الاثنين، مارس 16، 2009

كوابيس

خالد ساحلي

استيقظ مرعوبا على إيقاعات المنبه، أسكته بضربة من قبضة يده ثم نزع الغطاء من على جسمه ومدّد ذراعيه كهر. كان كل عضو في جسمه يؤلمه كأنه صارع ثيرانا في نومه و الحقيقة أنه يقاتل خلقا كثيرا ويهرب من حيّات وزواحف كثيرة في كوابيسه. الأشباح ذات الوجوه القبيحة المرعبة تلاحقه ولا تشفق عليه ، أصواتها مجلجلة حتى أنه يتعرّق بسبب صورها المهولة ثياب نومه المبللة تلتصق بجسمه النحيل ، تظهر عظامه يمكنك عدّها. يصيح فزعا بأعلى صوته فيوقظ كل نيام المنزل. يقرؤون له آية الكرسي و المعوذتين. يهدّأ أخاه الأصغر من روعه دائما

ــ " سمي الله وألعن الشيطان، عد للنوم سيحفظك الرب "

هو يقرأ الأذكار والآيات، ما نساها يوما أبدا ومع هذا الكوابيس لا تفارقه. بصراخه يفزع كل ليلة إخوته الذين سئموا هذا الوضع. هذا الصراخ الذي يهز الطمأنينة في أغوارهم. هناك من يسقط لإثره من على سريره. الأخطر حين يفزع في نومه يركض هرعا من غرفة إلى غرفة.وأحيانا يضرب الجدار بقبضة يده أو أي شيء يصادفه متصورا إياه كابوسه العدو. ــ إنه اللاوعي الذي يمنحنا القدرة على اختزال الزمن و الشجاعة معا.ــ هذا الأمر جعل إخوته يموتون هلعا يبدون قلقهم لوالديهم . أخاهم اعتبروه خطرا عائليا. مع هذا لا يستطيعون إذاعة مرضه للجيران أو لأبناء عمومتهم و أخوالهم. حتى الجيران من حين لآخر يسألون الإخوة عن تلك الضوضاء و الجلبة ويندهشون لها. لا يجد الإخوة حجة لإخفاء الحقيقة إلا التذرع بمجموعة خلافات تحدث أحيانا بين الإخوة ليلا.
الكوابيس لا تفارقه ليلا، أما في النهار فإنه فطن ومع هذا تتبدى له الحيّات تتبعه لأي مكان يقصده، يتوجس بمباغتتها له، بانسلالها من حائط ما فجأة أو تأتيه من الخلف. ثعبان الكوبرا الذي يشغل كثيرا فضاء هلوسته.
يرجع للنوم بعدما يؤشر المنبه من جديد على ساعة أخرى. ربما هذه المرة سيفلت من الكوابيس بتجريب الوصفة العلاجية لطبيبه النفساني الذي شخّص مرضه أو هكذا يبدو انه تمكن من تشخيص حالة مرضه.
يستيقظ فزعا مرة أخرى على صوت المنبه الذي ينط صخبا. بضربة من قبضته يسكت المنبه من جديد، وفي كل مرة يرن المنبه ينخطف إخوته فزعا. ما عساهم يفعلون وأخاهم يعاني الألم. يلزمهم الصبر والصبر لا غير. حين ينام فهم نيام وحين يستيقظ لصوت المنبه فمستيقظين معه حتى الصباح الباكر.
كانت أول ليلة للعلاج المعيّن من طبيبه، تكررت الليالي وزاد ت معاناة الإخوة إضافة إلى معاناته هو. كان إخوته الثلاثة ينتقلون لأماكن عملهم وعيونهم مغلقة. حين فتحها تراها محمّرة الحدقة تضيق فيها أكثر، تنغلق لنفسها دون إرادة كمثل مصباح سيارة ينطفئ لنفاذ البطارية. حتى أن أخاه أسعد تضاءل مردوده في الورشة . هدده صاحبها بالطرد فقد صار خاملا كسولا... لا طاقة له.

ــ " أسمع يا أسعد قبلت أعذارك الكثيرة لكن هذه المرة تأكد سآتي بآخر يحل محلك، شهر بكامله و أنت على هذه الحالة"
ــ " آسف يا سيدي حقا لكن هناك ظروفا....
ــ " لا ينفع الأسف وحده، يلزمك إثبات حسن نيتك بتفانيك في العمل "
ــ " إنها ظروف عائلية مزرية"

لا يستطيع أسعد أن يتحدث عن مرض أخيه خاصة و أخوه معروف في هذه المدينة كطابع بريدي.
لا يستطيع أسعد وصْفُهُ المعاناة بأنها تنتشر على امتداد أيامنا و أننا جميعنا معرضون لهذه الكوابيس، معرضون بأن تكسّر لحظات راحتنا، بهجتنا، إيماننا، مشيئتنا لتلحق بسلسلة مشيئة القدر. بأنّ الإنسان تتعقبه مستجدات على ضوئها يصير في غير إرادته. هل يخبره أن لا شيء في الدنيا ثابت على حال. لا يمكنه الإفصاح بأن أخاه لا يستطيع الانتصار على خوفه ، لا يثق في نومه ولا في صحوه ، أنه أسير الضلال وبأنه كره حتى إرادة البقاء... حتى الظلال و الأطياف تخضع لتوزيع فائق العناية لتُعرف لتبقى لتدوم، حتى الكوابيس تتقاسم أيام حياتنا والداعي للبحث عن علتها نوع من الهروب عن واقع قاهر مفروض فمهما كانت العلة يبقى الإنسان عالم معقد داخل نفسه وعند الآخرين.

ــ " لا يهمني ظروفك يا أسعد بل يهمني ظروف ورشتي، أن أحافظ عليها وعلى هؤلاء العمال، يهمني أن لا تغلق أبوابها، أسمعتني؟"

و الحق أن صاحب الورشة العم فرحات كما ينادونه شكّ في أمر أسعد بتعاطيه المخدرات أو الحبوب المنومة أو عقارا سحريا يجعله ينام واقفا كذا مرة. لم يستطع أسعد أن ينبس بننت شفة. يعرف عمي فرحات لم يظلمه يوما لكنه قال فقط الصواب. أسرّها في نفسه و لم يبديها حقيقة .

ــ "يا نعمة النوم... الصلاة فقط خير منك".

المنوّر أخاه الثاني الذي يعمل نجارا تمكنت الآلة من التهام ثلاثة رؤوس أصابعه والحمد لله أن يده لم تبتر بكاملها، توقف عن العمل لأجل أن يتعافى. عطلة مرضية بشهرين ليلتئم جرحه . أعوانه دهشوا كيف تمكن منشار الآلة اللعين من سرقة أصابعه، وهو الخبير. لطالما حفّزتهم جرأته على المضي للعمل دون رهبة من الآلة التي تدور ما يقارب الثلاثة مائة دورة في الثانية. قال المعاونون للمنوّر

ــ " لحظنا تعبك في الأيام الأخيرة لكن ما ظننا هذا سيحدث"
ــ " هو المقدر يا جماعة، هو المقدر، ولا ينفع الحذر مع القدر"

قيه قيه ثم ضحكة مصطنعة" ههه ههه". لم يكن المنوّر ليفضح سر أخيه الذي يعاني الكثير ويكادون يفقدونه بفقدان عقله، لا يمكنه البوح بأن أخاه يصرخ ويسحق كل شيء يجده أمامه و أحيانا يرمي بنفسه، المسكين جسمه صار نيليا من أثر ما يتعرض له من صدماته الكابوسية.

أخوه الثالث فتحي أستاذ الموسيقى صارت أعصابه لا تتحمل سماع أصوات الآلات الموسيقية نفسها، صار مزاجه عصيا لا يفهمه طلابه. صار كمجنون يرمي بالطلاسة أو بالطباشير كل طالب يتكلم حين إلقاء درسه. تعدى الأمر حد الشتيمة و السُباب. شكوه لمدير الاكمالية وبّخه وتوعده بخصم و تقرير ومجلس تأديبي أيضا.

ــ " اسمع يا فتحي لا أدري ما غيّرك لم تكن هكذا البتة، مشاكلك عالجها خارج جدران المؤسسة، نحن أسرة تربوية قبل التعليم أتفهمني؟ "
حتى مدير الاكمالية كان محقا فيما قاله.

كانت أعصاب جميع من بالدار تنهار عن آخرها. وجدوا الحل في كراء بيتا آخر حتى لا تضيع حياتهم مع حياة أخيهم. ليسوا مرغمين على عيش مرضه. رفض الأب و الأم هذا الاقتراح . لكن توصل الجميع لحل مقبول وشبه إجماع.
قصدوا طبيبه، أطلعوه على ما يلاقونه و اقترحوا عليه

ــ" حضرة البروفيسور نتعرض لضغوطات نفسية كبيرة قد نصير جميعنا مرضاك ، تكاد تضيع أوقاتنا بل أكثر، أنا فقدت عملي وأخي فقد أصابعه، أخانا الآخر تحول من فنان إلى مجنون يتعاط المهدئات فقد عقله، جئناك عسى تجد لنا حلا"
ــ " الحل..... اصبروا"
ــ" الحل يا بروفيسور إدخاله المصحة النفسية الحكومية في العاصمة"
استطاعوا إقناعه وأدخل المسكين المصحة النفسية.

وصفة العلاج لا زالت هي نفسها، يؤشر المنبه كل ساعة حتى يألف الوضع فيتمكن بعد شهور من الاستيقاظ دون منبه. و بذلك يجعل فصل في نومه وهذا بدوره يجعل فصلا لكوابيسه.
الكوابيس لا زالت تطارده و في أثناء الساعة نفسها، استعصى علاجهم له. أخرج من المصحة بعد شهور.

لمّا كان راجعا ذاك اليوم لمنزل العائلة، كان يفكر في الحالة التي وصل إليها، هذا الابتلاء الصعب الملم به.. حيوانات تجري ورائه تكاد تنقضّ عليه، الزواحف يتخيلها تخرج من كل مكان، من زوايا الشوارع من البالوعات من كل مكان يقف فيه، على أي شاشة يتفرج عليها، الثعابين تتجول في المدينة بحرية هكذا يعيش كابوسه داخله.
في عودته للمنزل فتح هاتفه النقال، أخرج رقم صديقه دكتور الترجمة وقد كان جاره ورفيق صباه، كان الهاتف يرّن ولا مجيب، أعاد الكرّة و هذه المرة لصديق قديم آخر لا مجيب، لصديق ثالث لا مجيب. أحسّ بضيق يقفز لقلبه، لا شك الجميع علم بدخوله المصحة وعلموا بمرضه، علموا بنفسه المعذبة التي لا ترتاح أبدا. يتغير الناس وتبقى ذكرياتهم فقط وذكرياتهم هي ما تألم. دخل المقهى طلب فنجان قهوة حتى يصحو أكثر، أقلب الفنجان دفعة واحدة أفرغه في جوفه ثم انصرف مهموما مطأطئ الرأس يفكر في حال الدنيا و شعور الإخوة والخلان.
كانت صور الحياّت و الثعابين و الزواحف لا تغادر عقله. لا علاج له إلا الصبر وهذا خياره الوحيد الذي يملكه. لم يعد ممكنا تحمل الأمر.
في طريق عودته مر على السوق في المقلب الآخر من المدينة الذي يتهرب منه دائما ومن وقت صغره. رأى الثعابين في قفة دائرية من القش موضوعة أمام شيخ طاعن في السن يجلس القرفصاء ويمسك بناي ينفخه. اقترب من القفة أكثر، حتى صار فوق رأس عازف الناي، أراد وضع حدا لوهمه هذه المرة غير مبالي بخطر دنوه أكثر.
كان بعض المتفرجين يتابعون المشهد بانتباه و خوف متعجبين من إقدام هذا المتهور لاقترابه من هذه الثعابين المخيفة المائلة مع نغمات الناي، مد يده فوق القفة وصاح عليه الشيخ الطاعن في السن بعد ما رمى نايه من يده.

ــ " ويلك احذر"

لكن هذه المرة كانت الأفاعي حقيقية، لدغته بعض لدغات حُمل على إثرها إلى مشفى قريب على جناح السرعة. علمت العائلة و الجيران و الحي والمدينة ما أصابه. لما رجع للمنزل، و اللدغات لا زالت تؤلمه و الحمى تعصره، كان الليل قد حل والإخوة كلهم مستاءون، لكن هذه المرة رقد حتى الصباح دون أن يسمعوا له صراخا وخيم هدوءا على الحي تلك الليلة لم يعرفوا مثله.

ليست هناك تعليقات: