نعمان إسماعيل عبد القادر
كنت صغيرًا إذ ذاك، وكنت كلّما ذكروا "الفلماية" ظننتها شجرة عظيمة ومخيفةً يستظلُّ بظلّها الرعاة والعابرون ويأكل من ثمارها الصغار والسارحون وتعشش على أغصانها آلاف العصافير؛ وصارت اسمًا علمًا يشير إلى المكان الذي نبتتْ فيه فنمتْ وترعرعتْ حتى أخذت شهرتها ثم انقرضت مثلما انقرضتْ غيرها من المخلوقات. كنتُ أظنُّ هذا لأنها لا تبعد عن السّدرة سوى نصف ميلٍ على أكثر تقدير.. ولعلّي لا أبالغ حين كنت أتصورها صخرةً ضخمةً أو في أحايين كثيرةٍ غولاً يظهر في ليالي الشتاء لمن يعصي والديه أو يهمل في دروسه أو يرتكب جريرةً ليحاسبه على كل صغيرة وكبيرة فإما أن يأكله ويترك عظمه للضباع الجائعة أو يحبسه في مكان بعيدٍ يعذبه متى يحلو له. وكانت نساء القرية إذا خرجت في زفّة عريس تنطلق به أغلبهن إلى السّدرة وكأنهن يقلن أمام الملأ إن العرس لن تستوفى شروطه إلا بزيارة السدرة، ثم يشرعن في الطواف حولها مع تصديةٍ من غير مُكاءٍ فيهزجن ويرقصن لساعةٍ ثم يقفلن معه راجعات لتناول وليمة العرس ساعة الغداء.. ومنهنّ، زيادةً في الاطمئنان، لا يكتفين بالسدرة فيهرعن نحو الفلماية حتّى يزول الحسد ويحلو العيش للعروسين معًا.
ولا زلت أذكر ذات مرّة حين بلغت الخامسة من عمري، سألت أبي لمّا سمعته يحدّثُ صديقه عن المجزرة وجاءا على ذكر الفلماية فقلت له: وما هي الفلماية يا أبي؟ أجابني بابتسامة صفراء قائلاً: هي المكان الذي وقعت فيه المجزرة.. هي المكان الذي نصبوا فيه رشاشاتهم.. وهي المكان الذي طلبوا مني حينها عند عودتي مع صديقي من العمل، بطاقة الهوية، قبل أن تأتي ساعة الصفر ويبدأ القتل.. هذه المجزرة الرهيبة جاءت بعد مجزرة دير ياسين وقبية، أثناء العدوان الثلاثي على مصر يا بنيّ.. ثم شرع في سرد تفاصيل المجزرة وأحداثها بدقّة متناهيةٍ فانكشفت أمام عينيه صورٌ غريبةٌ مبهمةٌ كأنه يشاهد فيلمًا سينمائيًا فسرح بخياله ثم انفعل وانزلقت من عينيه دموع الحزن على فقدانه أصدقائه وأحبّته.. حينها لم أعرف عن أي صديقٍ يتحدث ولكنني أدركت من حديثه أن الفلماية تعني المكان المشؤوم الذي تقع فيه المجازر، وظلّ الإبهام يلازمني دون أن أعرف شيئًا عن الفلماية..
أقيم النصب التذكاري وكتبت عليه آية قرآنيّة وأسماء تسعة وأربعين من الشهداء. وصرنا إذا مررنا من ذلك المكان نقرأ على أرواحهم الفاتحة حتى أخذ المكان قدسية في نفوس أهل القرية جميعًا وبدأنا نشعر أن دماء الشهداء قد روت تراب الفلماية وما حولها.
زال اسم الفلماية من قاموسنا الجديد المعاصر، وصرنا لا نستخدمه إلا مرّة واحدةً في كلّ عام حين تحلّ الذكرى ويلبس الناس لباس الحداد، فننطلق بمسيرة التاسع والعشرين من أكتوبر إلى النصب التذكاري ونتوجه إلى المقبرة لنقف قرب أجداث الشهداء. زال اسم الفلماية وحلّ محلّه اسم جديدٌ مركب من كلمات ثلاث- منطقة النصب التذكاري. ثم زال بعده اسم السدرة أيضًا وصار الصغار إذا ذكرنا كلمة الفلماية أو السدرة لا يفهمون شيئًا. وإذا تطرّقنا على أسماء أخرى كنا نستخدمها وقفوا مشدوهين وأخذتهم الحيرة وتساءلوا عنها وعن وجودها وأخذوا يبحثون عنها في معجم البلدان أو لسان العرب ليضعوا أفكارهم على مواقعها.. وقالوا أين السدرة وأين الفلماية ؟...
بعد وفاة والدي جاءنا أحدهم لتعزيتنا، فجلس إلى جانبي وقال لي: كان المرحوم إنسانًا عزيزًا على قلبي، وكانت تربطني به أواصر الصداقة. كان أكثرنا تجربةً وأسرعنا فهمًا وأعظمنا تديّنًا وأسبقنا في الوصول إلى الصبر. في اليوم الذي وقعت فيه المجزرة كنا نشتغل معًا في معمل لتكسير الحجارة وفوجئنا بتقدم مشغّلنا نحونا وطلبه منا ترك العمل قبل الموعد بساعتين دون أن يفصح لنا عن السبب ركبنا دراجاتنا واسترحنا في طريقنا قرب حقلٍ، يعمل فيه من ركبوا قافلة الشهداء بعدنا فتناولنا منهم الماء فشربناه بعد أن تنادرنا معهم وتابعنا سيرنا. عند وصولنا إلى الفلماية فوجئنا بانتشار كثيف للجنود.. توقفنا ودققوا في بطاقاتنا وقبل أن يخلوا سبيلنا قال لنا أحدهم بالعبرية: "يا كلاب لو تأخرتم قليلاً لأصبحتم في عداد الموتى". ثمَّ أخذنا نحثّ خطانا نحو بيوتنا دون أن نتوقع الكارثة.. ولا ندري ما الذي يمكنه أن يحدث في قريتنا لتصبح فيما بعد تاريخًا وتسجل في كتاب يطلق عليه أسم المجازر. لم نكن نحسّ بهذا مع أننا كنّا نسمع عن أنباء التعبئة في الجبهة المصريّة وحشد الجيوش. ما إن وصلنا إلى السدرة حتى بدئ إطلاق الرصاص وشرِّع القتل وشرعوا في حصد كل من صادفهم بدمٍ باردٍ.
سبحان الله.. أأنت أنت؟؟ أنت الذي رافق والدي أثناء عودته من العمل قبل أن يبدأ القتل بدقائق معدودة. أنت الذي حدّثني والدي عنه. ما أصغر هذا العالم يقولون في عاميتنا الفلسطينية: " جبل على جبل، لا يلتقيان، وإنسان على إنسان، يلتقيان ولو بعد حين".. أجابني بانفعال وعيناه رقراقتان: نعم أنا كنت في صحبة والدك المرحوم في ذلك اليوم.. ثم أخذ يغني شعرًا كان قد كتبه عن المجزرة لا زلت أذكر الشطر الأول منه:
أنا ابن الفلماية أرض الفدا متى أضع الكوفيّة تعرفوني
كدنا ننسى السدرة والفلماية وانشغلنا في أمور كثيرةٍ حتى حلّت علينا هذا العام الذكرى الثالثة والخمسون وفوجئت بأحد الشيوخ يحدّث عن إصابته برصاصة في تلك المجزرة حين وصوله مع غيره ممن نالوا الشهادة إلى الفلماية، وهروبه واختبائه في كروم الزيتون وهو ينزف دمًا.. فسألته بعد أن أنهى حديثه، عن الفلماية وما تعنيه؟ فأجابني بحماسٍ: إن الفلماية هي لافتة وضعها الإنجليز أثناء استعمارهم لبلادنا ونصبوها على مدخل قريتنا وكُتب عليها- كفر قاسم..
naamankq@yahoo.com
كنت صغيرًا إذ ذاك، وكنت كلّما ذكروا "الفلماية" ظننتها شجرة عظيمة ومخيفةً يستظلُّ بظلّها الرعاة والعابرون ويأكل من ثمارها الصغار والسارحون وتعشش على أغصانها آلاف العصافير؛ وصارت اسمًا علمًا يشير إلى المكان الذي نبتتْ فيه فنمتْ وترعرعتْ حتى أخذت شهرتها ثم انقرضت مثلما انقرضتْ غيرها من المخلوقات. كنتُ أظنُّ هذا لأنها لا تبعد عن السّدرة سوى نصف ميلٍ على أكثر تقدير.. ولعلّي لا أبالغ حين كنت أتصورها صخرةً ضخمةً أو في أحايين كثيرةٍ غولاً يظهر في ليالي الشتاء لمن يعصي والديه أو يهمل في دروسه أو يرتكب جريرةً ليحاسبه على كل صغيرة وكبيرة فإما أن يأكله ويترك عظمه للضباع الجائعة أو يحبسه في مكان بعيدٍ يعذبه متى يحلو له. وكانت نساء القرية إذا خرجت في زفّة عريس تنطلق به أغلبهن إلى السّدرة وكأنهن يقلن أمام الملأ إن العرس لن تستوفى شروطه إلا بزيارة السدرة، ثم يشرعن في الطواف حولها مع تصديةٍ من غير مُكاءٍ فيهزجن ويرقصن لساعةٍ ثم يقفلن معه راجعات لتناول وليمة العرس ساعة الغداء.. ومنهنّ، زيادةً في الاطمئنان، لا يكتفين بالسدرة فيهرعن نحو الفلماية حتّى يزول الحسد ويحلو العيش للعروسين معًا.
ولا زلت أذكر ذات مرّة حين بلغت الخامسة من عمري، سألت أبي لمّا سمعته يحدّثُ صديقه عن المجزرة وجاءا على ذكر الفلماية فقلت له: وما هي الفلماية يا أبي؟ أجابني بابتسامة صفراء قائلاً: هي المكان الذي وقعت فيه المجزرة.. هي المكان الذي نصبوا فيه رشاشاتهم.. وهي المكان الذي طلبوا مني حينها عند عودتي مع صديقي من العمل، بطاقة الهوية، قبل أن تأتي ساعة الصفر ويبدأ القتل.. هذه المجزرة الرهيبة جاءت بعد مجزرة دير ياسين وقبية، أثناء العدوان الثلاثي على مصر يا بنيّ.. ثم شرع في سرد تفاصيل المجزرة وأحداثها بدقّة متناهيةٍ فانكشفت أمام عينيه صورٌ غريبةٌ مبهمةٌ كأنه يشاهد فيلمًا سينمائيًا فسرح بخياله ثم انفعل وانزلقت من عينيه دموع الحزن على فقدانه أصدقائه وأحبّته.. حينها لم أعرف عن أي صديقٍ يتحدث ولكنني أدركت من حديثه أن الفلماية تعني المكان المشؤوم الذي تقع فيه المجازر، وظلّ الإبهام يلازمني دون أن أعرف شيئًا عن الفلماية..
أقيم النصب التذكاري وكتبت عليه آية قرآنيّة وأسماء تسعة وأربعين من الشهداء. وصرنا إذا مررنا من ذلك المكان نقرأ على أرواحهم الفاتحة حتى أخذ المكان قدسية في نفوس أهل القرية جميعًا وبدأنا نشعر أن دماء الشهداء قد روت تراب الفلماية وما حولها.
زال اسم الفلماية من قاموسنا الجديد المعاصر، وصرنا لا نستخدمه إلا مرّة واحدةً في كلّ عام حين تحلّ الذكرى ويلبس الناس لباس الحداد، فننطلق بمسيرة التاسع والعشرين من أكتوبر إلى النصب التذكاري ونتوجه إلى المقبرة لنقف قرب أجداث الشهداء. زال اسم الفلماية وحلّ محلّه اسم جديدٌ مركب من كلمات ثلاث- منطقة النصب التذكاري. ثم زال بعده اسم السدرة أيضًا وصار الصغار إذا ذكرنا كلمة الفلماية أو السدرة لا يفهمون شيئًا. وإذا تطرّقنا على أسماء أخرى كنا نستخدمها وقفوا مشدوهين وأخذتهم الحيرة وتساءلوا عنها وعن وجودها وأخذوا يبحثون عنها في معجم البلدان أو لسان العرب ليضعوا أفكارهم على مواقعها.. وقالوا أين السدرة وأين الفلماية ؟...
بعد وفاة والدي جاءنا أحدهم لتعزيتنا، فجلس إلى جانبي وقال لي: كان المرحوم إنسانًا عزيزًا على قلبي، وكانت تربطني به أواصر الصداقة. كان أكثرنا تجربةً وأسرعنا فهمًا وأعظمنا تديّنًا وأسبقنا في الوصول إلى الصبر. في اليوم الذي وقعت فيه المجزرة كنا نشتغل معًا في معمل لتكسير الحجارة وفوجئنا بتقدم مشغّلنا نحونا وطلبه منا ترك العمل قبل الموعد بساعتين دون أن يفصح لنا عن السبب ركبنا دراجاتنا واسترحنا في طريقنا قرب حقلٍ، يعمل فيه من ركبوا قافلة الشهداء بعدنا فتناولنا منهم الماء فشربناه بعد أن تنادرنا معهم وتابعنا سيرنا. عند وصولنا إلى الفلماية فوجئنا بانتشار كثيف للجنود.. توقفنا ودققوا في بطاقاتنا وقبل أن يخلوا سبيلنا قال لنا أحدهم بالعبرية: "يا كلاب لو تأخرتم قليلاً لأصبحتم في عداد الموتى". ثمَّ أخذنا نحثّ خطانا نحو بيوتنا دون أن نتوقع الكارثة.. ولا ندري ما الذي يمكنه أن يحدث في قريتنا لتصبح فيما بعد تاريخًا وتسجل في كتاب يطلق عليه أسم المجازر. لم نكن نحسّ بهذا مع أننا كنّا نسمع عن أنباء التعبئة في الجبهة المصريّة وحشد الجيوش. ما إن وصلنا إلى السدرة حتى بدئ إطلاق الرصاص وشرِّع القتل وشرعوا في حصد كل من صادفهم بدمٍ باردٍ.
سبحان الله.. أأنت أنت؟؟ أنت الذي رافق والدي أثناء عودته من العمل قبل أن يبدأ القتل بدقائق معدودة. أنت الذي حدّثني والدي عنه. ما أصغر هذا العالم يقولون في عاميتنا الفلسطينية: " جبل على جبل، لا يلتقيان، وإنسان على إنسان، يلتقيان ولو بعد حين".. أجابني بانفعال وعيناه رقراقتان: نعم أنا كنت في صحبة والدك المرحوم في ذلك اليوم.. ثم أخذ يغني شعرًا كان قد كتبه عن المجزرة لا زلت أذكر الشطر الأول منه:
أنا ابن الفلماية أرض الفدا متى أضع الكوفيّة تعرفوني
كدنا ننسى السدرة والفلماية وانشغلنا في أمور كثيرةٍ حتى حلّت علينا هذا العام الذكرى الثالثة والخمسون وفوجئت بأحد الشيوخ يحدّث عن إصابته برصاصة في تلك المجزرة حين وصوله مع غيره ممن نالوا الشهادة إلى الفلماية، وهروبه واختبائه في كروم الزيتون وهو ينزف دمًا.. فسألته بعد أن أنهى حديثه، عن الفلماية وما تعنيه؟ فأجابني بحماسٍ: إن الفلماية هي لافتة وضعها الإنجليز أثناء استعمارهم لبلادنا ونصبوها على مدخل قريتنا وكُتب عليها- كفر قاسم..
naamankq@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق