شوقي دلال
"رئيس جمعية محترف راشيا"
ألقيت في ندوة عن الكتاب بدعوة من جمعية قمح في حبوش النبطية .
لا تتعب الحقيقة من نفسها لأنها ابداً في التشّكل والتحّول ، يرسمها العقل في لطافة التأمل وقلق البحث عن معنى الوجود ، تبينُ أحياناً في صفاء القول ، وتغيبُ غالباً في زحمة اليقظة كسّر يبحث عن مغزاه .
والكتابة باب السّر وسفر المعنى في مراكب الحروف والكلمات ، والأفكار أشرعة يُمازجُها عَنَاءٌ سقراطي ترددهُ الريحُ في اليقين أو اللايقين : " كل ما أعرف أني لا أعرف شيئاً ".
فأيّ الحقائق نرتجي على شواطئ كتاب " المرأة والتنمية " للأب نجيب بعقليني والدكتورة كلوديا شمعون أبي نادر ، والأسئلة المطروحة بين دفتي الكتاب يغمرها تشاؤم الذكاء أمام الوقائع فلا ترى سبيلاً إلاًّ اللجوءَ الى تفاؤل الأرادة على حدِّ تعبير أنطونيو غرامشي .
أرادة الأنسان في السعي الى تجويد الحياة بكل ما فيها من حقٍ وخيرٍ وجمال . والكتابُ محاولةٌ لأستدراك هذا الحق ، لهذا الخير ، بهذا الجمال .
أتوقف بدايةً عند عنوانِ الكتاب " المرأة والتنمية " وأتطلعُ ملياً الى هذه " الواو " المرآويةِ متسائلاً : أهي حرفٌ وحسبْ ؟ أهي "واو" العطف في الإعراب ؟ أم أنها "واو" الوجدِ ، الوعدِ ، الولادةِ ، الوفاءِ ، الوجودِ ... أوليستْ المرأةُ وَجْدَ الحياةِ الى الوجود ووفاءَ الوعد بالولادة ؟
أوليست التنميةُ أيضاً وجوداً واعداً بحياة جديدة نفرحُ بالكينونة فيها ؟ .
لكأنما " الواو " هاهنا حرفٌ سحريٌ يُضِيءُ على تلك العلاقة الكامنة بين الأنوجاد وسيرورة الوجود ، بين المرأة ولغة الحياة حينما تكون الحياةُ في المرأة فعل خلق وفي التنمية معنى وجود . لكأنما التكامل بين الأثنين شرط لازم ، وتلك رؤية جديدة .
وفي الكتاب أيضاً تستوقفنا إشكالية فكرية تلقي بظلالها على مجمل فصول ومحاور البحث سيما عندما نُقَارِبُ الوضعية الراهنة للمرأة في مجتمعنا المعاصر وفي عالمنا العربي بالتحديد .
المرأة نصف المجتمع في الكّم ولكنها كلّ الحياة في الكيف . فأين موقع المرأة في حياتنا ونحن نهمل العناية بنصفنا وكلنا كمّاً وكيفاً ؟ . وهل تبرر السيرورة الثقافية لمجتمعاتنا العربية تلك الوضعية التي آل اليها واقع المرأة العربية من عزلة وغياب وتهميش ؟ .
نعم هي الحقيقة حين نقول أن المرأة أسيرة واقع صنعنا جدرانه من موروث بائد ، وحميناه بتقاليد وأعراف تجاوزها الزمن ، فيما يزال بعضنا يصّرُ على أحقيتها وديمومتها ، متناسين ما قاله ولي الدين يكن ، هذا الأديب الكبير والنهضوي الرائد في دفاعه عن المرأة منذ عقود خلت ، حين قال: " عندما أسقطنا دورَ المرأة بغير حق ، أنتقم الحق منا فحرمنا من السعادة الحقيقية " . نعم ، إننا وبغير حق أسقطنا دور المرأة يوم بنينا على الواقع الطبيعي للمرأة حتميةَ ثقافية تُقصيها عن أدوار ممكنة لها ، بحجة ضعفها وعدم رشدها وقلة وعيها . صحيح أن للمرأة واقعها البيولوجي الخاص بحكم تكوينها الطبيعي ، لكننا في المقابل جعلنا من هذا الواقع البيولوجي ذريعة لأستبداد ذكوري يُعلي من شأن القوة الجسدية ويجعلها معياراً للتراتبية الأجتماعية .
فلم نوازن بين حاجة الأنسان فينا الى الأمان بكافة أشكاله ، أمان الطفل بين ذراعي أمه ، وحنان الأخت نحو أخيها ، وعناية الزوجة بزوجها وبأطفالها وحاجتَهم الى الرعاية والعطف والأمان .
وأدخلنا المرأة بيت الطاعة بالقوة وتسيدنا ذكوراً أوصياء عليها ، فمنعنا عنها العلم والعمل والمعرفة بحجة الحرص والخوف ، فأرتدت علينا سهام الجهل والتخلف .
ما يضيء عليه الكتاب هو الأشكالية الثقافية لواقع المرأة التي أنتجتها سيرورة تاريخية تحتاج الى إعادة قرأة وتفكيك لمقولاتها الزائفة وبنيانها النظري المتقادم ومفاهيمها المؤسّسية الجامدة . وهذا ما تناوله بالعرض والتحليل كتاب " المرأة والتنمية " في خلاصة جهد صادق ينطلق من تجربة أنسانية غنية تحملها مؤلفة الكتاب الدكتورة كلوديا أبي نادر ، التي أدّعي أنها تسقط الكثير الكثير من روحها وفكرها وعملها وتجربتها على مضمون الكتاب في نوع من التماهي بين واقع ذاتي خاص وبين واقع آخر ترغب أن يكون واقعاً لكل النساء في مجتمعنا ، ويقيني أنها أنموذجاً يُحتذى في هذا المجال .
وأيضاً فإن الروح الأنسانية المفعمة بالمحبة للأب نجيب بعقليني تضفي على الكتاب بُعداً علائقياً رعوياً ومسؤولية إرشادية هي من صميم تجربته الروحية والتعليمية .
يبقى القول أن ما قرأته في هذا الكتاب وعن هذا الكتاب لا يُغني أبداً عن قرأته وإكتشافه لأن كلّ قرأة هي مجاز وتأويل .
وأختم بسؤال في أفق الكتاب ومضامينه : إذا كان الأيمان يخبرنا بأن الرجل هو رأس المرأة كما المسيح هو رأس الكنيسة ، وأن الرجال قوّامون على النساء ، فمن أين لنا أن نصنع وفاقاً بين ما نؤمن به وما نحن بحاجة اليه من ثقافة جديدة في علاقتنا مع المرأة وحضورها الأنساني ؟
لربما الجواب هو في أن نؤمن بمعنى الأنسان كل الأنسان ، وأن نعمل من أجل الحرية كل الحرية ، وأن نسعى بأسم الحق كل الحق لنكون جديرين بهذا الجمال لخير هذا الوجود .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق