الجمعة، أكتوبر 09، 2009

الزهراء بين زهدي وممتاز كريدي

د. عدنان الظاهر

شيّقٌ هو الحديثُ مع الصديق الدكتور زهدي خورشيد الداوودي ، عاشق وأسير هوى المسيحيات في العراق وغير العراق من البلاد . دعوته ذات مساء خريفي جميل معتدل لكي أُقدّمه لفتاة مغربية متفرّدة في بابها وأدبها وخُلقها تمتهن الصحافة وكتابة المقالات . طار صوابه ! قال ومتى سيتمُّ هذا اللقاء ؟ اليوم ، الساعة السابعة مساءً ، أجبته . وتمَّ اللقاء حسبما أعددتُ له وبرمجتُ . طار صوابُ زهدي [ إنْ كان ثمّةُ باق فيه رأسهِ من صواب ! ] . ظلَّ بصرُهُ مُعلقاً بوجه وعينيّ فاطمة الجوزيتي الطيف اللوني . أصابه بادئ ذي بدءٍ شيءٌ من الذهول والدوار والعيّ عن النطق فعجز ـ يا للغرابة ـ عن النطق . همهم وحاولَ أنْ يقولَ شيئاً لكنه عجز عن قول أي شيء . مدَّ على إستحياءٍ ووجلٍ يدَه مصافحاً ضيفتنا المغربية الساحرة الوجه والقدِّ والهيئة والشخصية . كانت كفه ترتجفُ فأعياهُ القولُ وضاعت منه كلمة الترحيب المعتادة . هوّنتُ عليه المهمة فأتممتها بتقديمه لها بالشكل الذي يحفظ ماء وجهه أمامها ويُريحُ أعصابه المنهارة . غمز لي زهدي ـ وما أحلى ما يغمز ـ بطلب النبيذ القاني الذي يعشق عشقه للفتيات المسيحيات . وماذا تحبُّ أنْ تشربَ ضيفتُنا المغربية العزيزة ؟ سألتها ، فقالت كوب قهوة بالسكّر والحليب فقط . أما أنا ـ المغلوب أبداً على أمري ـ فلقد فضّلتُ ذلكم اليوم تناولَ بعض الويسكي الأسكتلانداوي 40 % كحول كشأن فودكا كورباتشوف ! دخّنَ زُهدي [ لا تمر الزهدي ، هو لا شكَّ أفضلُ بكثيرٍ منه وبما لا يُقاسُ ] كثيراً وعميقاً للتنفيس عمّا قد إعتراه من ذهولٍ وحيرة وحَرَجٍ وشعورٍ بالضعف المركّب تجاه فتاة رائعة في كل شأن لكنها ، لشديد أسفه وخيبته ، فتاة مسلمة ليست من أتباع عيسى المسيح . لا خبرة رومانسية لدى زهدي مع بنات الأديان الأخرى ، فكيف السبيلُ للتواصل مع فاطمة التي لم تعرف الحبَّ في حياتها بعدُ . قال دع الأمر عليَّ . كيف يا زهدي ؟ قال سأتشاورُ مع صديقنا الحلاوي الدكتور ممتاز كامل كريدي . وأين ستجده يا أبا أميرة ؟ قال : كلمته للتو بالتلفون ودعوته لحضور هذا اللقاء الغريب العجيب في إعداده وتركيبته وباقي تفصيلاته . حذرتهُ بشدّةٍ من خطر الوقوع في حب هذه الفتاة الفاطمة التي فطمتْ الجميعَ من خُلقها وطبيعتها النادرة ومن حبّها الكوني للإنسان أينما كان . وهل صاحبنا ممتاز على هذه الدرجة من الحساسية تجاه الحب ومشتقاته وتبعاته يا زهدي ؟ سألته . قال بل إنه لشديد الحساسية . جرّبَ في حياته الطويلة العريضة الكثير من بنات حوّاء لكنهنَّ كُنَّ جميعاً من أخواتنا المسيحيات . لم يجرّبْ مغامرةَ حبٍّ مع سيدة أو آنسة مسلمة . إنه يخاف من الإسلام والمسلمات ! لم أشأ التعليق . فضّلتُ أنْ أدلو بدلوي حين يحضر الصديقُ الممتاز لأفصحَ عن مجمل آرائي ومواقفي بحضور الرجل لا في غيبته . حضرً الصديقُ ممتاز كريدي فرحبنا به ومدّت له ضيفتنا العزيزة يدها فقبّلها بأدب جمٍّ وجلس جنبها حسب طلبها . أعجبها أدبُهُ وقامته المديدة التي لم تنحنِ تحت وطأة مطارق السنين . سألته فاطمة ، بكل ما في لسانها من سحر الألفاظ الحوائيّة ، عن صحته وأحواله بعد كل هذا التغرّب الطويل عن وطنه العراق . أجاب بإقتضابٍ مُقنعٍ وببلاغة الرجل المختص الخبير باللغتين الألمانية والعربية ثم ما علّمته السياسةُ من دبلوماسية في القول والتصرف . لم تفهم ضيفتنا شيئاً مما قال ممتاز . حاول زهدي ـ وقد رصدَ ما كانت فيه من حيرة ـ أنْ يتدخلَ فيشرح لها أسرار ما قال ممتاز في إجاباته . أشرتُ له بعينيَّ أنْ لا يفعل فارتضخ لطلبي ولاذ على مضضٍ بالصمت . كان قراري أنْ تظلَّ الضيفة العزيزة في حيرة من أمر أخينا اللغز ممتاز . وكان قراري أن أفهم هل لممتاز من رغبة حقيقية في الدخول في علاقة متينة [ شريفة ] مع الضيفة المغربية وهل هي نفسها تتقبلُ مثل هذه العلاقة ولها فيها رغبة ؟ طلب ممتاز ، كعادته ، شراباً ثقيلاً فكان له ما أراد . كان الويسكي الأسكتلندي ماركة ( الحصان الأبيض )
White Hourse
حاضراً على الطاولة العريضة الممتدة أمامنا . رفعنا عالياً كؤوسنا فصرخ زهدي بدون إيما إنفعال : سلِ الرماحَ العوالي عن معالينا ... ضحكت الفاطمةُ المُزهِرةُ أبداً ورفعت كأسَ قهوتها مجاملةً للأخ زهدي وإبتهاجاً بحضور ( الكازانوفا ) ممتاز كامل ، كامل الأوصاف .
هل من طعام يا رجل ؟ سألَ ممتاز . لك ما تريد وكل ما تريد ، قلتُ لهُ . أكملْ شرابك حتى ينضجَ الطعام . عبَّ من مشروب كأسه الثقيل ما شاءَ له أنْ يعبَّ . كان منسجماً مع الجو العام وكان عظيم السرور والغبطة بحضور الفتاة المغربية الفائقة الروعة خُلُقاً وجمالاً وأدباً وتواضعاً . نعم ، كانت له تجربة مع بعض فرعونيات مصرَ ولكنْ لا من تجربةٍ لممتاز مع أهل المغرب جماعة بربر طارق بن زياد قاهر مضيق جبل طارق صاحب الصرخة الشهيرة . هل لديك يا ممتاز رغبةٌ في أنْ تتقحمَ مغامرة عبور مضيق جبل طارق سباحةً فتظفر بنعيم اللجوء إلى بلاد الأندلس ، فردوس العرب المفقود ؟ علّقَ مغمغماً هامساً : بل جرّبتُ مرةً مغامرة عبور مضائق بحر إيجة لأقابل السيد الإسكندر ذا القرنين أو الثلاثة قرون لكني فشلتُ . كيف ولماذا فشلتَ أيها الكامل الممتاز والنادر ؟ سأله زهدي العارف بدقائق شؤونه . أشاح بوجهه عنه ولم يشأ التعليق أو الإجابة . لم يعجبه سؤالُ صديقه زهدي . كنتُ طوال الوقت منصرفاً لضيفتي العزيزة لا لسواها من بقية ضيوفي . كنتُ أشرحُ لها وأفسرُّ لها لهجتنا العراقية وما فيها من غرائب عليها لم تعتدْ سماعها في بلادها.
كانت تضحك جذلانةً من تفسير بعض ألفاظنا العراقية وكانت تقول في البعض الآخر إننا في المغرب نقول مثلَ هذا الكلام أو شبيهاً له أو قريباً منه فكنتُ أُشاركها الضحك في كلتا الحالتين . ما أحلاها حين تضحكُ فاطمةُ . من أي معدنِ جبلها خالقها وفي أية تربة أنبتها؟ كانت طوال الوقت تحاول أنْ تدخلَ عالمَي زهدي وممتاز للتعرفَ عليهما أكثر وأعمق ولكن هيهات هيهات ! كلاهما بئرٌ عميق شديد العتمة ووراء كلٍّ منهما تجارب وتجارب. لا تحاولي يا عزيزتي فاطمة . محاولاتك سُدى . لا تضيعي وقتك ولا توظفيه في مشاريعَ خاسرة . حاديثهما فيما هما فيه هذا اليوم . هما أبناء اليوم . لهما ماضٍ مجيد عريق لكنهما بلا مستقبل . إحتجَ بعنفٍ كلاهما قائلين بصوتٍ قويٍّ واحدٍ موحّدٍ : بل لنا مستقبلٌ لكننا لا نريده كما يتوقع منا الأصدقاء والمعارف . لنا مستقبلنا الخاص المُصَمّم تصميماً شديد الخصوصية . مستقبلٌ يخترق الماضي ويستشرفُ كل ما في مستقبل البشرية من رخاءٍ وبؤس . يخترقُ الماضي ولا يُنكره بل ولنا شرف المساهمة والمشاركة في بناء بعض فصوله . لا نتنكّرُ له ولا نتبرأُ منه كما فعل الكثيرون من أصحاب ورفاق الأمس من قرود وبهلوانات السياسة الوضيعة . رأيتُ أنَّ الجَدَّ أخذ مأخذه وتجاوزَ حدوده وأدركتُ أني أخطأتُ في تقدير المواقف فاقترحتُ أنْ نُنهي لقاءنا هذا . إستجاب على الفور الصديق ممتاز فنهض مُودِّعاً لكنَّ عينَه ظلّت شاخصةً دامعةً تتنقل بين وجه فاطمة ووجه مادلين ... لا يدري لأيهما يتوجه ولأيهما ينتمي فإنه من كلتيهما صفر اليدين . قلتُ له بل إبقَ معنا قليلاً لكي أُسمعكم العجب العجاب . أدرتُ جهازَ التسجيل فسمعوا صوت فاطمة مغرِّداً بأحلى النبرات الإنسانية . ذُهِلوا فأصغوا كأنَّ فوق رؤوسهم الطيرُ :
[[ مساء الخير على أحلى أب بالوجود
حبيبي بابا أنا كمان سررت لانك حاولت تكلمني ولكن اسعدت اكتر بالاحتفاظ بصوتك في علبة صوتية داخل الموبايل
لم تصلني النسخة المصححة الى هده اللحظة
واريد ان تعيد بعتها حتى اتمكن من قرائتها واحاول ان اعيد النظر في ملحوظات التي تم تنقيحها
انتظر اتصالات اخرى واعدك اني ساستقبلها ولن اضيع مرة اخرى جهاز الموبايل
قبلاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااتي
حبيبي ]]

الجواب /


[[ مساء الخير حبّي الكبير وطفلتي الصغيرة / دومي في ألألق السمائي

حاولتُ سماع صوتك مرتين وكان تلفونك يا بابا خارج الخدمة !
حرمتيني من نعمة الحديث معك أهكذا أنتِ قاسية مع باباكِ ؟
أرجو أنك قد إستلمتِ النص المصحح وتفهمّت ما فيه من تعليقات ومقترحات كتبتها لإبنتي الحبيبة والأثيرة جداً جداً جداً .
غداً
ـ أقصد ربما الساعة الواحدة فجراً ـ
أقرأ رد الحبيبة فتسعدني كلماتها وتطربني نغماتها ونبضات قلبها في حروفها الدافئة الصادقة .
بابا ... أُحبّكِ ]]

ظلَّ صحابي ذاهلين عاجزين عن الحركة ... فلا ممتازُ بالمغادر كما أعلنَ وأعربَ ولا زهدي وصاحبته المتشبثة بذراعه قادرين على الشروع بإيما حركةٍ لا إلى الخلف ولا إلى الأمام . ماذا حلَّ بهم ؟ جلست مادلين وأجلست بالقوة زهدي معها . جرَّ ممتاز قدميه متعثراً نادماً على قراره بمغادرة مجلسنا . دخّنت مادلين الكثير من السجائر وشربت الكثير من كؤوس النبيذ المُعد أساساً لزهدي وليس لها . كان زهدي خائفاً متقوقعاً حول نفسه كمن يتوقع عاصفةً هابّةً لا محالة . هبت العاصفة بالفعل كأقوى ما تكون . صرخت مادلين بوجه زهدي غاضبةً عاتبةً مؤنبة . فهمتُ رغم سَوْرَة غضبها المنفلت من عقاله أنها تلومُ زهدي لِمَ لمْ يكتب لها رسائل كهذه التي سمعاها قبل قليل . لاذَ زهدي بالصمت الذليل كمجرم يعترف بجريمته أمام قاضيه وهو في قفص الإتهام البغيض . حاول أنْ يسحب كأس نبيذه فخانته كفه إذْ إرتجفت بعنفٍ أصابعُهُ . فتش في جيوبه عن علبة سجائره فأسعفته مادلين بواحدة . رقّت قليلاً لحاله فوضعت ذراعها على كتفه بحنان ورقة . قبّلها وأزاح عن كتفه ذراعها . بين الضيق والحرج وقسوة الموقف قال زهدي متلعثماً : لكنها تعتبرُهُ أباً { يا أحلى أب في الوجود } ويجيبها هو { بابا ... أحبكِ } فأيُّ حبٍّ هذا الذي تطالبينني بمثله وما كنتُ يوماً لكِ أباً . هل نسيتِ ؟ كنا آنذاك في عمر واحد ، لم نتجاوز العشرين إلا قليلاً . أم أنت تغارين من فاطمة وتحسدينها على حبها لرجل بمثل عمر ومقام أبيها ؟ أخذت جرعةً طويلةً قويةً من كأس نبيذها وجهّزت النارَ لسيجارتها وعصبيتها لا تفارقها . أخذت نَفَساً عميقاً ثم نفثت الدخان الكثيف في وجه صاحبها زهدي المغلوب على أمره . صببتُ باردَ الماء على الموقف المتوتر المتأزم فقلت لمادلين مازحاً مؤاسياً ضاحكاً : لا خوفَ على زهدي ولا من سبب وجيه لغيرتك من فاطمة . قالت نافضةً رأسها بإنفعالِ غضبٍ ونفادِ صبرٍ : ماذا تعني ؟ أعني أنَّ قلبَ وهوى وصباباتِ زُهدي مع السيدات المسيحيات ولا من رغبة أو هوى له في المسلمات . أخذت جرعة أخرى عجلى من كأسها ثم قالت وهي تحاول إصطناع بسمة واضحة الكلفة : ثقتي بزهدي مطلقة لكني أظنُّ أنه لا يعفُّ ولا يتعففُ عن قبول أي عَرض يأتيه من إمرأة جميلة مهما كان دين قومها ! كان قلبه قبل زواجه تماماً مثل هيئة الأمم المتحدة ، له في كل دين ونِحلة وطائفة وقومية وأقلية ، له منها صديقة أو حبيبة أو عشيقة أو مغامرة من لون ما ونوع ما ودرجة ما . أغضى حياءً زُهدي وحرجاً حتى خُيّل لي أنه غاب كصاحب الغيبة الشهير . ومع غيبته غابت مادلين . بقيتُ وحدي مع الفاطمة التي أحرق وجودها في بيتي الكثير من الحرائق التي أنا بأمسِّ الحاجة لها . مَن ذا سيصطحبك إلى بيتك يا فاطمة ؟ قالت سأطير على جناح بُراقٍ خاصٍ بي فلا أحتاج لرفقة مرافق خاصةً وخطوط الطيران آمنة لا مفخخات فيها ولا قطاع طرق ولا مغامرون رومانسيون من أمثال صديقك زهدي الداوودي .

ليست هناك تعليقات: