د. عدنان الظاهر
(( السوسنة الجامحة / إيلي جابالا ))
توطئة توضيحية :
تركت معبدها في وطنها بعد أنْ غزاه المحتلون وجاءت بابلَ تبحث عن " مشهد الشمس " القريب من مدينة الحلة حيث دأبَ قدامى البابليين على عبادة الشمس في هذا المعبد الذي لم يبقَ منه اليوم إلا الإسم . رأيتها هناك تنظف المكان وترشه بماء الورود وتوقد الشموع وتحرق عيدان البخور وتطرد منه الجان والصيارفة وأولاد الأفاعي وبائعي الطيور. سألتها لِمَ إختارت هذا البلد دون سواه ؟ قالت لأنَّ الناس فيه ما زالوا يقدرون ويفهمون الأديان ويتعبدون لآلهتهم ويوفون بنذورهم ويقدمون قرابينهم ويذبحون أبكار بنيهم كعادات الكنعانيين قومي الذين عبدوني آلهة للشمس وأسموني إيلي جابالا . هززت رأسي بقنوط مع الكثير من الشفقة ثم قلتُ : أخطأتِ القصد يا ربّة الشمس الكنعانية ! توسّعت حدقتا عينيها فتبينت فيهما لونين متداخلين هما البني ـ البنفسجي يحيط كالإسوارة بلون أخضر فاتح سريع التغير عاكساً لون الوسط المحيط . قالت وقد ضاق بؤبؤا عينيها كيف أخطأتُ القصد ؟ تضاعف قنوطي وتضاعفت درجة شفقتي وخنقتني عَبرة ٌ عابرة غالبتها بمشقة وتغلبت على غصتها فقلت لها : يا ربّة الشمس ويا أخت القمر ! يا بنت َ كنعان وفينيق وآمور ! معبد الشمس القديم هذا وهذا البلد لم يعودا آمنين ... غزاهما محتل ٌ أكثر شراسةً وأشد بطشاً من تلك الأقوام التي غزت ودمرت بلدك ومعبدك ! إنهارت الربة آلهة الشمس وأخت القمر فتهاوت على أرض معبدها الترابية ثم غطت بكفيها وجهها وأجهشت بنوبة بكاء مرٍّ لا ينقطع . تركتها لشأنها كيما تصرِّف الأزمة النفسية الحادة وتهفتَ النيران ... ثم لعلها تفكر في حل آخر وبلد آخر تجد ضالتها فيها حيث لا محتلون ولا غزاة ولا مستوطنون .
ما يجمعُ فتنة الرخام الأبيض بناحتها المتوحش ؟
قلت له : هل سبق وأن تعرّفتَ على هذا التمثال النادر المثال الشاخص أمامك ؟ قال وكيف تسألني مثلَ هذا السؤال الأبله ؟ أنا الذي عرفتك عليه ، أو بعبارة أكثر دقة ، بواسطتي كنتَ قد تعرّفتَ عليه قبل فترة قصيرة . هززتُ رأسي موافقاً وقد أُسقطَ في يدي . معه حق . تذكرتُ ... لقد كتبتْ لي ذات يوم صاحٍ جميل (( أنقى من الفجر ِ الضحوكِ وقد أعرتَ الفجرَ خدّكْ / للأخطل الصغير )) إنها مستعدة لأن تذرف دمعتي إعجاب وتقدير لهذا النحّات الرائع . تذكرتُ ذلك فحزَّ في نفسي كيف أنها لا تخصّني بواحدة من هاتين الدمعتين ! هل ألومها أم أحسد صاحبي النحّات الفطري المتوحش ؟ سألتها في حينه فقالت ذاك لأنني لا أعرفك بشكل جيد كما أعرف صديقي النحات . ثم َّـ أضافت ـ إنك لستَ نحاتاً أصلاً ، لا من ثقة لي إلا بالنحت والنحاتين . هل أعيد تثقيف نفسي وتأهيلي بعد خراب البصرة وفوات الآوان ؟ هل أدرس فنون الرسم والنحت من جديد ؟ لم يبقَ في العمر متسعٌ لتحقيق مثل هذه الأماني . مرَّ القطار ... قطار الليل وحَمَدْ وما مرَّ هيهات أن يعود ، هيهاتَ هيهات (( ومن إمتهْ اللي راح بيعودْ / أغنية / كفاية يا عين لفريد الأطرش )) . قطار حَمَد والعشاق والمحبين البطرانين من أهل الهوى والطرب ذاك غير قطار الموت البعثي الشهير عام 1963 ... شتانَ شتان !! فهمتْ السوسنة ُ مقصدي فهي تقرأ الأفكار وتستوحي الغيب وتفك أسرار المغيبات . قالت بصوت عالٍ يسمعه نحات الصخور وطبيب النفوس : لا عليك ... لا تغيّر مواقعك ومواقفك . إبقَ حيثُ أنتَ فأنت تحبُ الثبات . يكفيك أنك تفهم ما تكتب ويكفيك أكثر أني كذلك أتفهم ما تكتب لي ولسواي من الناس . دمعة واحدة لك أو أمامك لا من قيمة عندي لها . سأهديك مصدر دمعي . سأهديك صورة عينيَ اليسرى . تأمّلها ، تملاها ، غرّق فيها ناظريك ، حاولْ أن تكونَ مثلي قرّاء عيون ، العيون تتكلم ، إنها تتكلم بصمت حيناً وبصوتٍ عال ٍ أحيانا . إنْ لم تفهم عيني اليسرى ولم تستطع ْ تفسيرَ غموضها ومجاهيلها فحاول أنْ تفسّر ما فيها من الوان ففي ألوان العيون فلسفات وفلسفات . كم لوناً رأيتَ في عينيَ يا هذا وما حد ُّ فهمك لكل لون من هذه الألوان ؟ خفتَ فجأة ً صوتها لتهمسَ في أذني اليمنى : أرجوكَ أرجوك ... لا تنشر صورة عيني في موقعك ولا في غيره من المواقع . ضحكتُ بصوتٍ عالِ إستفزَّ مشاعر الصديق النحّات الذي كان منشغلاً يخطط على ورق سميك ، ثم قلت لها هامساً بالقرب من عينها ـ الصورة : يا حبيبة ُ، ماذا سأنشر ؟ هل يُعقلُ أنْ أنشرَ صورة عين واحدة ؟ هل رأيتِ في حياتك عيناً واحدة ً بدون وجه؟ ماذا سأقول للناس ؟ هذه عين السيدة سوسنة البهاء اليسرى ؟ سيسألونني وماذا عن العين الأخرى ؟ قالت هامسة ً : قلْ لهم إنها ليست نسخة طبق الأصل من أختها اليسرى ، إنهما متناظرتان كتناظر الكفين ، تناظر لا تطابق . لا تشبه عينٌ في البشر العينَ الأخرى . صمتت السوسنة بينما واصل النحات تخطيطاته ينقّل بصره ما بين وجه وجسد السوسنة وما أمامه من ورق أبيض سميك . إنتبهت الضيفة فإعترضت بعصبية طالبة ً من النحات أن يكف َّ عن مواصلة التخطيط . صرختْ في وجهه الذي غطت لحيته أكثر من نصفه : من سمح لك دون إذنٍ أن تخطط وجهي وهيئة جسدي ؟ أنا إمرأة متزوجة وزوجي حبيبي أكرِّس وقتي له ولفني المشابه لفنك . سقط القلم من كف صاحبه وتطلّع في عينيها ذاهلاً مشدوهاً ثم إستدار نحوي طالباً النجدة . سارعتُ لإنقاذه من الورطة التي أقحم فيها نفسه . قلت لها كاذباً إنه يلهو لا أكثر ، ولا من خطر في لهوه وخطوطه ونقوشه ... إنها محضُ هلوسات فالفنانون كالشعراء سواء بسواء مجانين أو أنصاف مجانين يفعلون ما لا يقولون ويقولون ما لا يفعلون ويهيمون حيثما وكيفما شاؤوا (1) . قالت قد أصدقك قولك لكني أصر ُّ في طلبي منك أنْ لا تنشرَ صورة عيني اليسرى مهما كانت الظروف . حاول صديقنا الفنان أن يلملمَ أركان نفسه التي تهاوت جرّاء صرخة السوسن في وجهه وأمرها له أنْ يكف عن هلوسات التخطيط فتظاهر بالقوة وبشئ من البأس فقال : إذا لم تسمحي لصديقنا أنْ ينشرَ صورة عينك فلا من بأس في أن تسمحي له بنشر صورة وجهك كاملاً بعينين وأنف مستقيم وفم قرمزي الضباب والإستدارة والندى يعتلي جيداً غزاليَ التشكيل . لم أملك صبراً فسارعتُ للقول : شرطَ أنْ يكونَ الرأسُ حاسراُ بدون حجاب ! إحتجت بغضب قائلة ً : ومتى رأيتني يا هذا بحجاب ؟ معها حق . إنها إمرأة أخرى نبتت في أرض أخرى وتربّت على عادات وطقوس مغايرة أخرى . قلت لها طيّب ، سأتخلى عن مشروع نشر صورتك جملة ً وتفصيلاً ولكن بشرط . قرّبت وجهها مني حتى كادت أهداب عينيها السود الطويلة أن تلامس صفحة وجهي قائلة ً : وما هو ترى هذا الشرط ؟ الشرط يا ضيف الشرف أن تسمحي لصديقنا الفنان أن ينحتَ لك تمثالا ً أو صنماً من رخام شديد البياض كرخام تمثال موسى صاحب الطور في سيناء ليتعبّدَ له الملحدون والمشركون من بقايا قريش وعاد ٍ وثمود ٍ وأصحاب الأخدود . تبسّمت السوسنة الضيفة ثم إتسعت بسمتها فبانَ بياضُ أسنانها لكأنما كان قصدها أن تقول ما رأيكم ببياض أسناني ؟ بادرتُ للقول نعم ، هذا هو اللون الأبيض الذي أروم لتمثالك يا ربّة ! فتح الفنان الفطريُ الطيبُ عينيه متسائلاً مستنكراً قولي مردداً : أطلقتَ على ضيفتك لفظةَ ( ربة ) ؟؟ أجلْ يا صديق . إنها ربّة قديمة عمرُ أسطورتها يعود لألف عام قبل الميلاد . إتسعت عينا صاحبي أكثر . سحب الكثير من دخان غليونه ( بايب ) ... نفث بعضه وإبتلع باقيه ثم طلب مني أن أوضح هذا الأمر الشائك . هل أتكلم أنا أم أنتِ يا سوسنة أم ندع تمثالك يتكلم ويفصح ؟ قالت بل أنا مَن سيتولى المهمة . إسمي [ جوليا دومنة ] وكنتُ آلهة ً وربة ً في معبد الشمس في منطقة مدينة ( حمص ) السورية ، فأنا ربة الشمس يوم كان الناس يعبدون الشمس ربما قبل المصريين الفراعنة وقبل قوم بلقيس ملكة سبأ التي عبدت وقومُها قرصَ الشمس كما قرأتم قصتها في القرآن وما جرى لها مع سليمان وزيارتها له في أورشليم وشغب الهدهد وما نقل لسليمان من أمرها (2) . لم يصّدق الفنان النحات ما قالت السوسنة التي كانت تتكلم وهي كالحالمة أو النائمة . كانت مغمضة العينين حالمة الشفتين منكّسة الرأس متهدلة الشعر . هل هي في حلم حقيقي أم ترى إنها واقعة بالفعل تحت تأثير سحر أو قوة منوِّمة ؟ رجعتْ أكثر من ثلاثة آلاف عام ٍ للوراء تستذكر ماضيها حين كانت ربّة ً يعبدها الناسُ ويقدمون لها النذور والأضاحي وكان إسمها ( جوليا أو جولي أو جوليانا ) لا فرق ... فإسم الشهر السابع من السنة ، تموز ، مشتق من أصل إسمها فهو يوليو أو
{ جلاي }
July
بالإنجليزية ، وهو بالألمانية { يولي }
Juli
ولا أعرف كيف يكتب بالفرنسية . خُيلَ لي كأنَّ صاحبي يتابع ما أهمس به لنفسي أو ما كنتُ أقول إذ ْ إختلط الوهم لديَّ بالحقائق . أضاف مغتبطاً منشرحاً إذا ً الفضل لهذه الربة الماثلة بيننا أمامنا شبهَ نائمةٍ حالمةٍ في نور شمسها وحرارة شهر تموز وكل ما يعطينا الصيف من ثمار وفاكهة ومصائفَ وسواحلَ رملية وغير رملية وهذا الشهر هو أحدُ أشهُرِ العطل المدرسية والجامعية في كافة أنحاء العالم . قمْ ـ صرختُ ـ قمْ يا صديق لنسجدَ عند قدميها فإنها هي الربّة وهي آلهة الشمس وإني لا أخجل من إعلاني أني عدتُ لوثنيتي وإني أحد رعاياها وأحد عابديها وهذا أنا أقدم جسدي قرباناً لها ... إنهضْ فوراً وانحرني يا فنان كما حاول إبراهيمُ ذبحَ إبنه (3) ثم َّ انحتْ لها تمثالاً من الرخام الشديد البياض مؤَطراً بخطوط ٍ ونقوش وزخارفَ حُمر ٍ من بعض دمي ثم قدّم ْ ما يتبقى من جسدي طعاماً للنسور . ترك الفنان غليونه شاحذاً سكينه لكنَّ الربة َ التي بخلت عليَّ بصورتها تركت القاعدة التي وقفت عليها كي تمنعه من تنفيذ عزمه على نحري . نهرَته بعنف فتراخى ... جبُن فتراجع وأقعى أمامها كذئب جريح . إلتقط أنفاسه معتذراً أنه كان ينفذ ما طلب منه صديقه ولا أكثر من ذلك . شكرتها وقلت لها إذا ً سآتيكم بكبش تذبحونه قرباناً لك بدل رقبتي ودمي { ذِبح عظيم } (3) ... ثم رددتُ بعض أشعار قديمة من باب العرفان بالجميل أنها أنقذت حياتي من سكين الصديق الفنان النحّات الحوت المنحوت والمنحوس :
يا ربّة َ العرشِ هل في أمرنا عَجَب ٌ
إن ْ كانَ لم يرتفع ْ في ساحِنا عَلَم ُ
كنتُ الذي أبتغي حاجا ً أهم ُّ لهُ
مثلَ المصابيحِ إذ ْ تحمى فتنحطمُ
دارت ْ على محوري المكسورِ في صَخَب ٍ
شتى الرياح ِ وفي تصخابها صممُ
عودي إلى أرضنا العطشى مطاوعة ً
عودي ، ففي نبعنا الفضي ِّ نحتلمُ
قام الإثنان معاً مصفقين فصافحاني وتبادلنا قبلات الصداقة ومحض الود حيث يتلاقح الأدب والرسمُ وفن النحت فضلاً عن الأسطورة والخيال خالق الفن والأدب.
هوامش
(1)
(( والشعراءُ يتَّبعُهم الغاوون . ألمْ ترَ أنهمْ في كل وادٍ يَهيمونْ . وأَنهمْ يقولونَ ما لا يفعلون / سورة الشعراء ، الآيات 24 ، 25 ، 26 )).
(2)
من سورة النمل / الآيات 22 و 23 و 24
[[ فمكثَ غيرَ بعيد ٍ فقالَ أحَطتُ بما لم تحُطْ به وجئتكَ من سبأٍ بنبأٍ يقين . إني وجدتُ امرأة ً تَملِكهم وأوتيتْ من كلِّ شئ ٍ ولها عرش ٌ عظيم . وجدتها وقومَها يسجدونَ للشمسِ من دونِ اللهِ وزيّنَ لهمُ الشيطانُ أعمالهم فصدّهم عن السبيلِ فهم لا يهتدون ]] .
(3)
من سورة الصافات / الآيات 102 ، 103 ، 104 ، 105 ، 106 ، 107
[[ فلما بلغَ معه السعيَ قال يا بُنيَّ إني أرى في المنامِ إني أذبحكَ فانظرْ ماذا ترى قال يا أبتِ افعلْ ما تؤمرُ ستجدني إنْ شاءَ اللهُ من الصابرين . فلما تلّهُ للجبين ِ . ونادينا أنْ يا إبراهيمُ . قد صدّقتَ الرؤيا إنّا كذلكَ نُجزي المُحسنين . إنْ هذا لهوَ البلاءُ المُبين . وقد فدّيناهُ بذِبح ٍ عظيم ]] .
(( السوسنة الجامحة / إيلي جابالا ))
توطئة توضيحية :
تركت معبدها في وطنها بعد أنْ غزاه المحتلون وجاءت بابلَ تبحث عن " مشهد الشمس " القريب من مدينة الحلة حيث دأبَ قدامى البابليين على عبادة الشمس في هذا المعبد الذي لم يبقَ منه اليوم إلا الإسم . رأيتها هناك تنظف المكان وترشه بماء الورود وتوقد الشموع وتحرق عيدان البخور وتطرد منه الجان والصيارفة وأولاد الأفاعي وبائعي الطيور. سألتها لِمَ إختارت هذا البلد دون سواه ؟ قالت لأنَّ الناس فيه ما زالوا يقدرون ويفهمون الأديان ويتعبدون لآلهتهم ويوفون بنذورهم ويقدمون قرابينهم ويذبحون أبكار بنيهم كعادات الكنعانيين قومي الذين عبدوني آلهة للشمس وأسموني إيلي جابالا . هززت رأسي بقنوط مع الكثير من الشفقة ثم قلتُ : أخطأتِ القصد يا ربّة الشمس الكنعانية ! توسّعت حدقتا عينيها فتبينت فيهما لونين متداخلين هما البني ـ البنفسجي يحيط كالإسوارة بلون أخضر فاتح سريع التغير عاكساً لون الوسط المحيط . قالت وقد ضاق بؤبؤا عينيها كيف أخطأتُ القصد ؟ تضاعف قنوطي وتضاعفت درجة شفقتي وخنقتني عَبرة ٌ عابرة غالبتها بمشقة وتغلبت على غصتها فقلت لها : يا ربّة الشمس ويا أخت القمر ! يا بنت َ كنعان وفينيق وآمور ! معبد الشمس القديم هذا وهذا البلد لم يعودا آمنين ... غزاهما محتل ٌ أكثر شراسةً وأشد بطشاً من تلك الأقوام التي غزت ودمرت بلدك ومعبدك ! إنهارت الربة آلهة الشمس وأخت القمر فتهاوت على أرض معبدها الترابية ثم غطت بكفيها وجهها وأجهشت بنوبة بكاء مرٍّ لا ينقطع . تركتها لشأنها كيما تصرِّف الأزمة النفسية الحادة وتهفتَ النيران ... ثم لعلها تفكر في حل آخر وبلد آخر تجد ضالتها فيها حيث لا محتلون ولا غزاة ولا مستوطنون .
ما يجمعُ فتنة الرخام الأبيض بناحتها المتوحش ؟
قلت له : هل سبق وأن تعرّفتَ على هذا التمثال النادر المثال الشاخص أمامك ؟ قال وكيف تسألني مثلَ هذا السؤال الأبله ؟ أنا الذي عرفتك عليه ، أو بعبارة أكثر دقة ، بواسطتي كنتَ قد تعرّفتَ عليه قبل فترة قصيرة . هززتُ رأسي موافقاً وقد أُسقطَ في يدي . معه حق . تذكرتُ ... لقد كتبتْ لي ذات يوم صاحٍ جميل (( أنقى من الفجر ِ الضحوكِ وقد أعرتَ الفجرَ خدّكْ / للأخطل الصغير )) إنها مستعدة لأن تذرف دمعتي إعجاب وتقدير لهذا النحّات الرائع . تذكرتُ ذلك فحزَّ في نفسي كيف أنها لا تخصّني بواحدة من هاتين الدمعتين ! هل ألومها أم أحسد صاحبي النحّات الفطري المتوحش ؟ سألتها في حينه فقالت ذاك لأنني لا أعرفك بشكل جيد كما أعرف صديقي النحات . ثم َّـ أضافت ـ إنك لستَ نحاتاً أصلاً ، لا من ثقة لي إلا بالنحت والنحاتين . هل أعيد تثقيف نفسي وتأهيلي بعد خراب البصرة وفوات الآوان ؟ هل أدرس فنون الرسم والنحت من جديد ؟ لم يبقَ في العمر متسعٌ لتحقيق مثل هذه الأماني . مرَّ القطار ... قطار الليل وحَمَدْ وما مرَّ هيهات أن يعود ، هيهاتَ هيهات (( ومن إمتهْ اللي راح بيعودْ / أغنية / كفاية يا عين لفريد الأطرش )) . قطار حَمَد والعشاق والمحبين البطرانين من أهل الهوى والطرب ذاك غير قطار الموت البعثي الشهير عام 1963 ... شتانَ شتان !! فهمتْ السوسنة ُ مقصدي فهي تقرأ الأفكار وتستوحي الغيب وتفك أسرار المغيبات . قالت بصوت عالٍ يسمعه نحات الصخور وطبيب النفوس : لا عليك ... لا تغيّر مواقعك ومواقفك . إبقَ حيثُ أنتَ فأنت تحبُ الثبات . يكفيك أنك تفهم ما تكتب ويكفيك أكثر أني كذلك أتفهم ما تكتب لي ولسواي من الناس . دمعة واحدة لك أو أمامك لا من قيمة عندي لها . سأهديك مصدر دمعي . سأهديك صورة عينيَ اليسرى . تأمّلها ، تملاها ، غرّق فيها ناظريك ، حاولْ أن تكونَ مثلي قرّاء عيون ، العيون تتكلم ، إنها تتكلم بصمت حيناً وبصوتٍ عال ٍ أحيانا . إنْ لم تفهم عيني اليسرى ولم تستطع ْ تفسيرَ غموضها ومجاهيلها فحاول أنْ تفسّر ما فيها من الوان ففي ألوان العيون فلسفات وفلسفات . كم لوناً رأيتَ في عينيَ يا هذا وما حد ُّ فهمك لكل لون من هذه الألوان ؟ خفتَ فجأة ً صوتها لتهمسَ في أذني اليمنى : أرجوكَ أرجوك ... لا تنشر صورة عيني في موقعك ولا في غيره من المواقع . ضحكتُ بصوتٍ عالِ إستفزَّ مشاعر الصديق النحّات الذي كان منشغلاً يخطط على ورق سميك ، ثم قلت لها هامساً بالقرب من عينها ـ الصورة : يا حبيبة ُ، ماذا سأنشر ؟ هل يُعقلُ أنْ أنشرَ صورة عين واحدة ؟ هل رأيتِ في حياتك عيناً واحدة ً بدون وجه؟ ماذا سأقول للناس ؟ هذه عين السيدة سوسنة البهاء اليسرى ؟ سيسألونني وماذا عن العين الأخرى ؟ قالت هامسة ً : قلْ لهم إنها ليست نسخة طبق الأصل من أختها اليسرى ، إنهما متناظرتان كتناظر الكفين ، تناظر لا تطابق . لا تشبه عينٌ في البشر العينَ الأخرى . صمتت السوسنة بينما واصل النحات تخطيطاته ينقّل بصره ما بين وجه وجسد السوسنة وما أمامه من ورق أبيض سميك . إنتبهت الضيفة فإعترضت بعصبية طالبة ً من النحات أن يكف َّ عن مواصلة التخطيط . صرختْ في وجهه الذي غطت لحيته أكثر من نصفه : من سمح لك دون إذنٍ أن تخطط وجهي وهيئة جسدي ؟ أنا إمرأة متزوجة وزوجي حبيبي أكرِّس وقتي له ولفني المشابه لفنك . سقط القلم من كف صاحبه وتطلّع في عينيها ذاهلاً مشدوهاً ثم إستدار نحوي طالباً النجدة . سارعتُ لإنقاذه من الورطة التي أقحم فيها نفسه . قلت لها كاذباً إنه يلهو لا أكثر ، ولا من خطر في لهوه وخطوطه ونقوشه ... إنها محضُ هلوسات فالفنانون كالشعراء سواء بسواء مجانين أو أنصاف مجانين يفعلون ما لا يقولون ويقولون ما لا يفعلون ويهيمون حيثما وكيفما شاؤوا (1) . قالت قد أصدقك قولك لكني أصر ُّ في طلبي منك أنْ لا تنشرَ صورة عيني اليسرى مهما كانت الظروف . حاول صديقنا الفنان أن يلملمَ أركان نفسه التي تهاوت جرّاء صرخة السوسن في وجهه وأمرها له أنْ يكف عن هلوسات التخطيط فتظاهر بالقوة وبشئ من البأس فقال : إذا لم تسمحي لصديقنا أنْ ينشرَ صورة عينك فلا من بأس في أن تسمحي له بنشر صورة وجهك كاملاً بعينين وأنف مستقيم وفم قرمزي الضباب والإستدارة والندى يعتلي جيداً غزاليَ التشكيل . لم أملك صبراً فسارعتُ للقول : شرطَ أنْ يكونَ الرأسُ حاسراُ بدون حجاب ! إحتجت بغضب قائلة ً : ومتى رأيتني يا هذا بحجاب ؟ معها حق . إنها إمرأة أخرى نبتت في أرض أخرى وتربّت على عادات وطقوس مغايرة أخرى . قلت لها طيّب ، سأتخلى عن مشروع نشر صورتك جملة ً وتفصيلاً ولكن بشرط . قرّبت وجهها مني حتى كادت أهداب عينيها السود الطويلة أن تلامس صفحة وجهي قائلة ً : وما هو ترى هذا الشرط ؟ الشرط يا ضيف الشرف أن تسمحي لصديقنا الفنان أن ينحتَ لك تمثالا ً أو صنماً من رخام شديد البياض كرخام تمثال موسى صاحب الطور في سيناء ليتعبّدَ له الملحدون والمشركون من بقايا قريش وعاد ٍ وثمود ٍ وأصحاب الأخدود . تبسّمت السوسنة الضيفة ثم إتسعت بسمتها فبانَ بياضُ أسنانها لكأنما كان قصدها أن تقول ما رأيكم ببياض أسناني ؟ بادرتُ للقول نعم ، هذا هو اللون الأبيض الذي أروم لتمثالك يا ربّة ! فتح الفنان الفطريُ الطيبُ عينيه متسائلاً مستنكراً قولي مردداً : أطلقتَ على ضيفتك لفظةَ ( ربة ) ؟؟ أجلْ يا صديق . إنها ربّة قديمة عمرُ أسطورتها يعود لألف عام قبل الميلاد . إتسعت عينا صاحبي أكثر . سحب الكثير من دخان غليونه ( بايب ) ... نفث بعضه وإبتلع باقيه ثم طلب مني أن أوضح هذا الأمر الشائك . هل أتكلم أنا أم أنتِ يا سوسنة أم ندع تمثالك يتكلم ويفصح ؟ قالت بل أنا مَن سيتولى المهمة . إسمي [ جوليا دومنة ] وكنتُ آلهة ً وربة ً في معبد الشمس في منطقة مدينة ( حمص ) السورية ، فأنا ربة الشمس يوم كان الناس يعبدون الشمس ربما قبل المصريين الفراعنة وقبل قوم بلقيس ملكة سبأ التي عبدت وقومُها قرصَ الشمس كما قرأتم قصتها في القرآن وما جرى لها مع سليمان وزيارتها له في أورشليم وشغب الهدهد وما نقل لسليمان من أمرها (2) . لم يصّدق الفنان النحات ما قالت السوسنة التي كانت تتكلم وهي كالحالمة أو النائمة . كانت مغمضة العينين حالمة الشفتين منكّسة الرأس متهدلة الشعر . هل هي في حلم حقيقي أم ترى إنها واقعة بالفعل تحت تأثير سحر أو قوة منوِّمة ؟ رجعتْ أكثر من ثلاثة آلاف عام ٍ للوراء تستذكر ماضيها حين كانت ربّة ً يعبدها الناسُ ويقدمون لها النذور والأضاحي وكان إسمها ( جوليا أو جولي أو جوليانا ) لا فرق ... فإسم الشهر السابع من السنة ، تموز ، مشتق من أصل إسمها فهو يوليو أو
{ جلاي }
July
بالإنجليزية ، وهو بالألمانية { يولي }
Juli
ولا أعرف كيف يكتب بالفرنسية . خُيلَ لي كأنَّ صاحبي يتابع ما أهمس به لنفسي أو ما كنتُ أقول إذ ْ إختلط الوهم لديَّ بالحقائق . أضاف مغتبطاً منشرحاً إذا ً الفضل لهذه الربة الماثلة بيننا أمامنا شبهَ نائمةٍ حالمةٍ في نور شمسها وحرارة شهر تموز وكل ما يعطينا الصيف من ثمار وفاكهة ومصائفَ وسواحلَ رملية وغير رملية وهذا الشهر هو أحدُ أشهُرِ العطل المدرسية والجامعية في كافة أنحاء العالم . قمْ ـ صرختُ ـ قمْ يا صديق لنسجدَ عند قدميها فإنها هي الربّة وهي آلهة الشمس وإني لا أخجل من إعلاني أني عدتُ لوثنيتي وإني أحد رعاياها وأحد عابديها وهذا أنا أقدم جسدي قرباناً لها ... إنهضْ فوراً وانحرني يا فنان كما حاول إبراهيمُ ذبحَ إبنه (3) ثم َّ انحتْ لها تمثالاً من الرخام الشديد البياض مؤَطراً بخطوط ٍ ونقوش وزخارفَ حُمر ٍ من بعض دمي ثم قدّم ْ ما يتبقى من جسدي طعاماً للنسور . ترك الفنان غليونه شاحذاً سكينه لكنَّ الربة َ التي بخلت عليَّ بصورتها تركت القاعدة التي وقفت عليها كي تمنعه من تنفيذ عزمه على نحري . نهرَته بعنف فتراخى ... جبُن فتراجع وأقعى أمامها كذئب جريح . إلتقط أنفاسه معتذراً أنه كان ينفذ ما طلب منه صديقه ولا أكثر من ذلك . شكرتها وقلت لها إذا ً سآتيكم بكبش تذبحونه قرباناً لك بدل رقبتي ودمي { ذِبح عظيم } (3) ... ثم رددتُ بعض أشعار قديمة من باب العرفان بالجميل أنها أنقذت حياتي من سكين الصديق الفنان النحّات الحوت المنحوت والمنحوس :
يا ربّة َ العرشِ هل في أمرنا عَجَب ٌ
إن ْ كانَ لم يرتفع ْ في ساحِنا عَلَم ُ
كنتُ الذي أبتغي حاجا ً أهم ُّ لهُ
مثلَ المصابيحِ إذ ْ تحمى فتنحطمُ
دارت ْ على محوري المكسورِ في صَخَب ٍ
شتى الرياح ِ وفي تصخابها صممُ
عودي إلى أرضنا العطشى مطاوعة ً
عودي ، ففي نبعنا الفضي ِّ نحتلمُ
قام الإثنان معاً مصفقين فصافحاني وتبادلنا قبلات الصداقة ومحض الود حيث يتلاقح الأدب والرسمُ وفن النحت فضلاً عن الأسطورة والخيال خالق الفن والأدب.
هوامش
(1)
(( والشعراءُ يتَّبعُهم الغاوون . ألمْ ترَ أنهمْ في كل وادٍ يَهيمونْ . وأَنهمْ يقولونَ ما لا يفعلون / سورة الشعراء ، الآيات 24 ، 25 ، 26 )).
(2)
من سورة النمل / الآيات 22 و 23 و 24
[[ فمكثَ غيرَ بعيد ٍ فقالَ أحَطتُ بما لم تحُطْ به وجئتكَ من سبأٍ بنبأٍ يقين . إني وجدتُ امرأة ً تَملِكهم وأوتيتْ من كلِّ شئ ٍ ولها عرش ٌ عظيم . وجدتها وقومَها يسجدونَ للشمسِ من دونِ اللهِ وزيّنَ لهمُ الشيطانُ أعمالهم فصدّهم عن السبيلِ فهم لا يهتدون ]] .
(3)
من سورة الصافات / الآيات 102 ، 103 ، 104 ، 105 ، 106 ، 107
[[ فلما بلغَ معه السعيَ قال يا بُنيَّ إني أرى في المنامِ إني أذبحكَ فانظرْ ماذا ترى قال يا أبتِ افعلْ ما تؤمرُ ستجدني إنْ شاءَ اللهُ من الصابرين . فلما تلّهُ للجبين ِ . ونادينا أنْ يا إبراهيمُ . قد صدّقتَ الرؤيا إنّا كذلكَ نُجزي المُحسنين . إنْ هذا لهوَ البلاءُ المُبين . وقد فدّيناهُ بذِبح ٍ عظيم ]] .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق