د. عدنان الظاهر
القسم الثاني
(( كتاب أرض الحكايا / منشورات نادي الجسرة / قطر 2007 )).
تمهيد لا بدَّ منه /
قرأت يوماً بحثاً مطوَّلا للدكتورة سناء كامل شعلان منشورا ً في موقع
( عود الند ) تناولت فيه موضوع النساء في كتاب ألف ليلة و ليلة . مذ ذاك إستنتجتُ أن القاصّة سناء جدَّ متأثرة بما حوى هذا الكتاب من خيال قصصي مثير في أغلب جوانبه . مع فارق كبير من بين جملة فوارق : تضمنت قصص ألف ليلة وليلة أحاديث جنسية وألفاظاً بذيئة ً سوقية وجنساً مكشوفاً رخيصا ً لا يسيغه الكثير من الناس . في حين تناولت سناء في كل ما كتبت موضوعي الحب والجسد تناولاً راقياً نابعاً في الأساس من قناعة وفلسفة أصيلة مؤداها أنَّ الحب والجنس هما في صلب الحاجات الطبيعية للإنسان السوي ذكراً أكان أم أنثى . لا من حياة على كوكبنا الأرضي دون ممارسة الجنس بين الذكر والأنثى وذلك أمر مفهوم . قصص ألف وليلة إستهدفت كما هو معروف التسلية والمجون ودغدغة أبسط المشاعر والنزوات الجنسية وخاصة في صفوف عامة الناس من كسبة وحمالين وتجار وحرّاس ومن لف َّ لفهم . بينما كرّست سناء قصصها ولا سيما القص ٌّ الخرافي منها لخدمة الحب حدَّ تقديسه ورفعه إلى مصاف العبادات . تكتب سناء للمثقفين والمتنورين وما يسمى بطبقة الإنتلجنسيا العالية ... تكتب لهؤلاء مع إصرار يثير العجب لا يضاهيه إلا الإيمان ، الإيمان بالدين والعقيدة ، تكتب لتنير الطريق وتفتح العيون وتشرح الغامض وتيسّر المستعصي على الفهم والإدراك . إنها كاتبة ذات رسالة جليلة الأهداف خطيرة الشأن واضحة النوايا والمقاصد. إنها قائدة بل ونبية جريئة في وضع كأوضاعنا الراهنة التي تفهمها سناء كل الفهم، لذا فإنها تناور أحياناً وتستخدم الرمز والخيال الخرافي من أجل أن تصل إلى لب موضوعها ومركز أفكارها وما تحمل من أهداف نبيلة جليلة الشأن. نعم ، سناء نبية وسناء زرقاء يمامة عصرنا الراهن . لم تقاتل بسيف ( جان دارك ) لكنها قاتلت ولم تزلْ بفكرها الثاقب وذكائها الإجتماعي وسلامة فطرتها وإنسجام جسدها وإستجابته لوظائفه ومهامه الطبيعية التي خُلِق فيها ولها ... فأحسنت البلاء وأجادت فيما كتبت ونشرت فأخذت مكانها ومكانتها التي تستحق بجدارة بين أشرف وأنبل المناضلات والمناضلين في سبيل إعلاء شأن ومقام الحقوق المدنية وأحوال المرأة العربية الشخصية ومساواتها بالرجل العصري المثقف لا المستثقِف. رغم تحفظ سناء وتدينها العميق ... أثبتت للعالمين قدرات لا حدودَ لها في إقتحام هيبة الممنوعات وخرق سُتر المحظورات وهتك سخافات المحذورات بشجاعة الذين وهبوا حياتهم وأنفسهم للدفاع عن مُثل الإنسانية وأحلام وحقوق البشر في أن يمارسوا أنفسهم كما وجدوها وما جُبلوا عليه من طبائع . نعم ، تمضي سناء شاقة ً السُحب َ السودَ كضوء البرق الدائم الذي يجوب الأكوان والمجرات مجترحا ً الخوارق بما تملك من مواهب في فن الكتابة والسرد وما لديها من فهم عميق للتأريخ والنفس البشرية وحاجاتها الطبيعية . إنها كاتبة شجاعة وإنْ جنحت أحياناً للخرافة وعالم الجن والشياطين وقماقم سليمان الحكيم وسواها مما قرأنا في كتاب ألف ليلة وليلة . مُبرر ٌ هذا الجنوح لأنه جنوح تُقية وتورية إضطرارية لكي تمرر ما لديها من أهداف خطيرة الشأن لا يتقبل ناس اليوم مواجهتها الصريحة ولا يجرأون ولكنهم قد يقبلون مثل هذه المواجهة في حال ٍ ووضعيات قد تشابه حالات ساعات الحلم والوهم والخدر. يهربون من عالم عقلهم الواعي تحت نور الشمس إلى ظلام سراديب ودهاليز ومغارات وكهوف عقلهم الباطن . يتقبلون في الباطن والسر ما يرفضون في العلن وتلكم إزدواجية مقيتة رافقتنا منذ أقدم الأزمان . يشربون الخمور ويمارسون الزناء سراً لكنهم يحرمونها في العلن . حتمَ في بعض الأحيان هذا الواقع على كاتبتنا المبدعة سناء أن تنتقل بنشاطها الكتابي وسفر رسالتها الإنسانية من الصراحة العارية إلى اللف والدوران وإصطناع الخرافة ونسج أخيلة طريفة تحاكي فيها ما قرأت وإستوعبت في كتب الخيال القصصي ولا سيما كتاب ألف ليلة وليلة . مع ذلك ، ورغم المداورة والمناورة الذكيتين يتلمس القارئ الفطِن أهداف سناء الحقيقية ويضع عليها اليد ليكتشف جوهر هذه الإنسانة الشابة التي تحمل في صدرها إقدام مشاهير مصلحي الأمم وثوارها وتحمل في روحها ما حمل الأنبياء والرُسل من رسالات سماوية ... لكنَّ رسالة سناء رسالة عصرية نبتت في زماننا هذا وأخذت منه الكثير وعكست الأكثر ولا من عجب فإنها نتاجه وخلاصته الأمينة .
سأتناول مضامين أربع من قصص سناء كامل في كتاب ( أرض الحكايا ) محاولاً بذل جهدي في التركيز على مفردات عنوان مقالي هذا : الحب / الجن / الخيال الخرافي . سنرى كيف عالجت دكتورة سناء قضايا بالغة الخطورة من قبيل رتابة الحياة في جنات الخلد ومهزلة سكون الزمن وهو أمر مستحيل ثم خواء الروح إنْ جُردت من التمنيات والأماني فهذه ليست جنات إنما قبور وموت وأموات فمن يطمح ترى بدخول الجنة ( قصة مدينة الأحلام ) ؟ ثمة َ مثال ٌ آخرُ على براعة سناء وقدرتها على إدانة وفضح الأجهزة السرية من أمن ومخابرات وإستخبارات وسواها من أجهزة سرية متعددة الأسماء والغايات والواجهات وكيف تحصي أنفاس الناس وتلاحقهم حتى في عقر بيوتهم . أعطت سناء هذه التشكيلات من الأجهزة السرية إسم البللورة ( قصة البللورة ) . أما في قصة ( الشيطان يبكي ) فلقد فضحت الكاتبة فساد البشر وإنحرافاتهم الخطيرة عن الجادة السوية حتى أصبحوا هم الأبالسة والشياطين فإختفى دور إبليس الشيطان إذ ْ لم يعد لوجوده من معنى فغدا يشكو أمام رب العزة ويتشكى ...[ أصبح عاطلاً عن العمل ] !! . قد يقول قائل إنَّ أهداف الكاتبة واضحة في هذه القصص فأضطر إلى القول : قد تبدو لك واضحة ولكني أؤكد لك أنك إن ْ دخلتَ عوالم وخفايا قصص سناء كامل فإنك لم تدرك منها إلا الأقل من القليل وما يطفو على السطوح من سراب وما يهيءُ لك خيالك الذي يعجز عن الغوص في لجج الأعماق السحيقة . بكلمة مختصرة : الدخول في عوالم قصص سناء دخول سلس سهل ولكنَّ المعضلة هي في الخروج منها بإستنتناجات صحيحة كما خططت الكاتبة لها وكما شاءت أن تكون . كتاباتها متعددة المستويات كثيرة الزوايا متشعبة الأركان منوَّعة المغازي لكنها تظل تدور حول محور واحد رئيس لا يفوت فطنة القارئ الجاد .
القصص الأربع هي :
أولا / ملك القلوب { حول الحب وقوته السحرية }
ثانياً / مدينة الأحلام { فردوس غير مرغوب فيه }
ثالثاً / البللورة { قصة بوليسية تدين الأجهزة السرية للحكومات
المعاصرة }
رابعاً / الشيطان يبكي { ذم الزمان الراهن وأهله وتدهور القيم } .
قصة " ملك القلوب "
لا أدري لِمَ إختارت دكتورة سناء رجلا ً مغربيا ً ليلعب دور رجل السحر الأسود الأعظم [ السحر الذي يحزن القلوب ويُدمي الأنفس ويفرِّق المحبين / صفحة 72 ] أي لاعب الأدوار الشريرة في حين أناطت بأحد تلامذته دور ووظيفة ساحر السحر الأعظم ، ساحر الأعمال الصالحة التي تقرِّب المحبين وتؤلف القلوب أي إنه رجل صالح من الأولياء ذوي الكرامات . لعب الساحر الصالح أدوراً رسمتها له سناء فنجح في طرائق ووسائل سحره وكسب أموالا ً طائلة تكدست في بيته المغارة . ولكونه رجلا ً وليا ً صالحاً طلب بحراً في مغارته فكان له ما أراد . جواهر وذهب في كل مكان من مغارته وحتى في قيعان البحر . خلاف هذا صاحب السحر الأعظم لم نجد أية فعالية شريرة لأستاذه المغربي خبير السحر الأسود . وضعتهما سناء أمامنا كقطبين متضادين طبيعة ً وتخصصاً . ملك خير وملك شر، ولكنَّ الفكرة العميقة في رأس سناء تقول إنَّ الخير يأتي من أو بعد الشر . أي بعبارة أخرى : لا من شر بدون خير ولا من خير بدون شر ، لا من ظلام بدون نور يسبقه أو يليه . ساحر صالح ذو كرامات تتلمذ وتخرج على يدي ساحر شرير لا يفعل إلا الشر والدنيء من الأمور . لقد شق ساحرُ السحر الأعظم عصا الطاعة على مربيه ومعلمه فقلب الظاهرة وجهاً لبطن ورأسا ً على عقب . صيَّر الأسودَ أبيض َ والشرَّ خيراً . أليس في هذه الفكرة حث ٌ وتحريضٌ للأجيال الفتية الناشئة على التمرد على أولياء أمورهم ومن هم أعلى منهم من مربين ومعلمين بل وحكام وأنظمة حكم ؟ معلوم أنَّ لكل جيل أحكامه وأوضاعه وقوانينه وحالاته ولقد أصاب من قال قديما ً (( ربوا أولادكم على غير عاداتكم فلقد خلقوا في زمان غير زمانكم )) . لم يلعب أمير السحر الأسود أي دور أمامنا على خشبة المسرح الذي أعدته سناء لنا كمتفرجين لكنه قام بزيارة مفاجئة صاعقة لتلميذه المنشق عليه آملاً أن يُشفي إبنته من مرض ألم َّ بها. هنا تصطاد سناء بؤرة الموقف وتفجر المشهد والمسرح والمشاهدين جميعا ً. وافق الساحر الصالح أن يُشفي علة إبنة معلمه الشرير أو أمير السحر الأسود ولكن ... بشرط أن يُشفي هذا ما في قلب التلميذ من علة . الخلاصة : همسَ ثم جاهر الساحرُ الصالحُ بنطق كلمتين لا أكثر في أذن الصبية العليلة { أنا أحبّكِ } فإنتعش قلبها وإرتفعت دقاته فتجاوب قلبه على الفور وشرع بدوره يدق وينبض بشكل طبيعي . الحب أو حتى كلمة الحب أحيت فتاة ً على وشك الموت فإنتقلت الحياة بالحب من قلب الصبية إلى قلب الساحر الصالح الذي عالجها بالطب النفساني وهو به خبير : الحب . الحب ينتقل ما بين القلوب فيشفيها من علاتها . إنتقلت الحياة من قلب إمرأة إلى قلب رجل فإنتعش الإثنان معاً ولكنَّ الأولوية تبقى للمرأة ... لقلب المرأة ... ففيه يحيا الرجال وفيه طبهم ودواؤهم أي حياتهم . أبدعت دكتورة سناء إذا كان هذا هو مرامها وهدفها في تخطيط وتنفيذ هذه القصة التي نسجتها من خيوط خيال خرافي صرف له قواعد وأسس في مجتمعاتنا هذا اليوم . فالساحرات والسحرة منتشرون من المحيط إلى الخليج وفي الغرب مختصون بقراءة الهوروسكوب والكف وفنجان القهوة. بدأت سناء من واقع موجود ( السحر عامة ً ) لكنها طورته كأرضية وأساس لكي يخدم جملة أفكار وأهداف عالية السمو مركزها وبؤرتها الحب . بنت خيالات طريفة ممتعة خرافية التفاصيل والمنعرجات فوق أرضية واقعية موجودة مألوفة . الحب هو شغل سناء الشاغل ، مذهبها ودينها وربّها الأعلى . الحب يُشفي المرضى ويحيي الموتى . هل سبقها أحد الفلاسفة في هذا المضمار ؟ كان المسيح يدعو للمحبة بشكلها العام ، كذلك تكلم نبينا في هذا الموضوع في حديثه الشهير ( أحبّ َ لغيرك ما تحبُّ لنفسك ) .
ثمة َ أسئلة تظل تراوح في رأس القارئ من قبيل : ما سبب إختيار الكاتبة لساحر مغربي ؟ هل أهل المغرب معروفون بهذه الصنعة ؟ أعرف أنَّ كثيرين من المغاربة والجزائريين كانوا يمارسون < صنعة الكيمياء > أي محاولات قلب المعادن الرخيصة إلى ذهب وكان من مشاهيرهم المغيربي والمجريطي ( مغاربي أندلسي منتسب إلى مدينة مدريد الأسبانية / مجريط = مدريد ) وكثرة سواهما . لقد تكلم إبن خلدون في مقدمته في هذا الموضوع وذم َّ هؤلاء القوم ووصفهم بالشعوذة والحيلة لغرض كسب المال الرخيص السريع . ثم ... ما سبب إختيارها لجبل ( قاف ) مقراً لأمير السحر الأسود ؟ ولا أحسب هذا الجبل من جبال المغرب . ثم ... لِمَ أعطت أستاذ السحر الأسود عباءة ً سوداء في حين أعطت تلميذه عباءة ً حمراء ؟ إذا كان اللون الأسود لعباءة المعلم يتطابق وينسجم مع طبيعة سحره فعلام اللون الأحمر لعباءة التلميذ الصالح ؟ قالت سناء في مطلع هذه القصة [[ ... البعض همس إنه لا يصلي أصلا ً ... همس فضوليون ضاحكون إنه على دين عجيب تدين به مَرَدة الجان ...إنه من ذراري الغجر وبقايا بني ساسان ... ]] . لا يصلي ومن بقايا بني ساسان أي إنه مجوسي يعبد النيران . فهل اللون الأحمر قرين الشر أو مجلبة له ؟ أم في هذا اللون شذوذ خاص ؟ أم لآنه مرتبط بالثورة والثوار منذ كومونة باريس وثورة أكتوبر البلشفية عام 1917 في روسيا القيصرية ؟ رغم ذلك كله ، ورغم كل هذه الدلالات والأطر الموحية منحته سناء صفات الخير وجلبه لأهله وإنه يُحب ُّ كباقي البشر حدَّ سقوطه عليلاً يشفى من علته لحظة شفاء من يحب . الحب في عرف سناء أقوى وأنبل من كل مثالب البشر وما نحسبه مثالبَ فيهم أو في بعضهم . إنه إنسان خيّر ما دام يرتعش قلبه بنبضات الحب . يصنع الخير للناس ودينه وتدينه له سواءً أكان مجوسياً أو بوذياً أو نصرانياً أو من أية ملة أخرى ودين ومذهب . هذه رسالة سناء ، رسالة أممية كونية .
قصة مدينة الأحلام
تعالج الدكتورة سناء في هذه القصة مسألة السأم من الرتابة في أنماط الحياة التي يتخذها البشر ديدناً ودأباً لهم . السأم والملل القاتلان في حياة سكنة جنات الخلد إذ يسكن الزمن ولا يتحرك فلا البشر يتقدمون في أعمارهم ولا يتغيرون . لا يكبرون ولا يهرمون ولا يموتون . كل ما يتمنون يأتيهم على الفور طعاما ً أو شرابا ً أو نساءً ... كل شئ متوفر مجاناً . شرابهم في الجنة من أنهار العسل واللبن والخمرة التي لا تُسكر المؤمنين . هل فيها كحول لا يؤثر في أعصابهم أم إنها خمرة بدون كحول ؟ أما الفاكهة فدانية قطوفها تصل الأفواه بمجرد التفكير والرغبة فيها ، أي تأتيهم طوعاً بالروموت كونترول . أما النساء فحدث ْ ولا حَرج ... كلهن أبكارٌ حورٌ عين ٌ بكاراتهن أبدية لا تزول ولا تتغير ولا تنبثق ... من نسيج خاص (( ضد الكسر )) !! . هل هذه حياة أم موت ؟ لا من طموح ولا من كد أو كدح أو عمل . التفكير معطل والحوافز لا وجودَ لها . نمط واحد لا يتغير . مسالة واحدة لم تُعالج بعد : هل ينجب سكنة الجنان بعد التناكح ؟ وهل هناك قابلات مأذونات ( حبوبات ) ومستشفيات للولادة ؟ مَن يقوم بمهمة توليد الحوامل ، أطباء أم طبيبات متخصصات أم أن الحوامل يلدن بالروموت كونترول بكلمة من مَلك خصي ٍّ [[ لكي يقاوم إغراء الشيطان ]] مختص بمهمات التوليد والقبالة ؟ هل هذا الخصيُّ مخوَّل في أن يظهر على عورات النساء ؟ أم إنه [[ ليس من ذوي الأرَبة ]] ؟ لا أريد هذه الجنة . لا أريد هذه الحياة . ليست الحياة نعيماً دائماً ولا شقاء ً مقيماً ، إنها بين بين . دوام الحياة في الصراع بين الخير والشر ، بين النعيم والشقاء ، بين الدين والدنيا ، بين الحياة والموت . السأم والرتابة والملل أعداء سناء الألدّاء وإنها لعلى حق كل الحق . هل تستطيع أن تقولَ سناء ما قلت أنا قبل قليل وهي في عمان ؟ كلا ، بالطبع كلا . فليقله غيرها تطوَّعاً . سبق الفيلسوفُ نيتشة القاصة َ الذكية َ سناء كامل فعالج هذا الموضوع في كتابه
" هكذا تكلم زرادشت " معالجات شتى ساخرة قال في بعضها [[ إنَّ الله عبارة عن إيمان ينكسر به كل خط مستقيم ويميد عنده كل ُّ قائم . فالزمان لدى المؤمن وهم ٌ وكل فان ٍ في عينيه باطل وخداع ... كل هذه التعاليم تقيم الواحد المطلق الذي لا يناله تحوّل ولا تغيير / ص 112 ]] . إذا كان الله نفسه لا يتغير فكيف تتغير أحوال وأوضاع وزمان جناته وسكنتها من عباده المؤمنين الذين كانوا على الأرض مؤمنين ؟ هل يظلون هناك على أنماط إيمانهم الأرضي أم أنهم يتبنون في الجنة أشكالاً أخرى من الإيمان ؟ ليس في الجنة تحديد ٌ لعدد الزوجات ولا قواعد للطلاق أبداً لأنه لا وجودَ له أصلاً ، أي إباحية جنسية مطلقة ( تعدد أزواج وتعدد زوجات ) كما كانت أحوال البشر في الأزمنة السحيقة الغابرة أو كما هو عليه واقع الحال اليوم بين الحيوانات . لا كلامَ عن المواليد الجُدد ولا عن مدراس وجامعات وثقافة وألعاب رياضية وغيرها من الأنشطة الإجتماعية المعروفة على الأرض . خدر وكسل وخمور وآنية من ذهب و ( سكس ) وإتكاء على أرائك من سُندس وإستبرق وتحيتهم فيها سلامٌ . لا دين في الجنات العالية ولا من عبادة ولا حج ولا زكاة ولا وضوء ولا صلاة . أي كفر وإلحاد وتجديف !! الدين أرضي لا يصلح إلا لأهل الأرض . أين يستحم الرجال بعد مضاجعتهم لحور العين وأين يغتسلون الجنابة وبأية مساحيق غسيل وتنظيف وصوابين ؟ ليسوا بحاجة إلى الإغتسال ، الجنس في الجنة عمل طهور لا يتنجس منه ممارسوه . جنس خاص مغلف برقائق الألمنيوم وموانع الحمل ( الكوندوم المطاطي ) . هذه هي الرتابة القاتلة التي تعانيها سناء كامل وتحذرنا من عواقبها المميتة . ليس لنا إلا حياة واحدة نحياها ثم نفقدها بالموت . جناتنا وجحيمنا على أرضنا وليس فوق رؤوسنا . نساؤنا على الأرض هنَّ الحور العين ، نكتفي بواحدة منهنَّ إليها نسكن وهي َ لباس لنا ونحن ُ لباس ٌ لها فهي الجنة وقد تكون النار أحياناً !! أقتطف للقارئ الكريم بضعة جمل مما قالت سناء في مدينة الأحلام ، ولا يختلف ما قالت عما قلتُ قبل قليل [[ ... لكن ماذا بعدُ ؟ لم يعدْ تحقيق الحلم بمستحيل ولا تجديده بممنوع ، ولا استبداله بمرفوض . كل شئ كان موجوداً حتى المستحيل . ولم يعد هناك معنى ً للحياة ولا للزمن ولا للعمل . بل لم يعدْ هناك معنى للوجود . وغرق الزمن في رتابة لم يُعرف لها مثيل ولا لسلطانها حدود . وغدا حُلم البشرية أنْ تجدَ حُلما ً لا يتحقق لكي تلهثَ وراءه باشتهاء . وأخيراً شعر البشرُ بأنَّ مدينةَ الأحلام قد حطمت أحلامهم وحرمتهم من متعة ممارسة التمني ومن دبيب سعادة الجري وراء الأحلام ... وفي صوت واحد ومن جديد تمنى البشرُ أنْ تختفي مدينة الأحلام ]] . هذا هو حال الجنة الموعودة ، مدينة الأحلام . مدينة أحلام سناء الميؤوس منها قد نفهمها على أنها مدينة الفارابي الفاضلة أو جمهورية أفلاطون أو حلم البشرية في قيام نظام سياسي ـ إقتصادي ـ إجتماعي عادل خالٍ من الطبقية والطبقات وإستغلال طبقة أو فئة لأخرى . وربما أختلطت لدى سناء هندسة بناء مثالية مدينتي أفلاطون والفارابي بما عاصرت من أنظمة حكم إشتراكية طبقت النظام الإشتراكي لعقود طويلة من الزمن ثم كانت شاهد عيان ٍ على سقوطها المروِّع الذي أدار عقول البشر !!
قصة البلورة
قلت إن َّ هذه هي قصة بوليسية أحداثها مزيج بين الحلم والواقع ، بين الحقيقة والخيال . ما دور الخيال الذي قد يبدو عاجزاً أو تعجيزياً في رسم وتتبع أحداث القصة ؟ إنه يتساوق بالتساوي مع واقعية الكثير من تفاصيل وحيثيات موت البطل إنتحارا ً أو إغتيالاً . جرائم القتل والإغتيالات كثيرة ومعروفة والعجز عن كشف الجناة كذلك من المسائل المالوفة خاصة ً إذا كانت جريمة إغتيال سياسي فالفاعل يبقى مجهولاً مغيباً تماما ً كحوادث القتل بالسيارات التي لا تحمل أرقاماً أو تحمل أرقاماً مزوَّرة . أين العقدة المركزية في هذه القصة ؟ الأجهزة السرية التي تشكلها الحكومات المستبدة وغير المستبدة ( الديمقراطية !! ) تحت أسماء وعناوين شتى : أمن داخلي ، أمن خارجي ، مخابرات ، إستخبارات ، مخابرات القصر الجمهوري أو مخابرات القوة الجوية ، مخابرات الأمن الصناعي وغيرها الكثير . هذه الأجهزة الأخطبوطية التي تلاحق الناس وتحصي الأنفاس وتتدخل في أدق الشؤون الشخصية للمواطنين .. . تنصب أجهزة التصوير والتنصّت والرادارات في أمكنة سرية غير معروفة وغير متوقعة وفي كافة الأماكن حيث يتجمع الناس للفرجة أو الفرح أو للتسوق . إنها حقا ً تمثل دولة داخل دولة . وجدت الشرطة موظفا ً في أحد المصارف منتحراً وبجانبه قصاصة من الورق كتب بخطه فيها [[ إننا محبوسون دون أن ندري ]] . هل كان موت هذا الموظف إنتحاراً أم نتيجة حادثة قتل ؟ لم يستطع المحقق ضابط الشرطة البت في هذا الأمر رغم ما بذل من جهود وتحقيقات وإستجوابات وما جمع من وثائق ومستندات . نستمر مع سناء في قراءة أحداث القصة فنقتنع أنَّ حادث قتل أو مقتل موظف الحسابات في أحد المصارف ليس ذو أهمية سوى في أنه والحادث المأساوي نفسه قد لعبا دوراً ذا خطورة في مجمل تطور الأحداث سواء ً على صعيد السرد العام أو على الصعيد الشخصي لضابط الشرطة . نجحت سناء في جعل حادث موت موظف المصرف قضية فلسفية كبيرة الخطورة . لقد غيَّرهذا الحادث نفسية ومسلك الضابط وهو أحد عناصر قمع وإرهاب الدولة ... حوله إلى إنسان آخر مغاير ... من عنصر تهديد وعسف بيد الدولة إلى رجل مسالم يتعاطف مع الضحايا إذ إكتشف أن َّ القتيل أفلح وقد سرق مالاً من مصرفه في بناء حجرة سرية خاصة لا تنالها ولا تصلها عدسات كاميرات الفيديو المخصصة لمراقبة المواطنين . "البللورة " عاجزة عن الوصول . قال الضابط مخاطبا ُ نفسه [[ إذا ً على بناء هذه الغرفة أنفق صديقي المنتحر كل مدخراته ، يا له من شقي !!! أراد أن يملكَ ولو مكاناً واحداً على هامش الحرية . حوقل طويلاً ووجد نفسه يفكّر إنْ كان قادراً على أنْ يملك َولو مكاناً واحداً على هامش الحرية ]] . حدثت الإنعطافة الخطيرة في حياة ضابط الرجل وحدث التحول الجدلي ( الدايالكتيكي ) كما يقول الفلاسفة . إنقلب الضابط من عنصر إرهاب وإخافة وترويع إلى رجل مسالم يحس بعمق أنه هو كذلك ضحية النظام الذي يستخدمه لخنق أنفاس المواطنين . الجلاد مجلود ... الجلاد في نهاية المطاف في خندق ومصير واحد مع باقي الناس ... مع الضحايا . كتبت سناء [[ في اليوم التالي كان قد قدّمَ تقريره النهائي الذي أرفقه بإعتراف أحد زملاء المنتحر في العمل بإختلاسه النقود المنسوبة سرقتها إلى المتوفي . وفي طيه إتهام صريح للبللورة بدفع مواطن شريف للإنتحار بعد ممارسة أبشع وسائل القمع والتجسس عليه . لم يُناقش تقريره أبداً كما كان يتوقع ، بل عُلق عليه بعبارة سرّي للغاية ]] . فهم الضابط المحقق دوافع السرقة ... سرق المتوفى نقوداً لكي ينقذ نفسه من ملاحقة عيون جواسيس السلطة إذ إبنتى بما سرق غرفة سرية لا تطالها عيون ومخبرو وكتبة تقارير السلطة الحاكمة . سرق على أمل الخلاص من عسف وجبروت السلطان . [[ في المساء تسلّم الضابط قرار نقله إلى دائرة عسكرية أخرى في أقصى بقاع البلاد مُذيّلا ً بختم البللورة !! ]] . لا ناج ٍ من سلطة هذه البللورة ... لا من خلاص من متابعات الأجهزة السرية التي وصلت حتى إلى أحد الرجال المحسوبين عليها والخادمين في صفوفها . الكل مراقبون والكل يراقب الكل ويتجسس عليه كما كان حال العراق زمن حكم صدام حسين وحزب البعث . كيف كانت خاتمة هذا الضابط الشريف ذي الضمير الإنساني والحس العالي الذي تجاسر فقال الحقيقة وثبت في تقريره دواعي السرقة ولام البللورة ولم يلم القتيل ؟ [[ في الصباح وُجد الضابط منتحراً في غرفة نوم صديقه المنتحر ]] . لم يترك الضابط قصاصة ورق كما فعل المنتحر الأول مكتوب عليها { إننا مسجونون دون أن ندري } ... لأن هذه العبارة كان قد قالها رجل آخر منتحر كبير الأهمية [[ قيل إنه صاحب بللورة سحرية تتجسس على الناس وإنه إكتشف بمحض الصدفة أنه أيضا ً مسجون مع المسجونين الذين يطاردهم ببللورته مع فارق بسيط أنهم مسجونون داخل البللورة وهو خارجها ، لذا فقد إنتحر تمرداً على السجن أياً كان وترك بللورته لشخص لا يعرف عن لعنتها إلى أنْ عرف ]] . خدم الجلادين وأدوات بطشهم يفيقون أخيراً وقد أدركوا أنهم كذلك مراقبون وأنهم الآخرون ضحايا مَن خدموهم ... ضحايا ماكنة البطش الجهنمية . أبدعت دكتورة سناء في متابعتها لعملية التحول هذه خطوة فخطوة وحسب تسلسل منطقي تتداعى الحوادث خلاله وفق جدلية ثنائية السبب والمسبب . سناء لا تهدر وقتها وجهدها في كتابة زخارف وشكليات فارغة لا هدفَ إنسانياً لها كما يفعل الكثيرون والكثيرات من الكتاب والكاتبات . إنها تركز على الجوانب الإنسانية الصرفة وتعالجها بأساليب فنية راقية المستوى . ما كان أساس ودافع فكرة تحول الضابط المحقِق المستجوِّب إلى رجل يتعاطف مع ضحايا النظام ؟ كيف ولماذا شغلت هذه الفكرة حيزاً مرموقاً في تفكير وهموم سناء ؟ كيف إنتبهت إلى هذه الظاهرة وجوهرها تعاطف الجلاد مع ضحيته ؟ هل قرأنا شيئاً من هذا في التأريخ ؟ نعم ، تحوَّل قائد إحدى كتائب أمير العراق الحجاج بن يوسف الثقفي المدعو الحرُّ الرياحيّ من خصم وعدو ٍ للحسين بن علي قبيل واقعة الطف في كربلاء عام 61 للهجرة ... تحوّل إلى حليف له وقاتل مع مَن قاتل دفاعاً عنه وآل بيته حتى قُتل . لمثل هذه التحولات شروط تابعتها بذكاء سناء منها الظاهر الملموس ومنها الخفي المحسوس . سناء ضد أنظمة الحكم البوليسية الشمولية ... أنظمة التجسس على المواطنين وسجن أو إغتيال المعارضين منهم . قالتها من خلال حادث إنتحار ضابط شرطة يمثل واحداً من هذه الأنظمة .
قصة الشيطان يبكي
في هذه القصة مزج ما بين خيال الخرافة ورمزية واضحة المقاصد والمرامي إ ذ ْ تشفُّ بقوة ووضوح عن الهدف المركزي لمجموع القص الذي يطلع القارئ عليه . بدأت القصة بقمقم سليمان وشيطان مارد جبار يتمنى أن ْ لو سجنه سليمان هذا في قمقمه الشهير ولكن لماذا ؟ من يتمنى سجن نفسه وتقييد حريته وهو أمر مخالف لطبائع الأشياء ؟ إحتجاج ... يحتج الشيطان هذا على أمر لا يصدقه ... فلقد تحول ناس هذا الزمان إلى شياطين وأشرار فماذا تبقى له وما عساه أن يصنع بمواهبه الإبليسية وقدراته الخارقة وعلى مّن تنفق تجارته وألاعيبه وبقية مواهبه المجبولة منذ آدم فيه وقد خلقه ربه من مارج من نار وغيره من طين فانقلب الوضع ليجدَ نفسه قبضة طين طري والآخرين ناراً ؟ إنه عاجز عن الإيقاع بفرد واحد مما يرى من بشر وقد سبق له وأن ْ خدع وأوقع في حبائله سيدَ وأبَ هذا البشر . قصة فيها يأس غريب فقد طالما عودتنا سناء أن نستلهم العزم والقوة والتفاؤل في قصصها منها فعلام هذا الإغراق في نزعة التشاؤم الأسود ؟ ما زالت الدنيا بخير نصفاً نصفاً في أسوأ أحوالها وهذا حسبنا في هذا اليوم ونحن تحت مثل ظروفنا الراهنة . فقد الشيطان وظيفته فأصبح عاطلاً عن العمل يرى السجنَ أفضل من حياة البطالة . نقرأ بعض ما قالت دكتورة سناء بشأن هذا الشيطان ( المسكين ) الذي فقد قدراته في أن يوسوس في صدور الناس ويغريهم ويغويهم ويزين العصيان لهم والتمرد حتى على مشيئة خالقهم .
[[ ...ماذا حدث للبشر ؟ إنه الشيطان فكيف يغدو في أيديهم لُعبة ً خرقاء ترجو الخلاص والرحمة ؟ ألم تسمعوا عني ؟! أنا الشيطان ، أنا عدو الرب ، أين جبروتي ؟ ... تمنى من قرارة نفسه ـ وكاد يتمنى من أعماق قلبه إلا أنه تذكر أن ْ لا قلبَ له ـ أن يجدَ أحدا ً يُرثي له ، هو في حاجة إلى الحب ، نعم ، الشيطان لأول مرة ٍ عَبرَ تأريخه الوحشي يحتاجُ إلى الحنان حتى إنه فكّر َ في أنْ يقبِّلَ أعتاب َ عرش الرحمن ويطلبَ مغفرته ويقلب بذلك تأريخ الديانات كلها ]] . كيف يتذلل هذا العاصي الشقي العنيد فيتنازل أمام العرش ساجداً مقبِّلا ً وما تنازل قبل ذلك أبداً ؟ كيف ينحني وما انحنى يوماً قبلاً ؟ اليأس ... من إستعادة دوره والقيام بما خصّه ربّه ُ به من عناد ومشاكسة وعصيان مدني من غير أسلحة وقتال . لم يعلمه خالقه كيفية إستعمال آلات الحروب ولا غيرها من آلات . كلامه آلته وحجته في لسانه وهو بارع في إستخدام الإثنين معاً . مقاتل شجاع بالحجة والمنطق . في ذله وتنازله ثورة وإنقلاب خطيرين : قلب تأريخ الديانات !
في منهج سناء وفكرها وروحها الكثير من الثورات قد يستطيع القارئ الكشفَ عن كنه وطبيعة البعض منها لكنه يبقى عاجزا ً عن فهم وكشف أغلبها . نتابع ما قالت سناء عن هذا الشيطان المغلوب على أمره وقد هرم فبالت عليه الثعالبُ [[ ... كان شيطاناً عندما كان البشرُ بشراً ، لكنه الآنَ يجهلُ ما تراه سيكون بعد أنْ غدا البشرُ شياطينَ ؟ ... حاول جاهدا ً أنْ يجدَ له مكاناً في عالم الشر لكنه بدا تلميذا ً غرّا ً في جامعة عريقة ، لقد لهى الناسُ به وحار في ألاعيب شرّهم وعجب : أنى لهم كل هذا الشر وهو لم يلقنهم إياه ؟ ... شعر الشيطانُ بأن َّ زمنه قد ولى من دون رجعة وقد جاء زمن البشر الشياطين ]] .
هذه هي خلاصة وأصل محنة الشيطان : درس زمانه إذ إنقلب ناسنا إلى شياطين . إنتهى دوره فأصبح عاطلاً عن العمل يعيش على هامش (( المساعدات الإجتماعية )) مثل باقي اللاجئين المنتشرين في كافة أرجاء المعمورة !!
القسم الثاني
(( كتاب أرض الحكايا / منشورات نادي الجسرة / قطر 2007 )).
تمهيد لا بدَّ منه /
قرأت يوماً بحثاً مطوَّلا للدكتورة سناء كامل شعلان منشورا ً في موقع
( عود الند ) تناولت فيه موضوع النساء في كتاب ألف ليلة و ليلة . مذ ذاك إستنتجتُ أن القاصّة سناء جدَّ متأثرة بما حوى هذا الكتاب من خيال قصصي مثير في أغلب جوانبه . مع فارق كبير من بين جملة فوارق : تضمنت قصص ألف ليلة وليلة أحاديث جنسية وألفاظاً بذيئة ً سوقية وجنساً مكشوفاً رخيصا ً لا يسيغه الكثير من الناس . في حين تناولت سناء في كل ما كتبت موضوعي الحب والجسد تناولاً راقياً نابعاً في الأساس من قناعة وفلسفة أصيلة مؤداها أنَّ الحب والجنس هما في صلب الحاجات الطبيعية للإنسان السوي ذكراً أكان أم أنثى . لا من حياة على كوكبنا الأرضي دون ممارسة الجنس بين الذكر والأنثى وذلك أمر مفهوم . قصص ألف وليلة إستهدفت كما هو معروف التسلية والمجون ودغدغة أبسط المشاعر والنزوات الجنسية وخاصة في صفوف عامة الناس من كسبة وحمالين وتجار وحرّاس ومن لف َّ لفهم . بينما كرّست سناء قصصها ولا سيما القص ٌّ الخرافي منها لخدمة الحب حدَّ تقديسه ورفعه إلى مصاف العبادات . تكتب سناء للمثقفين والمتنورين وما يسمى بطبقة الإنتلجنسيا العالية ... تكتب لهؤلاء مع إصرار يثير العجب لا يضاهيه إلا الإيمان ، الإيمان بالدين والعقيدة ، تكتب لتنير الطريق وتفتح العيون وتشرح الغامض وتيسّر المستعصي على الفهم والإدراك . إنها كاتبة ذات رسالة جليلة الأهداف خطيرة الشأن واضحة النوايا والمقاصد. إنها قائدة بل ونبية جريئة في وضع كأوضاعنا الراهنة التي تفهمها سناء كل الفهم، لذا فإنها تناور أحياناً وتستخدم الرمز والخيال الخرافي من أجل أن تصل إلى لب موضوعها ومركز أفكارها وما تحمل من أهداف نبيلة جليلة الشأن. نعم ، سناء نبية وسناء زرقاء يمامة عصرنا الراهن . لم تقاتل بسيف ( جان دارك ) لكنها قاتلت ولم تزلْ بفكرها الثاقب وذكائها الإجتماعي وسلامة فطرتها وإنسجام جسدها وإستجابته لوظائفه ومهامه الطبيعية التي خُلِق فيها ولها ... فأحسنت البلاء وأجادت فيما كتبت ونشرت فأخذت مكانها ومكانتها التي تستحق بجدارة بين أشرف وأنبل المناضلات والمناضلين في سبيل إعلاء شأن ومقام الحقوق المدنية وأحوال المرأة العربية الشخصية ومساواتها بالرجل العصري المثقف لا المستثقِف. رغم تحفظ سناء وتدينها العميق ... أثبتت للعالمين قدرات لا حدودَ لها في إقتحام هيبة الممنوعات وخرق سُتر المحظورات وهتك سخافات المحذورات بشجاعة الذين وهبوا حياتهم وأنفسهم للدفاع عن مُثل الإنسانية وأحلام وحقوق البشر في أن يمارسوا أنفسهم كما وجدوها وما جُبلوا عليه من طبائع . نعم ، تمضي سناء شاقة ً السُحب َ السودَ كضوء البرق الدائم الذي يجوب الأكوان والمجرات مجترحا ً الخوارق بما تملك من مواهب في فن الكتابة والسرد وما لديها من فهم عميق للتأريخ والنفس البشرية وحاجاتها الطبيعية . إنها كاتبة شجاعة وإنْ جنحت أحياناً للخرافة وعالم الجن والشياطين وقماقم سليمان الحكيم وسواها مما قرأنا في كتاب ألف ليلة وليلة . مُبرر ٌ هذا الجنوح لأنه جنوح تُقية وتورية إضطرارية لكي تمرر ما لديها من أهداف خطيرة الشأن لا يتقبل ناس اليوم مواجهتها الصريحة ولا يجرأون ولكنهم قد يقبلون مثل هذه المواجهة في حال ٍ ووضعيات قد تشابه حالات ساعات الحلم والوهم والخدر. يهربون من عالم عقلهم الواعي تحت نور الشمس إلى ظلام سراديب ودهاليز ومغارات وكهوف عقلهم الباطن . يتقبلون في الباطن والسر ما يرفضون في العلن وتلكم إزدواجية مقيتة رافقتنا منذ أقدم الأزمان . يشربون الخمور ويمارسون الزناء سراً لكنهم يحرمونها في العلن . حتمَ في بعض الأحيان هذا الواقع على كاتبتنا المبدعة سناء أن تنتقل بنشاطها الكتابي وسفر رسالتها الإنسانية من الصراحة العارية إلى اللف والدوران وإصطناع الخرافة ونسج أخيلة طريفة تحاكي فيها ما قرأت وإستوعبت في كتب الخيال القصصي ولا سيما كتاب ألف ليلة وليلة . مع ذلك ، ورغم المداورة والمناورة الذكيتين يتلمس القارئ الفطِن أهداف سناء الحقيقية ويضع عليها اليد ليكتشف جوهر هذه الإنسانة الشابة التي تحمل في صدرها إقدام مشاهير مصلحي الأمم وثوارها وتحمل في روحها ما حمل الأنبياء والرُسل من رسالات سماوية ... لكنَّ رسالة سناء رسالة عصرية نبتت في زماننا هذا وأخذت منه الكثير وعكست الأكثر ولا من عجب فإنها نتاجه وخلاصته الأمينة .
سأتناول مضامين أربع من قصص سناء كامل في كتاب ( أرض الحكايا ) محاولاً بذل جهدي في التركيز على مفردات عنوان مقالي هذا : الحب / الجن / الخيال الخرافي . سنرى كيف عالجت دكتورة سناء قضايا بالغة الخطورة من قبيل رتابة الحياة في جنات الخلد ومهزلة سكون الزمن وهو أمر مستحيل ثم خواء الروح إنْ جُردت من التمنيات والأماني فهذه ليست جنات إنما قبور وموت وأموات فمن يطمح ترى بدخول الجنة ( قصة مدينة الأحلام ) ؟ ثمة َ مثال ٌ آخرُ على براعة سناء وقدرتها على إدانة وفضح الأجهزة السرية من أمن ومخابرات وإستخبارات وسواها من أجهزة سرية متعددة الأسماء والغايات والواجهات وكيف تحصي أنفاس الناس وتلاحقهم حتى في عقر بيوتهم . أعطت سناء هذه التشكيلات من الأجهزة السرية إسم البللورة ( قصة البللورة ) . أما في قصة ( الشيطان يبكي ) فلقد فضحت الكاتبة فساد البشر وإنحرافاتهم الخطيرة عن الجادة السوية حتى أصبحوا هم الأبالسة والشياطين فإختفى دور إبليس الشيطان إذ ْ لم يعد لوجوده من معنى فغدا يشكو أمام رب العزة ويتشكى ...[ أصبح عاطلاً عن العمل ] !! . قد يقول قائل إنَّ أهداف الكاتبة واضحة في هذه القصص فأضطر إلى القول : قد تبدو لك واضحة ولكني أؤكد لك أنك إن ْ دخلتَ عوالم وخفايا قصص سناء كامل فإنك لم تدرك منها إلا الأقل من القليل وما يطفو على السطوح من سراب وما يهيءُ لك خيالك الذي يعجز عن الغوص في لجج الأعماق السحيقة . بكلمة مختصرة : الدخول في عوالم قصص سناء دخول سلس سهل ولكنَّ المعضلة هي في الخروج منها بإستنتناجات صحيحة كما خططت الكاتبة لها وكما شاءت أن تكون . كتاباتها متعددة المستويات كثيرة الزوايا متشعبة الأركان منوَّعة المغازي لكنها تظل تدور حول محور واحد رئيس لا يفوت فطنة القارئ الجاد .
القصص الأربع هي :
أولا / ملك القلوب { حول الحب وقوته السحرية }
ثانياً / مدينة الأحلام { فردوس غير مرغوب فيه }
ثالثاً / البللورة { قصة بوليسية تدين الأجهزة السرية للحكومات
المعاصرة }
رابعاً / الشيطان يبكي { ذم الزمان الراهن وأهله وتدهور القيم } .
قصة " ملك القلوب "
لا أدري لِمَ إختارت دكتورة سناء رجلا ً مغربيا ً ليلعب دور رجل السحر الأسود الأعظم [ السحر الذي يحزن القلوب ويُدمي الأنفس ويفرِّق المحبين / صفحة 72 ] أي لاعب الأدوار الشريرة في حين أناطت بأحد تلامذته دور ووظيفة ساحر السحر الأعظم ، ساحر الأعمال الصالحة التي تقرِّب المحبين وتؤلف القلوب أي إنه رجل صالح من الأولياء ذوي الكرامات . لعب الساحر الصالح أدوراً رسمتها له سناء فنجح في طرائق ووسائل سحره وكسب أموالا ً طائلة تكدست في بيته المغارة . ولكونه رجلا ً وليا ً صالحاً طلب بحراً في مغارته فكان له ما أراد . جواهر وذهب في كل مكان من مغارته وحتى في قيعان البحر . خلاف هذا صاحب السحر الأعظم لم نجد أية فعالية شريرة لأستاذه المغربي خبير السحر الأسود . وضعتهما سناء أمامنا كقطبين متضادين طبيعة ً وتخصصاً . ملك خير وملك شر، ولكنَّ الفكرة العميقة في رأس سناء تقول إنَّ الخير يأتي من أو بعد الشر . أي بعبارة أخرى : لا من شر بدون خير ولا من خير بدون شر ، لا من ظلام بدون نور يسبقه أو يليه . ساحر صالح ذو كرامات تتلمذ وتخرج على يدي ساحر شرير لا يفعل إلا الشر والدنيء من الأمور . لقد شق ساحرُ السحر الأعظم عصا الطاعة على مربيه ومعلمه فقلب الظاهرة وجهاً لبطن ورأسا ً على عقب . صيَّر الأسودَ أبيض َ والشرَّ خيراً . أليس في هذه الفكرة حث ٌ وتحريضٌ للأجيال الفتية الناشئة على التمرد على أولياء أمورهم ومن هم أعلى منهم من مربين ومعلمين بل وحكام وأنظمة حكم ؟ معلوم أنَّ لكل جيل أحكامه وأوضاعه وقوانينه وحالاته ولقد أصاب من قال قديما ً (( ربوا أولادكم على غير عاداتكم فلقد خلقوا في زمان غير زمانكم )) . لم يلعب أمير السحر الأسود أي دور أمامنا على خشبة المسرح الذي أعدته سناء لنا كمتفرجين لكنه قام بزيارة مفاجئة صاعقة لتلميذه المنشق عليه آملاً أن يُشفي إبنته من مرض ألم َّ بها. هنا تصطاد سناء بؤرة الموقف وتفجر المشهد والمسرح والمشاهدين جميعا ً. وافق الساحر الصالح أن يُشفي علة إبنة معلمه الشرير أو أمير السحر الأسود ولكن ... بشرط أن يُشفي هذا ما في قلب التلميذ من علة . الخلاصة : همسَ ثم جاهر الساحرُ الصالحُ بنطق كلمتين لا أكثر في أذن الصبية العليلة { أنا أحبّكِ } فإنتعش قلبها وإرتفعت دقاته فتجاوب قلبه على الفور وشرع بدوره يدق وينبض بشكل طبيعي . الحب أو حتى كلمة الحب أحيت فتاة ً على وشك الموت فإنتقلت الحياة بالحب من قلب الصبية إلى قلب الساحر الصالح الذي عالجها بالطب النفساني وهو به خبير : الحب . الحب ينتقل ما بين القلوب فيشفيها من علاتها . إنتقلت الحياة من قلب إمرأة إلى قلب رجل فإنتعش الإثنان معاً ولكنَّ الأولوية تبقى للمرأة ... لقلب المرأة ... ففيه يحيا الرجال وفيه طبهم ودواؤهم أي حياتهم . أبدعت دكتورة سناء إذا كان هذا هو مرامها وهدفها في تخطيط وتنفيذ هذه القصة التي نسجتها من خيوط خيال خرافي صرف له قواعد وأسس في مجتمعاتنا هذا اليوم . فالساحرات والسحرة منتشرون من المحيط إلى الخليج وفي الغرب مختصون بقراءة الهوروسكوب والكف وفنجان القهوة. بدأت سناء من واقع موجود ( السحر عامة ً ) لكنها طورته كأرضية وأساس لكي يخدم جملة أفكار وأهداف عالية السمو مركزها وبؤرتها الحب . بنت خيالات طريفة ممتعة خرافية التفاصيل والمنعرجات فوق أرضية واقعية موجودة مألوفة . الحب هو شغل سناء الشاغل ، مذهبها ودينها وربّها الأعلى . الحب يُشفي المرضى ويحيي الموتى . هل سبقها أحد الفلاسفة في هذا المضمار ؟ كان المسيح يدعو للمحبة بشكلها العام ، كذلك تكلم نبينا في هذا الموضوع في حديثه الشهير ( أحبّ َ لغيرك ما تحبُّ لنفسك ) .
ثمة َ أسئلة تظل تراوح في رأس القارئ من قبيل : ما سبب إختيار الكاتبة لساحر مغربي ؟ هل أهل المغرب معروفون بهذه الصنعة ؟ أعرف أنَّ كثيرين من المغاربة والجزائريين كانوا يمارسون < صنعة الكيمياء > أي محاولات قلب المعادن الرخيصة إلى ذهب وكان من مشاهيرهم المغيربي والمجريطي ( مغاربي أندلسي منتسب إلى مدينة مدريد الأسبانية / مجريط = مدريد ) وكثرة سواهما . لقد تكلم إبن خلدون في مقدمته في هذا الموضوع وذم َّ هؤلاء القوم ووصفهم بالشعوذة والحيلة لغرض كسب المال الرخيص السريع . ثم ... ما سبب إختيارها لجبل ( قاف ) مقراً لأمير السحر الأسود ؟ ولا أحسب هذا الجبل من جبال المغرب . ثم ... لِمَ أعطت أستاذ السحر الأسود عباءة ً سوداء في حين أعطت تلميذه عباءة ً حمراء ؟ إذا كان اللون الأسود لعباءة المعلم يتطابق وينسجم مع طبيعة سحره فعلام اللون الأحمر لعباءة التلميذ الصالح ؟ قالت سناء في مطلع هذه القصة [[ ... البعض همس إنه لا يصلي أصلا ً ... همس فضوليون ضاحكون إنه على دين عجيب تدين به مَرَدة الجان ...إنه من ذراري الغجر وبقايا بني ساسان ... ]] . لا يصلي ومن بقايا بني ساسان أي إنه مجوسي يعبد النيران . فهل اللون الأحمر قرين الشر أو مجلبة له ؟ أم في هذا اللون شذوذ خاص ؟ أم لآنه مرتبط بالثورة والثوار منذ كومونة باريس وثورة أكتوبر البلشفية عام 1917 في روسيا القيصرية ؟ رغم ذلك كله ، ورغم كل هذه الدلالات والأطر الموحية منحته سناء صفات الخير وجلبه لأهله وإنه يُحب ُّ كباقي البشر حدَّ سقوطه عليلاً يشفى من علته لحظة شفاء من يحب . الحب في عرف سناء أقوى وأنبل من كل مثالب البشر وما نحسبه مثالبَ فيهم أو في بعضهم . إنه إنسان خيّر ما دام يرتعش قلبه بنبضات الحب . يصنع الخير للناس ودينه وتدينه له سواءً أكان مجوسياً أو بوذياً أو نصرانياً أو من أية ملة أخرى ودين ومذهب . هذه رسالة سناء ، رسالة أممية كونية .
قصة مدينة الأحلام
تعالج الدكتورة سناء في هذه القصة مسألة السأم من الرتابة في أنماط الحياة التي يتخذها البشر ديدناً ودأباً لهم . السأم والملل القاتلان في حياة سكنة جنات الخلد إذ يسكن الزمن ولا يتحرك فلا البشر يتقدمون في أعمارهم ولا يتغيرون . لا يكبرون ولا يهرمون ولا يموتون . كل ما يتمنون يأتيهم على الفور طعاما ً أو شرابا ً أو نساءً ... كل شئ متوفر مجاناً . شرابهم في الجنة من أنهار العسل واللبن والخمرة التي لا تُسكر المؤمنين . هل فيها كحول لا يؤثر في أعصابهم أم إنها خمرة بدون كحول ؟ أما الفاكهة فدانية قطوفها تصل الأفواه بمجرد التفكير والرغبة فيها ، أي تأتيهم طوعاً بالروموت كونترول . أما النساء فحدث ْ ولا حَرج ... كلهن أبكارٌ حورٌ عين ٌ بكاراتهن أبدية لا تزول ولا تتغير ولا تنبثق ... من نسيج خاص (( ضد الكسر )) !! . هل هذه حياة أم موت ؟ لا من طموح ولا من كد أو كدح أو عمل . التفكير معطل والحوافز لا وجودَ لها . نمط واحد لا يتغير . مسالة واحدة لم تُعالج بعد : هل ينجب سكنة الجنان بعد التناكح ؟ وهل هناك قابلات مأذونات ( حبوبات ) ومستشفيات للولادة ؟ مَن يقوم بمهمة توليد الحوامل ، أطباء أم طبيبات متخصصات أم أن الحوامل يلدن بالروموت كونترول بكلمة من مَلك خصي ٍّ [[ لكي يقاوم إغراء الشيطان ]] مختص بمهمات التوليد والقبالة ؟ هل هذا الخصيُّ مخوَّل في أن يظهر على عورات النساء ؟ أم إنه [[ ليس من ذوي الأرَبة ]] ؟ لا أريد هذه الجنة . لا أريد هذه الحياة . ليست الحياة نعيماً دائماً ولا شقاء ً مقيماً ، إنها بين بين . دوام الحياة في الصراع بين الخير والشر ، بين النعيم والشقاء ، بين الدين والدنيا ، بين الحياة والموت . السأم والرتابة والملل أعداء سناء الألدّاء وإنها لعلى حق كل الحق . هل تستطيع أن تقولَ سناء ما قلت أنا قبل قليل وهي في عمان ؟ كلا ، بالطبع كلا . فليقله غيرها تطوَّعاً . سبق الفيلسوفُ نيتشة القاصة َ الذكية َ سناء كامل فعالج هذا الموضوع في كتابه
" هكذا تكلم زرادشت " معالجات شتى ساخرة قال في بعضها [[ إنَّ الله عبارة عن إيمان ينكسر به كل خط مستقيم ويميد عنده كل ُّ قائم . فالزمان لدى المؤمن وهم ٌ وكل فان ٍ في عينيه باطل وخداع ... كل هذه التعاليم تقيم الواحد المطلق الذي لا يناله تحوّل ولا تغيير / ص 112 ]] . إذا كان الله نفسه لا يتغير فكيف تتغير أحوال وأوضاع وزمان جناته وسكنتها من عباده المؤمنين الذين كانوا على الأرض مؤمنين ؟ هل يظلون هناك على أنماط إيمانهم الأرضي أم أنهم يتبنون في الجنة أشكالاً أخرى من الإيمان ؟ ليس في الجنة تحديد ٌ لعدد الزوجات ولا قواعد للطلاق أبداً لأنه لا وجودَ له أصلاً ، أي إباحية جنسية مطلقة ( تعدد أزواج وتعدد زوجات ) كما كانت أحوال البشر في الأزمنة السحيقة الغابرة أو كما هو عليه واقع الحال اليوم بين الحيوانات . لا كلامَ عن المواليد الجُدد ولا عن مدراس وجامعات وثقافة وألعاب رياضية وغيرها من الأنشطة الإجتماعية المعروفة على الأرض . خدر وكسل وخمور وآنية من ذهب و ( سكس ) وإتكاء على أرائك من سُندس وإستبرق وتحيتهم فيها سلامٌ . لا دين في الجنات العالية ولا من عبادة ولا حج ولا زكاة ولا وضوء ولا صلاة . أي كفر وإلحاد وتجديف !! الدين أرضي لا يصلح إلا لأهل الأرض . أين يستحم الرجال بعد مضاجعتهم لحور العين وأين يغتسلون الجنابة وبأية مساحيق غسيل وتنظيف وصوابين ؟ ليسوا بحاجة إلى الإغتسال ، الجنس في الجنة عمل طهور لا يتنجس منه ممارسوه . جنس خاص مغلف برقائق الألمنيوم وموانع الحمل ( الكوندوم المطاطي ) . هذه هي الرتابة القاتلة التي تعانيها سناء كامل وتحذرنا من عواقبها المميتة . ليس لنا إلا حياة واحدة نحياها ثم نفقدها بالموت . جناتنا وجحيمنا على أرضنا وليس فوق رؤوسنا . نساؤنا على الأرض هنَّ الحور العين ، نكتفي بواحدة منهنَّ إليها نسكن وهي َ لباس لنا ونحن ُ لباس ٌ لها فهي الجنة وقد تكون النار أحياناً !! أقتطف للقارئ الكريم بضعة جمل مما قالت سناء في مدينة الأحلام ، ولا يختلف ما قالت عما قلتُ قبل قليل [[ ... لكن ماذا بعدُ ؟ لم يعدْ تحقيق الحلم بمستحيل ولا تجديده بممنوع ، ولا استبداله بمرفوض . كل شئ كان موجوداً حتى المستحيل . ولم يعد هناك معنى ً للحياة ولا للزمن ولا للعمل . بل لم يعدْ هناك معنى للوجود . وغرق الزمن في رتابة لم يُعرف لها مثيل ولا لسلطانها حدود . وغدا حُلم البشرية أنْ تجدَ حُلما ً لا يتحقق لكي تلهثَ وراءه باشتهاء . وأخيراً شعر البشرُ بأنَّ مدينةَ الأحلام قد حطمت أحلامهم وحرمتهم من متعة ممارسة التمني ومن دبيب سعادة الجري وراء الأحلام ... وفي صوت واحد ومن جديد تمنى البشرُ أنْ تختفي مدينة الأحلام ]] . هذا هو حال الجنة الموعودة ، مدينة الأحلام . مدينة أحلام سناء الميؤوس منها قد نفهمها على أنها مدينة الفارابي الفاضلة أو جمهورية أفلاطون أو حلم البشرية في قيام نظام سياسي ـ إقتصادي ـ إجتماعي عادل خالٍ من الطبقية والطبقات وإستغلال طبقة أو فئة لأخرى . وربما أختلطت لدى سناء هندسة بناء مثالية مدينتي أفلاطون والفارابي بما عاصرت من أنظمة حكم إشتراكية طبقت النظام الإشتراكي لعقود طويلة من الزمن ثم كانت شاهد عيان ٍ على سقوطها المروِّع الذي أدار عقول البشر !!
قصة البلورة
قلت إن َّ هذه هي قصة بوليسية أحداثها مزيج بين الحلم والواقع ، بين الحقيقة والخيال . ما دور الخيال الذي قد يبدو عاجزاً أو تعجيزياً في رسم وتتبع أحداث القصة ؟ إنه يتساوق بالتساوي مع واقعية الكثير من تفاصيل وحيثيات موت البطل إنتحارا ً أو إغتيالاً . جرائم القتل والإغتيالات كثيرة ومعروفة والعجز عن كشف الجناة كذلك من المسائل المالوفة خاصة ً إذا كانت جريمة إغتيال سياسي فالفاعل يبقى مجهولاً مغيباً تماما ً كحوادث القتل بالسيارات التي لا تحمل أرقاماً أو تحمل أرقاماً مزوَّرة . أين العقدة المركزية في هذه القصة ؟ الأجهزة السرية التي تشكلها الحكومات المستبدة وغير المستبدة ( الديمقراطية !! ) تحت أسماء وعناوين شتى : أمن داخلي ، أمن خارجي ، مخابرات ، إستخبارات ، مخابرات القصر الجمهوري أو مخابرات القوة الجوية ، مخابرات الأمن الصناعي وغيرها الكثير . هذه الأجهزة الأخطبوطية التي تلاحق الناس وتحصي الأنفاس وتتدخل في أدق الشؤون الشخصية للمواطنين .. . تنصب أجهزة التصوير والتنصّت والرادارات في أمكنة سرية غير معروفة وغير متوقعة وفي كافة الأماكن حيث يتجمع الناس للفرجة أو الفرح أو للتسوق . إنها حقا ً تمثل دولة داخل دولة . وجدت الشرطة موظفا ً في أحد المصارف منتحراً وبجانبه قصاصة من الورق كتب بخطه فيها [[ إننا محبوسون دون أن ندري ]] . هل كان موت هذا الموظف إنتحاراً أم نتيجة حادثة قتل ؟ لم يستطع المحقق ضابط الشرطة البت في هذا الأمر رغم ما بذل من جهود وتحقيقات وإستجوابات وما جمع من وثائق ومستندات . نستمر مع سناء في قراءة أحداث القصة فنقتنع أنَّ حادث قتل أو مقتل موظف الحسابات في أحد المصارف ليس ذو أهمية سوى في أنه والحادث المأساوي نفسه قد لعبا دوراً ذا خطورة في مجمل تطور الأحداث سواء ً على صعيد السرد العام أو على الصعيد الشخصي لضابط الشرطة . نجحت سناء في جعل حادث موت موظف المصرف قضية فلسفية كبيرة الخطورة . لقد غيَّرهذا الحادث نفسية ومسلك الضابط وهو أحد عناصر قمع وإرهاب الدولة ... حوله إلى إنسان آخر مغاير ... من عنصر تهديد وعسف بيد الدولة إلى رجل مسالم يتعاطف مع الضحايا إذ إكتشف أن َّ القتيل أفلح وقد سرق مالاً من مصرفه في بناء حجرة سرية خاصة لا تنالها ولا تصلها عدسات كاميرات الفيديو المخصصة لمراقبة المواطنين . "البللورة " عاجزة عن الوصول . قال الضابط مخاطبا ُ نفسه [[ إذا ً على بناء هذه الغرفة أنفق صديقي المنتحر كل مدخراته ، يا له من شقي !!! أراد أن يملكَ ولو مكاناً واحداً على هامش الحرية . حوقل طويلاً ووجد نفسه يفكّر إنْ كان قادراً على أنْ يملك َولو مكاناً واحداً على هامش الحرية ]] . حدثت الإنعطافة الخطيرة في حياة ضابط الرجل وحدث التحول الجدلي ( الدايالكتيكي ) كما يقول الفلاسفة . إنقلب الضابط من عنصر إرهاب وإخافة وترويع إلى رجل مسالم يحس بعمق أنه هو كذلك ضحية النظام الذي يستخدمه لخنق أنفاس المواطنين . الجلاد مجلود ... الجلاد في نهاية المطاف في خندق ومصير واحد مع باقي الناس ... مع الضحايا . كتبت سناء [[ في اليوم التالي كان قد قدّمَ تقريره النهائي الذي أرفقه بإعتراف أحد زملاء المنتحر في العمل بإختلاسه النقود المنسوبة سرقتها إلى المتوفي . وفي طيه إتهام صريح للبللورة بدفع مواطن شريف للإنتحار بعد ممارسة أبشع وسائل القمع والتجسس عليه . لم يُناقش تقريره أبداً كما كان يتوقع ، بل عُلق عليه بعبارة سرّي للغاية ]] . فهم الضابط المحقق دوافع السرقة ... سرق المتوفى نقوداً لكي ينقذ نفسه من ملاحقة عيون جواسيس السلطة إذ إبنتى بما سرق غرفة سرية لا تطالها عيون ومخبرو وكتبة تقارير السلطة الحاكمة . سرق على أمل الخلاص من عسف وجبروت السلطان . [[ في المساء تسلّم الضابط قرار نقله إلى دائرة عسكرية أخرى في أقصى بقاع البلاد مُذيّلا ً بختم البللورة !! ]] . لا ناج ٍ من سلطة هذه البللورة ... لا من خلاص من متابعات الأجهزة السرية التي وصلت حتى إلى أحد الرجال المحسوبين عليها والخادمين في صفوفها . الكل مراقبون والكل يراقب الكل ويتجسس عليه كما كان حال العراق زمن حكم صدام حسين وحزب البعث . كيف كانت خاتمة هذا الضابط الشريف ذي الضمير الإنساني والحس العالي الذي تجاسر فقال الحقيقة وثبت في تقريره دواعي السرقة ولام البللورة ولم يلم القتيل ؟ [[ في الصباح وُجد الضابط منتحراً في غرفة نوم صديقه المنتحر ]] . لم يترك الضابط قصاصة ورق كما فعل المنتحر الأول مكتوب عليها { إننا مسجونون دون أن ندري } ... لأن هذه العبارة كان قد قالها رجل آخر منتحر كبير الأهمية [[ قيل إنه صاحب بللورة سحرية تتجسس على الناس وإنه إكتشف بمحض الصدفة أنه أيضا ً مسجون مع المسجونين الذين يطاردهم ببللورته مع فارق بسيط أنهم مسجونون داخل البللورة وهو خارجها ، لذا فقد إنتحر تمرداً على السجن أياً كان وترك بللورته لشخص لا يعرف عن لعنتها إلى أنْ عرف ]] . خدم الجلادين وأدوات بطشهم يفيقون أخيراً وقد أدركوا أنهم كذلك مراقبون وأنهم الآخرون ضحايا مَن خدموهم ... ضحايا ماكنة البطش الجهنمية . أبدعت دكتورة سناء في متابعتها لعملية التحول هذه خطوة فخطوة وحسب تسلسل منطقي تتداعى الحوادث خلاله وفق جدلية ثنائية السبب والمسبب . سناء لا تهدر وقتها وجهدها في كتابة زخارف وشكليات فارغة لا هدفَ إنسانياً لها كما يفعل الكثيرون والكثيرات من الكتاب والكاتبات . إنها تركز على الجوانب الإنسانية الصرفة وتعالجها بأساليب فنية راقية المستوى . ما كان أساس ودافع فكرة تحول الضابط المحقِق المستجوِّب إلى رجل يتعاطف مع ضحايا النظام ؟ كيف ولماذا شغلت هذه الفكرة حيزاً مرموقاً في تفكير وهموم سناء ؟ كيف إنتبهت إلى هذه الظاهرة وجوهرها تعاطف الجلاد مع ضحيته ؟ هل قرأنا شيئاً من هذا في التأريخ ؟ نعم ، تحوَّل قائد إحدى كتائب أمير العراق الحجاج بن يوسف الثقفي المدعو الحرُّ الرياحيّ من خصم وعدو ٍ للحسين بن علي قبيل واقعة الطف في كربلاء عام 61 للهجرة ... تحوّل إلى حليف له وقاتل مع مَن قاتل دفاعاً عنه وآل بيته حتى قُتل . لمثل هذه التحولات شروط تابعتها بذكاء سناء منها الظاهر الملموس ومنها الخفي المحسوس . سناء ضد أنظمة الحكم البوليسية الشمولية ... أنظمة التجسس على المواطنين وسجن أو إغتيال المعارضين منهم . قالتها من خلال حادث إنتحار ضابط شرطة يمثل واحداً من هذه الأنظمة .
قصة الشيطان يبكي
في هذه القصة مزج ما بين خيال الخرافة ورمزية واضحة المقاصد والمرامي إ ذ ْ تشفُّ بقوة ووضوح عن الهدف المركزي لمجموع القص الذي يطلع القارئ عليه . بدأت القصة بقمقم سليمان وشيطان مارد جبار يتمنى أن ْ لو سجنه سليمان هذا في قمقمه الشهير ولكن لماذا ؟ من يتمنى سجن نفسه وتقييد حريته وهو أمر مخالف لطبائع الأشياء ؟ إحتجاج ... يحتج الشيطان هذا على أمر لا يصدقه ... فلقد تحول ناس هذا الزمان إلى شياطين وأشرار فماذا تبقى له وما عساه أن يصنع بمواهبه الإبليسية وقدراته الخارقة وعلى مّن تنفق تجارته وألاعيبه وبقية مواهبه المجبولة منذ آدم فيه وقد خلقه ربه من مارج من نار وغيره من طين فانقلب الوضع ليجدَ نفسه قبضة طين طري والآخرين ناراً ؟ إنه عاجز عن الإيقاع بفرد واحد مما يرى من بشر وقد سبق له وأن ْ خدع وأوقع في حبائله سيدَ وأبَ هذا البشر . قصة فيها يأس غريب فقد طالما عودتنا سناء أن نستلهم العزم والقوة والتفاؤل في قصصها منها فعلام هذا الإغراق في نزعة التشاؤم الأسود ؟ ما زالت الدنيا بخير نصفاً نصفاً في أسوأ أحوالها وهذا حسبنا في هذا اليوم ونحن تحت مثل ظروفنا الراهنة . فقد الشيطان وظيفته فأصبح عاطلاً عن العمل يرى السجنَ أفضل من حياة البطالة . نقرأ بعض ما قالت دكتورة سناء بشأن هذا الشيطان ( المسكين ) الذي فقد قدراته في أن يوسوس في صدور الناس ويغريهم ويغويهم ويزين العصيان لهم والتمرد حتى على مشيئة خالقهم .
[[ ...ماذا حدث للبشر ؟ إنه الشيطان فكيف يغدو في أيديهم لُعبة ً خرقاء ترجو الخلاص والرحمة ؟ ألم تسمعوا عني ؟! أنا الشيطان ، أنا عدو الرب ، أين جبروتي ؟ ... تمنى من قرارة نفسه ـ وكاد يتمنى من أعماق قلبه إلا أنه تذكر أن ْ لا قلبَ له ـ أن يجدَ أحدا ً يُرثي له ، هو في حاجة إلى الحب ، نعم ، الشيطان لأول مرة ٍ عَبرَ تأريخه الوحشي يحتاجُ إلى الحنان حتى إنه فكّر َ في أنْ يقبِّلَ أعتاب َ عرش الرحمن ويطلبَ مغفرته ويقلب بذلك تأريخ الديانات كلها ]] . كيف يتذلل هذا العاصي الشقي العنيد فيتنازل أمام العرش ساجداً مقبِّلا ً وما تنازل قبل ذلك أبداً ؟ كيف ينحني وما انحنى يوماً قبلاً ؟ اليأس ... من إستعادة دوره والقيام بما خصّه ربّه ُ به من عناد ومشاكسة وعصيان مدني من غير أسلحة وقتال . لم يعلمه خالقه كيفية إستعمال آلات الحروب ولا غيرها من آلات . كلامه آلته وحجته في لسانه وهو بارع في إستخدام الإثنين معاً . مقاتل شجاع بالحجة والمنطق . في ذله وتنازله ثورة وإنقلاب خطيرين : قلب تأريخ الديانات !
في منهج سناء وفكرها وروحها الكثير من الثورات قد يستطيع القارئ الكشفَ عن كنه وطبيعة البعض منها لكنه يبقى عاجزا ً عن فهم وكشف أغلبها . نتابع ما قالت سناء عن هذا الشيطان المغلوب على أمره وقد هرم فبالت عليه الثعالبُ [[ ... كان شيطاناً عندما كان البشرُ بشراً ، لكنه الآنَ يجهلُ ما تراه سيكون بعد أنْ غدا البشرُ شياطينَ ؟ ... حاول جاهدا ً أنْ يجدَ له مكاناً في عالم الشر لكنه بدا تلميذا ً غرّا ً في جامعة عريقة ، لقد لهى الناسُ به وحار في ألاعيب شرّهم وعجب : أنى لهم كل هذا الشر وهو لم يلقنهم إياه ؟ ... شعر الشيطانُ بأن َّ زمنه قد ولى من دون رجعة وقد جاء زمن البشر الشياطين ]] .
هذه هي خلاصة وأصل محنة الشيطان : درس زمانه إذ إنقلب ناسنا إلى شياطين . إنتهى دوره فأصبح عاطلاً عن العمل يعيش على هامش (( المساعدات الإجتماعية )) مثل باقي اللاجئين المنتشرين في كافة أرجاء المعمورة !!