د. عدنان الظاهر
موت ٌ ورصاص ٌ في الأعراس
ما الذي يُغري كاتبة شابة جميلة الصورة وأستاذة جامعية على خوض هذه المسائل المعقدة الشائكة التي لا تُغري سواها من الكاتبات والكتاب على حد ٍّ سواء ؟ الجواب يسير للغاية ... شرط أن يقرأ صاحب هذا السؤال أغلب ما كتبت الدكتورة سناء كامل شعلان من قصص ومسرحيات وغيرها من كتابات مفعمة بالإبداع فكراً وقصّا ً وأسلوباً . يكفي لكي يتعرف المرء على شخصية ونفسية الكاتبة الموهوبة سناء أن يتعرف على ما نشرت من آثار أدبية منوّعة الغايات والأهداف . محور ومركز إهتمامها يدوران حول إنسانية الإنسان ونظافة جوهره البشري . هذا هو الشغل الشاغل لسناء كامل وهنا رسالتها في الحياة . إنها تقف صراحة ً وبحزم يفتقر الكثير من الرجال إليهما ضد الظلم والظالمين حكاماً وغير حكام . إنها ضد الحروب والقهر والإغتصاب . إنها رسول سلام ووئام ومحبة للبشر وبين البشر . إنها صوت ٌ عالمي مدو ٍّ ينتصر للضعفاء والذين لا مِن حماية تحميهم من جور الآخرين الأقوياء عليهم . إنها مع السلام وضد الحرب . لذا لا يستغرب أحدنا إذ نراها تكره صوت إطلاق الرصاص في الأعياد ومناسبات العرس وغيرها من مناسبات الفرح المعروفة . صوت نقي أصيل أصفى من الجوهر وأقوى من كل صراخ وضجيج . ولكي تدين هذه الظواهر إتخذت لإدانتها مواقف مألوفة يرغبها أهلنا ويمارسونها بفخر وعنجهية و (( رجولة مفرطة !! )) . موت طفل في عرس مثلاً أو وقوع كارثة غير طبيعية مثل إصابة العين الوحيدة لصبي بإطلاقة نار فرح عرس صاخب . بهجة العرس وكارثة الموت كيف تجتمعان وهما الضد والضد ؟ كيف تجمعهما مناسبة واحدة طرفاها متناقضان : عرس ومأتم ؟ أليست هذه هي معادلة الحياة نفسها ... الولادة والوفاة ... أول شهيق للوليد الجديد وآخر نفس للمتوفى ؟ أفلم يكن أبو العلاء المعري محقا ً حين قال قبل أكثر من عشرة قرون من الزمان :
وشبيه ٌ صوتُ النعي ِّ إذا قي
سَ بصوتِ البشيرِ في كلِّ نادِ
إنَّ حزناً في ساعة الموتِ أضعا
ف ُ سرورٍ في ساعةِ الميلادِ
أَبَكت ْ تلكمُ الحمامةُ أمْ غَ
نتْ على فرعِ غصنها الميّاد ِ
جمع المعرّي في بيته الأول بداية ونهاية حياة الإنسان أبلغ جمع : تشابه صوت ناعي الميت وصوت المبشر بمولده هو طفلآ ً جديدا ً أو غيره من الأطفال . وفي البيت الثاني نرى أن َّ زمن الحزن على المتوفى يفوق كثيراً السرور بمولده . والشاعر لا يدري ما الفرق بين غناء الحمامة وبكائها . كلاهما تعبير عن شجن أو طرب والطرب قد يكون حزناً أو فَرحاً . الحزن والسرور ظاهرتان حياتيتان تتبادلان المواقع في مجرى الزمن . لا ثباتَ لأي ٍّ منهما . كلاهما مكتوبان على الإنسان .
قصة " مأتم الرصاص " (1)
تتكون هذه القصة من ثلاثة أجزاء يحمل كل جزء منها عنواناً فرعياً خاصاً به هي : المأتم الأول ( رسالة عاجلة ) ، والمأتم الثاني ( حليمة المجنونة ) ثم المأتم الثالث ( حالة خاصة ) . تعالج هذه الأجزاء الثلاثة جميعها حالات قتل برصاص طائش غير مقصود تقع في مناسبات عرس حيث تتحول فرحة العرس إلى قتول ومآتم . عالجت دكتورة سناء هذه الأحداث بنفس صبور وأساليب بعيدة عن رتابة الكثير مما نقرأ من كتابات تتعرض لمثل هذه المواضيع . عالجتها وقرأت تفاصيل أحداثها وسردتها علينا بأشكال وآليات فنية تشد القارئ للحدث وتجعله يتعاطف مع الضحايا ومع ذويهم ثم يلعن ويُدين مثل هذه المناسبات التي يُبيح الناس فيها لأنفسهم إستخدام حمل السلاح و إطلاق الأعيرة النارية تعبيراً بدائياً عن أمارات فرحهم بالعرس . كيف تسمح الحكومات بحمل السلاح وإطلاق النار العشوائي في المدن وسواها من القرى والنواحي والقصبات ؟
المأتم الأول / رسالة عاجلة
لا يسقط في المأتم الأول قتلى في حفل العرس ولكنْ ، يفقد صبيٌّ رسامٌ موهوب ٌ إسمه فيصل عينه السليمة الوحيدة وقد وُلد بعين معطوبة . كيف أفلحت سناء في تعبئة تضامن قرّائها مع كارثة هذا الصبي الموهوب ؟ نهجت في ذلك مناهج َ شتى منها أنها أحاطت الصبي بهالة من الإعجاب الذي يقارب التقديس أحياناً وبالغت في تصوير قدراته في موهبة الرسم فضلاً عن إعجاب ذويه به ورعايتهم الفائقة له خاصة ً من قبل أمه وأبيه وأخيه الطبيب سالم . كتبت سناء [[ فيصل طفل ُ عذبٌ ، عمره ثلاثة عشر عاماً ، هو سليل العز والمجد والغنى ، ولكنه كذلك سليل العجز والضعف والإعاقة . وُلدَ فيصل بعين واحدة ترى النورَ ، أما العين الأخرى فكانت زينة ً خضراء جميلة يسكنها الظلام . عرضه أبوه على أطباء الأردن وعلى الكثير من أطباء العيون في العالم لكنهم عجزوا عن رد قبس النور المسلوب إلى عين فيصل ]] . تكفي هذه المقدمة للتعرف على محنة الطفل فيصل التي أتته بالولادة . ثم نقرأ [[ لكنَّ اللهَ أهدى فيصلَ هدية سحرية خلابة فأنساهُ بها آلام عينه المظلمة . فقد كان فيصل رساماً مُلهماً ترى عينه اليتيمة ما لا تراه عيون آلاف البشر ]] . عرفتنا سناء تدريجاً على محنة هذا الطفل فتعاطفنا معه ، ثم إنتقلت لتقدمه للقارئ طفلاً موهوباً رغم علته ومصابه بعينه . خطوتان متتابعتان تثيران تعاطف القارئ مع فيصل وحميته عليه طفلاً معطوب العين بالولادة ورساماً متميزاً يثير الإعجاب . نحن منذ هذه اللحظة مع فيصل وقلوبنا مع خلاصه من علته لنستمتع بما يرسم من لوحات نادرة . في قمة الترقب والتعاطف معه يقع حادث يزلزل الأرضَ من تحت أقدامنا فنرى أنفسنا نتهاوى من عل ٍ فاقدي التوازن جزعين حيارى . كتبت سناء [[ ... أُصيب بالعمى، لقد سرقت رصاصة ٌ طائشة ٌ عين فيصل الوحيدة ...أصبح فيصل أعمى !!! لم تأته الرصاصةُ من يد عدو ٍّ ولا داهمته في حرب ظالمة ولكنها أتته من يد أبيه وفي حفل زفاف أخيه الكبير والوحيد ]] . هنا المفاجأة الثالثة التي توَّجت مسلسل أحداث القصة المأساوية . الطفل المعطوب العين يصبح رسّاماً موهوباً لكن َّ القدرَ لم يمهله إذ يفقد نور عينه الثانية فيغدو أعمى . نجد قمة القمم في مأساة فيصل في أنَّ والده كان مَن أصاب عينه الوحيدة السليمة !! أجل ، جاءت المصيبة من يد الوالد . الوالد الذي أنجبه وسوّاه وحاول المستحيل لإنقاذ عينه المعطوبة ... هذا الأب الحاني يتسبب في كارثة إبنه وفي أية مناسبة ؟ في مناسبة الإحتفال بعرس الأخ الكبير الطبيب سالم !! عرس يتحول على يد والد العريس إلى مأتم وكارثة سببها الرصاص العشوائي الذي يطلقه الناس في شرقنا تعبيراً مخجلاً عن الفرح وهبّة النشوة بالمناسبة . العرسُ والدم ُ . هل دمُ الشخص المدعو للعرس هو أُضحية هذا العرس وقربانه ؟ يذبح الناسُ الخرفان َ عادة ً لا البشرَ قرابينَ وطعاماً لمن يحضر العرس . هل يُعيد التأريخ الأسطوري نفسه لنجدَ أنفسنا أمام لوحة جر ِّ إبراهيمَ ولدَ هُ ( إسماعيلَ أو إسحق ؟ ) ليقدمه ذبيحة فرح ٍ أو نذر ٍ لربه وقد رفع َ القواعدَ وأتم َّ بناء بيت عبادة ٍ له ؟ [[ وإذ ْ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربَّنا تقبّل ْ منا إنك أنتَ السميع ُ العليمُ / سورة البقرة / الآية 127 ]] ذبح الإنسان ، ولا سيما الأطفال ، هو طقس قديم تعلمه اليهود من الكنعانيين خلال إقامتهم معهم على أرض فلسطين في سالف الزمان . تطور البشر فإستقبح هذا الطقس فإستبدله بطقس آخر ممائل ومغاير : ذبح خروف أو بقرة أو جمل أو حتى دجاجة في المناسبات الإجتماعية كالعرس وحج البيت العتيق في مكة . يُسمّى هذا الطقس (( فجران دم )) أي تفجير دم الأُضحية ، أو قربان ٌ أي تقربا ً للرب حامي ومديم النِعم على بعض عباده !! ما علّة غرام الرب بدم مخلوقاته الناطقة وغير الناطقة ؟ إنه ولوع ٌ بالدم لونا ً ومذاقا ً لكنه يحرِّمه على عباده بنصوص صريحة حاسمة من قبيل [[ حُرِّمتْ عليكمْ الميتة ُ والدمُ ولحمُ الخنزير ِ .... / سورة المائدة / الآية 4 ]] . هل لهذا الأمر من علاقة بتقديس دم غشاء عذرية المرأة والإحتفال به أمام أنظار أهل وأصدقاء العريس في ساعة الدخلة ؟ رأيتُ وكنت لم أزل طفلاً عريسا ً يدخل وعِرسه إحدى غرف داره ويغلِّق الأبواب دونهما ثم يخرج من هذه الغرفة بعد قرابة الربع ساعة حاملاً بيده منديلاً أبيض َ فيه بقع ٌ من دم فتعالت بالزغاريد أصوات النساء وهلل الرجالُ وكبّروا وصفقوا ورقصوا ثم تعالت أصوات الأعيرة النارية تحيل ظلام الليل نهاراً . الأُضحية هي الأُضحية والدمُ هو الدمُ . دمُ الذبيحة ـ بشراً أو حيواناً ـ شبيهٌ بدم المرأة العروس ... كلاهما يُراق ُ في مناسبة فرح ( أو مأتم ) وكلاهما يُسفك قربانا ً أو تقربا ً للإله العالي القواعد !! لا أحسب الشاعر العراقي الكوفي أبا الطيّب المتنبي كان بعيداً عن هذه الطقوس والأجواء حين قال :
لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى
حتى يُراقَ على جوانبه الدم ُ
الدمُ هو ثمن الشرف إذا ً .
المأتم الثاني / حليمة المجنونة
هذه قصة مأساة آخرى راح ضحيتها طفل إسمه ( سعد ) إنتظر والداه مجيئه للدنيا عشرين عاما ً ولم يكبر إلا قليلاً حتى إخترمت قلبه الصغير رصاصة طائشة أطلقها رجل ٌ في حفل عُرس فانقلب هذا العرسُ مأتما ً وفقدت المسكينة ( حليمة ) عقلها بعد أنْ فقدت وحيدها الذي إنتظرته عشرين عاماً . ما ذنبُ طفل يلاقي حتفه في إحتفال عُرس ٍ أخرق ، وعلامَ إطلاق النار في مناسبة عُرس ومكان العُرس ليس ساحة حرب ٍ ولا المناسبة مناسبة إستعراض بطولات وعنجهيات وعنتريات ؟ المجتمع برمته مسؤول عن هذه التقاليد والطقوس أي إنه برمته مسؤول عن هدر دم الطفل سعد وعن فقدان والدته حليمة لعقلها . وكيف لا تفقد عقلها وهي الأم التي فقدت طفلها الوحيد الذي شرّف وأضاء دنياها بعد فترة إنتظار ليست طبيعية إذ ْ دامت عشرين حولاً . قالت سناء [[ ... فقد تسللت ْ رصاصة ٌ غادرة في حمّى عُرس ، أطلقها أرعن ٌ بلا حذر ٍ ليكرِّس َ بصورة وحشية طقوسا ً موروثة ً للأفراح فتحوّل العُرس إلى مأتم واغتال فرحة أم سعد ، فرصاصته الغادرة أبت ْ إلا أن ْ تحرق قلبَ أم ٍّ أضناها الإنتظار ُ ... ومات سعد ، إغتالته فرحةُ مجنونة برصاصة آثمة وركنَ إلى قبر صغير إبتلع جسده كما إبتلع سعادة والديه وعقل أمّه التي ما اتسع لها العقلُ ففرّت بحزنها إلى الجنون وغدت حليمة المجنونة ]] . ذكرت دكتورة سناء الطقوس الموروثة وهي لا تقصدُ إلا إدانتها بشدة ، أي إدانة المجتمع الذي يُدين بمثل هذه الطقوس والتقاليد ويبيح ممارستها بل ويشجعها . المجتمع أولاً وآخراً هو قاتل الطفل البرئ سعد وإنه هو المسؤول عن جنون أمه حليمة . هذه هي نظرة وفلسفة سناء ، إنها نظرة عامة شاملة كونية المحتوى والتفاصيل فالبعض جزء من كلٍّ والكل مسؤول عن هذا البعض . مرة ً أخرى إنها شهوة الدم التي رأيناها في أحداث المأتم الأول . موت ودم ُ يراق عن طريق الصُدفة ، لكنَّ الفلسفة تقرر أن الصُدفة هي طريق تجلّي الحقيقة . أي لا بد َّ من دم ٍ يهراق في ليلة وحفلة عُرس إن ْ صُدفة ً أو إتفاقاً وتقريراً . لا عُرسَ بدون دم . دمٌ هنا ودم ُ هناك . دم ُ حيواني طعاماً للضيوف ، ودمُ بشري ٌّ يُسفك على جبهتين : دم طفل أو غير طفل يسيل تحت الضوء والأبصار بدون قصد ، ودم إمرأة ٍ سيراق في الظلام على فراش العُرس وسيخرج بعضه للناس العريسُ مفتخراً رافعاً ذراعاً لأعلى ما يستطيع تحمل منديلاً ملطّخاً بالدم ... دم العروس !! أية وحشية وقلة ذوق !! لماذا التشهير بدم داخلي خاص لإمرأة ٍ عليها أن تثبت َ في ليلة عرسها للملأ أنها بكر ٌ عذراء ؟ أليست هذه مسألة تخص العريس والعروس فقط دون تدخل الآخرين ؟ هل دمها يوازي دم نعجة ٍ أو خروف ٍ يذبحه ذوو العريس أُضحية ً تحت قدميها ثم لا تلبثُ أنْ ترى دمها هي مرفوعاً في منديل أبيضَ لتثبت براءة ً من ذنب لا من وجود ٍ له أصلا ً ؟
المأتم الثالث / حالة خاصة
يختلف هذا المأتم عن المأتمين سالفي الذكر ، فإنه مأتم مركّب وليس أُحادي التركيب . في المأتم الأول فقد صبي عينه السليمة الوحيدة لكنه بقيَ حياً أعمى . وفي قصة المأتم الثاني قتلت رصاصة فرح عُرس طفل صغير ففقدت والدته عقلها ، أي هنا ضحيتان لا ضحية واحدة . أم في قصة المأتم الثالث ـ وقد أحسنت سناء بمنحه الرقم 3 ـ فأننا نواجه حادثة عُرس دموي مثلث الضحايا . عمران يقتل سهواً العريس كايد شقيق جاسر وتوأمه . لم يطقْ جاسر الذي لم يفارق أخاه كايد لا في رحم أمهما ولا في مجمل الحياة ... لم يطقْ مرآى القاتل عمران حياً يُرزق وقد فقد شقيقه بإطلاقة من سلاحه . سحب سلاحه فأردى عمرانَ قتيلاً . قتيلان وقعا في حفلة زفاف وعرس : سقط العريس قتيلاً فتبعه قاتله من غير عمد . ما الفرق بين القتل العمد وغير العمد ؟ النتيجة واحدة والقبر هو القبر . قتيلان وقعا في غضون بضعة دقائق لا أكثر في ليلة فرح ومسرة لا تتكرر في حياة الرجال عادةً . الآن يقبع جاسر شقيق وتوأم القتيل في السجن محكوماً عليه بجريمة القتل العمد مع سبق الإصرار . هذا هو أضحية وقربان ليلة العرس الثالثة فأي عرس وأي فرح وأية دماء ؟ كيف ينقلب الفرح الكبير مأساة ً وندبا ً ومأتماً ؟ لا يخشى جاسر تنفيذ حكم الإعدام بحقه لكنه يفكر بمصير والدته بعده . إنه الإبن الوفي البار للوالدة . إنه مرتبط من جهة مع أخيه القتيل برابطة الدم الواحد ورحم الأم الواحدة ومرتبط بقوة بأمه التي أنجبته فكيف سيتركها في الحياة وحيدةً ؟ إنه يستبق الأحداث فيتخيل نفسه قد أعدمَ ووسدوه التراب فيخاطب أمه أبلغ مخاطبة وأكثرها شجى ً [[ ... ليتك يا أمي تسمعينني الآن لتسامحيني ولتوسّدي رأسي بيديك الطاهرتين في قبري . أريد أن تدفنيني في قبر كايد ، أريد أن ْ يجمعنا قبر ٌ واحد ٌ كما جمعنا رَحِم ٌ واحدٌ . وليتكِ تكتبين على قبري بدموع عينيك : هنا يرقد نجلايَ كايد وجاسر اللذان قضيا ضحية العيارات النارية وضحية الجهل . أمي ... هل تسمعينني ؟؟؟ أنا خائف ... خائف للغاية ]] . بدماء الضحايا ودموع الأمهات تدين سناء عادة إطلاق النيران في مناسبات الفرح الغامر كالأعراس مثلاً . إنها ضد السلاح بكافة أنواعه . إنها مع السلم الإجتماعي وهدوء بال الناس . إنها تدين وتدين بكافة ما تملك من وسائل ولا تملك غير الحرف والحس الإنساني وتوظيف مآسي الناس صرخات إحتجاج مدوية لعلها تنبّه الناس والحكومات فإن َّ الجريمة هي مسؤولية الجهتين معا ً : المجتمع والحكومة . نقرأ شيئاً من أساليب الإدانة والفضح والتنبيه التي إستخدمتها الدكتورة سناء كامل تماماً كما كان يفعل الأنبياء والرسل وأكابر المصلحين والثائرين في تأريخ البشر [[ ...فالرصاصة التي أصابت قلبه أدمت قلبي كذاك . كم هو تقليد ٌ عابث ٌ وسخيف ٌ تقليد إطلاق العيارات النارية في الأعراس !!! فالسلاح خُلِقَ للموت وللأعداء لا للأفراح ولصدور الأحبة والأقرباء ... حسناً ، ليعدمني القاضي ولكنْ عليه أنْ يعدمَ كذلك عادة َ إطلاق العيارات النارية في المناسبات ليرتاحَ كايد ُ في قبره ولتقرَّ عيونُ الأمهات ولتجف َّ دمعة أمي الحبيبة ]] .
هذه هي أعراس الدم التي كتب عن واحد منها الشاعر الإسباني القتيل فيديريكو غارسيا لوركا مسرحية " عُرس الدم " وإنْ إختلفت الأحداث والتفصيلات فالدم مرتبط بالأعراس ... عُرس الدم أو دم العُرس .
(1) كتاب مقامات الإحتراق للدكتورة سناء كامل شعلان / منشورات نادي الجسرة الثقافي في قطر / 2006 .
موت ٌ ورصاص ٌ في الأعراس
ما الذي يُغري كاتبة شابة جميلة الصورة وأستاذة جامعية على خوض هذه المسائل المعقدة الشائكة التي لا تُغري سواها من الكاتبات والكتاب على حد ٍّ سواء ؟ الجواب يسير للغاية ... شرط أن يقرأ صاحب هذا السؤال أغلب ما كتبت الدكتورة سناء كامل شعلان من قصص ومسرحيات وغيرها من كتابات مفعمة بالإبداع فكراً وقصّا ً وأسلوباً . يكفي لكي يتعرف المرء على شخصية ونفسية الكاتبة الموهوبة سناء أن يتعرف على ما نشرت من آثار أدبية منوّعة الغايات والأهداف . محور ومركز إهتمامها يدوران حول إنسانية الإنسان ونظافة جوهره البشري . هذا هو الشغل الشاغل لسناء كامل وهنا رسالتها في الحياة . إنها تقف صراحة ً وبحزم يفتقر الكثير من الرجال إليهما ضد الظلم والظالمين حكاماً وغير حكام . إنها ضد الحروب والقهر والإغتصاب . إنها رسول سلام ووئام ومحبة للبشر وبين البشر . إنها صوت ٌ عالمي مدو ٍّ ينتصر للضعفاء والذين لا مِن حماية تحميهم من جور الآخرين الأقوياء عليهم . إنها مع السلام وضد الحرب . لذا لا يستغرب أحدنا إذ نراها تكره صوت إطلاق الرصاص في الأعياد ومناسبات العرس وغيرها من مناسبات الفرح المعروفة . صوت نقي أصيل أصفى من الجوهر وأقوى من كل صراخ وضجيج . ولكي تدين هذه الظواهر إتخذت لإدانتها مواقف مألوفة يرغبها أهلنا ويمارسونها بفخر وعنجهية و (( رجولة مفرطة !! )) . موت طفل في عرس مثلاً أو وقوع كارثة غير طبيعية مثل إصابة العين الوحيدة لصبي بإطلاقة نار فرح عرس صاخب . بهجة العرس وكارثة الموت كيف تجتمعان وهما الضد والضد ؟ كيف تجمعهما مناسبة واحدة طرفاها متناقضان : عرس ومأتم ؟ أليست هذه هي معادلة الحياة نفسها ... الولادة والوفاة ... أول شهيق للوليد الجديد وآخر نفس للمتوفى ؟ أفلم يكن أبو العلاء المعري محقا ً حين قال قبل أكثر من عشرة قرون من الزمان :
وشبيه ٌ صوتُ النعي ِّ إذا قي
سَ بصوتِ البشيرِ في كلِّ نادِ
إنَّ حزناً في ساعة الموتِ أضعا
ف ُ سرورٍ في ساعةِ الميلادِ
أَبَكت ْ تلكمُ الحمامةُ أمْ غَ
نتْ على فرعِ غصنها الميّاد ِ
جمع المعرّي في بيته الأول بداية ونهاية حياة الإنسان أبلغ جمع : تشابه صوت ناعي الميت وصوت المبشر بمولده هو طفلآ ً جديدا ً أو غيره من الأطفال . وفي البيت الثاني نرى أن َّ زمن الحزن على المتوفى يفوق كثيراً السرور بمولده . والشاعر لا يدري ما الفرق بين غناء الحمامة وبكائها . كلاهما تعبير عن شجن أو طرب والطرب قد يكون حزناً أو فَرحاً . الحزن والسرور ظاهرتان حياتيتان تتبادلان المواقع في مجرى الزمن . لا ثباتَ لأي ٍّ منهما . كلاهما مكتوبان على الإنسان .
قصة " مأتم الرصاص " (1)
تتكون هذه القصة من ثلاثة أجزاء يحمل كل جزء منها عنواناً فرعياً خاصاً به هي : المأتم الأول ( رسالة عاجلة ) ، والمأتم الثاني ( حليمة المجنونة ) ثم المأتم الثالث ( حالة خاصة ) . تعالج هذه الأجزاء الثلاثة جميعها حالات قتل برصاص طائش غير مقصود تقع في مناسبات عرس حيث تتحول فرحة العرس إلى قتول ومآتم . عالجت دكتورة سناء هذه الأحداث بنفس صبور وأساليب بعيدة عن رتابة الكثير مما نقرأ من كتابات تتعرض لمثل هذه المواضيع . عالجتها وقرأت تفاصيل أحداثها وسردتها علينا بأشكال وآليات فنية تشد القارئ للحدث وتجعله يتعاطف مع الضحايا ومع ذويهم ثم يلعن ويُدين مثل هذه المناسبات التي يُبيح الناس فيها لأنفسهم إستخدام حمل السلاح و إطلاق الأعيرة النارية تعبيراً بدائياً عن أمارات فرحهم بالعرس . كيف تسمح الحكومات بحمل السلاح وإطلاق النار العشوائي في المدن وسواها من القرى والنواحي والقصبات ؟
المأتم الأول / رسالة عاجلة
لا يسقط في المأتم الأول قتلى في حفل العرس ولكنْ ، يفقد صبيٌّ رسامٌ موهوب ٌ إسمه فيصل عينه السليمة الوحيدة وقد وُلد بعين معطوبة . كيف أفلحت سناء في تعبئة تضامن قرّائها مع كارثة هذا الصبي الموهوب ؟ نهجت في ذلك مناهج َ شتى منها أنها أحاطت الصبي بهالة من الإعجاب الذي يقارب التقديس أحياناً وبالغت في تصوير قدراته في موهبة الرسم فضلاً عن إعجاب ذويه به ورعايتهم الفائقة له خاصة ً من قبل أمه وأبيه وأخيه الطبيب سالم . كتبت سناء [[ فيصل طفل ُ عذبٌ ، عمره ثلاثة عشر عاماً ، هو سليل العز والمجد والغنى ، ولكنه كذلك سليل العجز والضعف والإعاقة . وُلدَ فيصل بعين واحدة ترى النورَ ، أما العين الأخرى فكانت زينة ً خضراء جميلة يسكنها الظلام . عرضه أبوه على أطباء الأردن وعلى الكثير من أطباء العيون في العالم لكنهم عجزوا عن رد قبس النور المسلوب إلى عين فيصل ]] . تكفي هذه المقدمة للتعرف على محنة الطفل فيصل التي أتته بالولادة . ثم نقرأ [[ لكنَّ اللهَ أهدى فيصلَ هدية سحرية خلابة فأنساهُ بها آلام عينه المظلمة . فقد كان فيصل رساماً مُلهماً ترى عينه اليتيمة ما لا تراه عيون آلاف البشر ]] . عرفتنا سناء تدريجاً على محنة هذا الطفل فتعاطفنا معه ، ثم إنتقلت لتقدمه للقارئ طفلاً موهوباً رغم علته ومصابه بعينه . خطوتان متتابعتان تثيران تعاطف القارئ مع فيصل وحميته عليه طفلاً معطوب العين بالولادة ورساماً متميزاً يثير الإعجاب . نحن منذ هذه اللحظة مع فيصل وقلوبنا مع خلاصه من علته لنستمتع بما يرسم من لوحات نادرة . في قمة الترقب والتعاطف معه يقع حادث يزلزل الأرضَ من تحت أقدامنا فنرى أنفسنا نتهاوى من عل ٍ فاقدي التوازن جزعين حيارى . كتبت سناء [[ ... أُصيب بالعمى، لقد سرقت رصاصة ٌ طائشة ٌ عين فيصل الوحيدة ...أصبح فيصل أعمى !!! لم تأته الرصاصةُ من يد عدو ٍّ ولا داهمته في حرب ظالمة ولكنها أتته من يد أبيه وفي حفل زفاف أخيه الكبير والوحيد ]] . هنا المفاجأة الثالثة التي توَّجت مسلسل أحداث القصة المأساوية . الطفل المعطوب العين يصبح رسّاماً موهوباً لكن َّ القدرَ لم يمهله إذ يفقد نور عينه الثانية فيغدو أعمى . نجد قمة القمم في مأساة فيصل في أنَّ والده كان مَن أصاب عينه الوحيدة السليمة !! أجل ، جاءت المصيبة من يد الوالد . الوالد الذي أنجبه وسوّاه وحاول المستحيل لإنقاذ عينه المعطوبة ... هذا الأب الحاني يتسبب في كارثة إبنه وفي أية مناسبة ؟ في مناسبة الإحتفال بعرس الأخ الكبير الطبيب سالم !! عرس يتحول على يد والد العريس إلى مأتم وكارثة سببها الرصاص العشوائي الذي يطلقه الناس في شرقنا تعبيراً مخجلاً عن الفرح وهبّة النشوة بالمناسبة . العرسُ والدم ُ . هل دمُ الشخص المدعو للعرس هو أُضحية هذا العرس وقربانه ؟ يذبح الناسُ الخرفان َ عادة ً لا البشرَ قرابينَ وطعاماً لمن يحضر العرس . هل يُعيد التأريخ الأسطوري نفسه لنجدَ أنفسنا أمام لوحة جر ِّ إبراهيمَ ولدَ هُ ( إسماعيلَ أو إسحق ؟ ) ليقدمه ذبيحة فرح ٍ أو نذر ٍ لربه وقد رفع َ القواعدَ وأتم َّ بناء بيت عبادة ٍ له ؟ [[ وإذ ْ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربَّنا تقبّل ْ منا إنك أنتَ السميع ُ العليمُ / سورة البقرة / الآية 127 ]] ذبح الإنسان ، ولا سيما الأطفال ، هو طقس قديم تعلمه اليهود من الكنعانيين خلال إقامتهم معهم على أرض فلسطين في سالف الزمان . تطور البشر فإستقبح هذا الطقس فإستبدله بطقس آخر ممائل ومغاير : ذبح خروف أو بقرة أو جمل أو حتى دجاجة في المناسبات الإجتماعية كالعرس وحج البيت العتيق في مكة . يُسمّى هذا الطقس (( فجران دم )) أي تفجير دم الأُضحية ، أو قربان ٌ أي تقربا ً للرب حامي ومديم النِعم على بعض عباده !! ما علّة غرام الرب بدم مخلوقاته الناطقة وغير الناطقة ؟ إنه ولوع ٌ بالدم لونا ً ومذاقا ً لكنه يحرِّمه على عباده بنصوص صريحة حاسمة من قبيل [[ حُرِّمتْ عليكمْ الميتة ُ والدمُ ولحمُ الخنزير ِ .... / سورة المائدة / الآية 4 ]] . هل لهذا الأمر من علاقة بتقديس دم غشاء عذرية المرأة والإحتفال به أمام أنظار أهل وأصدقاء العريس في ساعة الدخلة ؟ رأيتُ وكنت لم أزل طفلاً عريسا ً يدخل وعِرسه إحدى غرف داره ويغلِّق الأبواب دونهما ثم يخرج من هذه الغرفة بعد قرابة الربع ساعة حاملاً بيده منديلاً أبيض َ فيه بقع ٌ من دم فتعالت بالزغاريد أصوات النساء وهلل الرجالُ وكبّروا وصفقوا ورقصوا ثم تعالت أصوات الأعيرة النارية تحيل ظلام الليل نهاراً . الأُضحية هي الأُضحية والدمُ هو الدمُ . دمُ الذبيحة ـ بشراً أو حيواناً ـ شبيهٌ بدم المرأة العروس ... كلاهما يُراق ُ في مناسبة فرح ( أو مأتم ) وكلاهما يُسفك قربانا ً أو تقربا ً للإله العالي القواعد !! لا أحسب الشاعر العراقي الكوفي أبا الطيّب المتنبي كان بعيداً عن هذه الطقوس والأجواء حين قال :
لا يسلمُ الشرفُ الرفيعُ من الأذى
حتى يُراقَ على جوانبه الدم ُ
الدمُ هو ثمن الشرف إذا ً .
المأتم الثاني / حليمة المجنونة
هذه قصة مأساة آخرى راح ضحيتها طفل إسمه ( سعد ) إنتظر والداه مجيئه للدنيا عشرين عاما ً ولم يكبر إلا قليلاً حتى إخترمت قلبه الصغير رصاصة طائشة أطلقها رجل ٌ في حفل عُرس فانقلب هذا العرسُ مأتما ً وفقدت المسكينة ( حليمة ) عقلها بعد أنْ فقدت وحيدها الذي إنتظرته عشرين عاماً . ما ذنبُ طفل يلاقي حتفه في إحتفال عُرس ٍ أخرق ، وعلامَ إطلاق النار في مناسبة عُرس ومكان العُرس ليس ساحة حرب ٍ ولا المناسبة مناسبة إستعراض بطولات وعنجهيات وعنتريات ؟ المجتمع برمته مسؤول عن هذه التقاليد والطقوس أي إنه برمته مسؤول عن هدر دم الطفل سعد وعن فقدان والدته حليمة لعقلها . وكيف لا تفقد عقلها وهي الأم التي فقدت طفلها الوحيد الذي شرّف وأضاء دنياها بعد فترة إنتظار ليست طبيعية إذ ْ دامت عشرين حولاً . قالت سناء [[ ... فقد تسللت ْ رصاصة ٌ غادرة في حمّى عُرس ، أطلقها أرعن ٌ بلا حذر ٍ ليكرِّس َ بصورة وحشية طقوسا ً موروثة ً للأفراح فتحوّل العُرس إلى مأتم واغتال فرحة أم سعد ، فرصاصته الغادرة أبت ْ إلا أن ْ تحرق قلبَ أم ٍّ أضناها الإنتظار ُ ... ومات سعد ، إغتالته فرحةُ مجنونة برصاصة آثمة وركنَ إلى قبر صغير إبتلع جسده كما إبتلع سعادة والديه وعقل أمّه التي ما اتسع لها العقلُ ففرّت بحزنها إلى الجنون وغدت حليمة المجنونة ]] . ذكرت دكتورة سناء الطقوس الموروثة وهي لا تقصدُ إلا إدانتها بشدة ، أي إدانة المجتمع الذي يُدين بمثل هذه الطقوس والتقاليد ويبيح ممارستها بل ويشجعها . المجتمع أولاً وآخراً هو قاتل الطفل البرئ سعد وإنه هو المسؤول عن جنون أمه حليمة . هذه هي نظرة وفلسفة سناء ، إنها نظرة عامة شاملة كونية المحتوى والتفاصيل فالبعض جزء من كلٍّ والكل مسؤول عن هذا البعض . مرة ً أخرى إنها شهوة الدم التي رأيناها في أحداث المأتم الأول . موت ودم ُ يراق عن طريق الصُدفة ، لكنَّ الفلسفة تقرر أن الصُدفة هي طريق تجلّي الحقيقة . أي لا بد َّ من دم ٍ يهراق في ليلة وحفلة عُرس إن ْ صُدفة ً أو إتفاقاً وتقريراً . لا عُرسَ بدون دم . دمٌ هنا ودم ُ هناك . دم ُ حيواني طعاماً للضيوف ، ودمُ بشري ٌّ يُسفك على جبهتين : دم طفل أو غير طفل يسيل تحت الضوء والأبصار بدون قصد ، ودم إمرأة ٍ سيراق في الظلام على فراش العُرس وسيخرج بعضه للناس العريسُ مفتخراً رافعاً ذراعاً لأعلى ما يستطيع تحمل منديلاً ملطّخاً بالدم ... دم العروس !! أية وحشية وقلة ذوق !! لماذا التشهير بدم داخلي خاص لإمرأة ٍ عليها أن تثبت َ في ليلة عرسها للملأ أنها بكر ٌ عذراء ؟ أليست هذه مسألة تخص العريس والعروس فقط دون تدخل الآخرين ؟ هل دمها يوازي دم نعجة ٍ أو خروف ٍ يذبحه ذوو العريس أُضحية ً تحت قدميها ثم لا تلبثُ أنْ ترى دمها هي مرفوعاً في منديل أبيضَ لتثبت براءة ً من ذنب لا من وجود ٍ له أصلا ً ؟
المأتم الثالث / حالة خاصة
يختلف هذا المأتم عن المأتمين سالفي الذكر ، فإنه مأتم مركّب وليس أُحادي التركيب . في المأتم الأول فقد صبي عينه السليمة الوحيدة لكنه بقيَ حياً أعمى . وفي قصة المأتم الثاني قتلت رصاصة فرح عُرس طفل صغير ففقدت والدته عقلها ، أي هنا ضحيتان لا ضحية واحدة . أم في قصة المأتم الثالث ـ وقد أحسنت سناء بمنحه الرقم 3 ـ فأننا نواجه حادثة عُرس دموي مثلث الضحايا . عمران يقتل سهواً العريس كايد شقيق جاسر وتوأمه . لم يطقْ جاسر الذي لم يفارق أخاه كايد لا في رحم أمهما ولا في مجمل الحياة ... لم يطقْ مرآى القاتل عمران حياً يُرزق وقد فقد شقيقه بإطلاقة من سلاحه . سحب سلاحه فأردى عمرانَ قتيلاً . قتيلان وقعا في حفلة زفاف وعرس : سقط العريس قتيلاً فتبعه قاتله من غير عمد . ما الفرق بين القتل العمد وغير العمد ؟ النتيجة واحدة والقبر هو القبر . قتيلان وقعا في غضون بضعة دقائق لا أكثر في ليلة فرح ومسرة لا تتكرر في حياة الرجال عادةً . الآن يقبع جاسر شقيق وتوأم القتيل في السجن محكوماً عليه بجريمة القتل العمد مع سبق الإصرار . هذا هو أضحية وقربان ليلة العرس الثالثة فأي عرس وأي فرح وأية دماء ؟ كيف ينقلب الفرح الكبير مأساة ً وندبا ً ومأتماً ؟ لا يخشى جاسر تنفيذ حكم الإعدام بحقه لكنه يفكر بمصير والدته بعده . إنه الإبن الوفي البار للوالدة . إنه مرتبط من جهة مع أخيه القتيل برابطة الدم الواحد ورحم الأم الواحدة ومرتبط بقوة بأمه التي أنجبته فكيف سيتركها في الحياة وحيدةً ؟ إنه يستبق الأحداث فيتخيل نفسه قد أعدمَ ووسدوه التراب فيخاطب أمه أبلغ مخاطبة وأكثرها شجى ً [[ ... ليتك يا أمي تسمعينني الآن لتسامحيني ولتوسّدي رأسي بيديك الطاهرتين في قبري . أريد أن تدفنيني في قبر كايد ، أريد أن ْ يجمعنا قبر ٌ واحد ٌ كما جمعنا رَحِم ٌ واحدٌ . وليتكِ تكتبين على قبري بدموع عينيك : هنا يرقد نجلايَ كايد وجاسر اللذان قضيا ضحية العيارات النارية وضحية الجهل . أمي ... هل تسمعينني ؟؟؟ أنا خائف ... خائف للغاية ]] . بدماء الضحايا ودموع الأمهات تدين سناء عادة إطلاق النيران في مناسبات الفرح الغامر كالأعراس مثلاً . إنها ضد السلاح بكافة أنواعه . إنها مع السلم الإجتماعي وهدوء بال الناس . إنها تدين وتدين بكافة ما تملك من وسائل ولا تملك غير الحرف والحس الإنساني وتوظيف مآسي الناس صرخات إحتجاج مدوية لعلها تنبّه الناس والحكومات فإن َّ الجريمة هي مسؤولية الجهتين معا ً : المجتمع والحكومة . نقرأ شيئاً من أساليب الإدانة والفضح والتنبيه التي إستخدمتها الدكتورة سناء كامل تماماً كما كان يفعل الأنبياء والرسل وأكابر المصلحين والثائرين في تأريخ البشر [[ ...فالرصاصة التي أصابت قلبه أدمت قلبي كذاك . كم هو تقليد ٌ عابث ٌ وسخيف ٌ تقليد إطلاق العيارات النارية في الأعراس !!! فالسلاح خُلِقَ للموت وللأعداء لا للأفراح ولصدور الأحبة والأقرباء ... حسناً ، ليعدمني القاضي ولكنْ عليه أنْ يعدمَ كذلك عادة َ إطلاق العيارات النارية في المناسبات ليرتاحَ كايد ُ في قبره ولتقرَّ عيونُ الأمهات ولتجف َّ دمعة أمي الحبيبة ]] .
هذه هي أعراس الدم التي كتب عن واحد منها الشاعر الإسباني القتيل فيديريكو غارسيا لوركا مسرحية " عُرس الدم " وإنْ إختلفت الأحداث والتفصيلات فالدم مرتبط بالأعراس ... عُرس الدم أو دم العُرس .
(1) كتاب مقامات الإحتراق للدكتورة سناء كامل شعلان / منشورات نادي الجسرة الثقافي في قطر / 2006 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق