د. عدنان الظاهر
الموقف الأول / مع إبن خلدون
بلغ إبن خلدون ما بلغ من شُهرة ٍ وعلوِّ صيتٍ بما قال عن العمران والفساد ، أي نشوء وتطور الدول أو أنظمة الحكم أو الأمم ثم تدهورها فزوالها . عمران فتفسخ . لقد أسبغ بعض المؤرخين على هذه الفكرة صفة أو إسم ( نظرية ... نظرية إبن خلدون في نشوء وإرتقاء الأمم ... ) فما كان حظ إبن خلدون منها وما مقدار نصيبه من تفكير وجهد في صياغتها بشكلها المعروف في مقدمته ؟ لا شئ ، لا شئ البتة ! إنها كنظرية أو فكرة موجودة فيما خلّف أخوان الصفا من رسائل . نعم ، موجودة بحذافيرها ونصها الذي كرره إبن خلدون في مقدمته علماً أنَّ هؤلاء كانوا قد سبقوا إبن خلدون بأكثر من الخمسة قرون من الزمان حيث تذهب ُ التقديرات إلى أنَّ رسائل إخوان الصفا كانت قد وضعت ما بين القرنين الهجريين الثالث والرابع ... بينما توفي إبن خلدون عام 808 للهجرة . ما فحوى هذه
( النظرية ) الحرفي ؟ قال إخوان الصفا (1) :
أَعمار الدول / دولة أهل الخير ودولة أهل الشر [[ ... وأعلمْ يا أخي بأنَّ أمورَ هذه الدنيا دُول ٌ ونوَب ٌ تدورُ بين أهليها قرنا ً بعد قرنٍ ومن أمّة ٍ إلى أمّة . . وأعلمْ بأنَّ كل َّ دولةٍ لها وقتٌ منه تبتدئ ، وغاية إليها ترتقي ، وحد ٌّ إليه تنتهي . فإذا بلغت إلى أقصى غاياتها ومدى نهاياتها تسارعَ إليها الإنحطاط والنقصانُ وبدأ في أهلها الشؤم والخذلان وإستأنف في الآخرين من القوة والنشاط والظهور والإنبساط ، وجعلَ كل َّ يوم ٍ يقوى هذا ويزيد ويضعفُ ذلك وينقص إلى أنْ يضمحل َّ الأول المُقدَّم ويستمكن الآتي المتأخر ]] . هذا كلام إخوان الصفا فما قال بعدهم بأكثر من خمسة قرون عبد الرحمن بن خلدون حول نفس الموضوع ؟ أفرد الرجل فصلا كاملاً لهذه الموضوعة هو الفصل الثالث
(2) قال في مقدمته (( من الكتاب الأول في الدول العامة والمُلك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات )) . يهمني من هذا الفصل الأجزاء الثلاثة 13 ، 14 و 17 رغم طرافة باقي الأجزاء وعلاقتها الوثيقة بالموضوع الرئيس . حمل الجزء الثالث عشر (1ـ2) عنواناً يقول ( فصلٌ في أنه إذا استحكمت طبيعة ُ المُلك من الإنفراد بالمجد وحصول الترف والدِعة أقبلت الدولةُ على الهرم ) . أما الجزء الرابع عشر (2ـ2) فكان عنوانه ( فصل ٌ في أنَّ الدول لها أعمار ٌ طبيعية كما للإشخاص ) ، بينما (3ـ2) كان عنوان الجزء السابع عشر ( فصل ٌ في أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخُلق أهلها باختلاف الأطوار ) .
ليس وارداً في مشروع بحثي هذا عرض أو مناقشة آراء إبن خلدون بالتفصيل فيما يخص موضوعة نشوء الدول وإرتقائها ففنائها . لقد أشبع المرحوم البروفسور علي الوردي هذه المسألة بحثاً وإستقصاءً ثم أفرد لها كتاباً مستقلاًً أظن أنَّ إسمه ( مع إبن خلدون ) ! كنتُ قرأته قبل عدة سنين . سبق علي الوردي وجاء بعده العديد من الكتاب والباحثين ممن عنوا بهذا الشكل أو ذاك بتراث إبن خلدون وخصصوا الكثير من جهدهم ووقتهم لموضوعة نشوء الدول وإضمحلالها حاسبين خطأ ً أن إبن خلدون هو أول من وضع أسس هذه الموضوعة التي تعارفوا على تسميتها ( نظرية ... نظرية إبن خلدون ) . كل هؤلاء كانوا من كبار المؤرخين أو من المختصين بعلم الإجتماع أو الفلسفة أو من مشاهير الكتاب والكاتبات مثل السيدة بنت الشاطئ . فليس من المعقول ولا من المتوقع منهم أن لا يكونوا قد درسوا رسائل إخوان الصفا ليكتشفوا أن َّ هؤلاء القوم كانوا قد سبقوا إبنَ خلدون في وضع الأسس الأولية الأولى لما سمي َّ فيما بعد ب ( نظرية إبن خلدون ) . بل ، وأكثر من ذلك وأشد مرارةً ... أنَّ الأسس الأولى لهذه الأطروحة التي رفعت إبن خلدون إلى ما لا يستحق من مقامات ... إنها موجودة بأروع أشكالها وأكثرها تركيزاً وإختصاراً في القرآن الكريم (3) [[ وإذا أردنا أنْ نُهلكَ قرية ً أمرنا مُترَفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القولُ فدمّرناها تدميرا ]] . نرى هنا شروط هلاك المدن أو فنائها . وهنا نجد أن سبب أو مسبب هذا الهلاك هو الترف . وهذا ما رآه وأكد إبن خلدون عليه في مجمل أطروحاته حول فناء الدول . رسم الرجل خطاً بيانياً حسابياً لصعود ونهوض الأمم يبدأ من الصفر ليرتقي صُعُداً حتى يبلغ سمتاً معيناً محدداً يمثل ( أقصى درجات الترف والنعيم وغضارة العيش ) ثم يبدأ بعد ذلك مرحلة الهبوط التدريجي نزولاً بإتجاه خط أو إحداثي الصفر الأفقي أي الموت . (( أمرنا مترَفيها )) كلام بالغ الدلالة ... أمرنا مترفيها ففسقوا ... لكأنَّ المترفين وحدهم القادرون في الأرض على ممارسة الفسوق !! في طوق كل مخلوق إتيان الفسوق ولكنَّ فسوق الأثرياء والحكام والملوك والسلاطين والمتجبرين في الأرض يفوق كل فسوق بما يتوفر لديهم من مالٍ وسلطان ٍ زمني ٍّ وجوارٍ وغلمان وكافة وسائل العهر والرذيلة وممارسة المنكرات والمحرمات . يأتي الخراب على أيدي هؤلاء المترفين وعن طريقهم وبواسطتهم هم لا غيرهم من باقي أفراد رعيتهم . وهكذا بالضبط أتى الخرابُ العراقَ على يد الكثير التجبر والغطرسة والترف صدام حسين وبطانته من أهل بيته وغيرهم من الحزبيين البعثيين . الترف هو طريق زوال النِعَم فإياكم يا بشر والترف َ الباذخ َ . قريب من هذه المواضيع ما قاله الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور <<>> (4) ذات يوم وقد قدموا له مائدةَ طعام فيها { عجّة من مُخ وسكّر فاستطابها فقال } [[ أراد إبراهيمُ أنْ يحرمني هذا وأشباهه ]] . إبراهيم هو أخ محمد ذي النفس الزكية وهما من أولاد عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ... وهما كانا قد إنشقا على أبي جعفر المنصور وقادا عصيانات وتمردات عسكرية لا حصرَ لها ضد جيوش الخلافة في بغداد . معنى كلام أبي جعفر المنصور أن خصومي من بني طالب أرادوا حرماني من نِعم وترف الحياة ولذيذ الطعام ! الخلافة والمُلك ترف ٌ في نظر خليفة المسلمين . كان بعض معلمي الدراسة الإبتدائية أواسط أربعينيات القرن الماضي يرددون أمام تلامذتهم الصغار قولاً ما محته الأعوام المتطاولة من رأسي يقول (( الترفُ يُزيلُ النِعَم )) . قد يكون هذا القول أحد الأحاديث المنسوبة للنبي محمد ... فأين إخوان الصفا وأين إبن خلدون من هذا الكلام إذا صحّت نسبته للرسول ؟؟
تعقيب عَرَضي : لا تنطبق وجهات نظر إخوان الصفا و ( نظرية ) إبن خلدون حول نشوء ودمار الدول على إمبراطوريات القرن العشرين . كانت الإمبراطوريات القديمة تنهض الواحدة منها على أنقاض الأخرى لكنَّ الإمبراطوريات الحديثة لا تفنى ولا تزول إنما تتقلص سلماً أو حرباً . تنكمش داخل حدود معقولة ترتضيها لنفسها ويرتضيها لها المجتمع الدولي وخاصةً المنتصرون عليها . كالإمبراطورية العثمانية مثلاً ... ثم إمبراطوية هتلر الألمانية واليابان بل وحتى الإمبراطورية البريطانية التي ما كانت الشمسُ لتغربَ عن مملكاتها . تقلصت هذه حتى رضيت بأسكتلندا ومقاطعة ويلز وشمال آيرلندا التي لم تزلْ تطالب بالإنفصال عن بريطانيا. كانت إمبراطورية عظمى تسمى
Great Britain
فغدت المملكة المتحدة لا غير
United kingdom
ام تخسر بريطانيا العظمى حرباً ولم تتعرض لكارثة غزو ودمار إنما إنكمشت بعد الحرب العالمية الثانية تحت ضغط حركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا فتمددت واحتلت مواقعها الولايات المتحدة الأمريكية أكبر رابحٍ بعد الحرب . لم تفقد بهاءها الإمبراطوري ولا ثراءها الفاحش الذي جنته من إستغلالها لشعوب وخيرات مستعمراتها فأين مقولة أو ( نظرية ) إبن خلدون من هذا المثال ؟! يواجه العالم اليوم إمبراطورية أسطورية الثراء والجبروت العسكري والعلمي والتكنولوجي والغطرسة غير المسبوقة حدَّ الرعونة والإستهتار بالأعراف والقوانين الدولية، إمبراطورية العولمة والقطب الأوحد ... فمتى تبدأ مسيرة العد العكسي لإنحطاطها وتدهورها وتصفية قواعدها العسكرية الواسعة الإنتشار وإنكماشها داخل حدودها الجغرافية المعروفة ؟ كيف ستكون نهاية أسطورة أمريكا وهي في قمة ثرائها الخُرافي ؟ هل سينهيها هذا الثراء حسب وجهات نظر إبن خلدون ؟ بالطبع كلا . (نظرية ) إبن خلدون ساذجة ومتخلفة وغاية في البساطة ... طبقها على بعض النماذج التي كانت سائدة يومذاك دون تعمق كاف ٍ . تكلم عن البداوة والحضارة وأخلاق البدو والحَضر بشكل جيد . وتكلم عن تبدل سمات وأخلاق الحكام كذلك بشكل جيد لكنه أخفق أيما إخفاق في تصوراته عن مصير الدول وأسباب زوالها أو زوال النعمة عنها .
أما الإمبراطورية السوفياتية السابقة فلها ظروفها الخاصة بحيث أنها تقلصت داخل حدود روسيا دون أن تدخل حرباً ومن غير أن تخسر حرباً سوى ما كان يُدعى (( الحرب الباردة ونفقات سباق التسلّح )) . إنهارت هذه الدولة الشاسعة المترامية الأطراف دون أن تبلغ حالة الترف القصوى حسب نظريات إخوان الصفا وإبن خلدون . بالعكس ... قيل في حينه إنها إنهارت ـ بين أسباب كثيرة أخرى ـ بسبب قلة المتوفر من الطعام والملابس والتضييق على حريات المواطنين في التعبير عن الرأي المخالف والسفر . إنها العازة إذا ً وليس الترف ، الجوع وليست التخمة... العازة هي التي أسهمت في تدهور تلك الإمبراطورية الهائلة المساحة والقدرات .
الجفاف كذلك ونقص الغلات الزراعية يا ما تسببا في إنهيار حضارات قديمة كان من بينها بابل . يحضرني مثال طريف من التأريخ القديم إذ ينقلب جوع الشعب بسبب الجفاف لا إلى إندثار الدولة بل إلى تركز السلطة في أيدي حكامها المستبدين ليزدادوا تعسفاً وإستبداداً . أقصد حالة مصر الفرعونية أيام ما كان يوسف بن يعقوب هناك . نعرف قصة الجوع في مصر الذي دام سبع سنوات ٍ عجاف ٍ كما قرأنا في القرآن والتوراة . كيف عالج يوسف وكان مسؤول خزائن مصر تلك الأزمة وكيف حولها من كارثة أحاقت بالشعب المصري إلى نعمة كبرى للفرعون حاكم مصر المستبد ؟ خزّن غلات مصر قبل الجفاف وشرع بعده يببيع الشعبَ ما يحتاج من قمح مقابل الفضة كسلعة للتبادل التجاري . وحين نفدت فضة الناس صار يبيعهم القمحَ مقابل ما يملكون مواشٍ . وحين إستمرَّ الجفافُ وعانى الناس من الجوع أتوا يوسفَ شاكين قائلين ها قد نفد ما معنا من فضة ومواشٍ ونحن لا مَحالةَ هالكون . ثم عرضوا عليه أنفسهم وأراضيهم مقابل قمح يدرأ عنهم غائلة الجوع فقبلَ يوسفُ الصفقة . وهكذا أصبح المصريون عبيدا ً لفرعونَ وأراضيهم أراضيَ له . الجوع والخوف من الموت أجبر البشر على أن يبيعوا أنفسهم ويغدوا عبيداً لحاكمهم المطلق . (5) . مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ (( للمتنبي )) . الشعب يقاسي من محنة الجوع والجفاف والفرعون يزدادُ ثراءً وتصبح كل مصر ملكاً خالصاً له : أرضاً وبشراً وعقاراتٍ وفضة ً . في هذه القصة وجه ٌ آخرُ لا يخلو من طرافة هو أنَّ قدامى المصريين أيام حكم الفراعنة كانوا أسياداً على أراضيهم يفلحونها ويزرعونها بكامل حرياتهم وإختياراتهم ولا سلطانَ لفرعونهم عليهم ، أي ما كانوا مجرد فلاحين لهذا الفرعون كما كان حال فلاحي العراق مثلاً زمن عهود الإقطاع المعروفة . وما كانوا عبيداً يباعون ويشترون مع عوائلهم وما يملكون ( وهم عادة ً لا يملكون شيئا ً من دنياهم ) كما كان الحال في العديد من الأقطار في عهود العبيد الغابرة ومنها روما على سبيل المثال زمان العبد الثائر سبارتاكوس. لكن ... وقد جاء الجفاف وجاء الجوع معه ومع الجوع تأتي الأوبئة هُرعَ الناس في مصر الفرعونية لبيع أنفسهم عبيداً درءاً لخطر الموت ... فالحياة مع العبودية أفضل من الموت جوعاً . تبقى الحياة في العبد لكنها لا تبقى فيه حُرّا ً مع الجوع والمسغبة . تحوّلُ الإنسان من إنسانٍ حرٍ إلى عبد هو بكل تأكيد إنحطاط ونكوص في سُنة وأطوار سلم تطور المجتمعات البشرية المعروف ، لكنه تدهور أو تفسخ أو إنحطاط سببه الجوع لا الترفُ . ثم إنه حفظ الجنس البشري من الإنقراض . إذْ ما أن مات الفرعون ومات يوسفُ مدبّرُ شؤون مملكته أو وزير ماليته وحافظ خزائنه حتى تحرر عبيد مصر وعادوا أسيادَ أراضيهم كما كانوا قبل محنة الجوع والجفاف . أي أنَّ الطبيعة قد إنتصرت وبقي ناموسها حياً يفعل أفعاله خارج نطاق إرادات الحكام والجبابرة .
الموقف الثاني / نساء أخوان الصفا
لهؤلاء الإخوان مواقف جدَّ غريبة من المرأة شذوا فيها حتى عن مواقف أسلافهم الخوارج والقرامطة من بعدهم حيث وضعوا المرأة في مكانها الصحيح فكانت تقاتل معهم ويشركونها في أمورهم . وقد نالت النسوة الخارجات على سلطان بني أمية ما نالت من ظلم وجور زياد إبن أبيه (6) ثم إبنه عبيد الله بن زياد من بعده إذْ قتل الأول منهما إمرأة ً ثم عرّاها ، أما إبنه عبيد الله فقد ظفر بإمرأة تُدعى ( البلجاء ) من جماعة أحد مشاهير زعماء الخوارج يُدعى مرداس بن حُدير أبو بلال (( فقطع يديها ورجليها ورمى بها في السوق )) . كان الخوارج يقدرون المرأة حق َّ قدرها حتى أنهم قد إستعظموا فِعلة مُصعَب بن الزبير إذ أقدم على قتل زوج المختار الثقفي ، بنت النعمان بن بشير الأنصارية ، وأنكروه [[ غاية الإنكار ورأوه قد أتى أمراً عظيما ً إنه أتى ما نهى عنه رسول الله في سائر نساء المشركين ]] (6) فقال في ذلك أحد الشعراء :
إنَّ من أعاظمِ الكبائرِ عندي
قتلُ حسناءَ غادة ٍ عُطبول ِِ
قُتلتْ باطلا ً على غيرِ ذنب ٍ
إنَّ للهِ دَرُّها من قتيل ِ
كٌتبَ القتلُ والقتالُ علينا
وعلى المُحصَّنات ِ جر ُّ الذيول ِ
وضع إخوان الصفا المرأة في مرتبة واحدة مع الأطفال والجهّال وكانوا في الأصل يحضون جماعتهم على العزوف عن الزواج !! غريبٌ أمرهم من رجال مسلمين !! ثم كانوا على وجلٍ منها شديدي الحذر في معاشرتها زوجاً لهم وكثيري الريبة في مسلكها فقالوا في ذلك أموراً لم يقلها أحدٌ لا من قبلُ ولا من بعدُ من قبيل (1ـ1) ما يلي [[ إنَّ الأحب إلينا والآثر عندنا الإنفراد الوحدة ( أي ترك الزواج ) ولكن لا يكادُ يتهيأُ ذلك لجميع إخواننا ولا نأمرهم به أيضاً لئلا ينقطع الحرث ُ والنسلُ . فإذا تزوجتَ فعليكَ بتفقد المرأة دائما ً فإنها تتلون مع الساعات . وراقبها من غير أنْ تشعر هي بذلك . ولا تغترّ بها إذا بدا لك منها صلاح ٌ حقيقي ٌّ ، فإنَّ تقلبها كثير ٌ وفسادها سهل ٌ إلا من عصمها اللهُ تعالى وقليلٌ مت هم ]] . هل حقاً هذا كلام صادر عن رجال يدعون العلم ويتكلمون في الفلسفة والمنطق وأمرهم بينهم شورى أي كانوا يأخذون بمبدأ العمل الجماعي أو فريق العمل الجماعي ؟! ما سبب هذا الحذر من المرأة وما كان يدعوهم لمراقبتها أي التجسس عليها
(( وراقبها من غير أنْ تشعر هي بذلك )) !! هل سألوا أنفسهم عن مدعاة وعن أسباب تلوّنها كما كانوا يزعمون ؟ هم بحثوا في مبدأ العلة والمعلول والسبب والنتيجة فكيف فاتهم أمر تفسير ما زعموا من سرعة تقلب أو تلون المرأة ؟ وأي زواج هذا الذي لا يقوم إلا على الشك والريبة وأنْ يكون الزوجُ شرَطي َ أمن ٍ وعنصر مخابرات يراقب زوجه وأم أولاده سراً ليلاً ونهاراً ؟ (( إنها تتلون مع الساعات ... تقلبها كثير ... وفسادها سهل ... )) !! التلوّن التقلب والفساد !! ألا قبحكم الله من إخوة تناديتم لا على صلاح الأمة بل إجتمعتم على فسادها والإخلال بنواميسها الطبيعية فأي بشر أنتم وبمن تشبّهتم ومن كان في ذلك مثلكم وإمامكم ؟ خالفتم السَلف وخالفتم الخلف فبئس الرجال أنتم ... تصافيتم فيما بينكم لكنكم أفسدتم شؤون غيركم وخالفتم دينكم وعادات ملتكم وإعتبارات قومكم .
أين وضع المرأة َ إخوانُ الصفا ؟ لنقرأ ما قالوا بهذا الصدد [[ ... وإعلمْ يا أخي أنَّ هذا الرأي والإعتقاد جيد ٌ للنساء والصبيان والجُهال والعوام ومن لا ينظر في حقائق العلوم ولا يعرفها ... ثم إعلمْ أنَّ الناسَ على طبقات ٍ كثيرة ٍ ... فمنهم العامة من النساء والصبيان والجُهّال ، ومنهم الخاصة من العلماء والحكماء البالغين فيها الراسخين ، ومنهم متوسطون بين ذلك ]] .
لو كانوا سكتوا ولم يتطرقوا لموضوع المرأة لكان خيراً لنا ولهم ولزينة الحياة الدنيا : المرأة ... الأم ... الأخت ... الزوج ... البنت ريحانة الوجود.
يقال عنهم إنهم كانوا إسماعيليين ، لكن َّ الكل يعرف أنَّ الدروز إسماعيليون وأنَّ الطائفة الدرزية تحترم المرأة إلى حدود بعيدة فما بالهم شذوا شذوذاً كبيراً عن أخلاق وتقاليد أصولهم ورفاقهم في العقيدة
والمعتقد ؟ أكان جو البصرة الإجتماعي يومذاك هو ما أوحى لهم بمثل هذه الأفكار والمواقف من المرأة ؟ إنهم عاصروا القرامطة والكوفة إحدى عواصمهم وكان وضع المرأة القرمطية في أحسن حال كما نقرأ في تأريخهم . أفلم يقرأوا ما كتب التأريخ عن نساء ملكات منذ الزمن القديم حيث ملكت بلقيس( أو كنداكة بالحبشية ) مملكة سبأ و ملكت كيلوباترا مصر الفرعونية وقادت الجيوش ضد روما ثم الزبّاء أو زنوبيا ملكة تدمر التي كانت هي الأخرى ملكة مقاتلة شجاعة ؟؟ هم قرأوا بكل تأكيد تأريخ الخنساء الشاعرة أخت صخر وعرفوا السيدة زينب بنت علي ٍّ وشجاعتها في وقوفها بوجه يزيد بن معاوية في دمسق بعد فاجعة مقتل أخيها الحُسين في كربلاء . أليست الخنساء وزينب من النساء ؟
المصادر /
1ـ الدكتور عمر فرّوخ / إخوان الصفا . دار الكتاب العربي ، بيروت ، الطبعة الثالثة 1981 . الصفحة 171 .
2ـ مقدمة إبن خلدون / دار العودة ، بيروت 1981 .
2ـ1 / صفحة 132
2ـ2 / صفحة 134
2ـ3 / صفحة 138
3ـ القرآن / سورة الإسراء ، الآية 16
4ـ المسعودي / مروج الذهب ومعادن الجوهر / دار الأندلس ، بيروت ، الطبعة الرابعة 1981 ، الجزء الثالث ، الصفحة 298
5ـ التوراة / قصة يوسف في فصل " التكوين " / الإصحاحان 47 و 48 ، الصفحات 80 ـ 77
1ـ1 / كتاب إخوان الصفا مار الذكر / الصفحة 140 6ـ الكامل في اللغة والأدب / للمبرّد / مكتبة المعارف ، بيروت ، الجزء الثاني { بدون تأريخ }، الصفحات 182 ـ 180 .
الموقف الأول / مع إبن خلدون
بلغ إبن خلدون ما بلغ من شُهرة ٍ وعلوِّ صيتٍ بما قال عن العمران والفساد ، أي نشوء وتطور الدول أو أنظمة الحكم أو الأمم ثم تدهورها فزوالها . عمران فتفسخ . لقد أسبغ بعض المؤرخين على هذه الفكرة صفة أو إسم ( نظرية ... نظرية إبن خلدون في نشوء وإرتقاء الأمم ... ) فما كان حظ إبن خلدون منها وما مقدار نصيبه من تفكير وجهد في صياغتها بشكلها المعروف في مقدمته ؟ لا شئ ، لا شئ البتة ! إنها كنظرية أو فكرة موجودة فيما خلّف أخوان الصفا من رسائل . نعم ، موجودة بحذافيرها ونصها الذي كرره إبن خلدون في مقدمته علماً أنَّ هؤلاء كانوا قد سبقوا إبن خلدون بأكثر من الخمسة قرون من الزمان حيث تذهب ُ التقديرات إلى أنَّ رسائل إخوان الصفا كانت قد وضعت ما بين القرنين الهجريين الثالث والرابع ... بينما توفي إبن خلدون عام 808 للهجرة . ما فحوى هذه
( النظرية ) الحرفي ؟ قال إخوان الصفا (1) :
أَعمار الدول / دولة أهل الخير ودولة أهل الشر [[ ... وأعلمْ يا أخي بأنَّ أمورَ هذه الدنيا دُول ٌ ونوَب ٌ تدورُ بين أهليها قرنا ً بعد قرنٍ ومن أمّة ٍ إلى أمّة . . وأعلمْ بأنَّ كل َّ دولةٍ لها وقتٌ منه تبتدئ ، وغاية إليها ترتقي ، وحد ٌّ إليه تنتهي . فإذا بلغت إلى أقصى غاياتها ومدى نهاياتها تسارعَ إليها الإنحطاط والنقصانُ وبدأ في أهلها الشؤم والخذلان وإستأنف في الآخرين من القوة والنشاط والظهور والإنبساط ، وجعلَ كل َّ يوم ٍ يقوى هذا ويزيد ويضعفُ ذلك وينقص إلى أنْ يضمحل َّ الأول المُقدَّم ويستمكن الآتي المتأخر ]] . هذا كلام إخوان الصفا فما قال بعدهم بأكثر من خمسة قرون عبد الرحمن بن خلدون حول نفس الموضوع ؟ أفرد الرجل فصلا كاملاً لهذه الموضوعة هو الفصل الثالث
(2) قال في مقدمته (( من الكتاب الأول في الدول العامة والمُلك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات )) . يهمني من هذا الفصل الأجزاء الثلاثة 13 ، 14 و 17 رغم طرافة باقي الأجزاء وعلاقتها الوثيقة بالموضوع الرئيس . حمل الجزء الثالث عشر (1ـ2) عنواناً يقول ( فصلٌ في أنه إذا استحكمت طبيعة ُ المُلك من الإنفراد بالمجد وحصول الترف والدِعة أقبلت الدولةُ على الهرم ) . أما الجزء الرابع عشر (2ـ2) فكان عنوانه ( فصل ٌ في أنَّ الدول لها أعمار ٌ طبيعية كما للإشخاص ) ، بينما (3ـ2) كان عنوان الجزء السابع عشر ( فصل ٌ في أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخُلق أهلها باختلاف الأطوار ) .
ليس وارداً في مشروع بحثي هذا عرض أو مناقشة آراء إبن خلدون بالتفصيل فيما يخص موضوعة نشوء الدول وإرتقائها ففنائها . لقد أشبع المرحوم البروفسور علي الوردي هذه المسألة بحثاً وإستقصاءً ثم أفرد لها كتاباً مستقلاًً أظن أنَّ إسمه ( مع إبن خلدون ) ! كنتُ قرأته قبل عدة سنين . سبق علي الوردي وجاء بعده العديد من الكتاب والباحثين ممن عنوا بهذا الشكل أو ذاك بتراث إبن خلدون وخصصوا الكثير من جهدهم ووقتهم لموضوعة نشوء الدول وإضمحلالها حاسبين خطأ ً أن إبن خلدون هو أول من وضع أسس هذه الموضوعة التي تعارفوا على تسميتها ( نظرية ... نظرية إبن خلدون ) . كل هؤلاء كانوا من كبار المؤرخين أو من المختصين بعلم الإجتماع أو الفلسفة أو من مشاهير الكتاب والكاتبات مثل السيدة بنت الشاطئ . فليس من المعقول ولا من المتوقع منهم أن لا يكونوا قد درسوا رسائل إخوان الصفا ليكتشفوا أن َّ هؤلاء القوم كانوا قد سبقوا إبنَ خلدون في وضع الأسس الأولية الأولى لما سمي َّ فيما بعد ب ( نظرية إبن خلدون ) . بل ، وأكثر من ذلك وأشد مرارةً ... أنَّ الأسس الأولى لهذه الأطروحة التي رفعت إبن خلدون إلى ما لا يستحق من مقامات ... إنها موجودة بأروع أشكالها وأكثرها تركيزاً وإختصاراً في القرآن الكريم (3) [[ وإذا أردنا أنْ نُهلكَ قرية ً أمرنا مُترَفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القولُ فدمّرناها تدميرا ]] . نرى هنا شروط هلاك المدن أو فنائها . وهنا نجد أن سبب أو مسبب هذا الهلاك هو الترف . وهذا ما رآه وأكد إبن خلدون عليه في مجمل أطروحاته حول فناء الدول . رسم الرجل خطاً بيانياً حسابياً لصعود ونهوض الأمم يبدأ من الصفر ليرتقي صُعُداً حتى يبلغ سمتاً معيناً محدداً يمثل ( أقصى درجات الترف والنعيم وغضارة العيش ) ثم يبدأ بعد ذلك مرحلة الهبوط التدريجي نزولاً بإتجاه خط أو إحداثي الصفر الأفقي أي الموت . (( أمرنا مترَفيها )) كلام بالغ الدلالة ... أمرنا مترفيها ففسقوا ... لكأنَّ المترفين وحدهم القادرون في الأرض على ممارسة الفسوق !! في طوق كل مخلوق إتيان الفسوق ولكنَّ فسوق الأثرياء والحكام والملوك والسلاطين والمتجبرين في الأرض يفوق كل فسوق بما يتوفر لديهم من مالٍ وسلطان ٍ زمني ٍّ وجوارٍ وغلمان وكافة وسائل العهر والرذيلة وممارسة المنكرات والمحرمات . يأتي الخراب على أيدي هؤلاء المترفين وعن طريقهم وبواسطتهم هم لا غيرهم من باقي أفراد رعيتهم . وهكذا بالضبط أتى الخرابُ العراقَ على يد الكثير التجبر والغطرسة والترف صدام حسين وبطانته من أهل بيته وغيرهم من الحزبيين البعثيين . الترف هو طريق زوال النِعَم فإياكم يا بشر والترف َ الباذخ َ . قريب من هذه المواضيع ما قاله الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور <<>> (4) ذات يوم وقد قدموا له مائدةَ طعام فيها { عجّة من مُخ وسكّر فاستطابها فقال } [[ أراد إبراهيمُ أنْ يحرمني هذا وأشباهه ]] . إبراهيم هو أخ محمد ذي النفس الزكية وهما من أولاد عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ... وهما كانا قد إنشقا على أبي جعفر المنصور وقادا عصيانات وتمردات عسكرية لا حصرَ لها ضد جيوش الخلافة في بغداد . معنى كلام أبي جعفر المنصور أن خصومي من بني طالب أرادوا حرماني من نِعم وترف الحياة ولذيذ الطعام ! الخلافة والمُلك ترف ٌ في نظر خليفة المسلمين . كان بعض معلمي الدراسة الإبتدائية أواسط أربعينيات القرن الماضي يرددون أمام تلامذتهم الصغار قولاً ما محته الأعوام المتطاولة من رأسي يقول (( الترفُ يُزيلُ النِعَم )) . قد يكون هذا القول أحد الأحاديث المنسوبة للنبي محمد ... فأين إخوان الصفا وأين إبن خلدون من هذا الكلام إذا صحّت نسبته للرسول ؟؟
تعقيب عَرَضي : لا تنطبق وجهات نظر إخوان الصفا و ( نظرية ) إبن خلدون حول نشوء ودمار الدول على إمبراطوريات القرن العشرين . كانت الإمبراطوريات القديمة تنهض الواحدة منها على أنقاض الأخرى لكنَّ الإمبراطوريات الحديثة لا تفنى ولا تزول إنما تتقلص سلماً أو حرباً . تنكمش داخل حدود معقولة ترتضيها لنفسها ويرتضيها لها المجتمع الدولي وخاصةً المنتصرون عليها . كالإمبراطورية العثمانية مثلاً ... ثم إمبراطوية هتلر الألمانية واليابان بل وحتى الإمبراطورية البريطانية التي ما كانت الشمسُ لتغربَ عن مملكاتها . تقلصت هذه حتى رضيت بأسكتلندا ومقاطعة ويلز وشمال آيرلندا التي لم تزلْ تطالب بالإنفصال عن بريطانيا. كانت إمبراطورية عظمى تسمى
Great Britain
فغدت المملكة المتحدة لا غير
United kingdom
ام تخسر بريطانيا العظمى حرباً ولم تتعرض لكارثة غزو ودمار إنما إنكمشت بعد الحرب العالمية الثانية تحت ضغط حركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا فتمددت واحتلت مواقعها الولايات المتحدة الأمريكية أكبر رابحٍ بعد الحرب . لم تفقد بهاءها الإمبراطوري ولا ثراءها الفاحش الذي جنته من إستغلالها لشعوب وخيرات مستعمراتها فأين مقولة أو ( نظرية ) إبن خلدون من هذا المثال ؟! يواجه العالم اليوم إمبراطورية أسطورية الثراء والجبروت العسكري والعلمي والتكنولوجي والغطرسة غير المسبوقة حدَّ الرعونة والإستهتار بالأعراف والقوانين الدولية، إمبراطورية العولمة والقطب الأوحد ... فمتى تبدأ مسيرة العد العكسي لإنحطاطها وتدهورها وتصفية قواعدها العسكرية الواسعة الإنتشار وإنكماشها داخل حدودها الجغرافية المعروفة ؟ كيف ستكون نهاية أسطورة أمريكا وهي في قمة ثرائها الخُرافي ؟ هل سينهيها هذا الثراء حسب وجهات نظر إبن خلدون ؟ بالطبع كلا . (نظرية ) إبن خلدون ساذجة ومتخلفة وغاية في البساطة ... طبقها على بعض النماذج التي كانت سائدة يومذاك دون تعمق كاف ٍ . تكلم عن البداوة والحضارة وأخلاق البدو والحَضر بشكل جيد . وتكلم عن تبدل سمات وأخلاق الحكام كذلك بشكل جيد لكنه أخفق أيما إخفاق في تصوراته عن مصير الدول وأسباب زوالها أو زوال النعمة عنها .
أما الإمبراطورية السوفياتية السابقة فلها ظروفها الخاصة بحيث أنها تقلصت داخل حدود روسيا دون أن تدخل حرباً ومن غير أن تخسر حرباً سوى ما كان يُدعى (( الحرب الباردة ونفقات سباق التسلّح )) . إنهارت هذه الدولة الشاسعة المترامية الأطراف دون أن تبلغ حالة الترف القصوى حسب نظريات إخوان الصفا وإبن خلدون . بالعكس ... قيل في حينه إنها إنهارت ـ بين أسباب كثيرة أخرى ـ بسبب قلة المتوفر من الطعام والملابس والتضييق على حريات المواطنين في التعبير عن الرأي المخالف والسفر . إنها العازة إذا ً وليس الترف ، الجوع وليست التخمة... العازة هي التي أسهمت في تدهور تلك الإمبراطورية الهائلة المساحة والقدرات .
الجفاف كذلك ونقص الغلات الزراعية يا ما تسببا في إنهيار حضارات قديمة كان من بينها بابل . يحضرني مثال طريف من التأريخ القديم إذ ينقلب جوع الشعب بسبب الجفاف لا إلى إندثار الدولة بل إلى تركز السلطة في أيدي حكامها المستبدين ليزدادوا تعسفاً وإستبداداً . أقصد حالة مصر الفرعونية أيام ما كان يوسف بن يعقوب هناك . نعرف قصة الجوع في مصر الذي دام سبع سنوات ٍ عجاف ٍ كما قرأنا في القرآن والتوراة . كيف عالج يوسف وكان مسؤول خزائن مصر تلك الأزمة وكيف حولها من كارثة أحاقت بالشعب المصري إلى نعمة كبرى للفرعون حاكم مصر المستبد ؟ خزّن غلات مصر قبل الجفاف وشرع بعده يببيع الشعبَ ما يحتاج من قمح مقابل الفضة كسلعة للتبادل التجاري . وحين نفدت فضة الناس صار يبيعهم القمحَ مقابل ما يملكون مواشٍ . وحين إستمرَّ الجفافُ وعانى الناس من الجوع أتوا يوسفَ شاكين قائلين ها قد نفد ما معنا من فضة ومواشٍ ونحن لا مَحالةَ هالكون . ثم عرضوا عليه أنفسهم وأراضيهم مقابل قمح يدرأ عنهم غائلة الجوع فقبلَ يوسفُ الصفقة . وهكذا أصبح المصريون عبيدا ً لفرعونَ وأراضيهم أراضيَ له . الجوع والخوف من الموت أجبر البشر على أن يبيعوا أنفسهم ويغدوا عبيداً لحاكمهم المطلق . (5) . مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ (( للمتنبي )) . الشعب يقاسي من محنة الجوع والجفاف والفرعون يزدادُ ثراءً وتصبح كل مصر ملكاً خالصاً له : أرضاً وبشراً وعقاراتٍ وفضة ً . في هذه القصة وجه ٌ آخرُ لا يخلو من طرافة هو أنَّ قدامى المصريين أيام حكم الفراعنة كانوا أسياداً على أراضيهم يفلحونها ويزرعونها بكامل حرياتهم وإختياراتهم ولا سلطانَ لفرعونهم عليهم ، أي ما كانوا مجرد فلاحين لهذا الفرعون كما كان حال فلاحي العراق مثلاً زمن عهود الإقطاع المعروفة . وما كانوا عبيداً يباعون ويشترون مع عوائلهم وما يملكون ( وهم عادة ً لا يملكون شيئا ً من دنياهم ) كما كان الحال في العديد من الأقطار في عهود العبيد الغابرة ومنها روما على سبيل المثال زمان العبد الثائر سبارتاكوس. لكن ... وقد جاء الجفاف وجاء الجوع معه ومع الجوع تأتي الأوبئة هُرعَ الناس في مصر الفرعونية لبيع أنفسهم عبيداً درءاً لخطر الموت ... فالحياة مع العبودية أفضل من الموت جوعاً . تبقى الحياة في العبد لكنها لا تبقى فيه حُرّا ً مع الجوع والمسغبة . تحوّلُ الإنسان من إنسانٍ حرٍ إلى عبد هو بكل تأكيد إنحطاط ونكوص في سُنة وأطوار سلم تطور المجتمعات البشرية المعروف ، لكنه تدهور أو تفسخ أو إنحطاط سببه الجوع لا الترفُ . ثم إنه حفظ الجنس البشري من الإنقراض . إذْ ما أن مات الفرعون ومات يوسفُ مدبّرُ شؤون مملكته أو وزير ماليته وحافظ خزائنه حتى تحرر عبيد مصر وعادوا أسيادَ أراضيهم كما كانوا قبل محنة الجوع والجفاف . أي أنَّ الطبيعة قد إنتصرت وبقي ناموسها حياً يفعل أفعاله خارج نطاق إرادات الحكام والجبابرة .
الموقف الثاني / نساء أخوان الصفا
لهؤلاء الإخوان مواقف جدَّ غريبة من المرأة شذوا فيها حتى عن مواقف أسلافهم الخوارج والقرامطة من بعدهم حيث وضعوا المرأة في مكانها الصحيح فكانت تقاتل معهم ويشركونها في أمورهم . وقد نالت النسوة الخارجات على سلطان بني أمية ما نالت من ظلم وجور زياد إبن أبيه (6) ثم إبنه عبيد الله بن زياد من بعده إذْ قتل الأول منهما إمرأة ً ثم عرّاها ، أما إبنه عبيد الله فقد ظفر بإمرأة تُدعى ( البلجاء ) من جماعة أحد مشاهير زعماء الخوارج يُدعى مرداس بن حُدير أبو بلال (( فقطع يديها ورجليها ورمى بها في السوق )) . كان الخوارج يقدرون المرأة حق َّ قدرها حتى أنهم قد إستعظموا فِعلة مُصعَب بن الزبير إذ أقدم على قتل زوج المختار الثقفي ، بنت النعمان بن بشير الأنصارية ، وأنكروه [[ غاية الإنكار ورأوه قد أتى أمراً عظيما ً إنه أتى ما نهى عنه رسول الله في سائر نساء المشركين ]] (6) فقال في ذلك أحد الشعراء :
إنَّ من أعاظمِ الكبائرِ عندي
قتلُ حسناءَ غادة ٍ عُطبول ِِ
قُتلتْ باطلا ً على غيرِ ذنب ٍ
إنَّ للهِ دَرُّها من قتيل ِ
كٌتبَ القتلُ والقتالُ علينا
وعلى المُحصَّنات ِ جر ُّ الذيول ِ
وضع إخوان الصفا المرأة في مرتبة واحدة مع الأطفال والجهّال وكانوا في الأصل يحضون جماعتهم على العزوف عن الزواج !! غريبٌ أمرهم من رجال مسلمين !! ثم كانوا على وجلٍ منها شديدي الحذر في معاشرتها زوجاً لهم وكثيري الريبة في مسلكها فقالوا في ذلك أموراً لم يقلها أحدٌ لا من قبلُ ولا من بعدُ من قبيل (1ـ1) ما يلي [[ إنَّ الأحب إلينا والآثر عندنا الإنفراد الوحدة ( أي ترك الزواج ) ولكن لا يكادُ يتهيأُ ذلك لجميع إخواننا ولا نأمرهم به أيضاً لئلا ينقطع الحرث ُ والنسلُ . فإذا تزوجتَ فعليكَ بتفقد المرأة دائما ً فإنها تتلون مع الساعات . وراقبها من غير أنْ تشعر هي بذلك . ولا تغترّ بها إذا بدا لك منها صلاح ٌ حقيقي ٌّ ، فإنَّ تقلبها كثير ٌ وفسادها سهل ٌ إلا من عصمها اللهُ تعالى وقليلٌ مت هم ]] . هل حقاً هذا كلام صادر عن رجال يدعون العلم ويتكلمون في الفلسفة والمنطق وأمرهم بينهم شورى أي كانوا يأخذون بمبدأ العمل الجماعي أو فريق العمل الجماعي ؟! ما سبب هذا الحذر من المرأة وما كان يدعوهم لمراقبتها أي التجسس عليها
(( وراقبها من غير أنْ تشعر هي بذلك )) !! هل سألوا أنفسهم عن مدعاة وعن أسباب تلوّنها كما كانوا يزعمون ؟ هم بحثوا في مبدأ العلة والمعلول والسبب والنتيجة فكيف فاتهم أمر تفسير ما زعموا من سرعة تقلب أو تلون المرأة ؟ وأي زواج هذا الذي لا يقوم إلا على الشك والريبة وأنْ يكون الزوجُ شرَطي َ أمن ٍ وعنصر مخابرات يراقب زوجه وأم أولاده سراً ليلاً ونهاراً ؟ (( إنها تتلون مع الساعات ... تقلبها كثير ... وفسادها سهل ... )) !! التلوّن التقلب والفساد !! ألا قبحكم الله من إخوة تناديتم لا على صلاح الأمة بل إجتمعتم على فسادها والإخلال بنواميسها الطبيعية فأي بشر أنتم وبمن تشبّهتم ومن كان في ذلك مثلكم وإمامكم ؟ خالفتم السَلف وخالفتم الخلف فبئس الرجال أنتم ... تصافيتم فيما بينكم لكنكم أفسدتم شؤون غيركم وخالفتم دينكم وعادات ملتكم وإعتبارات قومكم .
أين وضع المرأة َ إخوانُ الصفا ؟ لنقرأ ما قالوا بهذا الصدد [[ ... وإعلمْ يا أخي أنَّ هذا الرأي والإعتقاد جيد ٌ للنساء والصبيان والجُهال والعوام ومن لا ينظر في حقائق العلوم ولا يعرفها ... ثم إعلمْ أنَّ الناسَ على طبقات ٍ كثيرة ٍ ... فمنهم العامة من النساء والصبيان والجُهّال ، ومنهم الخاصة من العلماء والحكماء البالغين فيها الراسخين ، ومنهم متوسطون بين ذلك ]] .
لو كانوا سكتوا ولم يتطرقوا لموضوع المرأة لكان خيراً لنا ولهم ولزينة الحياة الدنيا : المرأة ... الأم ... الأخت ... الزوج ... البنت ريحانة الوجود.
يقال عنهم إنهم كانوا إسماعيليين ، لكن َّ الكل يعرف أنَّ الدروز إسماعيليون وأنَّ الطائفة الدرزية تحترم المرأة إلى حدود بعيدة فما بالهم شذوا شذوذاً كبيراً عن أخلاق وتقاليد أصولهم ورفاقهم في العقيدة
والمعتقد ؟ أكان جو البصرة الإجتماعي يومذاك هو ما أوحى لهم بمثل هذه الأفكار والمواقف من المرأة ؟ إنهم عاصروا القرامطة والكوفة إحدى عواصمهم وكان وضع المرأة القرمطية في أحسن حال كما نقرأ في تأريخهم . أفلم يقرأوا ما كتب التأريخ عن نساء ملكات منذ الزمن القديم حيث ملكت بلقيس( أو كنداكة بالحبشية ) مملكة سبأ و ملكت كيلوباترا مصر الفرعونية وقادت الجيوش ضد روما ثم الزبّاء أو زنوبيا ملكة تدمر التي كانت هي الأخرى ملكة مقاتلة شجاعة ؟؟ هم قرأوا بكل تأكيد تأريخ الخنساء الشاعرة أخت صخر وعرفوا السيدة زينب بنت علي ٍّ وشجاعتها في وقوفها بوجه يزيد بن معاوية في دمسق بعد فاجعة مقتل أخيها الحُسين في كربلاء . أليست الخنساء وزينب من النساء ؟
المصادر /
1ـ الدكتور عمر فرّوخ / إخوان الصفا . دار الكتاب العربي ، بيروت ، الطبعة الثالثة 1981 . الصفحة 171 .
2ـ مقدمة إبن خلدون / دار العودة ، بيروت 1981 .
2ـ1 / صفحة 132
2ـ2 / صفحة 134
2ـ3 / صفحة 138
3ـ القرآن / سورة الإسراء ، الآية 16
4ـ المسعودي / مروج الذهب ومعادن الجوهر / دار الأندلس ، بيروت ، الطبعة الرابعة 1981 ، الجزء الثالث ، الصفحة 298
5ـ التوراة / قصة يوسف في فصل " التكوين " / الإصحاحان 47 و 48 ، الصفحات 80 ـ 77
1ـ1 / كتاب إخوان الصفا مار الذكر / الصفحة 140 6ـ الكامل في اللغة والأدب / للمبرّد / مكتبة المعارف ، بيروت ، الجزء الثاني { بدون تأريخ }، الصفحات 182 ـ 180 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق