زياد جيوسي
من داخل قلعة محمد علي في القاهرة
بعدسة زياد جيوسي
يوميات من القاهرة 2
هي القاهرة المدينة الحلم، مدينة تمتلك سحراً لا يقاوم، فأشعر كم كانت عمّان ورام الله مصيبتان بخوفهما عليّ من هذا السحر، فشاركتاني قصة عشق جديدة لمدينة كنت أحلم بلقائها، فتحقق الحلم وصرت أخشى أن أكون ما زلت أحلم، فأصحو وأجد نفسي قد عدت من الواقع الى الحلم.
تأسرني القاهرة في زيارتي الأولى فتدخل القلب وتسكن فيه، تشارك معشوقاتي الأربعة سكن القلب، فتأخذ حيزها بجوار رام الله وعمّان، بغداد ودمشق، وكنت قبل أن أحظى بزيارتها ولقاء الحب والحلم، أقول دوماً لأصدقائي وأبنائي: مصر كانت وستبقى قلب الأمة وتاريخها، عبق الحضارة والتاريخ، الفن والأدب، تفرد جناحيها يمنة ويسرى، فيشكل الوطن الممتد أجنحة الحلم والصقر المحلق.
حين كنت أمتطي مركب النيل متأملاً جماله وأنا في عبابه، التقط بعض من صور الجمال، كانت روحي تحلق، كنت أرى فيه وجه طيفي الجميل يفرد شلال شعره على ضفتيه، كانت روحي تستمع لعزف التاريخ الذي مر من هنا، يعزف أنغامه على القيثارة المصرية الفرعونية القديمة، يغني ويقول: يا ضفاف النيل..، حتى أني تمنيت لو استمر المركب الذي يحملني برحلته أبداً لا يتوقف.
التجوال في شوارع القاهرة له نكهة خاصة لمن لا يعرفها ويلتقيها لأول مرة، فأخترت ميدان طلعت حرب ليكون نقطة البدء، في تجوالي في الشوارع والمدينة سيرا على الأقدام، لمعايشة المدينة ومعرفتها، للتحليق بما تحمله المباني من علائم عبق تاريخها وحكاياتها، فأقف اتأمل المباني وخاصة التي تحمل بعض من القدم، أشعر بجدرانها ، نوافذها الجميلة التصميم والابداع، شرفاتها تهمس لي بحكايا وقصص كانت شاهدة عليها، فالجمال في المكان هو أن يروي لي الحكاية، أحادثه وأهمس له ويهمس لي، وأعبر عن همسنا برسمه بالكلمات، لذا حين تجولت في كل الشوارع المنبثقة من ميدان طلعت حرب، ويشكل الميدان نقطة لقائها المركزية، اتجهت الى ميدان التحرير ومن هناك الى باب اللوق واخترت مقهى شعبي بسيط وجلست للراحة واحتساء القهوة والكتابة، التعبير عن المشاعر التي تملكتني في جولتي الأولى المنفردة في شوارع القاهرة.
وحين تجولت سيراً على الأقدام على ضفاف النيل، لم أشعر بالتعب أبداً، كنت أجلس في الأركان والدروب، أخرج عدسة التصوير والتقط بعضاً من الصور، أسجل في دفتري بعض من مشاعر الجمال، فهو النيل وسحر القاهرة، عبق النيل يحمل في أنفاسه التاريخ، الحب، العشق، الجمال. وبقيت أجول حتى العصر حتى أنهكني التعب، فالتقيت بخالد وذهبنا الى مطعم متميز جميل الشكل متميز بالخدمة، مطعم اسمه فلفلة قريب من ميدان طلعت حرب لأتناول فيه أكلة مصرية جميلة وطيبة، مطعم له ذكرى في القاهرة وجمال، متميز بتصميمه الشرقي الداخلي وإسمه، لنغادر ونجول قليلا في الشوارع القريبة، ثم يغادرني الرائع خالد في الميدان ليكون لي لقاء مع انسانة رائعة لم التقيها منذ سنوات طويلة، اتصلت بها وأصرت على دعوتي لتناول القهوة في أحد الأماكن الجميلة، لألتقي بعدها بكاتبة فلسطينية تكمل دراستها في القاهرة، تجمعني بها مشاعر أبوية وصداقة لطيفة، فيكون جلوسي الأول في مقهى جروبي الشهير، لألتقي بعدها عدة أصدقاء من زملائي الكُتاب.
في اليوم التالي وهو اليوم الثامن عشر من آذار كنت على موعد مع إنسان رائع ومتميز، تعارفنا في رام الله وتصادقنا خلال مهمة اعلامية له، كان لقائي المتميز مع الاذاعي ومقدم العديد من البرامج في صوت العرب، الصديق والأستاذ يحي حسن، لقاءٌ حار بعد عام كامل لم نلتقي فيه، وكنت حين ودعته في رام الله والتي لم أكن أستطيع مغادرتها منذ عشرسنوات، قد قلت له: لقائنا القادم سيكون في القاهرة، وأستغرب عندها من قولي وأملي أن أحقق الحلم وأزور القاهرة رغم كل ممارسات الاحتلال وحجب الهوية عني، وحين اتصلت به من القاهرة وقلت له: صديقي يحي صباحك أجمل من القاهرة، شعرت به يطير من الفرح، فكان اللقاء الحبي الأجمل وبرنامج في غاية الروعة رتبه لي، فزرنا مجرى العيون ترافقني عدسة التصوير في كل نقطة نمر عليها، فتأملت هذا البناء الممتد ويحمل عبقا من تاريخ وجمال، والذي كان يحمل المياه ويوزعها للمناطق على جدران حجرية ضخمة، تحمل في أعلاها مجاري العيون وتحتها قناطر جميلة الشكل والتصميم، لنكمل الطريق إلى القلعة التي تحمل شهادات لا تتوقف عن سحر هذه المدينة، شهادات عن تاريخها، فوقفت بدهشة اتأمل نواحي القلعة قبل أن أجول فيها برفقة صديقي يحي حسن، فشعرت بالتاريخ يندفق شلالا أمام عينيّ، وفي هذه اللحظات كان الصديق الغالي جمال شحاتة يتصل من الاسكندرية وتحادثني روحه عبر الكلمات، ويتحدث مع يحي الذي لم يلتقيه ويوصيه عليّ، فزادني من حب مصر حباً وحروفه تندفق من روحه.
بعد أن تجولنا في شوارع القلعة كنا ندخل المتحف الحربي، وفي ساحته كنت أعانق طائرات شاركت في حرب تشرين وبعض من آليات ومدافع، فأعادتني إلى لحظة من لحظات المجد المعاصر القليلة، فعادت بي الذاكرة للبطولة والتضحية التي أثبتت قدرة المقاتل العربي لو أجادت السياسة دورها ولعبتها، وتذكرت دمشق التي كنت في إبان الحرب فيها، وأصدقاء استشهدوا وروت الأرض دمائهم، فترحمت على الشهداء جميعاً، فهم كانوا وسيبقون أكرم منا جميعاً، واتأمل المدافع القديمة فأرى فيها إشراقة تاريخ وذكرى أجداد قاتلوا وناضلوا، وأسمع المدافع في صمتها تصرخ ألماً على صمت المدافع من أحفادها، والأوطان تغتصب والقدس تأن الماً، والمدافع صامتة وشعب يذبح، وإحتفالية ناقصة بقدس عاصمة للثقافة العربية، والقدس محرومة منها، والعشرات إن لم يكن أكثر حرموا من التعبير عن انتمائهم للقدس.
أجول المتحف الحربي الذي تروي كل زاوية فيه قصة وحكاية وتاريخ، فيتمازج الألم مع الفرح، والماضي مع واقع مؤلم، والحلم مع المستقبل، فنغادر المتحف بعد جولة طويلة لنعانق آثار مسجد قلاوون، فأشعر بكل حجر من الحجارة، بكل زخرفة بقيت، بالمآذن والمنابر، تروي الحكاية من جديد، تحلم بالآتي والحلم، ليحضننا مسجد محمد علي الكبير، فأصلي تحية المسجد كما اعتدت في كل مسجد يضمني في رحابه، فأجول بين الباحة والمسجد أستمع لحكايات التاريخ وروايته، لهمس الأجداد وألمهم على ما وصلنا إليه من حال، ومن ساحة خلف المسجد تعانق روحي القاهرة من هذا الارتفاع للقلعة، فلا أترك زاوية بدون صورة، لنخرج باتجاه مقراتحاد كتاب مصر، فأسعد أن يكون للاتحاد مكانا في القلعة وقاعة ندوات وساحة احتفالات، فتتمازج الثقافة والكتابة والشعر مع عبق التاريخ وحكايات من سلف، فتشكل قاعدة لحلم مستقبلي نحلم به، فنغادر القلعة بعد التجوال الطويل لأعانق رحاب أخرى من رحاب القاهرة مع صديقي يحي وصوت العرب من القاهرة، فأهمس لرام الله وعمّان وطيفي: نعم إن سحر القاهرة لا يقاوم.
صباح معبق بسحر القاهرة، تجالسني رام الله وعمّان وتنضم اليهما بغداد ودمشق وطيفي، نتسامر مع القاهرة في صباحها الجميل، نحتسي القهوة العمّانية الجميلة التي قدمتها لنا أحلام نحلمها معاً، نستمع لشدو فيروز:
" فوق هاتيك الربى في صفاء مقمر، ردد الليل ندائي يا حبيبي أنت لي، فوق هاتيك الربى في نعيم مسكر، رجّع الطير غنائي لحنين الجدول، أنت لي أحلى أماني و أحلام شبابي، أنت لي شوق البوادي المنسيات العذاب، أنت لي عمر الندى في الربيع المزهر، أنت لي فيض الهناء و صفاء المنهل".
صباحكم أجمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق