نبيل عودة
( قصة لقراء يفكرون فقط !!)
قرر محاضر الفلسفة في محاضرة له أمام طلاب السنة الأولى، أن يجس نبض عقول طلابه، الذين ما زال معظمهم غير مستوعبين ما الذي ورطهم بموضوع الفلسفة، بادرهم دون مقدمة:
- هل يستطيع احد منكم أن يميز بين الله الذي يصوره الفلاسفة، كقوة ما، أو حارس عظيم المسؤولية، وبين الله الذي تبشر به الديانات السماوية، ويؤمن به معظم الناس؟
بعد توقف وتأمل لوجوه الطلاب الذين حل عليهم الصمت والتفكير، واصل المحاضر:
- في البداية من المفيد أن أعرفكم على بعض مضامين موضوعنا اليوم، وتجدون في ورقة العمل المراجع التي لا بد أن تقرؤوها، ولكني انتظر منكم عدم تكرار ما تقرؤون، إنما إبداع تصوركم الذاتي، ولا تخافوا من الخطأ، إذا لم تخطئوا.. هذا يعني أنكم لم تفكروا، وأنكم مجرد دواب تجتر كلام الآخرين بلا تفكير. وبالتأكيد أنا أصنفكم مع المخلوقات القادرة على التفكير.. إذن ما تكونون... مفتاحه بأيديكم.
طلابي الأعزاء لا تنسوا أن الفلسفة لا تقبل تحديد مساحة لها.. وتذكروا أن الأكثرية المطلقة من أهم الفلاسفة الذين عرفتهم الإنسانية كانوا من أعظم العلماء... لذلك عرفوا الله بأنه قوة أكثر مما هو شخصية.. والبعض تجاوز ذلك إلى درجة نفيه. اليوم سنتناول مفهوم الله بتعريفه كقوة. القوة، كما تعلمون... يمكن تجاوزها في العلوم بقوة أكبر منها.. أما الله حسب اليهود والمسيحيين، والمسلمين، وكل من نقل عنهم، فهو سيد التاريخ، ومد يد المساعدة في اللحظات القاسية والمصيرية، ووزع وعودا والتزامات.. والى آخر هذه القصص التي نعيشها كل يوم. اقطعوا أنفسكم عنها وتعالوا نفكر كفلاسفة... وإذا توصلتم إلى قناعات فلسفية إيمانية مبررة، فهذا شأنكم، والعكس مطروح أيضا... أنا لا أحكم على قناعاتكم، أنا أحكم على تطور تفكيركم. مفهوم؟!
توقف يلتقط أنفاسه ويتأمل ردود الفعل البارزة على تقاسيم وجوه طلابه. وكان يبتسم في سره ويعرف أن ترددهم اليوم سيتحول إلى مناطحة غدا. اليوم يستطيع أن يفرض سطوته عليهم ويقذفهم من فكرة إلى أخرى كما يقذف لاعبو كرة القدم كرتهم.. من أول الملعب إلى طرفه الأخر. ومتعته ستكون أكبر عندما يتمردون على أفكاره، أو يضيفون لها تبريراتهم.. عندها تبدأ دروس الفلسفة الحقيقية مع رؤوس منفتحة لكل تعبير ولكل إشارة ولكل حركة جسم قد تنفي القول المسموع. وواصل مستمتعاً بإرباكهم:
- هل سمعتم عن بليز باسكال؟ ليست باسكال المغنية اللبنانية ذات الجسد الجميل.. حسناً لا أنتظر إجاباتكم.. باسكال بليز، هو فيلسوف فرنسي وعالم رياضيات عاش في القرن السابع عشر بين 1723 حتى 1662 اشتهر بفلسفته اللاهوتية. أي كان متديناً ومؤمناً. قال باسكال أمراً مثيراً، بأن القرار الذي يختاره الإنسان حول إيمانه بالله، يشبه المقامرة. وفسر موقفه، وهو فيلسوف اللاهوت، بأنه إذا كان قرارنا المراهنة بأن الله موجود، ويتبين في النهاية أننا أخطأنا وأن الله غير موجود، عندها خسارتنا لن تكون كبيرة. ولكن إذا انعكس الأمر، وقامرنا على أن الله غير موجود وتبين في النهاية انه موجود، عندها ستكون خسارتنا فادحة جداً، لأننا سنخسر الجائزة الكبرى: السعادة الأبدية في ملكوت الله. لذلك نجد أن باسكال اختار أفضل مقامرة، حسب ما توصل إليه تفكيره، أن يعيش حياته وكأن الله موجود. بالطبع هذا الموقف الباسكالي ترك أثره على فلسفة باسكال لدرجة أن الإيمان بالله صار يعرف فلسفياً في الدراسات الأكاديمية بإصطلاح: "مقامرة باسكال".
ولكنه ليس موضوعنا الآن.. إنما قصدت أن أصور لكم الله حسب ما يتصوره فيلسوف لاهوتي.. الإيمان مقامرة، خسارتها غير هامة، ولكن ربحها عظيم. نعود للسؤال الذي طرحته في البداية: هل يستطيع أحد منكم أن يميز بين الله الذي يصوره الفلاسفة، كقوة ما، أو حارس عظيم المسؤولية، وبين الله الذي تبشر به الديانات السماوية، ويؤمن به معظم الناس؟
ما بالكم أصبتم بالخرس.. الصمت في الفلسفة مرض دماغي. تجردوا من عالمكم القديم.. بدون ذلك أنصحكم بدراسة موضوع لا يحتاج إلى بتر ما نشأتم عليه. يجب أن تعتادوا على قول ما كنتم تخافون الاعتراف به حتى بينكم وبين أنفسكم.. انتم في عالم آخر الآن.. عالم الفلسفة لا يبنى على أفكار جداتكم وأقاصيصهن. أنا لن افشي ما تصرحون به.. كل كلمة تقال هنا تبقى في الصف.. كل تفوُّهٍ حتى لو بدا مضحكاً هو أفضل من الخوف من التعبير... أرى هناك أصبعاً، الجنس اللطيف ينتصر في هذا الصف.. تفضلي:
وقفت فتاة ضعيفة الجسم وتكاد تبدو طالبة مدرسة ابتدائية.. ولكنها دائماً تتطوع لاقتحام الحوار دون تردد، وكان متنبهاً لها ولمعلوماتها الواسعة، رغم أنها أحياناً ليست في نفس الاتجاه الذي يتوقعه، ولكن مجرد اندفاعها بجرأة لقول رأيها جعل المحاضر يحددها منذ اليوم كطاقة دراسية وفكرية يجب توفير الظروف لتطورها. قالت:
- أعتقد أن الله الذي يقصده الفلاسفة ليس شخصاً كما تعلمنا الديانات، ولا يتدخل في مصائر البشر، إنما قوة أشبه بما يظهر في أدب الخيال العلمي.. يحتاج الإنسان إلى اكتشاف قوة مضادة، ربما علمية، ربما عقلية، للتملص منها بحالة شكلت خطراً عليه. أو لمصادقتها اتقاءً لشرها..
ضحك المحاضر معجباً بشرحها:
- فكرة رائعة.. لا أدعم صحتها.. إنما لينتبه الطلاب إلى الجديد في هذا الطرح، هذا ما يهم موضوع الفلسفة.. الفلسفة كما تعلمون هي القدرة على الإبداع الذهني.. على طرح الإسئلة، وأسئلة تقود الى أسئلة، لا شيء جامد ومتوقف وينتظر ان نتناوله لنعرف الجواب، قد نغادر الحياة ولا نملك الا القليل من المعرفة عن عالمنا.. لا تقلقلوا.. هذا القليل يحتاج الى حواسيب بالغة القوة والضخامة لحفظه.. ولا تنسوا أن الفلسفة ظهرت مع انفصال العمل الجسدي عن العمل الذهني.. أي أن الفلسفة هي القدرة على جعل الوعي قادراً على فهم طبيعة الحياة والظواهر الطبيعية والإجتماعية بالاعتماد على الوعي. والآن طالبتي العزيزة، قولي لنا قبل أن تجلسي، أنتِ شخصياً، أيّ اله تفضلين؟
- اسمح لي.. أن أجيب بأسلوب فلسفي...
صعق المحاضر من كلماتها غير المتوقعة، وجلس قائلا :
- تفضلي معك كل الوقت الذي تشائين، كلنا ننصت لك... (وواصل ساخراً بعض الشيء) ولجوابك بأسلوب فلسفي.
- قرأت أمس حواراً من الأدب الإغريقي بين ابن زيوس (وزيوس يا أعزائي الطلاب هو إله الشمس أحب امرأة ورزق منها بابن نصف اله نصف إنسان) ابن زيوس قال لصديقه الإنسان: "والدي يعتقد انك تؤثر علي بشكل سيء؟". رد صديقه: "هذا مثير، لأني كنت أظن أن زيوس والدك هو الذي يؤثر عليك بشكل سيء". سأله: " ماذا تقصد؟" أجاب: "زيوس يجعلك تعتقد أن الأصوات في رأسك حقيقية". سأل ابن زيوس: "وكيف تعرف إنها ليست حقيقية؟" أجابه: "ما دمت مقيماً معنا على الأرض كإنسان، فأنت مثلنا، وكل ما تسمعه هو وهم متخيل، حتى لو كنت تدّعي انك ابن زيوس. أنت ابنه فوق فقط، وفوق لا أحد يعلم ماذا يوجد". سأله ابن زيوس: "إذن افهم انك تقول أن زيوس نفسه وهم أيضاً؟ ". أجاب: "أنا لم أقل ذلك بعد.. لا أعرف.. لم يره أحد، حتى انت لا تعرف شكله.. ربما تعيش حلماً؟!". سأل ابن زيوس: "يعني ذلك أني وهم وأبي الذي تعبده ملايين المخلوقات هو وهم أيضاً؟!". أجابه: "أنت حقيقي.. ولكن الأوهام التي حشوا رأسك بها تجعلك غريب الأطوار". قال غاضباً: "أنت صديقي.. كيف تنكرني؟" أجابه: "أنا لا أنكرك، أنت حقيقي.. أنا أنكر أوهامك".
ويبدو أن الحوار يتواصل حتى اليوم... وفي كل مكان.
قال الأستاذ مفكراً:
- الحوار يتواصل حتى اليوم.. أحسنت، ولكن متى ينتهي الحوار حسب رأيك؟
- لا أظن أن اليوم بعيد إذا قسنا حياة الإنسان على الأرض مقابل عمر أرضنا.. ولكن لدي حكاية تفسر سيطرة الفكرة، وخاصة فكرة الله والإيمان على الناس..
- ننصت لك.. أتحفينا بما لديك.
- كانت امرأة ورعة متدينة تخرج كل صباح لبلكونة بيتها، وتنظر إلى السماء وتصرخ بأعلى صوتها وهي تفرد ذراعيها على أوسع ما تستطيع: "مجدوا الله". ولكن جارها كافر ابن كافر، كان يغضب من صرختها الصباحية التي تحرمه من ساعة نوم أخرى، فيطل من شباك بيته ويصرخ نحوها: " لا يوجد الله".
وهكذا عاشا سنوات. لا حديث بينهما، حتى ولا سلام. هي تصرخ كل فجر: "مجدوا الله" وهو يصرخ بعدها غاضباً: "لا يوجد الله".
وحدث أن واجهت المرأة وضعاً مالياً صعباً جداً، لدرجة أنها عانت من الجوع، ومع ذلك لم تتوقف عن الصياح فجراً: "مجدوا الله" وفورا يجيئها رد جارها: "لا يوجد الله". ولكن الجوع أرهقها، فضعف صوتها، ووقفت ذليلة في فجر أحد الأيام، تنظر إلى السماء وتقول: "منذ يومين لم يدخل الطعام فمي، يا إلهي إبعث لي ما ينقذني من جوعي... ليتمجد اسمك.. مجدوا الله".
وانتظرت أن يرد جارها كعادته، ولكنه لم يرد، فاستبشرت خيراً أن الله أخرسه كما كانت تطلب في صلواتها من الرب. وأيقنت أن الرب لن يتخلى عنها وسيبعث لها ما ينقذها من جوعها.
عندما فتحت باب بيتها بعد ساعة أو أكثر لتذهب إلى السوق علها تجد بعض ما يصلح للأكل في عربات القمامة، فوجئت بأكياس الطعام من خضار وفواكه ولحوم ودجاج وأسماك أمام باب بيتها، فصرخت بسعادة: "مجدوا الله". وإذ بجارها يفتح باب بيته ويصيح بها: "أنا من اشتريت لك الطعام، لا يوجد الله".
نظرت اليه السيدة مبتسمة وصرخت: "مجدوا الله، مجدوه كثيراً... لأنه زودني بالطعام، وجعل الشيطان الكافر يدفع ثمنه".
نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي فلسطيني – الناصرة
nabbiloudeh@gmail.com
( قصة لقراء يفكرون فقط !!)
قرر محاضر الفلسفة في محاضرة له أمام طلاب السنة الأولى، أن يجس نبض عقول طلابه، الذين ما زال معظمهم غير مستوعبين ما الذي ورطهم بموضوع الفلسفة، بادرهم دون مقدمة:
- هل يستطيع احد منكم أن يميز بين الله الذي يصوره الفلاسفة، كقوة ما، أو حارس عظيم المسؤولية، وبين الله الذي تبشر به الديانات السماوية، ويؤمن به معظم الناس؟
بعد توقف وتأمل لوجوه الطلاب الذين حل عليهم الصمت والتفكير، واصل المحاضر:
- في البداية من المفيد أن أعرفكم على بعض مضامين موضوعنا اليوم، وتجدون في ورقة العمل المراجع التي لا بد أن تقرؤوها، ولكني انتظر منكم عدم تكرار ما تقرؤون، إنما إبداع تصوركم الذاتي، ولا تخافوا من الخطأ، إذا لم تخطئوا.. هذا يعني أنكم لم تفكروا، وأنكم مجرد دواب تجتر كلام الآخرين بلا تفكير. وبالتأكيد أنا أصنفكم مع المخلوقات القادرة على التفكير.. إذن ما تكونون... مفتاحه بأيديكم.
طلابي الأعزاء لا تنسوا أن الفلسفة لا تقبل تحديد مساحة لها.. وتذكروا أن الأكثرية المطلقة من أهم الفلاسفة الذين عرفتهم الإنسانية كانوا من أعظم العلماء... لذلك عرفوا الله بأنه قوة أكثر مما هو شخصية.. والبعض تجاوز ذلك إلى درجة نفيه. اليوم سنتناول مفهوم الله بتعريفه كقوة. القوة، كما تعلمون... يمكن تجاوزها في العلوم بقوة أكبر منها.. أما الله حسب اليهود والمسيحيين، والمسلمين، وكل من نقل عنهم، فهو سيد التاريخ، ومد يد المساعدة في اللحظات القاسية والمصيرية، ووزع وعودا والتزامات.. والى آخر هذه القصص التي نعيشها كل يوم. اقطعوا أنفسكم عنها وتعالوا نفكر كفلاسفة... وإذا توصلتم إلى قناعات فلسفية إيمانية مبررة، فهذا شأنكم، والعكس مطروح أيضا... أنا لا أحكم على قناعاتكم، أنا أحكم على تطور تفكيركم. مفهوم؟!
توقف يلتقط أنفاسه ويتأمل ردود الفعل البارزة على تقاسيم وجوه طلابه. وكان يبتسم في سره ويعرف أن ترددهم اليوم سيتحول إلى مناطحة غدا. اليوم يستطيع أن يفرض سطوته عليهم ويقذفهم من فكرة إلى أخرى كما يقذف لاعبو كرة القدم كرتهم.. من أول الملعب إلى طرفه الأخر. ومتعته ستكون أكبر عندما يتمردون على أفكاره، أو يضيفون لها تبريراتهم.. عندها تبدأ دروس الفلسفة الحقيقية مع رؤوس منفتحة لكل تعبير ولكل إشارة ولكل حركة جسم قد تنفي القول المسموع. وواصل مستمتعاً بإرباكهم:
- هل سمعتم عن بليز باسكال؟ ليست باسكال المغنية اللبنانية ذات الجسد الجميل.. حسناً لا أنتظر إجاباتكم.. باسكال بليز، هو فيلسوف فرنسي وعالم رياضيات عاش في القرن السابع عشر بين 1723 حتى 1662 اشتهر بفلسفته اللاهوتية. أي كان متديناً ومؤمناً. قال باسكال أمراً مثيراً، بأن القرار الذي يختاره الإنسان حول إيمانه بالله، يشبه المقامرة. وفسر موقفه، وهو فيلسوف اللاهوت، بأنه إذا كان قرارنا المراهنة بأن الله موجود، ويتبين في النهاية أننا أخطأنا وأن الله غير موجود، عندها خسارتنا لن تكون كبيرة. ولكن إذا انعكس الأمر، وقامرنا على أن الله غير موجود وتبين في النهاية انه موجود، عندها ستكون خسارتنا فادحة جداً، لأننا سنخسر الجائزة الكبرى: السعادة الأبدية في ملكوت الله. لذلك نجد أن باسكال اختار أفضل مقامرة، حسب ما توصل إليه تفكيره، أن يعيش حياته وكأن الله موجود. بالطبع هذا الموقف الباسكالي ترك أثره على فلسفة باسكال لدرجة أن الإيمان بالله صار يعرف فلسفياً في الدراسات الأكاديمية بإصطلاح: "مقامرة باسكال".
ولكنه ليس موضوعنا الآن.. إنما قصدت أن أصور لكم الله حسب ما يتصوره فيلسوف لاهوتي.. الإيمان مقامرة، خسارتها غير هامة، ولكن ربحها عظيم. نعود للسؤال الذي طرحته في البداية: هل يستطيع أحد منكم أن يميز بين الله الذي يصوره الفلاسفة، كقوة ما، أو حارس عظيم المسؤولية، وبين الله الذي تبشر به الديانات السماوية، ويؤمن به معظم الناس؟
ما بالكم أصبتم بالخرس.. الصمت في الفلسفة مرض دماغي. تجردوا من عالمكم القديم.. بدون ذلك أنصحكم بدراسة موضوع لا يحتاج إلى بتر ما نشأتم عليه. يجب أن تعتادوا على قول ما كنتم تخافون الاعتراف به حتى بينكم وبين أنفسكم.. انتم في عالم آخر الآن.. عالم الفلسفة لا يبنى على أفكار جداتكم وأقاصيصهن. أنا لن افشي ما تصرحون به.. كل كلمة تقال هنا تبقى في الصف.. كل تفوُّهٍ حتى لو بدا مضحكاً هو أفضل من الخوف من التعبير... أرى هناك أصبعاً، الجنس اللطيف ينتصر في هذا الصف.. تفضلي:
وقفت فتاة ضعيفة الجسم وتكاد تبدو طالبة مدرسة ابتدائية.. ولكنها دائماً تتطوع لاقتحام الحوار دون تردد، وكان متنبهاً لها ولمعلوماتها الواسعة، رغم أنها أحياناً ليست في نفس الاتجاه الذي يتوقعه، ولكن مجرد اندفاعها بجرأة لقول رأيها جعل المحاضر يحددها منذ اليوم كطاقة دراسية وفكرية يجب توفير الظروف لتطورها. قالت:
- أعتقد أن الله الذي يقصده الفلاسفة ليس شخصاً كما تعلمنا الديانات، ولا يتدخل في مصائر البشر، إنما قوة أشبه بما يظهر في أدب الخيال العلمي.. يحتاج الإنسان إلى اكتشاف قوة مضادة، ربما علمية، ربما عقلية، للتملص منها بحالة شكلت خطراً عليه. أو لمصادقتها اتقاءً لشرها..
ضحك المحاضر معجباً بشرحها:
- فكرة رائعة.. لا أدعم صحتها.. إنما لينتبه الطلاب إلى الجديد في هذا الطرح، هذا ما يهم موضوع الفلسفة.. الفلسفة كما تعلمون هي القدرة على الإبداع الذهني.. على طرح الإسئلة، وأسئلة تقود الى أسئلة، لا شيء جامد ومتوقف وينتظر ان نتناوله لنعرف الجواب، قد نغادر الحياة ولا نملك الا القليل من المعرفة عن عالمنا.. لا تقلقلوا.. هذا القليل يحتاج الى حواسيب بالغة القوة والضخامة لحفظه.. ولا تنسوا أن الفلسفة ظهرت مع انفصال العمل الجسدي عن العمل الذهني.. أي أن الفلسفة هي القدرة على جعل الوعي قادراً على فهم طبيعة الحياة والظواهر الطبيعية والإجتماعية بالاعتماد على الوعي. والآن طالبتي العزيزة، قولي لنا قبل أن تجلسي، أنتِ شخصياً، أيّ اله تفضلين؟
- اسمح لي.. أن أجيب بأسلوب فلسفي...
صعق المحاضر من كلماتها غير المتوقعة، وجلس قائلا :
- تفضلي معك كل الوقت الذي تشائين، كلنا ننصت لك... (وواصل ساخراً بعض الشيء) ولجوابك بأسلوب فلسفي.
- قرأت أمس حواراً من الأدب الإغريقي بين ابن زيوس (وزيوس يا أعزائي الطلاب هو إله الشمس أحب امرأة ورزق منها بابن نصف اله نصف إنسان) ابن زيوس قال لصديقه الإنسان: "والدي يعتقد انك تؤثر علي بشكل سيء؟". رد صديقه: "هذا مثير، لأني كنت أظن أن زيوس والدك هو الذي يؤثر عليك بشكل سيء". سأله: " ماذا تقصد؟" أجاب: "زيوس يجعلك تعتقد أن الأصوات في رأسك حقيقية". سأل ابن زيوس: "وكيف تعرف إنها ليست حقيقية؟" أجابه: "ما دمت مقيماً معنا على الأرض كإنسان، فأنت مثلنا، وكل ما تسمعه هو وهم متخيل، حتى لو كنت تدّعي انك ابن زيوس. أنت ابنه فوق فقط، وفوق لا أحد يعلم ماذا يوجد". سأله ابن زيوس: "إذن افهم انك تقول أن زيوس نفسه وهم أيضاً؟ ". أجاب: "أنا لم أقل ذلك بعد.. لا أعرف.. لم يره أحد، حتى انت لا تعرف شكله.. ربما تعيش حلماً؟!". سأل ابن زيوس: "يعني ذلك أني وهم وأبي الذي تعبده ملايين المخلوقات هو وهم أيضاً؟!". أجابه: "أنت حقيقي.. ولكن الأوهام التي حشوا رأسك بها تجعلك غريب الأطوار". قال غاضباً: "أنت صديقي.. كيف تنكرني؟" أجابه: "أنا لا أنكرك، أنت حقيقي.. أنا أنكر أوهامك".
ويبدو أن الحوار يتواصل حتى اليوم... وفي كل مكان.
قال الأستاذ مفكراً:
- الحوار يتواصل حتى اليوم.. أحسنت، ولكن متى ينتهي الحوار حسب رأيك؟
- لا أظن أن اليوم بعيد إذا قسنا حياة الإنسان على الأرض مقابل عمر أرضنا.. ولكن لدي حكاية تفسر سيطرة الفكرة، وخاصة فكرة الله والإيمان على الناس..
- ننصت لك.. أتحفينا بما لديك.
- كانت امرأة ورعة متدينة تخرج كل صباح لبلكونة بيتها، وتنظر إلى السماء وتصرخ بأعلى صوتها وهي تفرد ذراعيها على أوسع ما تستطيع: "مجدوا الله". ولكن جارها كافر ابن كافر، كان يغضب من صرختها الصباحية التي تحرمه من ساعة نوم أخرى، فيطل من شباك بيته ويصرخ نحوها: " لا يوجد الله".
وهكذا عاشا سنوات. لا حديث بينهما، حتى ولا سلام. هي تصرخ كل فجر: "مجدوا الله" وهو يصرخ بعدها غاضباً: "لا يوجد الله".
وحدث أن واجهت المرأة وضعاً مالياً صعباً جداً، لدرجة أنها عانت من الجوع، ومع ذلك لم تتوقف عن الصياح فجراً: "مجدوا الله" وفورا يجيئها رد جارها: "لا يوجد الله". ولكن الجوع أرهقها، فضعف صوتها، ووقفت ذليلة في فجر أحد الأيام، تنظر إلى السماء وتقول: "منذ يومين لم يدخل الطعام فمي، يا إلهي إبعث لي ما ينقذني من جوعي... ليتمجد اسمك.. مجدوا الله".
وانتظرت أن يرد جارها كعادته، ولكنه لم يرد، فاستبشرت خيراً أن الله أخرسه كما كانت تطلب في صلواتها من الرب. وأيقنت أن الرب لن يتخلى عنها وسيبعث لها ما ينقذها من جوعها.
عندما فتحت باب بيتها بعد ساعة أو أكثر لتذهب إلى السوق علها تجد بعض ما يصلح للأكل في عربات القمامة، فوجئت بأكياس الطعام من خضار وفواكه ولحوم ودجاج وأسماك أمام باب بيتها، فصرخت بسعادة: "مجدوا الله". وإذ بجارها يفتح باب بيته ويصيح بها: "أنا من اشتريت لك الطعام، لا يوجد الله".
نظرت اليه السيدة مبتسمة وصرخت: "مجدوا الله، مجدوه كثيراً... لأنه زودني بالطعام، وجعل الشيطان الكافر يدفع ثمنه".
نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي فلسطيني – الناصرة
nabbiloudeh@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق