الاثنين، أكتوبر 05، 2009

لغة التسكين

نعمان إسماعيل عبد القادر
تعاني الأمة في عصرنا الحاضر من تعقيدات مستعصية كثيرة ومتنوعة في لغتها العربية، لا يمكن حلها بين ليلة وضحاها أو في مهلة زمنية محددة، مهما طرحت من حلول ومهما كتبت من أبحاث أو دراسات. ولعلّ الكثير منا يدرك تمام الإدراك أن لغتنا باتت لغة منقسمة على نفسها إلى جزيئات لا يمكن جمعها كسابق عهدها إلا بعصاً سحريّة لا وجود لها إلا في الخيال. والانقسام هذا لا نجده على صعيد الأقطار العربيّة فحسب إنما حين خُلقنا وجدنا له مكانًا داخل القطر الواحد ذاته. هذا عدا عن معضلة الازدواجية التي لا نجد شبيهًا لها في اللغات الأخرى والتي باتت تقض مضاجع الكثيرين ممن يدركون مدى تأثيرها العكسي الذي تركته وتتركه على الناطقين بها أكثر من أي لغة أخرى في الدنيا فصار الناس ينظرون إلى الفصحى على أنها لغة تحتاج إلى مجهود كبير للوصول إليها، والتعبير بها، نطقًا أو كتابةً بصورة صحيحة وسليمة، هو غاية لا يدركها إلا الخاصة وهم فئة قليلة من الناس، والعامة ليست في حاجة لها. ليس هذا فحسب، فقد صار طلابنا يعزفون عن دراستها أو التخصص في أحد مجالاتها مفضّلين دراسة موضوع آخر أو لغة أخرى والتبحّر فيها بحجة صعوبة اللغة العربية وقواعدها وسهولة الأخرى.
كم تغنّينا في لغة الضاد ولها، وكم هتفنا بأعلى أصواتنا: هي لغة القرآن والأنبياء وأهل الجنّة، لغة الشعر والموسيقى.. لغة قيس وعنترة وأبو نواس والجاحظ والمتنبي.. لكنّنا اليوم نجدهم يعزفون عنها ويفضّلون تطعيم حديثهم العاميّ بغيرها، ولا يروق لهم إلا بكتابة لافتاتٍ بالعبرية أو الإنجليزيّة. ولا يزال الترويج لبضاعتهم في قراهم ومدنهم لا يكتمل إلا بلغة الآخر. الغيرةُ لديهم انطفأت شعلتها أو كادت تنطفيء، وهذا ما يدعو للأسف. حتى اللافتات في الشوارع تجدها تسخر حين تزخر بكلماتٍ عربيّةٍ محرّفةٍ وغير محرّفةٍ، متعمّدة في ذلك أم غير متعمّدة. حين تسافر إلى كفر قاسم أو سترى في طريقك إليها، حتمًا وقبل الالتفاف نحو اليمين، لافتة مرور كبيرة كتب عليها بخط عريض باللغات الثلاث – كفار قاسم، وإذا سافرت إلى اللد ستجد في طريقك إشارة مرور كُتب عليها- ممنوع التوقف على خوانب الطريق.. وهل للطريق خوانب؟؟
كم سررنا لمّا قام البعض من الغيورين على العربيّة في السعودية ودول عربية أخرى، بمحاولات ناجحة، مع أن ثمارها لم ترقَ إلى أكثر من المستوى الفردي وظلت تراوح مكانها وعلى نطاق ضيق، بتدريس الفصحى في جيل مبكر قبل الإلزامي. وانبرى بعضهم بإلزام أهل بيته بالحديث بالفصحى بغية نشوء الأطفال عليها والتمكن منها واتقانها أيّما اتقان.. هي خطوة مباركة وجيدة.. والإشارة هنا لمن لا يعرف إلى عبد الله الدنّان خبير تعليم الفصحى بالممارسة والفطرة، فقد بدأ بمخاطبة ابنه باسل منذ أن صار عمره ستة أشهر بالفصحى، حتى أتقن ابنه الفصحى إتقانًا يذهل السامعين.. يُذكّرنا هذا ، لمن لا يعلم، بأولائك الأوائل من اليهود الذين قاموا بإحياء اللغة العبرية بعد موتها بألفي عام ونيف، وليس العيب التعلم من الآخر إنما العيب أن يظل الإنسان قابعًا في مكانه.. كان اليعيزر بن يهودا أول من أصرّ على التكلّم بالعبرية فقط في بيته في العصر الحديث وهو من يهود ليتوانيا وطالب زوجته بأن يسمع أطفالهما العبرية لا غيرها بعد أن كانت لغة لا تستعمل إلا في الطقوس الدينية. ولهذا فقد اتُّهم بأنه يسيء معاملة أطفاله وواجه معارضة شديدة حتى من اليهود أنفسهم على استخدام اللغة العبرية في الحياة اليومية لاعتبارها أنها لغة مقدسة ولا يمكن استخدامها إلا لغايات دينية. حتّى أدى الخلاف بين بن يهودا وقادة الطوائف اليهودية إلى حبسه في السجن العثماني بعد أن اتهمه القادة اليهود بالتمرد ضد السلطات العثمانية. ثم أطلق سراحه بعد تدخل بعض القادة اليهود المعتدلين. لكنّه ظلّ مصرًّا على موقفه حتى أسس عام 1890 "لجنة اللغة العبرية" التي جمعت كبار الأدباء واللغويين اليهود، فعملوا على ترويج التعليم بالعبرية في المدارس اليهوديّة واتخذوا قرارات بشأن الصيغة واللفظ المفضليْن للغة العبرية في المدارس والمؤسسات. من أهم المشاريع التي عكف عليها بن يهودا هو قاموس شامل للغة العبرية يشتمل على جميع كلمات اللغة عبر التاريخ وعلى التجديدات التي اقترحها. وتمكن بن يهودا من إصدار 5 مجلدات قبل وفاته. والسؤال لا يزال يُردَّد: أين هم الطّلائعيون فينا لقيادة المركب إلى بر الأمان؟ أين من يكمل ما بدأه الطهطاوي والبستاني والشدياق؟ لا بدّ أن نقف لهم وقفة إجلالٍ وإكبار...
لا شكَّ أن الازدواجيّة في لغتنا قد نالت منّا ولا زالت تعيق التفكير ثمّ تعيق الإبداع، لأنّ الطالب في الصفوف الدنيا يجد نفسه أمام لغة جديدة يصعب فهمها، وجهود معلمته تنصبّ على كتابة الأشكال المختلفة للحرف الواحد ثمّ لا تلبث أن تنتقل إلى الكتابة الإملائية الصحيحة قبل أن يفهم أن في انتظاره إعراب شاقٌّ يثقل كاهله. في حين تجد الطالب من نفس الجيل في مدرسة أجنبية، يعالج قصة أو قصيدة أو مقالاً يناسب جيله ثمّ ينطلق في التعبير دون أن يعيقه عائق، ثُمَّ نتساءل: لماذا يعزف الناسُ عن القراءة وينكبُّ غيرنا عليها؟
ولو نظرنا إلى البُعد "الجغرافي"، إن صحّ التعبير، فإننا حتمًا سنجد أن هناك مسافةً شاسعةً تفصل بين اللغة التي يتحدّث بها عامة الناس وبين الفصحى. الأولى في جهة والثانية في جهة أخرى وللتقريب بينهما لا بدّ من إجراء تغيير في كلا الطرفين. الخطوة الأولى تبدأ بتكثيف الجهود وزيادة الوعي لضرورة استخدام تعابير فصحى خلال الحديث والحوار اليومي المباشر بين الناس وتخصيص برامج تعليميّة تلفزيونيّة يوميّة تبثّ في جميع القنوات الفضائيّة العربيّة. والتسكين خطوة ضروريّة في الاتجاه الصحيح نحو الترغيب والتحبيب والتقريب من الفصحى لأنه يسهّل النطق ولا يلتزم بقواعد الحركات.
لهذا فالتفريق بين لغتين يتعلمهما الطالب في مدرسته على مرحلتين واجبٌ. الأولى يمكن تسميتها لغة التسكين والأخرى لغة الحركات. فالأولى تُلاءَم للمرحلة الابتدائية بحيث تنأى كتب التدريس عن الإعراب كي لا ينشغل فيه الطالب فيُتاح المجال له للتركيز على أمور أخرى هي أهمّ وأوْلى.
فما الذي يضرّ الطالب في المراحل الأولى حين نقول له: لنْ يفتحْ محمدْ البابْ؟ ألا يكتمل المعنى؟ لماذا نشغله بالفعل المضارع المنصوب بأداة النصب وبعلامة نصبه والفاعل المرفوع والمفعول به. لماذا نحمّله ما لا طاقة له به؟ ألا يكيفينا تعرّفُهُ على الفعل والمضارع المنفي والفاعل والمفعول به من حيث الترتيب والحدث والزمن، دون الوقوف على الحركات؟ ألا يجدر بنا إشغاله في أمور أخرى تتعلق بالفكر والمعنى والتعبير. لماذا نضع طلابنا الصغار في متاهات هم في غنى عنها؟
في اعتقادي أنه لا بد من نهج جديدٍ لوضع منهجٍ جديدٍ وكتب جديدة للمرحلة الابتدائية تنتهج هذا المنهج، يتمّ فيها تسكين جميع الكلمات دون تأخيرٍ، ولا يُستثنى إلا بعضها للضرورة كالضمائر المنفصلة والمتصلة وأحرف التوكيد وغيرها من الكلمات التي لا يصلح النطق بتسكينها. إن الاستغناء عن الحركات في المرحلة الابتدائيّة وتدريب الطالب على النطق بالفصحى أفضل بكثيرٍ من معرفته أحوال بناء الفعل الماضي أو المضارع أو الأمر. وانشغال الطالب بمهارات تعتمد على الإبداع بعد التفكير أهمّ بكثير من معرفته لأدوات النصب والجزم. لماذا نقضي على روح الإبداع عند طلابنا؟ لماذا لا نطوّر التفكير لديهم ونوجههم إلى فهم لغة العلوم والتاريخ والسياسة وغيرها؟
وحتّى لا يُفهم كلامي خطأً فأنا أُسقط عن الطالب في المرحلة الابتدائية دراسة "علم الإعراب" لأنه يشبه إلى حدٍّ ما "علم الكلام" الذي أشغل بال الأمة فتفرّقت إلى شيعٍ وتناحرت على أمور جانبيّة هامشيّة هم في غنى عنها.. وحتّى لا يُفهم حديثي فهمًا مغلوطًا ويُفسّر تفسيرًا مزاجيًّا فلا بدّ لي من القول أن المغالاة في الإعراب شيء، وإتقان اللغة شيءٌ آخر، والتسكين فيها أسلمُ، والنأي عن الإعراب أحمدُ، والتطبيق في تراكيب الجملةِ أجودُ.
حين نرى أن الإشباع الفكري عند أبنائنا قد بلغ أوجه وأن نفوسهم أخذت تتوق إلى معرفة ما خفي عنهم في مراحل حياتهم الأولى وأرواحهم تتلهف لمعرفة المزيد من أسرار اللغة، عندها نعمد إلى الحركات لهم بصورة تدريجية، ونتقدم نحو الإعراب بخطى مدروسة وحذرة حتى لا يُصدم المتعلمون من ثوابت وضعها سيبويه والكسائي والفراء..

ليست هناك تعليقات: