الأحد، مارس 22، 2009

أنا وأحلامي التي لا تنتهي

مريم الراوي

في ذكرى نكبة وطن اسمه العراق..
في عام الجنون السادس لإحتلال العمر..
في اللحظة الأكثر بعداً للماضي، والأشد قرباً والأكثر وضوحاً من المجهول القادم..
يترأى السؤال من جديد، وذات الـ" الى متى" تمزق صلواتنا. ويعلو النحيب مرة أخرى وأخرى.. من المنفى هذه المرة كما سبق، من درب شائك، وحلم مرتد على ذاكرة الحالم، من شراع مسدل، ومن عيون لاتزال تتأمل وجه الله.. كنت، أنا...
حين شرعت أن أكتب، عجزت عن سرد مايحصل في العراق بعد ست سنوات، ولقناعة شخصية وإيمان مطلق، إن الإحتلال لم يكن عبثياً ولا عشوائياً، بل احتلال منظم بدأ منذ أن إستقل العراق بقراراته، ومنذ أن أعلن اولى مبادئ المقاومة والتصدي للغريب المندس بين ثنايا الوطن العربي"الكيان الصهيوني".. بدأت الحكاية من هناك.. ومن هناك إبتدأت انا.. وأدركت كلما كبرت بي الأيام، وكلما تصفحت كتاباً، إن إستهداف الأمة العربية ليس لضعفها، ولا لخضوع حكامها وإستكانة الشعوب، وإنما لروح الثورة، والمقاومة التي لاتخبو أبداً.. لذا، فالحديث عن هذه الأمة بكل إنتصاراتها وخيباتها، والكلام عن العراق بروعه تأريخه وماضيه، وفداحة الخسارة التي نعيشها الآن، لن يتمكن أي قلم أن يقف صامداً أمام سوق الموت والدم المتناثر بلا حساب، بلا أدنى إنسانية...
وشعب العراق، بكل سلبياته، يبقى الضحية الأولى، والنسي المنسي في المشهد، في هذه اللوحة المعتمة، التي رسمها أفشل الرسامين وأقبحهم فناً..
ونحن.....
بقينا نحن، على حافة الواقع، نرتاد الحزن، والحزن يرتدينا بمهارة.. ألقوا بنا الى هاوية الحاضر، نتلمس في وضح النهار خطى العابرين من هنا، علنا نجد خطوة توصلنا الى مدينة السعادة، وعل السماء تشفع لنا رزايانا في الغربة..
هم...
قتلونا، داسوا على أعمارنا ببساطيلهم، ودباباتهم.. وأدوا أحلامنا، زجوا بفرحنا بعيداً بعيداً بعيد، رموه خلف قضبان، خلف الف باب وباب.. أمطروا ماتبقى من أيامنا وكل بسمة غمرتنا أملاً يوماً أمطروها شتائماً وإستهزاء.. وكانت كلابهم سفرائهم، ومرتزقيهم حراسنا... إقتادونا مقيدي اليدين، اوقفونا عنوة ونحن نلحق بأحلامنا كي لاتهرب. أنزلونا من دولاب الحياة وبقينا غرباء، تتملكنا الوحدة. وضعونا صفاً واحداً، والجريمة الكبرى، إننا مواطنون عرب عراقيون بمرتبة الشرف... ثلة منا عصبوا أعينهم، أما الآخرين فكانوا عصاة على العمى..
لكننا بجميع الأحوال، نشترك بجرم واحد "الحلـــم"..
منا من حلم بالتغيير ولم يآبه لغير هذا، ومنا من حلم بالحرية وعنى له الوطن كل شئ.. اما الأولين، لم يوقف حلمهم المتخاذل بالتغيير عن بعد، سوى الموت وقطع اللحم المشوي، والعيون المفقوءة. لم ينتشلهم من اضغاث الحلم سوى أصوات الدريل، وهي تنخر صدور الصبية وعقول الرجال.. لم يوقظ العنقاء فيهم سوى صرخات الثكالى والمفجوعات بأعمارهن وشرفهن المستباح..
وبقينا نحن، نحلم بالغد، نسأل النخيل أن لايخذلنا، نتعمد بدجلة والفرات من خطايا دموعنا وهي تنشطر الف دمعة حارقة على أنفسنا وهي تذوب بفعل الأسلحة المحرمة دولياً والمباحة بقدرة قاتل، ورضا عميل..
ولازلنا نحلم، حتى باتت أيامنا محض أحلام جارفة، وجامحة.. بقينا فوق السحب، وبين الوجوه نراوغ باسمين، لانعلن موت ارواحنا في الغربة خشية تشفي عدو متربص، وخوفاً من زمن ماعرف الرحمة يوماً...
وها نحن اليوم، أورثنا أنفسنا الحلم، حتى تعبنا النوم، والأحلام.. ها نحن اليوم نتمرد على الحلم بحلم آخر، يغير حلمنا وأمانينا السابقات... حلم ثوري ينطلق من ركام اوجاعنا، عله يبني ماتبقى من أطلال عمر شيدها الوجع بإتقان...
أصبحنا اليوم نرفض الصمت، نرفض الواقع الهمجي، نرفض الآلم.. نجابه بأكبر"لا" عرفها التأريخ. إن علينا أن نحيا..
كرهنا السفر، والإنتظار، ومحطات الترانزيت، والحقائب.. فلم يعد ثمة شئ نخسره الآن سوى أنفسنا..
في الغربة أضحينا أوطان منفيه.. مدن منسيه.. وأزقة لايدركها سوى ساكنيها..
أنــا..
أنا الآن ميناء يبحث عن سفينة.. عن شراع يتصدى للريح المجنونة.. أنا الآن إله، يبحث عن عابد.. طفل يبحث عن ظله.. بحر يبحث عن شمس تنتحر بليل شجونه.. انا الآن نــاي، يبحث عن قلب يستمع لحديثه..
هذا انا، أكتب بمرارة حالم، لازال يحلم أن يتخطى الأمنيات، عابراً أسوار الآن والأحلام المنسية، الى الواقع الأجمل، الى الأرض الأكثر صلابة، والى دنيا خلدها الحلم والإنتظار... بلا حقائب أيها العمر، بلا محطات، وبلا تعب الإشتياق..
فإني تعبت..
تعبت كل شئ..
السفر، الإنتظار، الأمل، وكذلك الوطن..
كرهت الحقائب، والمطارات المتزلفة للأحلام الكاذبة،
أن ثمة ضفة أخرى يمكن أن تحتوي الأوجاع والأمنيات..
وأدرك الآن أكثر من أي وقت مضى،
أن الطيور سجينة السماء،
وأن السعادة فرط من هذيان،
تشكل على مر العصور بهيئة أحلام وخيالات وجنة لاوجود لها..
آآآه، يبدو أن مصير الغرباء،
البحث عن أوطان في ألاوطان..
البحث في عيون الآخرين عن دار،
عن نخلة،
عن بسمة،
عن حلم جميل..
ويبدو أنه ديدن الأوطان،
حلم سراب،
أمنيات محرمة،
جنة ممنوعة،
وعشق يبين ولايبين..
وإحدى مشكلاتي، إني فقدت الدهشة،
وهو الأمر الذي يخرجني من دائرة الفلسفة،
لم يعد ثمة شئ يحيرني،
يفاجئني،
يمطرني بموجة صراخ غير متوقعة..
مع الأسف،
إنطفئ الضوء..
ولم يتبق في النفق سوى نجوم ناحلة،
خطوات متكسرة الأفق،
ومدى حزين..
هذا أنــا..
صدى مبحوح، حزن راقد، عالم من غرائب..
مسافات تحز الروح، كصهيل رياح مجروحة..
ودموعي أغصان من وجع..
ينسكب من كفي أريج القلب،
وكفي الأخرى تلوح للحزن..
تعال، وإحمل حقائبي، لدينا جميع السنين المقبلات..
تعال، وأزرع في جبيني عمر من الخيبات..
تعال وأنثر الذكريات رماد..
ونبقى ال"نحن"...
لن نموت، مازال فينا حلم ينبض أمل..
لن ننسى، مازال في الروح جرح إسمه العراق..
نحـن ....
عوالم من حزن تستند على قرني زمن هائج..
وأرواح حد الفناء تتشبث بالغد، بالثورة، بالحب..
لن يمتلك أحد، أن يعدم أحلامنا في أقبية السجون السرية،
لن يمنعوا إبتسامة عيوننا وهي توشوش قلب طفل صغير، إننا عائدون بك..
لن يستبيحوا احلامنا بفتواهم..
سنمضي بأحلامنا الى مدن الشمس،
سنعانق النور بها. فما من نهار يعشق المترددين..
هذا هو درس الغربة الوحيد..
الصمود، والتوق الى الغد..
هذا "نحن"، حين نتعلم أن نتمسك بيد الله...
وهذه هي الحياة،
تمضي وتمضي،
عراقي كل من يحلم ويعشق الغد،
عراقي كل من يكره الحقائب والترحال اللامنتهي،
وعراقي من يصل الى الضفة الأخرى متعباً من الحلم غير يائساً منه..

ليست هناك تعليقات: