صباح الخير يا رام الله، صباح الخير يا عمّان، أحتسي قهوة الصباح وروح طيفي ترف من حولي، تبتسم لما يجول في تلافيف الذاكرة، تشاركني القهوة، فليس أجمل هناك أجمل من عشتار حروفي الخمسة، فيروز تشاركنا بشدوها:
"أذكر الأيام يمح والهوى في حنايا الغاب عند الجدول حين كنا والهوى حلو الغوى نتشاكى في حنين القبل ضمنا الليل على بوح طوى كل ما في قلبنا من غزل فأنا إن أشتكي مر النوى لا تلمني يا حبيبي الأجمل".
صباحكم أجمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق