علي حيدر
" أنا لغتي.
أنا ما قالت الكلمات".
محمود درويش، قصيدة بعنوان "فرس للغريب"
لم نفاجأ من مشروع القانون الذي تقدمت به عضو الكنيست ليمور ليبنات (وزيرة التربية والتعليم سابقاً ومن حزب الليكود) ومجموعة من أعضاء الكنيست، الذي طُرِح على جدول أعمال البرلمان، حيث تُسقَط بحسبه اللغة العربية كلغة رسمية، بينما تبقى اللغة العبرية هي "اللغة الرسمية الوحيدة" في البلاد.
إن عدم تفاجُئنا لم ينبع من معرفتنا بالرصيد الواسع للوزيرة السابقة ليبنات، من الكراهية تجاه الشعب الفلسطيني بشكل عام، والمجتمع الفلسطيني في الداخل بشكل خاص فحسب، بل من كون ظاهرة العنصرية، الكراهية والإقصاء أصبحت التوجّه البارز لدى الكثيرين من أعضاء الكنيست اليهود. كما أصبحت ميزة التيار المركزي في المجتمع الإسرائيلي بشكل عام.
لقد برّرت الوزيرة السابقة سلوكها هذا كردّ على وثائق "التصوّر المستقبلي" التي كانت قد نُشِرت في العام المنصرم، من قِبل مثقفين وناشطين وسياسيين فلسطينيين في الداخل، أرادوا الإجابة على سؤالين: من نحن؟ وماذا نريد؟
باعتقادي، لم تكن الوزيرة ومن انضم إليها، بحاجة إلى هذه الوثائق لتقديم مثل هذه الاقتراحات، إذ سبقتها في الماضي غير البعيد، محاولات عديدة. على سبيل المثال لا الحصر، قام عضو الكنيست السابق ميخائيل كلاينر قبل حوالي العقد، بتقديم اقتراح شبيه، كما أن المركز الإسرائيلي للديمقراطية ومن خلال مسودة "دستور بالإجماع" كان قد نهج نهجًاً مماثلاً. ليبنات لا تعتبر مجددة لكن من خلال تبريرها هذا، نلحظ تجسيدًا للنهج والأسلوب الذي يستعمله المضطهد، القامع والقاهر (كما يظهر في كتابات فرانس فانون، باولو فريري وإدوارد سعيد)- اتهام المقهور بأنه هو السبب فيما يقوم به القاهر ضدّه.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، ما الذي يدفع بليمور ليبنات وآخرين قبلها إلى المبادرة لمثل هذه الاقتراحات؟
إذا أردنا أن نقتصر ونعزو السبب لكون ليبنات مدفوعة باعتبارات حزبية انتخابية، تكون قراءتنا جزئية. أما إذا حفرنا عميقًا في أرضية ومصدر هذه التوجهات، فإننا نصل إلى خلاصة مفادها أن السلطة والغالبية اليهودية يرَون بوجود العربي الفلسطيني في المستويين التاليين، تهديدًا يقضّ مضاجعهم: الوجود الجسدي والوجود المعنوي-النفسي المتمثل في اللغة. إنّه وجود رابض ونابض أمام أعينهم وعلى مسامعهم. الكثيرون منهم كانوا يفضّلون أن يختفي العربي حاملاً معه لغته وتراثه وذاكرته، بمعنى أن تسيطر الحركة الصهيونية على كلّ هذه الأرض ولكن مع تواجد أقلّ للعرب، هذا بعد أن فشلت في تهجير كامل الشعب الفلسطيني والاستيلاء على كامل وطنه.
أضف إلى ذلك، أن المعنى الحقيقي لتجريد اللغة العربية من رسميتها ، لا بل تهميشها، هو رفض الاعتراف بمن ينطقون بها ويعتزّون فيها كهوية. اللغة في المفهوم الحداثيّ ليست وسيلة للاتصال والتواصل وكسب المعرفة فحسب، بل لها مدلولات رمزية وتعبّر عن هوية سياسية ممكن أن تؤدّي في نهاية المطاف إلى تقاسم رموز السيادة في دولة ثنائية القومية.
بالرغم من أن اللغة العربية هي لغة رسمية (وذلك نتيجة لتطورات تاريخية وسياسية أثّرت على المكانة القانونية لها فور انتهاء الانتداب البريطاني، وليس من منطلق وعي وإدراك وسياسات منهجية وفاعلة) إلاّ أنّ هناك فارقًا كبيرًا بين المكانة الرسمية للغة في الوقت الراهن، وبين الواقع الفعلي الذي نتعايشه، والذي بحسبه تتعرض اللغة لعملية تهميش مستهدفة من قِبل المؤسسة، وذلك يلاحظ بشكل دائم في التعاملات الرسمية، وسائل الإعلام، الاستمارات والأوراق الرسمية، المواقع الإلكترونية، أسماء المواقع والشوارع وإلخ.. إنّ اللغة العبرية هي اللغة المهيمنة في كافة مجالات الحياة، ومحاولة إسقاط اللغة العربية وطمسها، ما هو إلاّ إتمام لمشروع السيطرة والهيمنة على المجتمع الفلسطيني في الداخل، ولمشروع تثبيت وتأكيد يهودية الدولة ومنح الغالبية الإثنية أفضلية، وفي المقابل إسكات كل ما هو ذو قدرة على تحدّي الهيمنة اليهودية وتحدّي رموزها.
بما أن اللغة تعتبر، في حالات الصراع، أداة ممانعة ومقاومة، يحاول الطرف القاهر والمضطهِد تجريد المقهور من كل وسيلة قد تتيح له التحرّر.
يترتب علينا أن نعيَ أيضًا أن ليبنات، ومن خلال هذا الاقتراح، تطمح إلى تغييب اللغة العربية من الحيّز العام، وخصوصًا أنه، وبحسب استطلاع للرأي العام أجري في السنة الأخيرة من قبل المعهد الإسرائيلي للديموقراطية، هناك 50% من المجتمع اليهودي ينتابهم الخوف والقلق الشديدان عندما يسمعون اللغة العربية في الأماكن العامة.
بالإضافة الى ذلك, ما يقع في صميم سلوك ليبنات ومن يحذو حذوها، هو رفض كل ما هو مختلف، وخصوصًا عندما يُنعت الآخر ويُعتبر "عدوًّا". هذا التوجه نفسه، هو الذي أدى إلى التحقيق مع المفكّر نورمان فنكلشتين وطرده نهاية الأسبوع الماضي، لكونه ينتقد السياسة الإسرائيلية، ويُبدي تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني ولأنه يؤيد المقهورين في المنطقة.
على غرار هذا الوضع، يترتب علينا، كمجتمع فلسطيني، ألاّ نعفي أنفسنا من المسؤولية لما آلت إليه اللغة العربية من تردٍّ وتراجع (خصوصا وأن المقهور يتأثر بالقاهر فيترك لغته أو يقلّل من مكانتها بعدم استعمالها). علينا الاعتماد، في البداية، على أنفسنا، وأن نؤكد وجودنا ونعزّز لغتنا. لن يتسنّى ذلك إلا إذا فكّرنا وعملنا بشكل جماعي لحماية اللغة العربية، ولتنشيط دورها وفاعليتها، من خلال إقامة المؤسسات التي تُعنى بالثقافة واللغة والتواصل مع محيطنا العربي. نقترح بعض الاقتراحات العملية التي من الممكن الشروع بتنفيذها: رفع مستوى الكتابة في الصحافة العربية، تشجيع القراءة والكتابة والتحدّث باللغة العربية. استحداث كلمات جديدة وبدائل للكلمات المتداولة باللغة العبرية، المطالبة بتقديم الطلاب لعدد وحدات أكثر في امتحانات إنهاء المرحلة الثانوية، طباعة الكتب العلمية باللغة العربية، إرسال رسائل السلطات المحلية باللغة العربية، وأيضاً رسائل البريد الإلكتروني، كذلك التعليقات في مواقع الإنترنت، المبادرة لحملة توعية شاملة تشمل إصدار ملصق "أنا عربي أتكلّم العربية". ومن ثم المطالبة بتطبيق كامل الحقوق اللغوية التي تحميها القوانين المحلية والمواثيق الدولية.
" أنا لغتي.
أنا ما قالت الكلمات".
محمود درويش، قصيدة بعنوان "فرس للغريب"
لم نفاجأ من مشروع القانون الذي تقدمت به عضو الكنيست ليمور ليبنات (وزيرة التربية والتعليم سابقاً ومن حزب الليكود) ومجموعة من أعضاء الكنيست، الذي طُرِح على جدول أعمال البرلمان، حيث تُسقَط بحسبه اللغة العربية كلغة رسمية، بينما تبقى اللغة العبرية هي "اللغة الرسمية الوحيدة" في البلاد.
إن عدم تفاجُئنا لم ينبع من معرفتنا بالرصيد الواسع للوزيرة السابقة ليبنات، من الكراهية تجاه الشعب الفلسطيني بشكل عام، والمجتمع الفلسطيني في الداخل بشكل خاص فحسب، بل من كون ظاهرة العنصرية، الكراهية والإقصاء أصبحت التوجّه البارز لدى الكثيرين من أعضاء الكنيست اليهود. كما أصبحت ميزة التيار المركزي في المجتمع الإسرائيلي بشكل عام.
لقد برّرت الوزيرة السابقة سلوكها هذا كردّ على وثائق "التصوّر المستقبلي" التي كانت قد نُشِرت في العام المنصرم، من قِبل مثقفين وناشطين وسياسيين فلسطينيين في الداخل، أرادوا الإجابة على سؤالين: من نحن؟ وماذا نريد؟
باعتقادي، لم تكن الوزيرة ومن انضم إليها، بحاجة إلى هذه الوثائق لتقديم مثل هذه الاقتراحات، إذ سبقتها في الماضي غير البعيد، محاولات عديدة. على سبيل المثال لا الحصر، قام عضو الكنيست السابق ميخائيل كلاينر قبل حوالي العقد، بتقديم اقتراح شبيه، كما أن المركز الإسرائيلي للديمقراطية ومن خلال مسودة "دستور بالإجماع" كان قد نهج نهجًاً مماثلاً. ليبنات لا تعتبر مجددة لكن من خلال تبريرها هذا، نلحظ تجسيدًا للنهج والأسلوب الذي يستعمله المضطهد، القامع والقاهر (كما يظهر في كتابات فرانس فانون، باولو فريري وإدوارد سعيد)- اتهام المقهور بأنه هو السبب فيما يقوم به القاهر ضدّه.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، ما الذي يدفع بليمور ليبنات وآخرين قبلها إلى المبادرة لمثل هذه الاقتراحات؟
إذا أردنا أن نقتصر ونعزو السبب لكون ليبنات مدفوعة باعتبارات حزبية انتخابية، تكون قراءتنا جزئية. أما إذا حفرنا عميقًا في أرضية ومصدر هذه التوجهات، فإننا نصل إلى خلاصة مفادها أن السلطة والغالبية اليهودية يرَون بوجود العربي الفلسطيني في المستويين التاليين، تهديدًا يقضّ مضاجعهم: الوجود الجسدي والوجود المعنوي-النفسي المتمثل في اللغة. إنّه وجود رابض ونابض أمام أعينهم وعلى مسامعهم. الكثيرون منهم كانوا يفضّلون أن يختفي العربي حاملاً معه لغته وتراثه وذاكرته، بمعنى أن تسيطر الحركة الصهيونية على كلّ هذه الأرض ولكن مع تواجد أقلّ للعرب، هذا بعد أن فشلت في تهجير كامل الشعب الفلسطيني والاستيلاء على كامل وطنه.
أضف إلى ذلك، أن المعنى الحقيقي لتجريد اللغة العربية من رسميتها ، لا بل تهميشها، هو رفض الاعتراف بمن ينطقون بها ويعتزّون فيها كهوية. اللغة في المفهوم الحداثيّ ليست وسيلة للاتصال والتواصل وكسب المعرفة فحسب، بل لها مدلولات رمزية وتعبّر عن هوية سياسية ممكن أن تؤدّي في نهاية المطاف إلى تقاسم رموز السيادة في دولة ثنائية القومية.
بالرغم من أن اللغة العربية هي لغة رسمية (وذلك نتيجة لتطورات تاريخية وسياسية أثّرت على المكانة القانونية لها فور انتهاء الانتداب البريطاني، وليس من منطلق وعي وإدراك وسياسات منهجية وفاعلة) إلاّ أنّ هناك فارقًا كبيرًا بين المكانة الرسمية للغة في الوقت الراهن، وبين الواقع الفعلي الذي نتعايشه، والذي بحسبه تتعرض اللغة لعملية تهميش مستهدفة من قِبل المؤسسة، وذلك يلاحظ بشكل دائم في التعاملات الرسمية، وسائل الإعلام، الاستمارات والأوراق الرسمية، المواقع الإلكترونية، أسماء المواقع والشوارع وإلخ.. إنّ اللغة العبرية هي اللغة المهيمنة في كافة مجالات الحياة، ومحاولة إسقاط اللغة العربية وطمسها، ما هو إلاّ إتمام لمشروع السيطرة والهيمنة على المجتمع الفلسطيني في الداخل، ولمشروع تثبيت وتأكيد يهودية الدولة ومنح الغالبية الإثنية أفضلية، وفي المقابل إسكات كل ما هو ذو قدرة على تحدّي الهيمنة اليهودية وتحدّي رموزها.
بما أن اللغة تعتبر، في حالات الصراع، أداة ممانعة ومقاومة، يحاول الطرف القاهر والمضطهِد تجريد المقهور من كل وسيلة قد تتيح له التحرّر.
يترتب علينا أن نعيَ أيضًا أن ليبنات، ومن خلال هذا الاقتراح، تطمح إلى تغييب اللغة العربية من الحيّز العام، وخصوصًا أنه، وبحسب استطلاع للرأي العام أجري في السنة الأخيرة من قبل المعهد الإسرائيلي للديموقراطية، هناك 50% من المجتمع اليهودي ينتابهم الخوف والقلق الشديدان عندما يسمعون اللغة العربية في الأماكن العامة.
بالإضافة الى ذلك, ما يقع في صميم سلوك ليبنات ومن يحذو حذوها، هو رفض كل ما هو مختلف، وخصوصًا عندما يُنعت الآخر ويُعتبر "عدوًّا". هذا التوجه نفسه، هو الذي أدى إلى التحقيق مع المفكّر نورمان فنكلشتين وطرده نهاية الأسبوع الماضي، لكونه ينتقد السياسة الإسرائيلية، ويُبدي تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني ولأنه يؤيد المقهورين في المنطقة.
على غرار هذا الوضع، يترتب علينا، كمجتمع فلسطيني، ألاّ نعفي أنفسنا من المسؤولية لما آلت إليه اللغة العربية من تردٍّ وتراجع (خصوصا وأن المقهور يتأثر بالقاهر فيترك لغته أو يقلّل من مكانتها بعدم استعمالها). علينا الاعتماد، في البداية، على أنفسنا، وأن نؤكد وجودنا ونعزّز لغتنا. لن يتسنّى ذلك إلا إذا فكّرنا وعملنا بشكل جماعي لحماية اللغة العربية، ولتنشيط دورها وفاعليتها، من خلال إقامة المؤسسات التي تُعنى بالثقافة واللغة والتواصل مع محيطنا العربي. نقترح بعض الاقتراحات العملية التي من الممكن الشروع بتنفيذها: رفع مستوى الكتابة في الصحافة العربية، تشجيع القراءة والكتابة والتحدّث باللغة العربية. استحداث كلمات جديدة وبدائل للكلمات المتداولة باللغة العبرية، المطالبة بتقديم الطلاب لعدد وحدات أكثر في امتحانات إنهاء المرحلة الثانوية، طباعة الكتب العلمية باللغة العربية، إرسال رسائل السلطات المحلية باللغة العربية، وأيضاً رسائل البريد الإلكتروني، كذلك التعليقات في مواقع الإنترنت، المبادرة لحملة توعية شاملة تشمل إصدار ملصق "أنا عربي أتكلّم العربية". ومن ثم المطالبة بتطبيق كامل الحقوق اللغوية التي تحميها القوانين المحلية والمواثيق الدولية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق