السبت، مايو 24، 2008

ربيع براغ

د. عدنان الظاهر


(( لعيد ميلادها الحادي والثلاثين ))

كنتُ هناك عام 1968 طالب َ دراساتٍ عليا وقد أوشكتُ أنْ أُنهي دراستي وأبحاثي حين إنفجرت حوادث عصيان مدني لم يخلُ من عنف في العاصمة الجيكية براغ سمته الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون (( ربيع براغ )) . أّجهض العصيانُ أو الثورة بالأسلوب الذي يعرفه العالم من قبل قوات حلف وارشو بقيادة الإتحاد السوفياتي يومذاك .
إذا ً ... نحن نواجه اليوم َ أحداث أواسط عام 1968 ونواجه ربيع براغ بعد مرور أربعين عاماً بالتمام والكمال . ما علاقتي ببراغ وربيع براغ ولم يكن في الحق ربيعاً عادياً بل كان ربيع َ دماء ٍ سالت وأبنية دُمرت ودبابات أُحرقت وخراب وأهوال ما زالت تعرض بين حين وآخر على شاشات التلفزيون والفضائيات العالمية ؟؟ لقد رأيت بعيني موكب الرئيس الجيكي [ الأسير ] السيد دوبجك ماراً وسط مظاهر التكريم والحفاوة في واحد من شوارع موسكو الرئيسة التي تربط مطار موسكو بالكرملين والساحة الحمراء . {{ كنت قبل ذلك رأيتُ موكباً مماثلاً للراحل جمال عبد الناصر وهو يمر خلال نفس الشارع }} .
ربيع دموي في العاصمة براغ وحفاوة مبالغ فيها في قلب موسكو . إنه الربيع إذا ً ؟ ولِمَ لا يكون هذا الربيع ربيعي أنا دونما ثورة وعصيانٍ ودماء تصبغ الشوارع ؟ سأحمل اللون الأحمر القاني زهوراً حُمراً من القرنفل وأوراد الجوري إكليلاً ضخماً تتوسطه باقة ٌ من ورد الجوري الأصفر ، ورد الحب وأعياد الفالنتاين . سأحمل هذا الأكليل على صدري وأقطع المسافة َ بين مدينة ميونيخ الألمانية والعاصمة الجيكية براغ مشياً على قدميَّ لأساهم في الإحتفال بيوم مولدها الذي سيصادف الحادي والعشرين من شهر مايس ثالث أشهر الربيع . ربيع ٌ دام ٍ مرَّ قبل أربعين عاماً وربيع حب سيأتي عما قريب . هل الحب ثورة أو فيه شئ من الثورة ؟
أحسبُ أنَّ الجواب نعم ! المحبون ثوارٌ ومغامرون عالميون أحبوا وعشقوا الثورة ودوافعها الإنسانية وضحوا من أجلها بأرواحهم الغالية وبكل غالٍ ورخيص . المحبون ثوارٌ والثوار محبون من قمة الرأس حتى أخمص القدم ولا شئ يفصل الرأس عن القدم إلا التضحية حتى الموت فداء ً للمحبوب ولمن نحب ... ثورة ً أو سيدة ً حبيبة . ألمْ يعشق سبارتاكوس الثورة وقاد عبيد روما ضد طغاتها فمات مصلوباً على خشبة بعد أنْ لم يحقق النصر المطلوب على أعدائه وأعداء العبيد ؟
ألم يعشق علي ٌّ بن منصور الحلاج ربّه فقاده هذا العشق للموت مصلوباً على نهر دجلة في بغداد ؟ كم قائداً وغيرَ قائد ٍ من عامة الناس تورط في إدمان عشق الثورة فكان رأسه وحياته ثمنا ً لهذا العشق ؟ ألم يعشق جيفارا الثورة وكان من أمره ما كان قتيلاً في غابات بعض أقطار أمريكا اللاتينية ؟ إذا قال بعض الشعراء
[[ إنَّ من لايحب ُّ لا يسكرُ وإنَّ مَن لا يسكرُ لا يحب ُ ]] وقال آخرُ [[ الحب سكر ٌ ]] ... إذا كان هذا موقف بعض الشعراء المترفين من الحب فإني أضيف مطمئنا ً أنَّ [[ الحب َّ ثورة ٌ ]] وأنَّ أفضلَ وأشجع َ المحبين هم الثوار .
نعم ، الحب ثورة قد يقدِّم فيها المحب رأسه أو جسده عليلاً لا شفاء يُرجى له . فإذا سلم جسده إختل َّ عقله ولنتذكّر قيسَ بني عامر مجنون ليلاه ومثله كثيرون . هل أشعر أني ثائر ؟ نعم ، فإني لا أشذ ُّ عن القاعدة رغم أنَّ لكل قاعدة شذوذاً . إني أحب لكنًَّ ثورتي ثورة هادئة تليق بمقامي والطور الحياتي الذي أمر ُّ به اليوم . محب ٌّ ـ ثائر ٌ ولكن دون عصيانٍ وسلاح وتظاهرات ٍ في شوارع العواصم الجميلة . ثائر ٌ سلاحه أكاليل ورود القرنفل الأحمر والجوري الأصفر .
لونُ القرنفل ِ يغنيني ويبعدني عن منظر الدم ومسيله في الطرقات . أما اللون الأصفر فإنه يبقى رمزاً للحب بنوعيه الثائر والهادئ ، الجسدي والعُذري . سأحمل لها هذا الأكليل قاطعاً المسافات الشاسعة مشياً على أقدامي حتى وإنْ تشققت الأقدامُ وسالت منها الدماء كما سالت دماء الثائرين في ربيع براغ منتصف عام 1968 . المحب هو الآخر ثائر لا يبخل بإراقة دمه أضحية ً وقربانَ الحب والحبيب. على المحب أن يدفعَ الثمن إذ ْ لا من حب ٍّ بدون ثمن باهض جداً. ما قيمة دم يسيل على الطرقات الدولية التي تربط بلدا ً ببلد وشعباً بشعب ومحبا ً عاشقا ً بحبيب معشوق ؟ أفلم يقلْ شاعرٌ آخر [ٌ[ قد ماتَ شهيداً من مات على درب أو دين المحبوب ]] .
ما قطعُ هذا الممر الدولي البري بأشقَّ من ركضة (( طويريج )) إلى كربلاء في وسط العراق . سأكونُ إنْ نفقتُ على الطريق شهيداً ترفع الأمم الثائرة تصاويري ويطبعها الشباب على قمصانهم لتحملها صدورهم وستستفز ُّ هذه الصور الكثير من جندرمة وشرطة الكثير من دول العالم الرأسمالي لأنها ستذكّرهم بأسطورة ثورة ومقتل سبارتاكوس وجيفارا وآخرين غيرهما ممن يعرف الناسُ .
سأحمل إكليل عيد ميلادها على صدري ملاصقاً لقلبي وإنْ تعب الصدرُ من حمله وضعته على رأسي فإذا شعر الرأس بالجهد تنحيتُ جانباً وجلستُ على قارعة الطريق لأستريحَ قليلاً ولأستنشقَ أريج ما أحمل من ورود الحب كي تهدأ أنفاسي التعبى ويخف َّ وجيب قلبي المتعب الذي أضناه حبها . إنه ساعة ألكترونية تضيءُ دقاته أرقاماً ملونة ً فأعرف منها نهاية شوطي في الحياة . أكاد أسمع أحياناً أصوات موسيقى ساحرة تأتي مباشرة ً بعد العد الضوئي . ضوءٌ ملوّنُ الأطياف تماماً كنور عينيها . نور في عينيها ولكن لا من عد ٍّ فيه ولا معدود . نور ثابت ٌ متصل مثل الزمن من الأزل للأبد .
سرمدٌ كالحب المنصهر بالرب فهما واحد ٌ أَحد ٌ صَمدٌ يقول : الحب هو الله والله هو الحب . هذه هي فلسفة حبيبتي وإنْ خالفتها في الكثير من التفاصيل . سأخفي خلافاتي معها عنها لأنني أود أنْ أموتَ على دينها وفلسفتها ففي َّ أمل ٌ وتوق ٌ عظيمان لأن أقضي شهيداً حسب وصفة الشاعر آنف الذِكْر . مَن سيسقيني قطرة ماء إذا ما سقطتُ ميتاً في الطريق قبل وصولي إليها ؟ ماتَ إبن عمتي الحاج فخري هلال حمّادي السريراتي عام 1965 في ركضة كربلاء تحت الأقدام ولم يسقهِ أحدٌ قطرةَ ماء .
لم يصلْ هدفه فهل سأصل هدفي ؟ لم يلتمسْ شباك الحسين فهل سألتمس ُ كفيها وشفتيها وأداعبٌ خصلات شعرها الذهبية وأسكر بسحر عينيها الخضراوين تشعان أطيافَ ماس ٍ وعقيق ٍ أخضر ؟

ليست هناك تعليقات: