د. مجيــد القيسي
نشرت احدى الصحف اللندنية التي تصدر باللغة العربية مقابلة كان قد اجراها السيد وليد الزريبي في الأول من تشرين ألأول الجاري مع المفكر الدكتور عبد المنعم المحجوب والذي فجر خلالها جملة من المسائل تتعلق بأمور مهمة وحساسة ومن منظور لم يكن مألوفا بين الناس ، سواء كانو قراءً عاديين او مختصين. ومن جملة العناوين او الشعارات التي اطلقها المحجوب: (ان اللغة السومرية حالة جنينية تطورت الى اللغات ألأفرو- آسيوية بما فيها العربية) و(ان اليهود جزء من الأمة العربية ، اي انهما جزءآن من تأريخ واحد). ثم ناقش الكاتب أمورا كثيرة ومتشعبة لكنني سوف ابحث في العنوانين الرئيسين المذكورين بشئ من التفصيل لإستجلاء بعض الجوانب الغامضة..
والواقع ، فان كتابات المفكر العربي الدكتور عبد المنعم المحجوب تتميز عن كتابات المفكرين العرب المعاصرين بالإثارة والتفرد ، وبالخروج على النسق العام المألوف عند تناوله لعدد من المسائل الخطيرة وفي ميادين الفكر العربي كالموضوعين السابقين. ومعظم ما يطرحه يندرج ضمن الإطار الفكري/ الفلسفي القائم على التحكيم العقلي والنظرة الفلسفية المجردة لفرضياته غير المألوفة ( حالة ما قبل اللغة مثلا) اكثر من اعتماده على النظريات العلمية السائدة والمؤسسة على التجربة ، وان كان يستعمل مخرجاتها احيانا كبراهين لإثبات فرضياته الفلسفية. فهو طالب فكر وفلسفة اكثر منه طالب علم تجريبي. فتراه يلتقط بضعة احجار من هنا وهناك ليشيد منها قصرا منيفا جميلا في الفضاء. ومع ذلك ، فلا احد ينكر على الكاتب قدراته الفذة في اللعب بورق المصطلح والرمز والتحليق في فضاء التجريد الفسيح ، ذلك الفضاء الذي اتخذ منه لنفسه ملاذا آمنا لدرء اية ملاحقة علمية وموضوعية قد يتعرض لها في مستقبل مبارياته الفكرية.
ونحن لو انعمنا النظر في المسائل الجدلية التي فجرها بخصوص اللغة السومرية بإعتبارها أصل اللغات السامية بضمنها العربية ، وان السومريين هم اصل شعوب المنطقة ، لم نجد ما يسعف موقفه في ما كتبه علماء سومريات عراقيون معروفون مثل (فاضل عبد الواحد) او (فوزي رشيد) او (بهنام ابو الصوف) ولا حتى من الراحلين امثال العالم الكبير (طه باقر). ولا اظن ان ما نشره علماء السلالات او الأجناس (شاكر مصطفى سليم) اوعلماء الإجتماع (علي الوردي) ، او التأريخ القديم وآلآثار ( جواد علي او سامي سعيد الأحمد) او علماء اللغة ( ألأب أنستاس ماري الكرملي ومصطفى جواد) ما يعزز اقواله تلك إلا في حدود العموميات. ولا يبتعد راي العلماء العرب والغربيين عن رأي العراقيين كثيرا .
فنحن لو اعتمدنا ما قاله عن السومريين من حيث دورهم الثقافي/ اللغوي الرائد في ارجاء المنطقة ، بل وفي عالم ذلك العصر ، لوقفنا جميعا الى جانبه مصفقين مبتهجين. لكنه بتحليقه في اجواء التجريد والخيال والإستلهام والتعميم وفي مواضيع قامت أصلا على التنظير والتجريب قد حشر موضوعا صاحيا متوهجا في ثقب أسود لا خلاص منه. فهو كثير اللعب والمناورة بالمصطلح ليعزف على اوتار العقل التجريدي وبالحان غريبة غير مألوفة ، لكن بعضها مثير وكثير الجاذبية بلا شك.
والذي اثار كل تلك الضجة ان الكاتب قد ركب فرسا بريا جموحا لا يمكن لجمه او قياده ، وهو موضوعة السومريين وبدايات نشأتهم وأصولهم ، ومن أين جاؤا ومتى جاؤا ، وطبيعة لغتهم الأسطورية الساحرة ، باعتبارها اول لغة نقلها إنسان من اللسان الى الواح الصلصال. هذا فضلا عن التعقيد الشديد الذي اعتور اللغة نفسها ، من حيث القواعد والأبنية والدلالات ، بإعتراف اكثر علماء السومريات صيتا ومعرفة. وهذا الوصف المثير بالذات هو الذي جعل من الموضوع السومري اقرب الى الأساطير وحكايات الملاحم وقصص الخيال العلمي منه الى موضوعات اللغة او التأريخ او ألآثار، حتى صار ذلك الموضوع ألتأريخي وقودا لخيال الحالمين والرومانسيين ، وفيهم الدكتور المحجوب. فاليوم اصبح الكل يتحدث عن السومريين ويرنو الى رايتهم الخفاقة ، بعد ان أنزلت رايات وأسقطت رموز ، وهم يأملون بأنها سوف تعيد الى العراق الخاتم الأسطواني السحري الذي نقشت عليه كلمة (أُروكْ) الخالدة والذي سرقه لصوص التأريخ تحت جنح الظلام
ويلاحظ المتتبع ان الكاتب كان شديد الخلط بين العلمي والفكري والفلسفي والسياسي والإعلامي . وكذلك بين البديهي والبرهاني . والأمثلة على ذلك كثيرة. لكن الصيحة الفلسفية / السياسية / الإعلامية كانت هي ألأعلى نبرة. وكثيرا ما استعمل المقصلة لقطع قطعة جبن طرية. فهو شديد الإعجاب بالألفاظ المثيرة. من ذلك مثلا قوله: ( اللغة الإنكليزية لغة غير حضارية ووقحة وعارية. ونحن ننتحر جماعيا لأننا نتصور العالم انعكاسا لنا....الخ). لكنه مع هذا قد تحاشى ذكر اسباب وقاحة (الإنكليزية) وانتشارها الكوني وصلة ذلك بفضائها اللغوي/الإقتصادي/ السياسي/ العسكري ، ومقارنتها بجبن (اليونانية) ؛ لغة الفلسفة والعلوم طوال قرون ، وفقر المتحدثين بها. ناهيك عن اللغة العربية العريقة الشامخة ، رغم الهوان والبؤس الذي يحتضنها. كما انه لم يشر الى (جبن) اللغات (اليابانية) و(الصينية) و(الكورية) ذات الطابع الصوري / المسماري المتشابك ، وكيف حققت المنجز العلمي/ التقني/ الإقتصادي/ المذهل رغم ذاك.
ان قول الدكتور المحجوب بان اللغة العربية ( واللغات السامية مجتمعة) قد نشأت من جنين السومرية قول افتراضي ومجرد ، وان ما يدعمه من شواهد لغوية محدودة لايكفي لدعم ذلك الأفتراض. فمما لا شك فيه ان اللغة السومرية لغة غائرة في الأزل ومنجز بشري مدهش. وهي تشير الى عظمة أؤلئك الذين ابتكروا انظمتها الصوتية والرمزية واختاروا دلالاتها بدقة متناهية ، حتى صار للهمهمة لديهم معان . فهي ، وبعد انقضاء مرحلتي الشباب والإكتهال ، قد اكتملت قيافتها الى ما اصطلح عليه بالنظام الإلصاقي/ المقطعي المتعارف عليه ألآن. وهو النظام الذي تتبعه اللغات الهندية / ألأوربية المعاصرة ومؤنته وعدته وحدات بنائية اسموها بالسوابق واللواحق والحشوات. ويختلف هذا النظام ، كما هو معلوم ، عن النظام الأشتقاقي/ الصرفي (المورفولوجي) السائد في اللغات السامية ، وفي مقدمتها اللغة العربية التي تتفوق على اخواتها الساميات بثراء الأصول اللفظية وبسعة الدلالات وبحيوية القواعد ، وبالعمق التأريخي ، مع وجود مشتركات كثيرة بينها. ويمكن الإدعاء بانه لا العربية هي لغة اشتقاقية بحت ولا السومرية هي لغة الصاقية بحت. ولعل هذا الخيط الرفيع هو الذي شد من عزيمة الكاتب لأثبات النسب السومري لجميع لغات المنطقة. فالمحجوب ، ولكي يخرج من دائرة الحرج المعرفي ، قد ذهب بعيدا نحو فضاء (ما قبل اللغة) ليحلق وحيدا دون ان يترصده أحد من علماء الألسنيات.
والحقيقة ان لا أحد يعلم يقينا ما هية خصائص ذلك الفضاء التجريدي المتخيل. فعلماء اللغات السامية قد رجحوا بان جميع تلك اللغات قد ولدت من رحم لغة سامية بدائية او اولى اطلقوا عليها مصطلح ( بروتو سيميتك) ، وهي ليست السومرية المعروفة على اية حال. اما القول بان هناك تلاقح وعلاقات دينامية بين السومرية واخواتها الساميات فأمر لا ينكره احد. إذ لا يمكن ان تتساكن جميع تلك اللغات في منزل واحد من غير علاقات حميمة وربما مصاهرة. ومع كل ذلك تبقى السومرية المنقوشة على الرقم الصلصالية تغرد الحانها الخاصة في عالم الألسنيات وبمفردها.
وهنالك من الشواهد ما يشير الى ان البناء الجملي العام للغة السومرية اكثر قربا من لغات هندية / اوربية معروفة كالسنسكريتية والإغريقية منها الى ابنية اللغات السامية. ولقد وجدنا اثناء عملنا على (المعجم الكيميائي الجامعي) الذي استغرق انجازه عدة عقود من السنين بان ابنية المصطلح الكيميائي الدولي (المقطعي) ، ولغته الإصلاحية الغالبة هي الإغريقية / اللاتينية ، تكاد تتطابق مع أبنية المصطلح السومري المقطعي الى حد مدهش. وقد افادنا ذلك ، وبلا حدود ، في بناء المصطلح الكيميائي العربي المنهجي الذي شيد على كلا النظامين ؛ الإشتقاقي والإلصاقي معا ، مستخدمين الأدوات العربية. ولعل في الأمثلة الثلاثة الآتية ما يقرب الصورة من القارئ الكريم اكثر فأكثر:
تسمى السومرية شجرة الياس: (گيش- شم- گير). والأسم له ثلاثة مقاطع ، ومعناه (شجرة- رائحتها- زكية). و(گيش) رمز لصنف الشجر. ويلاحظ هنا ان المصطلح قريب من الجملة التفصيلية الوصفية ، وهو ما نلاحظه تماما في الألوف من المصطلحات العلمية الدولية المركبة. ولا مجال لذكر أمثلة اكثر لضيق المجال.
ونجد في الإغريقية / اللاتينية المصطلح الطبي البسيط ألآتي:
(هايپر- گلايس- إيم- إيا) ، وهو مكون من اربعة مقاطع ، حيث تمثل السابقة (هايبر) رمزا لنوع من الخلل الوظيفي في جسم الإنسان نتيجة لـ (زيادة) السكر ألأحادي في الدم ، بينما تمثل الكاسعة (إيا) رمزا للخلل او المرض بوجه عام . وهو في الأصل اللغوي علامة اسمية او مصدرية. ويقابله في العربية العلمية المنهجية ، ولفظا بلفظ: (افراط - ية - سكر- الدم). حيث قابلنا (هايبر) بـ ( إفراط) و (إيا) بـ ( ية) ، وهي في العربية علامة المصدر الصناعي الذي يشير هنا الى الخلل او المرض. لكننا نطلق على ذلك الخلل في الفصحى لفظة (السكري) ، اي مرض (السكري ) وذلك على وجه الإيجاز. ويؤكد لنا كل ذلك مقدار التباين النسبي بين العربية التقليدية من جهة وبين السومرية والإغريقة من جهة أخرى رغم التماثل الشكلي. لكننا لو تفحصنا بناء المصطلح الكيميائي العربي المنهجي السابق لأكتشفنا ، ومن خلال الألفاظ المتتابعة الأربعة ، شيئا من الخصائص الإلصاقية ، فضلا عن الخصائص الإشتقاقية الرئيسة لكل مقطع من المقاطع المذكورة. ولقد جرب هذا المنهج في بناء مصطلحات كيميائية شديدة التركيب ومكونة من مقاطع عديدة ( على هيئة نعوت او متضايفات) متتابعة وبنوع من التلصيق المألوف. ولعل امثال تلك الشواهد وغيرها هي التي الهمت الكاتب فاسترشد بها لإفتراض العلاقة اللغوية الجنينية بين السومرية وبين الساميات ، وفي مقدمتها العربية.
ومن إجتهادات الكاتب المحجوب اللغوية المبتكرة ألأخرى ما ذكره عن التحول اللغوي/ الدلالي لإلفاظ مثل (رجل ، ملك ، إنسان ، لغة....الخ) وضمن دائرة اللغة السومرية وجاراتها الساميات ، وما اكتشفه من شواهد عن العلاقة التكوينية والأسرية بين جميع تلك اللغات. وقد نضيف بان مثل هذا الإستنتاج ينطبق ايضا على الفاظ منفردة كثيرة من نحو ( ايل ، ايلو ، الله) ، وهي الفاظ مشتركة بين السومرية والساميات.
وقد نجد مثل تلك العلاقات ايضا بين المئات من الألفاظ المشتركة بين لغات متباينة في زمننا الحالي. فلو اخذنا كلمة (كتْ) الأنكليزية وكلمة (قطَّ) العربية مثالا، وكلتاهما تحملان نفس الدلالة ، فليس بمقدور احد ان يعرف ان كانتا لفظتين مختلفتين او لفظة واحدة مهاجرة ، فعليه يصبح من العسير على الباحث ان يقطع بالأصل الواحد لهما. فمثل هذا الإستنتاج لا معنى له وليس بذي قيمة علمية طالما ان كلتا اللفظتين قد اكتسبتا هوية مختلفة ، وان عليهما الخضوع الى قواعد وانظمة لغوية اخرى. كما انه ليس من المفيد ان يزعم الكاتب او غيره بعد حين بان (كتْ) عربية ، او يزعم غيرنا بأن (قط َّ) انكليزية ، وذلك في غياب الشاهد اللغوي/التاريخي القاطع. ونجد في العربية ايضا الفاظا مثل (ناورَ ، مناورة ، مُناور) و(تفلسف ، فلسفة ، فيلسوف) و(فهرس ، يفهرس ، فهرسة) ، وهي بالقطع ليست بعربية الأصل وانما اكتسبت سمات اللغة العربية وخضعت الى انظمتها بعد الهجرة. لكننا عند التأصيل وفي سياق البحث اللغوي/ التأريخي لابد من تثبيت مولدها للأغراض ألأكاديمية.
وعلى نفس النهج يمكن القول بان وجود المئات من الألفاظ العربية في معجم اللغة الفارسية (الهندية / الأوربية) لن يجعل من اللغة الفارسية فرعا من العربية باية حال. كما لايجوز الإدعاء بأن منظومة القواعد في كلتا اللغتين واحدة ، نظرا لوجود هذا العدد الكبير من الألفاظ المشتركة.
خلاصة القول ، فان ما يجمع بين ألألسن هو الفكر اللغوي وحده وما يفرزه من نظم وسياقات لغوية وليست كثرة الألفاظ المشتركة بينها. بمعنى ان وجود الفاظ كثيرة مشتركة بين السومرية والساميات لايعني انها من اصل واحد. كما ان تنقل الألفاظ بين الثقافات المختلفة لابد ان يفيدنا في فهم امور قد تتجاوز محيط اللغة والثقافة بأشواط. لكن علينا ان نكون متيقظين من خطواتنا وعدم القفز في المجهول.
وألآن لنعرج نحو محور آخر دارت حوله فرضيات الدكتور المحجوب وهو قوله بأن (اليهود جزء تأريخي من الأمة العربية) و(العرب واليهود هما جزءآن من تاريخ واحد). وليعذر الكاتب الفاضل جرأتي إن قلت بأن هذا الكلام الفضفاض هو من سلع السياسيين لا من نتاج المفكرين. وقد يكون هذا الإعلان مطلوبا احيانا ، طالما ان جياع العرب ينتظرون طبخة (البحص) هذه حتى تنضج.
والواقع ، فان مثل هذا القول لا يمكن ان يحشر ضمن أي من الأطر اوالمقاربات العلمية والأصطلاحية التي تبحث في شؤون الأقوام وأصولها إلا ضمن ألمنظور الجيوسياسي. فلو كان الكاتب قد استبدل اصطلاح (اليهود) بإصطلاح (العبرانيين) ، وهو يتحدث كمفكر ، لظل ضمن تلك الأطر والمقاربات المنوه بها. فالمصطلح العلمي هو المنار الذي يهتدي بشعاعه المفكر اوالعالم للوصول الى المرسى بسلام. وقد لا اشك بان ماقصده المفكر محجوب بـ (اليهود) هو مصطلح (العبرانيون). ولعلها عثرة فارس في ساحة وغى.
وحتى على افتراض بأننا قلنا بتطابق مصطلحي (اليهودي) و(العبراني) ، فان قولنا هذا لا يصح إلا في نطاق مراحل تأريخية معينة ، يوم كانت اليهودية دين العبرانيين الساميين وعلى مدى قرون طويلة ، لكنها لم تعد كذلك الآن.
لكنني قد اجد نفسي قريبا من الكاتب ، وفي واحات متفرقة من التاريخ العربي/ العبراني المشترك ، وقبل ان تفتك السياسة بالجميع ، حين شاهدنا كيف كان يعيش العرب واليهود (العبرانيون) في طول البلاد العربية وعرضها ، أصدقاء وجيرانا واصهارا.
فقد كنا في العراق نستمتع بموسيقى صالح الكويتي مثلما كانوا يطربون لمقامات محمد القبانجي ، وينصتون الى شعر الجواهري مثلما نستمع الى شعر مير بصري ، ويدرسهم العربية صادق الملائكة كما يدرسنا الرياضيات عبد الله عوبيديا. بل ان تجاربي الحية قد توغلت بعيدا في شرايين بغداد العريقة...الى (رفقة) ؛ تلك المرأة اليهودية الرائعة التي ارضعت ، وحتى الفطام ، طفلا يتيما من عشيرتي بعد ان توفيت والدته أثناء الولادة المتعسرة. وقد اذهب شوطا ابعد من ذلك لأعلن بأننا حين كنا طلابا ونحضر درس الدين كنا نهرع ، وبعفوية ، لنستمع بخشوع الى آيات من القرآن الكريم ، مسلمين ويهودا ونصارى ومندائيين. وكان اليهودي ابن بغداد حين يُسأل عن هويته يقول (يْهودي عُرْبي) ، واذا كان من ابناء السليمانية يقول (يْهودي كُرْدي). هكذا كان العراقيون يتمايزون ويتباهون قبل حدوث الطوفان الثاني الذي جرفت اطيانه واوساخه جميع تلك القيم الأصيلة.
بعد هذا كله ، وبعد ان تحولت اليهودية (الموسوية) الى دين تبشير وعقيدة استيطان ونظام (ابارتيد) ، تغيرت سحنة اليهودي العبراني من اللون الحنطي السامي المحبب الى بياض الشحم الملطخ بحمرة قانية.
وحتى لو قبلنا نحن العرب بمقولة ان (العرب واليهود جزآن من تأريخ واحد) ، بمعنى أننا ابناء عمومة ، فان حكام اسرائيل ومعهم الكثير من سكانها المنسوخين سيعتبرون هذه الخطوة الإنسانية (التصالحية) اهانة قاسية بحقهم ؛ يوجهها اليهم (سقط !) البشر من (الگوييم !). فالكيان الإسرائيلي لم يحتل ارضا لغيره ، ولم يشرد شعبا عريقا ليفرغ محلهم كتلا من الشحم الأبيض المصبوغ بحمرة الدم ، ولم يرتكب جرائم حرب ومحارق وإبادة ، وحسب ، بل انه قد انهى حلما ورديا عذبا لثلاثمئة مليون من الساميين ، وسرق منهم أملا زاهرا وتأريخا إنسانيا متوهجا عمره أكثر من ستة آلاف عام.
* اكاديمي عراقي مغترب
majidkayssi@yahoo.com
نشرت احدى الصحف اللندنية التي تصدر باللغة العربية مقابلة كان قد اجراها السيد وليد الزريبي في الأول من تشرين ألأول الجاري مع المفكر الدكتور عبد المنعم المحجوب والذي فجر خلالها جملة من المسائل تتعلق بأمور مهمة وحساسة ومن منظور لم يكن مألوفا بين الناس ، سواء كانو قراءً عاديين او مختصين. ومن جملة العناوين او الشعارات التي اطلقها المحجوب: (ان اللغة السومرية حالة جنينية تطورت الى اللغات ألأفرو- آسيوية بما فيها العربية) و(ان اليهود جزء من الأمة العربية ، اي انهما جزءآن من تأريخ واحد). ثم ناقش الكاتب أمورا كثيرة ومتشعبة لكنني سوف ابحث في العنوانين الرئيسين المذكورين بشئ من التفصيل لإستجلاء بعض الجوانب الغامضة..
والواقع ، فان كتابات المفكر العربي الدكتور عبد المنعم المحجوب تتميز عن كتابات المفكرين العرب المعاصرين بالإثارة والتفرد ، وبالخروج على النسق العام المألوف عند تناوله لعدد من المسائل الخطيرة وفي ميادين الفكر العربي كالموضوعين السابقين. ومعظم ما يطرحه يندرج ضمن الإطار الفكري/ الفلسفي القائم على التحكيم العقلي والنظرة الفلسفية المجردة لفرضياته غير المألوفة ( حالة ما قبل اللغة مثلا) اكثر من اعتماده على النظريات العلمية السائدة والمؤسسة على التجربة ، وان كان يستعمل مخرجاتها احيانا كبراهين لإثبات فرضياته الفلسفية. فهو طالب فكر وفلسفة اكثر منه طالب علم تجريبي. فتراه يلتقط بضعة احجار من هنا وهناك ليشيد منها قصرا منيفا جميلا في الفضاء. ومع ذلك ، فلا احد ينكر على الكاتب قدراته الفذة في اللعب بورق المصطلح والرمز والتحليق في فضاء التجريد الفسيح ، ذلك الفضاء الذي اتخذ منه لنفسه ملاذا آمنا لدرء اية ملاحقة علمية وموضوعية قد يتعرض لها في مستقبل مبارياته الفكرية.
ونحن لو انعمنا النظر في المسائل الجدلية التي فجرها بخصوص اللغة السومرية بإعتبارها أصل اللغات السامية بضمنها العربية ، وان السومريين هم اصل شعوب المنطقة ، لم نجد ما يسعف موقفه في ما كتبه علماء سومريات عراقيون معروفون مثل (فاضل عبد الواحد) او (فوزي رشيد) او (بهنام ابو الصوف) ولا حتى من الراحلين امثال العالم الكبير (طه باقر). ولا اظن ان ما نشره علماء السلالات او الأجناس (شاكر مصطفى سليم) اوعلماء الإجتماع (علي الوردي) ، او التأريخ القديم وآلآثار ( جواد علي او سامي سعيد الأحمد) او علماء اللغة ( ألأب أنستاس ماري الكرملي ومصطفى جواد) ما يعزز اقواله تلك إلا في حدود العموميات. ولا يبتعد راي العلماء العرب والغربيين عن رأي العراقيين كثيرا .
فنحن لو اعتمدنا ما قاله عن السومريين من حيث دورهم الثقافي/ اللغوي الرائد في ارجاء المنطقة ، بل وفي عالم ذلك العصر ، لوقفنا جميعا الى جانبه مصفقين مبتهجين. لكنه بتحليقه في اجواء التجريد والخيال والإستلهام والتعميم وفي مواضيع قامت أصلا على التنظير والتجريب قد حشر موضوعا صاحيا متوهجا في ثقب أسود لا خلاص منه. فهو كثير اللعب والمناورة بالمصطلح ليعزف على اوتار العقل التجريدي وبالحان غريبة غير مألوفة ، لكن بعضها مثير وكثير الجاذبية بلا شك.
والذي اثار كل تلك الضجة ان الكاتب قد ركب فرسا بريا جموحا لا يمكن لجمه او قياده ، وهو موضوعة السومريين وبدايات نشأتهم وأصولهم ، ومن أين جاؤا ومتى جاؤا ، وطبيعة لغتهم الأسطورية الساحرة ، باعتبارها اول لغة نقلها إنسان من اللسان الى الواح الصلصال. هذا فضلا عن التعقيد الشديد الذي اعتور اللغة نفسها ، من حيث القواعد والأبنية والدلالات ، بإعتراف اكثر علماء السومريات صيتا ومعرفة. وهذا الوصف المثير بالذات هو الذي جعل من الموضوع السومري اقرب الى الأساطير وحكايات الملاحم وقصص الخيال العلمي منه الى موضوعات اللغة او التأريخ او ألآثار، حتى صار ذلك الموضوع ألتأريخي وقودا لخيال الحالمين والرومانسيين ، وفيهم الدكتور المحجوب. فاليوم اصبح الكل يتحدث عن السومريين ويرنو الى رايتهم الخفاقة ، بعد ان أنزلت رايات وأسقطت رموز ، وهم يأملون بأنها سوف تعيد الى العراق الخاتم الأسطواني السحري الذي نقشت عليه كلمة (أُروكْ) الخالدة والذي سرقه لصوص التأريخ تحت جنح الظلام
ويلاحظ المتتبع ان الكاتب كان شديد الخلط بين العلمي والفكري والفلسفي والسياسي والإعلامي . وكذلك بين البديهي والبرهاني . والأمثلة على ذلك كثيرة. لكن الصيحة الفلسفية / السياسية / الإعلامية كانت هي ألأعلى نبرة. وكثيرا ما استعمل المقصلة لقطع قطعة جبن طرية. فهو شديد الإعجاب بالألفاظ المثيرة. من ذلك مثلا قوله: ( اللغة الإنكليزية لغة غير حضارية ووقحة وعارية. ونحن ننتحر جماعيا لأننا نتصور العالم انعكاسا لنا....الخ). لكنه مع هذا قد تحاشى ذكر اسباب وقاحة (الإنكليزية) وانتشارها الكوني وصلة ذلك بفضائها اللغوي/الإقتصادي/ السياسي/ العسكري ، ومقارنتها بجبن (اليونانية) ؛ لغة الفلسفة والعلوم طوال قرون ، وفقر المتحدثين بها. ناهيك عن اللغة العربية العريقة الشامخة ، رغم الهوان والبؤس الذي يحتضنها. كما انه لم يشر الى (جبن) اللغات (اليابانية) و(الصينية) و(الكورية) ذات الطابع الصوري / المسماري المتشابك ، وكيف حققت المنجز العلمي/ التقني/ الإقتصادي/ المذهل رغم ذاك.
ان قول الدكتور المحجوب بان اللغة العربية ( واللغات السامية مجتمعة) قد نشأت من جنين السومرية قول افتراضي ومجرد ، وان ما يدعمه من شواهد لغوية محدودة لايكفي لدعم ذلك الأفتراض. فمما لا شك فيه ان اللغة السومرية لغة غائرة في الأزل ومنجز بشري مدهش. وهي تشير الى عظمة أؤلئك الذين ابتكروا انظمتها الصوتية والرمزية واختاروا دلالاتها بدقة متناهية ، حتى صار للهمهمة لديهم معان . فهي ، وبعد انقضاء مرحلتي الشباب والإكتهال ، قد اكتملت قيافتها الى ما اصطلح عليه بالنظام الإلصاقي/ المقطعي المتعارف عليه ألآن. وهو النظام الذي تتبعه اللغات الهندية / ألأوربية المعاصرة ومؤنته وعدته وحدات بنائية اسموها بالسوابق واللواحق والحشوات. ويختلف هذا النظام ، كما هو معلوم ، عن النظام الأشتقاقي/ الصرفي (المورفولوجي) السائد في اللغات السامية ، وفي مقدمتها اللغة العربية التي تتفوق على اخواتها الساميات بثراء الأصول اللفظية وبسعة الدلالات وبحيوية القواعد ، وبالعمق التأريخي ، مع وجود مشتركات كثيرة بينها. ويمكن الإدعاء بانه لا العربية هي لغة اشتقاقية بحت ولا السومرية هي لغة الصاقية بحت. ولعل هذا الخيط الرفيع هو الذي شد من عزيمة الكاتب لأثبات النسب السومري لجميع لغات المنطقة. فالمحجوب ، ولكي يخرج من دائرة الحرج المعرفي ، قد ذهب بعيدا نحو فضاء (ما قبل اللغة) ليحلق وحيدا دون ان يترصده أحد من علماء الألسنيات.
والحقيقة ان لا أحد يعلم يقينا ما هية خصائص ذلك الفضاء التجريدي المتخيل. فعلماء اللغات السامية قد رجحوا بان جميع تلك اللغات قد ولدت من رحم لغة سامية بدائية او اولى اطلقوا عليها مصطلح ( بروتو سيميتك) ، وهي ليست السومرية المعروفة على اية حال. اما القول بان هناك تلاقح وعلاقات دينامية بين السومرية واخواتها الساميات فأمر لا ينكره احد. إذ لا يمكن ان تتساكن جميع تلك اللغات في منزل واحد من غير علاقات حميمة وربما مصاهرة. ومع كل ذلك تبقى السومرية المنقوشة على الرقم الصلصالية تغرد الحانها الخاصة في عالم الألسنيات وبمفردها.
وهنالك من الشواهد ما يشير الى ان البناء الجملي العام للغة السومرية اكثر قربا من لغات هندية / اوربية معروفة كالسنسكريتية والإغريقية منها الى ابنية اللغات السامية. ولقد وجدنا اثناء عملنا على (المعجم الكيميائي الجامعي) الذي استغرق انجازه عدة عقود من السنين بان ابنية المصطلح الكيميائي الدولي (المقطعي) ، ولغته الإصلاحية الغالبة هي الإغريقية / اللاتينية ، تكاد تتطابق مع أبنية المصطلح السومري المقطعي الى حد مدهش. وقد افادنا ذلك ، وبلا حدود ، في بناء المصطلح الكيميائي العربي المنهجي الذي شيد على كلا النظامين ؛ الإشتقاقي والإلصاقي معا ، مستخدمين الأدوات العربية. ولعل في الأمثلة الثلاثة الآتية ما يقرب الصورة من القارئ الكريم اكثر فأكثر:
تسمى السومرية شجرة الياس: (گيش- شم- گير). والأسم له ثلاثة مقاطع ، ومعناه (شجرة- رائحتها- زكية). و(گيش) رمز لصنف الشجر. ويلاحظ هنا ان المصطلح قريب من الجملة التفصيلية الوصفية ، وهو ما نلاحظه تماما في الألوف من المصطلحات العلمية الدولية المركبة. ولا مجال لذكر أمثلة اكثر لضيق المجال.
ونجد في الإغريقية / اللاتينية المصطلح الطبي البسيط ألآتي:
(هايپر- گلايس- إيم- إيا) ، وهو مكون من اربعة مقاطع ، حيث تمثل السابقة (هايبر) رمزا لنوع من الخلل الوظيفي في جسم الإنسان نتيجة لـ (زيادة) السكر ألأحادي في الدم ، بينما تمثل الكاسعة (إيا) رمزا للخلل او المرض بوجه عام . وهو في الأصل اللغوي علامة اسمية او مصدرية. ويقابله في العربية العلمية المنهجية ، ولفظا بلفظ: (افراط - ية - سكر- الدم). حيث قابلنا (هايبر) بـ ( إفراط) و (إيا) بـ ( ية) ، وهي في العربية علامة المصدر الصناعي الذي يشير هنا الى الخلل او المرض. لكننا نطلق على ذلك الخلل في الفصحى لفظة (السكري) ، اي مرض (السكري ) وذلك على وجه الإيجاز. ويؤكد لنا كل ذلك مقدار التباين النسبي بين العربية التقليدية من جهة وبين السومرية والإغريقة من جهة أخرى رغم التماثل الشكلي. لكننا لو تفحصنا بناء المصطلح الكيميائي العربي المنهجي السابق لأكتشفنا ، ومن خلال الألفاظ المتتابعة الأربعة ، شيئا من الخصائص الإلصاقية ، فضلا عن الخصائص الإشتقاقية الرئيسة لكل مقطع من المقاطع المذكورة. ولقد جرب هذا المنهج في بناء مصطلحات كيميائية شديدة التركيب ومكونة من مقاطع عديدة ( على هيئة نعوت او متضايفات) متتابعة وبنوع من التلصيق المألوف. ولعل امثال تلك الشواهد وغيرها هي التي الهمت الكاتب فاسترشد بها لإفتراض العلاقة اللغوية الجنينية بين السومرية وبين الساميات ، وفي مقدمتها العربية.
ومن إجتهادات الكاتب المحجوب اللغوية المبتكرة ألأخرى ما ذكره عن التحول اللغوي/ الدلالي لإلفاظ مثل (رجل ، ملك ، إنسان ، لغة....الخ) وضمن دائرة اللغة السومرية وجاراتها الساميات ، وما اكتشفه من شواهد عن العلاقة التكوينية والأسرية بين جميع تلك اللغات. وقد نضيف بان مثل هذا الإستنتاج ينطبق ايضا على الفاظ منفردة كثيرة من نحو ( ايل ، ايلو ، الله) ، وهي الفاظ مشتركة بين السومرية والساميات.
وقد نجد مثل تلك العلاقات ايضا بين المئات من الألفاظ المشتركة بين لغات متباينة في زمننا الحالي. فلو اخذنا كلمة (كتْ) الأنكليزية وكلمة (قطَّ) العربية مثالا، وكلتاهما تحملان نفس الدلالة ، فليس بمقدور احد ان يعرف ان كانتا لفظتين مختلفتين او لفظة واحدة مهاجرة ، فعليه يصبح من العسير على الباحث ان يقطع بالأصل الواحد لهما. فمثل هذا الإستنتاج لا معنى له وليس بذي قيمة علمية طالما ان كلتا اللفظتين قد اكتسبتا هوية مختلفة ، وان عليهما الخضوع الى قواعد وانظمة لغوية اخرى. كما انه ليس من المفيد ان يزعم الكاتب او غيره بعد حين بان (كتْ) عربية ، او يزعم غيرنا بأن (قط َّ) انكليزية ، وذلك في غياب الشاهد اللغوي/التاريخي القاطع. ونجد في العربية ايضا الفاظا مثل (ناورَ ، مناورة ، مُناور) و(تفلسف ، فلسفة ، فيلسوف) و(فهرس ، يفهرس ، فهرسة) ، وهي بالقطع ليست بعربية الأصل وانما اكتسبت سمات اللغة العربية وخضعت الى انظمتها بعد الهجرة. لكننا عند التأصيل وفي سياق البحث اللغوي/ التأريخي لابد من تثبيت مولدها للأغراض ألأكاديمية.
وعلى نفس النهج يمكن القول بان وجود المئات من الألفاظ العربية في معجم اللغة الفارسية (الهندية / الأوربية) لن يجعل من اللغة الفارسية فرعا من العربية باية حال. كما لايجوز الإدعاء بأن منظومة القواعد في كلتا اللغتين واحدة ، نظرا لوجود هذا العدد الكبير من الألفاظ المشتركة.
خلاصة القول ، فان ما يجمع بين ألألسن هو الفكر اللغوي وحده وما يفرزه من نظم وسياقات لغوية وليست كثرة الألفاظ المشتركة بينها. بمعنى ان وجود الفاظ كثيرة مشتركة بين السومرية والساميات لايعني انها من اصل واحد. كما ان تنقل الألفاظ بين الثقافات المختلفة لابد ان يفيدنا في فهم امور قد تتجاوز محيط اللغة والثقافة بأشواط. لكن علينا ان نكون متيقظين من خطواتنا وعدم القفز في المجهول.
وألآن لنعرج نحو محور آخر دارت حوله فرضيات الدكتور المحجوب وهو قوله بأن (اليهود جزء تأريخي من الأمة العربية) و(العرب واليهود هما جزءآن من تاريخ واحد). وليعذر الكاتب الفاضل جرأتي إن قلت بأن هذا الكلام الفضفاض هو من سلع السياسيين لا من نتاج المفكرين. وقد يكون هذا الإعلان مطلوبا احيانا ، طالما ان جياع العرب ينتظرون طبخة (البحص) هذه حتى تنضج.
والواقع ، فان مثل هذا القول لا يمكن ان يحشر ضمن أي من الأطر اوالمقاربات العلمية والأصطلاحية التي تبحث في شؤون الأقوام وأصولها إلا ضمن ألمنظور الجيوسياسي. فلو كان الكاتب قد استبدل اصطلاح (اليهود) بإصطلاح (العبرانيين) ، وهو يتحدث كمفكر ، لظل ضمن تلك الأطر والمقاربات المنوه بها. فالمصطلح العلمي هو المنار الذي يهتدي بشعاعه المفكر اوالعالم للوصول الى المرسى بسلام. وقد لا اشك بان ماقصده المفكر محجوب بـ (اليهود) هو مصطلح (العبرانيون). ولعلها عثرة فارس في ساحة وغى.
وحتى على افتراض بأننا قلنا بتطابق مصطلحي (اليهودي) و(العبراني) ، فان قولنا هذا لا يصح إلا في نطاق مراحل تأريخية معينة ، يوم كانت اليهودية دين العبرانيين الساميين وعلى مدى قرون طويلة ، لكنها لم تعد كذلك الآن.
لكنني قد اجد نفسي قريبا من الكاتب ، وفي واحات متفرقة من التاريخ العربي/ العبراني المشترك ، وقبل ان تفتك السياسة بالجميع ، حين شاهدنا كيف كان يعيش العرب واليهود (العبرانيون) في طول البلاد العربية وعرضها ، أصدقاء وجيرانا واصهارا.
فقد كنا في العراق نستمتع بموسيقى صالح الكويتي مثلما كانوا يطربون لمقامات محمد القبانجي ، وينصتون الى شعر الجواهري مثلما نستمع الى شعر مير بصري ، ويدرسهم العربية صادق الملائكة كما يدرسنا الرياضيات عبد الله عوبيديا. بل ان تجاربي الحية قد توغلت بعيدا في شرايين بغداد العريقة...الى (رفقة) ؛ تلك المرأة اليهودية الرائعة التي ارضعت ، وحتى الفطام ، طفلا يتيما من عشيرتي بعد ان توفيت والدته أثناء الولادة المتعسرة. وقد اذهب شوطا ابعد من ذلك لأعلن بأننا حين كنا طلابا ونحضر درس الدين كنا نهرع ، وبعفوية ، لنستمع بخشوع الى آيات من القرآن الكريم ، مسلمين ويهودا ونصارى ومندائيين. وكان اليهودي ابن بغداد حين يُسأل عن هويته يقول (يْهودي عُرْبي) ، واذا كان من ابناء السليمانية يقول (يْهودي كُرْدي). هكذا كان العراقيون يتمايزون ويتباهون قبل حدوث الطوفان الثاني الذي جرفت اطيانه واوساخه جميع تلك القيم الأصيلة.
بعد هذا كله ، وبعد ان تحولت اليهودية (الموسوية) الى دين تبشير وعقيدة استيطان ونظام (ابارتيد) ، تغيرت سحنة اليهودي العبراني من اللون الحنطي السامي المحبب الى بياض الشحم الملطخ بحمرة قانية.
وحتى لو قبلنا نحن العرب بمقولة ان (العرب واليهود جزآن من تأريخ واحد) ، بمعنى أننا ابناء عمومة ، فان حكام اسرائيل ومعهم الكثير من سكانها المنسوخين سيعتبرون هذه الخطوة الإنسانية (التصالحية) اهانة قاسية بحقهم ؛ يوجهها اليهم (سقط !) البشر من (الگوييم !). فالكيان الإسرائيلي لم يحتل ارضا لغيره ، ولم يشرد شعبا عريقا ليفرغ محلهم كتلا من الشحم الأبيض المصبوغ بحمرة الدم ، ولم يرتكب جرائم حرب ومحارق وإبادة ، وحسب ، بل انه قد انهى حلما ورديا عذبا لثلاثمئة مليون من الساميين ، وسرق منهم أملا زاهرا وتأريخا إنسانيا متوهجا عمره أكثر من ستة آلاف عام.
* اكاديمي عراقي مغترب
majidkayssi@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق