نبيل عودة
اثار الناقد الدكتور حبيب بولس ، في مقالين متتابعين ( "لماذا لا نملك جانرا روائيا محليّا ناضجا؟" و " عود على قضية الكتابة الروائية " ) اشكالية ثقافية في أدبنا الفلسطيني داخل اسرائيل ، بغياب الجانر الروائي من ابداعنا المحلي ، وأشار الى عدد من المحاولات الجيدة في ابداعنا المحلي . ومع ذلك يبقى الفن الروائي بعيدا عن أن يشكل تيارا ثقافيا يمكن الاشارة اليه كما نشير الى شعرنا مثلا أو قصتنا المحلية.
يكتب : " في رأيي أن الأسباب الرئيسية التي تقف عائقا أمام تطور هذا الجانر تنقسم إلى فئتين: أسباب عامّة, وأعني بها الأسباب الخارجة عن إرادة المبدع، وأخرى خاصّة نابعة عن المبدع نفسه. من الأسباب العامّة سببان هامّان هما طبيعة الظروف التي نعيشها أولا، وقلّة المرجعية لهذا الجانر محليّا وفلسطينيا ثانيّا. أمّا السبب الرئيس الخاص فيعود إلى عدم قدرة المبدعين لدينا لغاية الآن الموازنة بين الخطابين: التاريخي/ الأيديولوجي/ الواقعي والخطاب الإبداعي/ الروائي/ التخييلي... "
حقا هناك اشكالية في موضوعة الخطابين التاريخي والأدبي. ولكن ليعذرني زميلي وصديقي الدكتور حبيب بولس ، هذه الاشكالية ليست وقفا على الجانر الروائي ، انما اشكالية لكل ابداع أدبي ، قصصي أو شعري.
من الواضح أولا انه لا وجود لهذين الخطابين ، التاريخي والأدبي ، خارج عملية الابداع .. فهما مرتبطان ارتباطا وثيقا وجدليا بعملية الابداع نفسها.
فهمي ان الكتابة الابداعية ، مجردة من الزمان والمكان هي الخطاب الأدبي ، ومن البديهيات ان الخطاب الأدبي لا يمكن ان يوجد خارج حدود الزمان والمكان... انما هو بعلاقة وثيقة زمانيا ومكانيا بواقع معين ، اجتماعي لغوي نهضوي اقتصادي تاريخي ديني معرفي وغيره .. . لأنه حتى الكتابة القصصية لموضوع يتعلق بالخيال العلمي ، هي كتابة يعطيها المبدع زمانا ومكانا متخيلين، رغم وجودهما خارج المنطق ، الا ان وجودهما حتى غير الحقيقي يجعل المعادلة تكتمل بزمان ومكان متخيلين .. لتكتمل معادلة الابداع.. بجانبها التاريخي والجغرافي الذي يفرضه الزمان والمكان حتى المتخيل.
ان التوازن بين الخطابين في صياغة النص ، الخطاب التاريخي ، أي الحدث او الفكرة ، والخطاب الأدبي ، القدرات اللغوية ، هما القاعدة لأي ابداع أدبي روائي ، قصصي ، شعري أو مسرحي ... أو حتى فني ، ولكنه موضوع مركب أكثر!!
ان اللغة في النص تشكل مرتكزا هاما .. والموضوع ليس معرفة اللغة فقط .بل القدرة على تطوير لغة درامية ...
ان معرفة عرض الخطاب التاريخي قد يقود الى كتابة ريبورتاجية بغياب الخطاب اللغوي الروائي (اللغة الدرامية) ، ومعرفة الخطاب الأدبي قد يقود الى كتابة نص مليء بالفذلكة اللغوية والنحت الصياغي وصولا الى تركيبة جمالية لا تقول شيئا للقارئ ، الا ان الكاتب يعرف النقش باللغة ... وربما ما ينقص الخطابين ، هو الخطاب الثالث الهام ، الخطاب التخيلي ، اي القدرة على بناء الأحداث المتخيلة التي تعبر عن الخطاب التاريخي ليس بشكله في الواقع اليومي ، وتغذي اللغة بأبعاد ومركبات ابعد من قواعد سيبوية وقيوده ، وأبعد من مجرد النقش اللغوي الأقرب للرسم بالريشة . الى لغة درامية بحد ذاتها تشد القارئ تماما كما تشده صياغة الحدث.. وهناك تفاعل هام ومصيري في النص الروائي لموضوعة اللغة الروائية . . ما هي اللغة الروائية ؟ وهل من السهل اكتسابها بالدراسة ؟ .. تماما مثل اللغة الشعرية ، ليس كل من يحسن النظم ومتمكن من لغة الضاد هو شاعر.. للشعر مميزات لغوية لا تقل أهمية عن فهم دور الخطابين في الابداع . بالطبع المبدع لا ينتج ويقيس انتاجه بناء على نظرية جاهزة ..
نجد في ثقافتنا المحلية مئات ناظمي الشعر ، والسؤال كم عدد الناظمين الذي نجحوا بجعل نظمهم قصيدة شعرية حقيقية؟ هنا نجد ان المئات يختصرون لأفراد قلائل.
وفي القصة القصيرة لدينا عشرات الناثرين ... السؤال : كم ناثر نجح بأن يصل لانتاج قصصي حقيقي ؟
احيانا في مراجعاتنا النقدية لا نقول كل الحقيقة حول التركيبة الابداعية ، لأسباب مختلفة ، أهمها اعطاء دفعة وتفاؤلا للناثر أو الناظم لعل التجربة القادمة تكون أكثر اكتمالا. وهناك لاعبون في ساحة النقد ، يرتكبون جريمة بحق المبدعين حين يوهمونهم انهم بلغوا القمة ... ولكنه موضوع آخر!!
بالطبع هناك اشكاليات أكبر في ابداع جانر روائي .
ان مفاهيم الزمان والمكان التي يتخيلها الأديب او يستقي منها فكرته على فرض انه يكتب عن محيطه الملموس، هي التي تحدد بالمفهوم البسيط ، مبنى الخطاب التاريخي.
هل وصلنا اذن الى حل لمعضلة الابداع الروائي او غيره من الألوان الابداعية؟
أبدا .. تبقى النظرية جيدة لتحليل العمل ونقده ... وليس ليدرسها المبدع ويطبقها. ان عملية الابداع مركبة ومتداخلة بعناصر انسانية وعقلية ومعرفية وتجريبية واجتماعية واقتصادية أكثر اتساعا من عالم القصة القصيرة ، رغم اني أرى ان القصة القصيرة تحتل مساحة ثقافية وابداعية لا يجوز تقزيمها على حساب العمل الروائي.وهي تحتاج أيضا الى موهبة وتجربة وقدرات لغوية وفهم للعبة القصصية ومركباتها بحيث لا يمكن القول ان الرواية مرحلة أرقى. انما لون آخر ..
اني أدعي ان معظم الرويات التي ظهرت في أدبنا العربي داخل اسرائيل ، تفتقد للمركب الروائي الأساسي. وتكاد تكون خطابا تاريخيا مجردا من القدرة على القص والدهشة وجعل اللغة طيعة متدفقة مثيرة ومتفجرة .
الابداع الحقيقي ، نثرا أو شعرا ، لا يعني نقل حدث تاريخي او انطباعي ، بلغة سليمة من الأخطاء اللغوية. أو بديباجة مليئة بالفذلكة والألعاب الصياغية . الموضوع ليس انشاء لغويا بسيطا أو فخما جدا . هناك لغة للقص تختلف بتركيبتها عن لغة المقالة . تختلف بتركيبتها عن لغة الريبورتاج ، تختلف بتركيبتها عن لغة الشعر .
ان رواة الأساطير يستخدمون اسلوبا هو أقرب للغة الرواية اذا استبدلنا المفردات العامية . اسميها لغة تشويق واسلوبا يعرف كيف يشد المستمع بالمفاجئات والدهشة التي تظل حتى نهاية الأسطورة.
لا اقلل من قيمة الموروث الروائي. ولكنه لا يشكل العائق الأساسي. ففي ظل الانفتاح الواسع على الثقافة العربية وما أنجزته من أعمال روائية راقية جدا ، والثقافات العالمية وعمليات الترجمة الواسعة ، لأجمل الابداعات الروائية ، لم يعد للموروث تلك المساحة المؤثرة والحاسمة.
اذن أين مشكلتنا..؟!
بالطبع أرى أهمية ما طرحه الناقد الدكتورحبيب بولس في المقالين المذكورين... وخاصة المقال الثاني ، حيث كتب : " وفي مجتمع كمجتمعنا وفي ظروف كظروفنا نجد أن الرواية دائما تخاتل طموح كتابة التاريخ الفني للمخاض السياسي/ الاجتماعي في فلسطين- إبان النكبة، قبلها، في خضمها، بعدها، ومحليا أيضا ،وهذا أمر من الممكن أن يشكّل منزلقا للكتابة الروائية في ظروفها الاجتماعية المعيشة. فعلى الكاتب- أي كاتب- أن يحذر التاريخ ، وأن يعرف كيف يقيم توازنا بينه وبين الإبداع ، إذا أراد فعلا كتابة رواية فنية. وكم كان محقا ذلك الكاتب المفكر المغربي- عبد الكبير الخطيي- حين قال: "التاريخ هو الوحش المفترس للكاتب"، وهو يقصد بذلك أن صوت التاريخ –الواقع- الايدولوجيا ، حاضر على الدوام في شغاف قصصنا، يتأدى بطرائق وأساليب مختلفة متنوعة ، جهيرا حينا- خافتا حينا آخر."
أجل هذا صحيح . ولكن هل وضعنا يدنا على الوجع الأساسي ؟
الناقد استمر في تحليل "الواقع الموضوعي" ، اذا صح هذا التعبير ... الحائل بين تحول الابداع الروائي الى جانر مركزي في ثقافتنا. وهو تحليل علمي نقدي سليم تماما . ولكني ككاتب قصصي وروائي أيضا ، (اصدرت ثلاث روايات) ، اواجه مشاكل مستعصية لا تبقي في نفسي الرغبة لتجربة روائية جديدة ، بل فقط للكتابة الثقافية العامة ، وكتابة المقال الفكري والسياسي والمراجعات الثقافية ، أو النقد كما تسمى مجازا... وكتابة القصة القصيرة أحيانا ، وأحيانا مكره أخوك لا بطل ، أي لا أجهد نفسي لأكتب رغم توارد عشرات الأفكار القصصية الجيدة ، والأفكار الروائية أيضا ، وأعترف اني صغت ثلاثة روايات محتملة ، بشكل ثلا ثة قصص قصيرة على أمل ان أجد الدافع للعودة لتطوير النصوص روائيا .. واليوم لم أعد أشعر بالرغبة في الكتابة ، ولا حتى في نشر كتبي المتراكمة. ان طباعتها مكلفة . دور النشر غائبة او تستغل الكاتب لتحلبه . لا مؤسسات ترعى المبدعين . هناك تسيب ثقافي ، ومجرد نص انشائي يفتقد للغة الرواية ولأجواء الرواية ، وستجد عددا من " النقاد " ، وحتى بدون بعض الفضة ، ليجعلوه ابداعا لا مثيل له في الأدب العالمي ، وهو لا يستحق القراءة ، ومن الصعب انهاء ملزمة واحدة من صفحاته. وربما من الصفحة الأولى تطيح به الى سلة المهملات.
الكتابة الروائية تحتاج الى تفرغ ، على الأقل حتى تنجز الرواية . من سيغطي لك نفقات الحياة والبيت والأولاد والضرائب والتلفونات والكهرباء والسيارة؟
وهل ستحقق روايتك مردودا يغطي الاعتمادات البنكية والديون المختلفة ،التي يتورط فيها المبدع لانتاج أدبي روائي؟
وهل سيجد من يشتري روايته اذا عرضها في دكاكين الخضرة مع البطاطا والخيار والتفاح والبطيخ .. ؟ او في محلات البقالة مع الحليب والزيت والأرز والكوكاكولا...؟ لأن المكتبات تكاد تختفي من الصورة الثقافية ، وباتت المكتبات لتجارة الدفاتر والقرطاسية والكتب المدرسية والألعاب ؟
ام يتحول المبدع الى عتال وتاجر يحمل كيسا على ظهرة ليدلل على كتبه ويشحد بعض القروش لتغطية ما أنفقه خلال فترة كتابة روايته؟
كل واقعنا هو واقع مريض . ليس فقط ان شعب اقرأ لا يقرأ ، بل يسمع . وأيضا لأن مؤسساتنا غائبة عن الفعل الثقافي . ثقافتنا بنيت بظروف عصيبة من التحدي البطولي ، ومن معارك الحفاظ على لغتنا وثقافتنا وتطويرهما، ضد سياسة القمع والحكم العسكري البغيض الذي سلط سيف الفصل على رقاب المعلمين الشرفاء وفصل العشرات منهم ليضمن حالة الخوف على العمل لدى سائر المعلمين ، واستجابتهم للبرامج التجهيلية التي تضعها وزارة المعارف تحت اشراف الحكم العسكري وقوى الأمن في وقته ( اول عقدين بعد النكبة ) .
ومع ذلك كان هناك القادة الطلائعيون الأبطال داخل الجسم السياسي ( الحزب الشيوعي ) الذين تصدوا بقوة ونجاح وربطوا بين السياسي والثقافي بوعي كامل لأهمية هذا الربط في المرحلة التاريخية التي كنا بمواجهتها ، وخلقوا أجيالا من المثقفين والمناضلين ، شكلوا العمود الفقري لانطلاقة ثقافتنا وضرب جذورها عميقا بالأرض .. وصولا الى انبهار العالم العربي كله بما انجزناه سياسيا وثقافيا .
وهل ننسى أفضل مجلة ثقافية ابداعية شكلت الحاضنة الشرعية لأفضل الأسماء الثقافية ، والجامعة الحضارية التي تخرج منها أجيال من المثقفين والمناضلين ..؟
للأسف اليوم في ظل الحرية نتهاون بما انجزناه ونضيع ما وصلنا اليه. وهذا ينعكس سلبا على ابداعنا وعلى تطوره بما في ذلك الجانر الروائي الهام جدا في كل ثقافة متحدية .
الرواية كانت تاريخيا ، معيارا لتطور المجتمعات الراسمالية ، بل ويعزي المفكر الفلسطيني الكبير ادوارد سعيد في كتابه الهام والمثير " الثقافة والامبريالية " التطورالمبكر للروايتين الفرنسية والانكليزية الى كون فرنسا وانكلترا شكلتا الدولتين الاستعماريتن الأساسيتين ، وأن تطور الرواية الأمريكية تأخرت حتى بداية القرن العشرين مع بدء انطلاق الامبريالية الأمريكية الى السيطرة على العالم.
يُفهم من طرح الدكتور ادوارد سعيد أيضا ، ان الرواية شكلت أداة اعلامية لظاهرة الاستعمار.. لتبريره أخلاقيا (رواية " روبنسون كروزو" مثلا ، حيث يصل الأبيض الى جزيرة مجهولة ويجد شخصا أسود ويبدأ بتثقيفه واعاد تربيته وجعله انسانا راقيا – أي نقل له الحضارة باستعماره لأرضه وتحويله الى خادم له ) ولكن الرواية ، هذا الفن الراقي والرائع ، الذي انتجه الاستعمار المتوحش والجشع ، خلق الرواية المضادة ، أو ألأدب المقاوم بمفهوم آخر..
كانت بوادر للرواية الفلسطينية المضادة داخل اسرائيل أيضا . متشائل اميل حبيبي مثلا ، وغيرها.. ولكن الحديث يأخذ منحى آخر في طرح موضوعة الجانر الروائي ، منحى يعيدنا الى البداية التي انطلق منها الناقد الدكتور حبيب بولس.. منوها بحق بالمسببات الموضوعية لهذا الغياب الروائي.
وربما أكون قد أوضحت ، ان الجانب الذاتي له نفس الأهمية للجانب الموضوعي الذي عالجه وشرحه الدكتور الناقد حبيب بولس. والجانب الثالث القدرة على اختراق اللغة العادية الى لغة روائية – لغة درامية تشد القارئ بحد ذاتها وتشكل مع الفكرة الدرامية – التاريخية - للنص ، التصعيد والدهشة في الحدث الروائي . وبالطبع لا يمكن رفع أهمية جانب على حساب جانب آخر..
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي فلسطيني
nabiloudeh@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق