د. عدنان الظاهر
(( كتاب الهروب إلى آخر الدنيا / الناشر نادي الجسرة الثقافي في قطر 2006 )) .
مقدمة / مقامة العيون في تراث العرب
إنَّ العيونَ التي في طرفها حَوَر ٌ
قتلننا ثم لم يحيينَ قتلانا
لجرير ... ثم قال :
ولقد رَمينكَ يومَ رُحنَ بأعين ٍ
يقتُلنَ من خللِ الستورِ سواجي
وقال غيره
عيونُ المها بين الرُصافة والجسر ِ
جلبنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري
العيون التي في طرفها حَوَر ٌ ... هل في هذا الشعر إحالة لما ورد في القرآن من وصف لعيون نساء جنات الخلد [[كذلكَ وزوَّجناهم بحور ٍ عين ٍ
/ سورة الدُخان الآية 54 ]] . [[ وعندهم قاصراتُ الطرف عِين / سورة الصافات الآية 48 ]] . [[ وقلْ للمؤمناتِ يَغضُضنَ من أبصارهن َّ ويحفظنَ فروجهنَّ ... / سورة النور الآية 31 ]] . العِين لغة ً هو جمع عَين . فيما يخص سورة الدخان ... لماذا التركيز على بياض حدقة العين المحيط بالدائرة القزحية الجميلة الملوّنة التي تكتنز كل ما في عيون المرأة من سحر وأنوار وخيالات ؟ ما قيمة اللون الأبيض في معرض الجمال وصرحه السامق في تأريخ البشرية منذ أقدم عصورها ؟ أما ما ورد في سورتي الصافات والنور من توصيف لعيون النساء ( قاصرات الطرف ... يغضضنَ من أبصارهن ) فقد ذكرني ببعض شعر الشاعر الإنجليزي لورد بيرْن الذي فسر َّ فيه توصيف القرآن لعيون حريم الجنان ، وكان جاداً في فهمه وتفسيره وليس هازئاً ، بأنَّ عيون الحور العين مصابة بمرض التراخوما ... هكذا ... لأنهنَّ قاصرات الطرف لا يرين البعيد أي مصابات ربما بقصر النظر وهو أمر لا يستحق المديح . يعزز حجة لورد بيرْن ما ورد في سورة النور ... يغضضن من أبصارهن ... فهل قرأ بيرْن القرآن أو إطلّع على بعض ما ترجم للإنجليزية منه ؟ وُلدَ هذا الشاعر الثائر في إنجلترة عام 1788 وتوفي في جزيرة كريت اليونانية عام 1824 محرضاً ومساهماً ومموِّلا ثورة اليونانيين ضد الحكم العثماني الشديد التعسف .
لا أتذكر هل تغزل شعراء الجاهلية بعيون النساء أم لا ؟ إذا ما تغزلوا فما كان غزلهم ليتعدى تشبيه عيون المحبوبات بأوصاف عيون ما يعرفون من حيوانات واسعة ِ أو سود او جميلة ِ العيون ... ظباء ... جآذر ... مها ... بقر وحشي وما إلى ذلك . لم يوظفوا في أوصافهم حدة بصر عيون بعض النساء ولا قارنوه بقوة عيون ما يعرفون من طيور مثل الصقور والشواهين . لم تستهوهم قوة العين وحدة البصر لأنهم على ما يبدو كانوا يعتبرون ذلك قلة حياء وصلف وتحد ٍ لسلطان الرجال وهم السادة في مجتمعات ذاك الزمان وما جاءت بعده من أزمة .
أرى هناك علاقة وثيقة بين ما جاء في القرآن من وصف لعيون النساء عامة ونساء الجنة بشكل خاص وميل الشعراء العرب حتى اليوم لوصف جمال عيون الحبيبات ولا أراهم مسرفين . يتغزل الكتّابُ والشعراء وغيرهم من سائر الناس بالعيون سحراً وجاذبية ً وجمالاً وما شابه ذلك من عبارات الإطراء والتزويق والمجاملات كأنْ لا من عيب داخلي أو كلل في البصر يصيب العيون الجميلة وتبقى مع ذلك جميلة مختلفة في ألوان قزحيتها وتشكيلاتها تحت الجفون وما فوقها من حواجب . لسعتها درج قدامى شعراء العرب على مقارنتها بعيون الظباء والمها والجآذر والبقر الوحشي . كما بالغ بعضهم وأطنب في وصف قدراتها الخارقة على قتل من تقع عليه سهام أهداب أو نظرات هذه العيون أو أن تتسبب في ترك جراحات خطيرة على أجسادهم إذا ما وقعت عليها حتى أنَّ بعضها يخترق الصدور وينفذ كأشعة الليزر مباشرة ً إلى القلوب كما قال المتنبي على سبيل المثال :
مثلت ِعينكِ في حشايَ جراحة ً
فتشابها ، كلتاهما نجلاءُ
نفذتْ عليَّ السابريَّ وطالما
تندق ُّ فيه الصعْدة ُ السمراءُ
فأية عيون هذه وأية نظرات تلك التي تخترق الدروع التي يتكسر عليها قوي الرماح ؟ عيون تصيب فتقتل وأهداب هي سهام مُراشة فهل من ذوق سليم أو شئ من جمال يمكن أن يكون في مثل هذه العيون ؟ متى كان القتلُ جميلاً ؟ قد يقول قائل إنها محض تعبيرات مجازية كبدائل عن القول المباشر الذي يجرح المشاعر الرقيقة من أنَّ (( الحبَّ قتال !! )) . لم يقتل بعدُ الحبُ أحداً من العاشقين . بلى ، أُصيب بعضهم بالجنون و قيس بن الملوَّح من أكثر المجانين شهرة ً . الجنون شئ لكنَّ الموت شئ آخر . إذا ضربتُ من بعض شعر المتنبي وجرير والشاعر الآخر أمثلة ففي الشعر العربي الكثير من أمثال هذه المبالغات والتشبيهات التي كانت في زمانها مقبولة لكنها غدت في أيامنا هذه غير مستساغة ولا تنسجم مع الذوق الجمالي السليم . فلقد أحجم لحسن الحظ الكثير ـ إنْ لم تكنْ الغالبية المطلقة ـ من شعراء وكتاب اليوم عن التغني بعيون مَن يحبون وإنصرفوا بدلَ ذلك إلى وصف الحالات البشرية الأكثر عمقاً ولا سيّما أحوال الكاتب أو الشاعر نفسه . أصبح القوم أنانيين قليلا ً فآثروا الكلام عن أنفسهم عشاقا ً ومحبين . هذا هو الغالب وليس الكل . فضلاً عن التشبيب بالعيون ، تغزل الشعراء خاصة ً بعنق الحبيبة وخصرها وأردافها وسواد شعرها الفاحم وصفحة خدها ودقة أناملها . كلها كانت أوصاف خارجية يخالطها الكثير من المبالغات السخيفة . فالعنق عنق غزال واللفتة لفتة بقرة وحشية والخصر لدقته يكاد يقصف قوام الحبيبة ويجعلها نصفين . أما الردفان فلثقلهما يكادان أن يُقعدا الحبيبة إذا ما نهضت !! هل ينسى العراقيون واحدةً من الأغاني الشائعة في العراق التي يقول فيها مغنيها ( خدج الكيمر أنا أتريك منه ) ، أي أنَّ خدك يا حبيبة الروح يشبه القشطة بياضاً ومذاقاً ففطور صباحي من هذا الخد لا من غيره ! بعض المطربين يأكلون وجنات من يحبون فأية سادية وأي شذوذ !
سناء والعيون
ما موقف القاصة الموهوبة الدكتورة سناء كامل شعلان من العيون ؟ هل جارت مَن سبقها من الكاتبات والشواعر والكتاب والشعراء فيما قالوا في شأن العيون ؟ هل خالفتهم وكيف خالفتهم ؟ نعم ، خالفت سناء الجميع فنهجت نهجاً خاصا ً بها شديد التعلق بشخصيتها وتأريخها وثقافتها ومجمل رؤاها في الكتابة فنا ً ثم رسالة ً . ولأنها رسول ونبية فلقد وجدتُ في كافة ما كتبت من قصص إنسانية المغازي والأهداف ... وجدتُ أنها ترى في العيون ما لا يراه فيها غيرها . ليست العيون وسيلة للتغزل والبطر ، إنما العيون تمنح بعض العميان النور فيرى فيها الأعمى صورة الذي وهبها له حتى لو كان ميتاً . تهب العيونُ سعادة ً للمحبين وتمنحهم ظلالا ً وارفة ً صيفا ً ودفئاً يقيهم شر البرد شتاءً وتريهم مستقبلهم . لا هزل ولا مزاح في أدب سناء بل إنها في غاية الجدية والإلتزام في كل ما كتبت ونشرت .
إخترت لكي أبين فلسفة سناء في موضوعة العيون ... إخترتُ قصتين من قصص كتاب " الهروب إلى آخر الدنيا " من منشورات نادي الجسرة الثقافي في قطر في عام 2006 . هما قصة ( لحظة عشق ) وقصة ( عينا خَضر ) .
قصة لحظة عشق
هذه قصة ترتكز في الأساس على فكرة تتبناها الدكتورة سناء مفادها : إذا كان الله هو الحب فإن َّ الحبَّ هو الله ! راحت سناء تسرد على قرّائها أحداث قصة كاتب ملحد إسمه حكيم لا يؤمن لا بالحب ولا بالله . لكنها نجحت في نهاية القصة في تحويل هذا الإنسان الملحد إلى إنسان مؤمن حتى شعر [[ بأنَّ اللهَ والحبَ يسكنان قلبه ]] . ثنائية أمرين لا ينفصلان .
هل كان شفاء عيني ( حكيم ) هو الهدف الرئيس من قصة سناء هذه ؟ كلا ، إنه أمر جانبي عَرضي خدمَ جملة أهداف خططت سناء بذكاء لها حتى واجهت هذا الملحد بأمر ما كان ليتوقعه أبداً : إنَّ الفتاة المدعوة ( هبة ) التي إنتحرت قبل أن تهب عينيها لرجل أعمى كان إسمه على رأس قائمة المنتظرين لمن يتبرع بعينيه .... هذه الفتاة كانت تحبه وكانت تتابع كل ما ينشر من كتب . وجد وقد إسترد بفضل هبتها لقرنيتي عينيها أنها كتبت في رسالة إنتحارها [[ عندما تنعم عيناك بالنور تأكد ْ أنك نعمتَ دائماً بحبي . أنا متأكدة من أنك ستقرأ هذه الرسالة يوما ً ما ، وستعرف كم أحببتك ]] . هنا في بيت الشابة المنتحرة وفي حجرتها الخاصة حصلت كبرى المفاجآت . وجد حكيم ملاحظة كتبتها هبة تحت عنوان كتابه الذي شَهُر قالت فيها [[ اللهُ هنا في قلبي ]] . تناول القلم وكتب فوق هذه الملاحظة [[إلى حبيبتي هبة ... عاشقكِ إلى الأبد ، حكيم ]] . محاورات مفعمة بعمق إيمان سناء بالله والروح والحب خالق المعجزات تماماً كالرب : الله هو الحب والحب هو الله !! أين عقيدة وبيان القصة المركزية ؟ إننا نجدها في مسلسلة ثلاثية الحلقات تمثل فلسفة سناء الراسخة إلهاما ً وتجريباً ومتابعة ً يمكن تمثيلها أو رسمها في خط تطوري يتجه من الأسفل إلى الأعلى ، من الإلحاد إلى الإيمان كما يلي : إلحاد ـــ حب ـــ إيمان . من خلال الحب وبوساطته يتحول الملحد إلى رجل مؤمن . هذه هي القوة السحرية للحب في نظر سناء . إنه يفعل المستحيلات ويأتي بالمعجزات الحب هو الساحر الأعظم الذي ينجز مهماته بقوة الله مثالاً ورمزا ً وخالقاً للحب . ولكن مهلاً ... ما كانت معالجة سناء لهذا الموضوع معالجة غيبية متخلفة فالذي حصل إنما حصل بمساعدة ظروف علمية وليست خرافية . رجل أعمى وهبته شابة قرنيتي عينيها لأنها محكومة بالموت جرّاء إصابتها بمرض عضال لا شفاء منه . الأعمى لا يعرف هذه الإنسانة الواهبة لكنها تعرفه إذ عملت مرة ً بمعيته عاما ً كاملاً في إحدى المؤسسات الصحافية . لا يتذكرها . إذا ً لا من غيب في هذا الأمر ، هبة الواهبة لعينيها تعرف حكيم عن طريق العمل . وهبة تعرفه أكثر عن طريق ما كانت تقتني وتقرأ ما كان ينشر من كتب . إنتحرت لأنَّ حياتها ميؤوس منها . لا مجال للصدفة العمياء ولا إلى ضربات الحظ العشوائية . جاء الحبُ أخيراً قلبَ حكيم مع مجيء النور لعينيه . مع الحب جاء الله حسب فلسفة سناء . الحب والله لا يفترقان أبداً ... الحب هو الله والله هو الحب . لمن فضلُ إيمان حكيم
الملحد ؟ للنور ... النور الذي وهبته المنتحرة لعينيه ... النور أضاء بصره وقلبه وبصيرته ومع هذا النور جاء الله فزاد النورَ أنواراً فارتعش قلب حكيم بحب هبة التي تسببت بكل هذه النعم . النور ـــ الله ـــ الحب !
لا حب بدون الإيمان بالله ولا إيمان بالله دون حب هذا الاله . هذا هو جوهر فلسفة سناء . إنها تطوير مستحدث للصوفية القديمة التي ما كان أصحابها يستهدفون من فكرة وممارسة طقوس حب الله إلا الإتحاد به والذوبان فيه للخلاص مما هم فيه من عذاب وصرخة مدوية في وجه الحكام الظالمين المسرفين في ظلم العباد . ما كانوا بعيدين عن السياسة فقد مارسوها بأشكال وأساليب منوعة يغلب عليها طابع التورية والإلغاز والتعمية لكنها تظل سياسة واضحة البيان . كانوا في غالبيتهم ثائرين حتى أنَّ زعيمهم الجنيد البغدادي كان يتحاشى لقاء تلميذه الحلاج ويتهرب منه بل ولم يقف معه في محنة محاكمته ثم إعادة المحاكمة ثم الحكم عليه بالموت صلباً وحرق جسده المصلوب (1) . (( في كتاب " الحلاج أو وضوء الدم " حوار طريف بين الحلاج وشيخه أبي القاسم الجنيد يجده القارئ العزيز في هامش مقالي هذا )) . هذا هو معتقد الدكتورة سناء كامل شعلان . إنه قريب من معتقدات متصوفة المسلمين وربما سواهم من غير المسلمين . أفلم يقل الحلاج المصلوب حتى الموت [[ أنا من يهوى ومَن يهوى أنا // إننا روحان حلا بدنا ]] ؟ أفلم يقل وقد درج على هذا القول جهاراً نهاراً : أنا الحق ! من هو الحق غير الله ؟ وهو مّن قال :
وأقبلَ الوجدُ يُفني الكل َّ من صفتي
وأقبلَ الحق ُّ يُخفيني وأُبديه ِ
أحسب أنَّ المفكرة سناء نجحت في تشكيل وتطوير نموذجها الصوفي الخاص بها ، وإني لأجده مزيجاً منطقياً يجمع فيه العلوم الحديثة وعلوم الروحانيات الصوفية . هي لا تؤمن بخوارق الغيب بل تؤمن أنَّ لكل سبب لا بدَّ من مسبب واحد في الأقل . إنها مع ذلك مشاكسة قليلاً ... لا تؤمن بالله لأنه الله إنما ، لأنه الحب ولأنه لا ينفصل عن الحب فهو والحب إله واحد وليسا إلهين . روحان في جسد واحد . الله قابل للتجسد وهذا أمر يخالف شريعة الإسلام ولكن هذه هي قناعة سناء وهذا هو إجتهادها . لقد سبقها أبو العلاء المعري فإبتدع لنفسه شرائعَ خاصة فيما يخص الرب والدين والفروض والواجبات . سناء طوّرت الفكر والفلسفة والوسائل الصوفية لفهم الدين والدنيا وفقه الحياة . إنها حلاج عصرنا الراهن بكل ما فيه من تطورات علمية وتكنولوجية مذهلة . الله وسيلة للحب وليس غاية للخلاص من عذابات الدنيا حلولا ً فيه وإتحاداً معه . الله هو الحب والحب هو الله . لا دروشة في صوفية سناء ولا أبخرة وتحشيش ولا غيبوبة عن الوعي وإفتعال الجنون . لا خرافات فيما يمس المعتقدات والثوابت . فإذا شافى الله مريضاً فليس ذلك من باب المعجزات التي سمعناها عن عيسى إبن مريم المعروفة عنه . الله يُشفي المرضى بإكسير الحب فقط . الحب هو الطبيب المداوي ولكن بلمسة خفيفة من يد الله . ترينا هذه القصة الطريفة في مبناها ومحتواها كيف أدخلت سناء فلسفتها الخاصة فعالجت مسائل متشعبة عامة متداخلة مكنتها من تحقيق ما تبتغي من نتائج للبرهنة على صواب وجهات نظرها في الدين والفلسفة والروحانيات وما وراء الطبيعة .
قصة "عينا خُضر "
هذه قصة أخرى مغايرة في مضامينها للقصة السابقة وإنْ جاءت العيون في عنوانها . تكشف الكاتبة سناء في هذه القصة عن عمق وأصالة إنتمائها لفلسطين المغتصبة ووفائها لهوائها ومائها ولكل شبر من أرضها . لم ترسم سناء في هذه القصة رسومات مسطحة على ورق خفيف تبين فيها حبها لأرض وتأريخ أهلها وأجدادها إنما أدخلت القارئ في صلب هذا التأريخ من خلال عيني شاب فلسطيني إنتزعها بعض اليهود ليزرعونها في عيني مستوطن أعمى . الإستيطان هو الإستيطان أكان إستيطان أرضٍ أو الإستيطان في عين ... سواء . أرض قرب القدس تُغتصب ومزارع زيتون وقمح تُدمر ودور تُهدم ثم تكتمل المأساة بفصل جديد من الإغتصاب الإستيطاني : قلع العيون كما يقلعون أشجار الزيتون وزرعها في رأس مستوطن إستعمر البلاد وقتل وهجّر أهلها الأصليين . هذه هي سناء الفلسطينية الأصيلة المشدودة لجذورها ومحنة أهلها والإنسانة الكاتبة التي تحمل الكثير من هموم البشر في رأسها وصدرها وقلمها بين أناملها . فليس كثيراً ولا من باب المبالغة إن ْ أسميتها نبية ً وربّة ً وحاملة الراية تتقدم بها صفوفها غير هيابة ولا وجِلة . إنها وطنية الحس والإنتماء والوجدان وإنسانة أممية الآفاق عالمية الإنتماء نبية الدعوة والتبشير . إنها النبي العالمي لكافة البشر وأتباع كل الديانات . عينا خضر هي إحدى تحف سناء وفي عيني خضر صرخة الإحتجاج العظمى ضد الظلم والظالمين والمستوطنين اليهود . ما أبدع وصف سناء لعيني خضر وقد جعلته زوجاً لفتاة فلسطينية ثم تعتقله قوات الإحتلال لتسلب منه نور عينيه ثم َّ تجهز عليه ليسقط قتيلاً تاركاً طفله الأول والأخير يتيماً مع أمه يحمل إسماً رمزاً كبيراً جداً : عودة ... {{ عودة ... حلم العودة لأرض فلسطين }}. نتجول مع ما قالت سناء من روائع الوصف والغزل في عيني خضر قبل الزواج وبعد الزواج وبعد إغتياله :
[[ ... آه من عيني خضر... ومن لا يعرف عيني خضر فلينظر في عينيَّ ليرى على إمتداد أحلامهما وما بين الرمشة والأخرى عيني خضر ، تينك العينين اللتين تنزرعان في أديم وجهه الحنطي وتشرقان مثل نخيل أخضر ببريق شمسي في بيداء أشواقي ]] . نفهم من هذا الكلام أنَّ عيني خضر خضراوان تماماً كعيني سناء كما أراهما في صورها المنشورة على أغلفة كتبها ( ... تشرقان مثل نخيل أخضر ) ... ثم إن َّ إسمه خضر من الخضرة. خضرة عيني خضر تحاكي خضرة النخيل أو تقبس نور موجات اللون الأخضر منه. كيف غيبت الكاتبة سناء نفسها فأذابتها وحلت في بطل القصة الشهيد حلولاً لونياً فجعلت من عينيها مرآة ً تعكس ما فيهما من لون على عيني البطل الشهيد. التصوف والحلول حاضران بقوة في أغلب كتابات سناء كامل شعلان . ما قالت سناء في عيني خضر بعد زواجه ؟ قالت [[ وصدقت عينا خضر ، وتزوجنا وبت ُّ في كل ليلة أتعبدُ في محراب عينيه ، لأغفو على رموشهما. وزاد عشقي لعيني خضراللتين تحملان من العزم والحب ما لا يعرفه الكثير من البشر ]] . زوج خضر تتعبد في محراب عينيه فعيناه مقدستان إذاً . عين في المسجد الأقصى من فلسطين والأخرى في المسجد الحرام على أرض الحجاز منبت دينها الإسلام . عيناه قبلتان قبل أن تتوحدا وكما قال الشاعر الأخطل الصغير بشارة الخوري :
يثرِب ُ والقدسُ منذ ُ احتلما
كعبتانا وهوى العُربِ هوانا
(( منذ احتلما ... يقصد محمداً والمسيح إبن مريم )).
ثم َّ كتبت سناء حول حادثة قلع قرنيتي عيني خضر [[ ... إغتالوا نور عينيك وقدموه ليهودي يعاني من مشكلة في قرنيتيه. أخذوا قرنيتيك ، سرقوا عينيك يا خضر وحرموك من متعة إستقبال منظر الفجر في أُفق المسجد الأقصى ومن إجتلاء بريق قبة الصخرة في سويداء الأفق...]] .
إحدى عيني خضر على المسجد الأقصى الذي ورد ذكره في القرآن
(( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجدِ الحرامِ إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريَه من آياتنا إنه هو السميع البصير / سورة الإسراء الآية 1 )) أما العين الأخرى فعلى بريق ذهب قبة الصخرة الذي يتضاعف بنور اشعة الشمس مراراً فتدخل الشمس ويدخل النور فيهما وقد أطفأهما الغاصبون ففقدتَ عينيك والنور معاً.
ثم قالت وما أروع وأبلغ ما قالت سناء [[ ... آخ يا وجعَ قلبي !!! لا أحدَ يفسّر كلمات عيني خضر كما أفعلُ . لا يمكن أنْ تشعرا بالسعادة طالما هما تسكنان مجبرتين جمجمةَ عدو ٍّ آثم . لا بدَّ أنهما تشعران بالأسى والقهر في سجنهما الآدمي . سأحررهما ، سأعيدهما إلى جسد خضر ، إلى رحم أرضنا فلسطين وليصفني الناسُ بالجنون فما هذا بعصر العقلاء ]].
آخ يا وجعَ قلبي !! جملة ولا كل الجمل . تتوهج بحرارة الصدق والوفاء للزوج القتيل خضر . تتكلم سناء كأنها تخاطب خضراً زوجها هي . آخ يا وجعَ قلبي ... تلك جملة أحبها من أعمق أعماقي إذ ْ طالما كنتُ أسمعها في طفولتي من فم المرحومة والدتي حين تتظلم أو تشكو من شيء أو ظاهرة أو حادث . تلك جملة لا تقولها إلا كبيرات السن من نسائنا وسناء لم تزل في ريعان وشرخ الشباب فكيف ولماذا أنضجت نفسها قبل أوان النضج ؟
هكذا ترى الدكتورة ُ سناء عيون الإنسان لا وسيلة للغزل البطران واللهو الخليع وغير الخليع . إنها تقاتل الشر والقتلة والأعداء بقوة ونور هذه العيون . العيون بعض وسائلها للدفاع عن حقوق الناس وفضح الجرائم .
الآن ، من يغامر ويتجاسر فيتغزل في عيني دكتورة سناء الخضراوين ؟ سوف لن تقبل مثل هذا الضرب من الغزل في عينيها وهي التي كرست قلمها وفكرها وفلسفتها لخدمة أهداف إنسانية جليلة خطيرة الشأن . لا من مجال للهو العابث في قدسية نور عينيها فهي أكبر من الغزل وأعلى مقاماً.
هامش / كتاب الحلاج أو وضوء الدم / المؤلف ميشال فريد غريب / الناشر : دار مكتبة الحياة ـ بيروت / بدون تأريخ .
في الصفحة 104 من هذا الكتاب حوار ساخن بين الحلاج والجُنيد شيخ متصوفة بغداد زمن الخليفة العباسي المقتدر بالله :
ـ مَن الطارق ؟
ـ أنا
ـ من أنتَ ؟
ـ أنا الحق .
عرف الجُنيدُ صوت الحسين لكنه كررَ عليه السؤال مستغرباً :
ـ مَن الطارق ؟
فأجابه الحُسين للمرة الثانية :
ـ أنا الحق !
ـ بل انتَ بالحق !
ـ كلا ! أنا الحق . سأحرر أمتي وأحقق خلودي بالله من خلودي فيهما .
ـ ستخلد في نارِ لعنتها. أنت متجبر طمّاع ، مغامر طائش ، ستحدث ُ في الإسلام ثُغرة لا يسدها إلا رأسُك !
(( كتاب الهروب إلى آخر الدنيا / الناشر نادي الجسرة الثقافي في قطر 2006 )) .
مقدمة / مقامة العيون في تراث العرب
إنَّ العيونَ التي في طرفها حَوَر ٌ
قتلننا ثم لم يحيينَ قتلانا
لجرير ... ثم قال :
ولقد رَمينكَ يومَ رُحنَ بأعين ٍ
يقتُلنَ من خللِ الستورِ سواجي
وقال غيره
عيونُ المها بين الرُصافة والجسر ِ
جلبنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري
العيون التي في طرفها حَوَر ٌ ... هل في هذا الشعر إحالة لما ورد في القرآن من وصف لعيون نساء جنات الخلد [[كذلكَ وزوَّجناهم بحور ٍ عين ٍ
/ سورة الدُخان الآية 54 ]] . [[ وعندهم قاصراتُ الطرف عِين / سورة الصافات الآية 48 ]] . [[ وقلْ للمؤمناتِ يَغضُضنَ من أبصارهن َّ ويحفظنَ فروجهنَّ ... / سورة النور الآية 31 ]] . العِين لغة ً هو جمع عَين . فيما يخص سورة الدخان ... لماذا التركيز على بياض حدقة العين المحيط بالدائرة القزحية الجميلة الملوّنة التي تكتنز كل ما في عيون المرأة من سحر وأنوار وخيالات ؟ ما قيمة اللون الأبيض في معرض الجمال وصرحه السامق في تأريخ البشرية منذ أقدم عصورها ؟ أما ما ورد في سورتي الصافات والنور من توصيف لعيون النساء ( قاصرات الطرف ... يغضضنَ من أبصارهن ) فقد ذكرني ببعض شعر الشاعر الإنجليزي لورد بيرْن الذي فسر َّ فيه توصيف القرآن لعيون حريم الجنان ، وكان جاداً في فهمه وتفسيره وليس هازئاً ، بأنَّ عيون الحور العين مصابة بمرض التراخوما ... هكذا ... لأنهنَّ قاصرات الطرف لا يرين البعيد أي مصابات ربما بقصر النظر وهو أمر لا يستحق المديح . يعزز حجة لورد بيرْن ما ورد في سورة النور ... يغضضن من أبصارهن ... فهل قرأ بيرْن القرآن أو إطلّع على بعض ما ترجم للإنجليزية منه ؟ وُلدَ هذا الشاعر الثائر في إنجلترة عام 1788 وتوفي في جزيرة كريت اليونانية عام 1824 محرضاً ومساهماً ومموِّلا ثورة اليونانيين ضد الحكم العثماني الشديد التعسف .
لا أتذكر هل تغزل شعراء الجاهلية بعيون النساء أم لا ؟ إذا ما تغزلوا فما كان غزلهم ليتعدى تشبيه عيون المحبوبات بأوصاف عيون ما يعرفون من حيوانات واسعة ِ أو سود او جميلة ِ العيون ... ظباء ... جآذر ... مها ... بقر وحشي وما إلى ذلك . لم يوظفوا في أوصافهم حدة بصر عيون بعض النساء ولا قارنوه بقوة عيون ما يعرفون من طيور مثل الصقور والشواهين . لم تستهوهم قوة العين وحدة البصر لأنهم على ما يبدو كانوا يعتبرون ذلك قلة حياء وصلف وتحد ٍ لسلطان الرجال وهم السادة في مجتمعات ذاك الزمان وما جاءت بعده من أزمة .
أرى هناك علاقة وثيقة بين ما جاء في القرآن من وصف لعيون النساء عامة ونساء الجنة بشكل خاص وميل الشعراء العرب حتى اليوم لوصف جمال عيون الحبيبات ولا أراهم مسرفين . يتغزل الكتّابُ والشعراء وغيرهم من سائر الناس بالعيون سحراً وجاذبية ً وجمالاً وما شابه ذلك من عبارات الإطراء والتزويق والمجاملات كأنْ لا من عيب داخلي أو كلل في البصر يصيب العيون الجميلة وتبقى مع ذلك جميلة مختلفة في ألوان قزحيتها وتشكيلاتها تحت الجفون وما فوقها من حواجب . لسعتها درج قدامى شعراء العرب على مقارنتها بعيون الظباء والمها والجآذر والبقر الوحشي . كما بالغ بعضهم وأطنب في وصف قدراتها الخارقة على قتل من تقع عليه سهام أهداب أو نظرات هذه العيون أو أن تتسبب في ترك جراحات خطيرة على أجسادهم إذا ما وقعت عليها حتى أنَّ بعضها يخترق الصدور وينفذ كأشعة الليزر مباشرة ً إلى القلوب كما قال المتنبي على سبيل المثال :
مثلت ِعينكِ في حشايَ جراحة ً
فتشابها ، كلتاهما نجلاءُ
نفذتْ عليَّ السابريَّ وطالما
تندق ُّ فيه الصعْدة ُ السمراءُ
فأية عيون هذه وأية نظرات تلك التي تخترق الدروع التي يتكسر عليها قوي الرماح ؟ عيون تصيب فتقتل وأهداب هي سهام مُراشة فهل من ذوق سليم أو شئ من جمال يمكن أن يكون في مثل هذه العيون ؟ متى كان القتلُ جميلاً ؟ قد يقول قائل إنها محض تعبيرات مجازية كبدائل عن القول المباشر الذي يجرح المشاعر الرقيقة من أنَّ (( الحبَّ قتال !! )) . لم يقتل بعدُ الحبُ أحداً من العاشقين . بلى ، أُصيب بعضهم بالجنون و قيس بن الملوَّح من أكثر المجانين شهرة ً . الجنون شئ لكنَّ الموت شئ آخر . إذا ضربتُ من بعض شعر المتنبي وجرير والشاعر الآخر أمثلة ففي الشعر العربي الكثير من أمثال هذه المبالغات والتشبيهات التي كانت في زمانها مقبولة لكنها غدت في أيامنا هذه غير مستساغة ولا تنسجم مع الذوق الجمالي السليم . فلقد أحجم لحسن الحظ الكثير ـ إنْ لم تكنْ الغالبية المطلقة ـ من شعراء وكتاب اليوم عن التغني بعيون مَن يحبون وإنصرفوا بدلَ ذلك إلى وصف الحالات البشرية الأكثر عمقاً ولا سيّما أحوال الكاتب أو الشاعر نفسه . أصبح القوم أنانيين قليلا ً فآثروا الكلام عن أنفسهم عشاقا ً ومحبين . هذا هو الغالب وليس الكل . فضلاً عن التشبيب بالعيون ، تغزل الشعراء خاصة ً بعنق الحبيبة وخصرها وأردافها وسواد شعرها الفاحم وصفحة خدها ودقة أناملها . كلها كانت أوصاف خارجية يخالطها الكثير من المبالغات السخيفة . فالعنق عنق غزال واللفتة لفتة بقرة وحشية والخصر لدقته يكاد يقصف قوام الحبيبة ويجعلها نصفين . أما الردفان فلثقلهما يكادان أن يُقعدا الحبيبة إذا ما نهضت !! هل ينسى العراقيون واحدةً من الأغاني الشائعة في العراق التي يقول فيها مغنيها ( خدج الكيمر أنا أتريك منه ) ، أي أنَّ خدك يا حبيبة الروح يشبه القشطة بياضاً ومذاقاً ففطور صباحي من هذا الخد لا من غيره ! بعض المطربين يأكلون وجنات من يحبون فأية سادية وأي شذوذ !
سناء والعيون
ما موقف القاصة الموهوبة الدكتورة سناء كامل شعلان من العيون ؟ هل جارت مَن سبقها من الكاتبات والشواعر والكتاب والشعراء فيما قالوا في شأن العيون ؟ هل خالفتهم وكيف خالفتهم ؟ نعم ، خالفت سناء الجميع فنهجت نهجاً خاصا ً بها شديد التعلق بشخصيتها وتأريخها وثقافتها ومجمل رؤاها في الكتابة فنا ً ثم رسالة ً . ولأنها رسول ونبية فلقد وجدتُ في كافة ما كتبت من قصص إنسانية المغازي والأهداف ... وجدتُ أنها ترى في العيون ما لا يراه فيها غيرها . ليست العيون وسيلة للتغزل والبطر ، إنما العيون تمنح بعض العميان النور فيرى فيها الأعمى صورة الذي وهبها له حتى لو كان ميتاً . تهب العيونُ سعادة ً للمحبين وتمنحهم ظلالا ً وارفة ً صيفا ً ودفئاً يقيهم شر البرد شتاءً وتريهم مستقبلهم . لا هزل ولا مزاح في أدب سناء بل إنها في غاية الجدية والإلتزام في كل ما كتبت ونشرت .
إخترت لكي أبين فلسفة سناء في موضوعة العيون ... إخترتُ قصتين من قصص كتاب " الهروب إلى آخر الدنيا " من منشورات نادي الجسرة الثقافي في قطر في عام 2006 . هما قصة ( لحظة عشق ) وقصة ( عينا خَضر ) .
قصة لحظة عشق
هذه قصة ترتكز في الأساس على فكرة تتبناها الدكتورة سناء مفادها : إذا كان الله هو الحب فإن َّ الحبَّ هو الله ! راحت سناء تسرد على قرّائها أحداث قصة كاتب ملحد إسمه حكيم لا يؤمن لا بالحب ولا بالله . لكنها نجحت في نهاية القصة في تحويل هذا الإنسان الملحد إلى إنسان مؤمن حتى شعر [[ بأنَّ اللهَ والحبَ يسكنان قلبه ]] . ثنائية أمرين لا ينفصلان .
هل كان شفاء عيني ( حكيم ) هو الهدف الرئيس من قصة سناء هذه ؟ كلا ، إنه أمر جانبي عَرضي خدمَ جملة أهداف خططت سناء بذكاء لها حتى واجهت هذا الملحد بأمر ما كان ليتوقعه أبداً : إنَّ الفتاة المدعوة ( هبة ) التي إنتحرت قبل أن تهب عينيها لرجل أعمى كان إسمه على رأس قائمة المنتظرين لمن يتبرع بعينيه .... هذه الفتاة كانت تحبه وكانت تتابع كل ما ينشر من كتب . وجد وقد إسترد بفضل هبتها لقرنيتي عينيها أنها كتبت في رسالة إنتحارها [[ عندما تنعم عيناك بالنور تأكد ْ أنك نعمتَ دائماً بحبي . أنا متأكدة من أنك ستقرأ هذه الرسالة يوما ً ما ، وستعرف كم أحببتك ]] . هنا في بيت الشابة المنتحرة وفي حجرتها الخاصة حصلت كبرى المفاجآت . وجد حكيم ملاحظة كتبتها هبة تحت عنوان كتابه الذي شَهُر قالت فيها [[ اللهُ هنا في قلبي ]] . تناول القلم وكتب فوق هذه الملاحظة [[إلى حبيبتي هبة ... عاشقكِ إلى الأبد ، حكيم ]] . محاورات مفعمة بعمق إيمان سناء بالله والروح والحب خالق المعجزات تماماً كالرب : الله هو الحب والحب هو الله !! أين عقيدة وبيان القصة المركزية ؟ إننا نجدها في مسلسلة ثلاثية الحلقات تمثل فلسفة سناء الراسخة إلهاما ً وتجريباً ومتابعة ً يمكن تمثيلها أو رسمها في خط تطوري يتجه من الأسفل إلى الأعلى ، من الإلحاد إلى الإيمان كما يلي : إلحاد ـــ حب ـــ إيمان . من خلال الحب وبوساطته يتحول الملحد إلى رجل مؤمن . هذه هي القوة السحرية للحب في نظر سناء . إنه يفعل المستحيلات ويأتي بالمعجزات الحب هو الساحر الأعظم الذي ينجز مهماته بقوة الله مثالاً ورمزا ً وخالقاً للحب . ولكن مهلاً ... ما كانت معالجة سناء لهذا الموضوع معالجة غيبية متخلفة فالذي حصل إنما حصل بمساعدة ظروف علمية وليست خرافية . رجل أعمى وهبته شابة قرنيتي عينيها لأنها محكومة بالموت جرّاء إصابتها بمرض عضال لا شفاء منه . الأعمى لا يعرف هذه الإنسانة الواهبة لكنها تعرفه إذ عملت مرة ً بمعيته عاما ً كاملاً في إحدى المؤسسات الصحافية . لا يتذكرها . إذا ً لا من غيب في هذا الأمر ، هبة الواهبة لعينيها تعرف حكيم عن طريق العمل . وهبة تعرفه أكثر عن طريق ما كانت تقتني وتقرأ ما كان ينشر من كتب . إنتحرت لأنَّ حياتها ميؤوس منها . لا مجال للصدفة العمياء ولا إلى ضربات الحظ العشوائية . جاء الحبُ أخيراً قلبَ حكيم مع مجيء النور لعينيه . مع الحب جاء الله حسب فلسفة سناء . الحب والله لا يفترقان أبداً ... الحب هو الله والله هو الحب . لمن فضلُ إيمان حكيم
الملحد ؟ للنور ... النور الذي وهبته المنتحرة لعينيه ... النور أضاء بصره وقلبه وبصيرته ومع هذا النور جاء الله فزاد النورَ أنواراً فارتعش قلب حكيم بحب هبة التي تسببت بكل هذه النعم . النور ـــ الله ـــ الحب !
لا حب بدون الإيمان بالله ولا إيمان بالله دون حب هذا الاله . هذا هو جوهر فلسفة سناء . إنها تطوير مستحدث للصوفية القديمة التي ما كان أصحابها يستهدفون من فكرة وممارسة طقوس حب الله إلا الإتحاد به والذوبان فيه للخلاص مما هم فيه من عذاب وصرخة مدوية في وجه الحكام الظالمين المسرفين في ظلم العباد . ما كانوا بعيدين عن السياسة فقد مارسوها بأشكال وأساليب منوعة يغلب عليها طابع التورية والإلغاز والتعمية لكنها تظل سياسة واضحة البيان . كانوا في غالبيتهم ثائرين حتى أنَّ زعيمهم الجنيد البغدادي كان يتحاشى لقاء تلميذه الحلاج ويتهرب منه بل ولم يقف معه في محنة محاكمته ثم إعادة المحاكمة ثم الحكم عليه بالموت صلباً وحرق جسده المصلوب (1) . (( في كتاب " الحلاج أو وضوء الدم " حوار طريف بين الحلاج وشيخه أبي القاسم الجنيد يجده القارئ العزيز في هامش مقالي هذا )) . هذا هو معتقد الدكتورة سناء كامل شعلان . إنه قريب من معتقدات متصوفة المسلمين وربما سواهم من غير المسلمين . أفلم يقل الحلاج المصلوب حتى الموت [[ أنا من يهوى ومَن يهوى أنا // إننا روحان حلا بدنا ]] ؟ أفلم يقل وقد درج على هذا القول جهاراً نهاراً : أنا الحق ! من هو الحق غير الله ؟ وهو مّن قال :
وأقبلَ الوجدُ يُفني الكل َّ من صفتي
وأقبلَ الحق ُّ يُخفيني وأُبديه ِ
أحسب أنَّ المفكرة سناء نجحت في تشكيل وتطوير نموذجها الصوفي الخاص بها ، وإني لأجده مزيجاً منطقياً يجمع فيه العلوم الحديثة وعلوم الروحانيات الصوفية . هي لا تؤمن بخوارق الغيب بل تؤمن أنَّ لكل سبب لا بدَّ من مسبب واحد في الأقل . إنها مع ذلك مشاكسة قليلاً ... لا تؤمن بالله لأنه الله إنما ، لأنه الحب ولأنه لا ينفصل عن الحب فهو والحب إله واحد وليسا إلهين . روحان في جسد واحد . الله قابل للتجسد وهذا أمر يخالف شريعة الإسلام ولكن هذه هي قناعة سناء وهذا هو إجتهادها . لقد سبقها أبو العلاء المعري فإبتدع لنفسه شرائعَ خاصة فيما يخص الرب والدين والفروض والواجبات . سناء طوّرت الفكر والفلسفة والوسائل الصوفية لفهم الدين والدنيا وفقه الحياة . إنها حلاج عصرنا الراهن بكل ما فيه من تطورات علمية وتكنولوجية مذهلة . الله وسيلة للحب وليس غاية للخلاص من عذابات الدنيا حلولا ً فيه وإتحاداً معه . الله هو الحب والحب هو الله . لا دروشة في صوفية سناء ولا أبخرة وتحشيش ولا غيبوبة عن الوعي وإفتعال الجنون . لا خرافات فيما يمس المعتقدات والثوابت . فإذا شافى الله مريضاً فليس ذلك من باب المعجزات التي سمعناها عن عيسى إبن مريم المعروفة عنه . الله يُشفي المرضى بإكسير الحب فقط . الحب هو الطبيب المداوي ولكن بلمسة خفيفة من يد الله . ترينا هذه القصة الطريفة في مبناها ومحتواها كيف أدخلت سناء فلسفتها الخاصة فعالجت مسائل متشعبة عامة متداخلة مكنتها من تحقيق ما تبتغي من نتائج للبرهنة على صواب وجهات نظرها في الدين والفلسفة والروحانيات وما وراء الطبيعة .
قصة "عينا خُضر "
هذه قصة أخرى مغايرة في مضامينها للقصة السابقة وإنْ جاءت العيون في عنوانها . تكشف الكاتبة سناء في هذه القصة عن عمق وأصالة إنتمائها لفلسطين المغتصبة ووفائها لهوائها ومائها ولكل شبر من أرضها . لم ترسم سناء في هذه القصة رسومات مسطحة على ورق خفيف تبين فيها حبها لأرض وتأريخ أهلها وأجدادها إنما أدخلت القارئ في صلب هذا التأريخ من خلال عيني شاب فلسطيني إنتزعها بعض اليهود ليزرعونها في عيني مستوطن أعمى . الإستيطان هو الإستيطان أكان إستيطان أرضٍ أو الإستيطان في عين ... سواء . أرض قرب القدس تُغتصب ومزارع زيتون وقمح تُدمر ودور تُهدم ثم تكتمل المأساة بفصل جديد من الإغتصاب الإستيطاني : قلع العيون كما يقلعون أشجار الزيتون وزرعها في رأس مستوطن إستعمر البلاد وقتل وهجّر أهلها الأصليين . هذه هي سناء الفلسطينية الأصيلة المشدودة لجذورها ومحنة أهلها والإنسانة الكاتبة التي تحمل الكثير من هموم البشر في رأسها وصدرها وقلمها بين أناملها . فليس كثيراً ولا من باب المبالغة إن ْ أسميتها نبية ً وربّة ً وحاملة الراية تتقدم بها صفوفها غير هيابة ولا وجِلة . إنها وطنية الحس والإنتماء والوجدان وإنسانة أممية الآفاق عالمية الإنتماء نبية الدعوة والتبشير . إنها النبي العالمي لكافة البشر وأتباع كل الديانات . عينا خضر هي إحدى تحف سناء وفي عيني خضر صرخة الإحتجاج العظمى ضد الظلم والظالمين والمستوطنين اليهود . ما أبدع وصف سناء لعيني خضر وقد جعلته زوجاً لفتاة فلسطينية ثم تعتقله قوات الإحتلال لتسلب منه نور عينيه ثم َّ تجهز عليه ليسقط قتيلاً تاركاً طفله الأول والأخير يتيماً مع أمه يحمل إسماً رمزاً كبيراً جداً : عودة ... {{ عودة ... حلم العودة لأرض فلسطين }}. نتجول مع ما قالت سناء من روائع الوصف والغزل في عيني خضر قبل الزواج وبعد الزواج وبعد إغتياله :
[[ ... آه من عيني خضر... ومن لا يعرف عيني خضر فلينظر في عينيَّ ليرى على إمتداد أحلامهما وما بين الرمشة والأخرى عيني خضر ، تينك العينين اللتين تنزرعان في أديم وجهه الحنطي وتشرقان مثل نخيل أخضر ببريق شمسي في بيداء أشواقي ]] . نفهم من هذا الكلام أنَّ عيني خضر خضراوان تماماً كعيني سناء كما أراهما في صورها المنشورة على أغلفة كتبها ( ... تشرقان مثل نخيل أخضر ) ... ثم إن َّ إسمه خضر من الخضرة. خضرة عيني خضر تحاكي خضرة النخيل أو تقبس نور موجات اللون الأخضر منه. كيف غيبت الكاتبة سناء نفسها فأذابتها وحلت في بطل القصة الشهيد حلولاً لونياً فجعلت من عينيها مرآة ً تعكس ما فيهما من لون على عيني البطل الشهيد. التصوف والحلول حاضران بقوة في أغلب كتابات سناء كامل شعلان . ما قالت سناء في عيني خضر بعد زواجه ؟ قالت [[ وصدقت عينا خضر ، وتزوجنا وبت ُّ في كل ليلة أتعبدُ في محراب عينيه ، لأغفو على رموشهما. وزاد عشقي لعيني خضراللتين تحملان من العزم والحب ما لا يعرفه الكثير من البشر ]] . زوج خضر تتعبد في محراب عينيه فعيناه مقدستان إذاً . عين في المسجد الأقصى من فلسطين والأخرى في المسجد الحرام على أرض الحجاز منبت دينها الإسلام . عيناه قبلتان قبل أن تتوحدا وكما قال الشاعر الأخطل الصغير بشارة الخوري :
يثرِب ُ والقدسُ منذ ُ احتلما
كعبتانا وهوى العُربِ هوانا
(( منذ احتلما ... يقصد محمداً والمسيح إبن مريم )).
ثم َّ كتبت سناء حول حادثة قلع قرنيتي عيني خضر [[ ... إغتالوا نور عينيك وقدموه ليهودي يعاني من مشكلة في قرنيتيه. أخذوا قرنيتيك ، سرقوا عينيك يا خضر وحرموك من متعة إستقبال منظر الفجر في أُفق المسجد الأقصى ومن إجتلاء بريق قبة الصخرة في سويداء الأفق...]] .
إحدى عيني خضر على المسجد الأقصى الذي ورد ذكره في القرآن
(( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجدِ الحرامِ إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريَه من آياتنا إنه هو السميع البصير / سورة الإسراء الآية 1 )) أما العين الأخرى فعلى بريق ذهب قبة الصخرة الذي يتضاعف بنور اشعة الشمس مراراً فتدخل الشمس ويدخل النور فيهما وقد أطفأهما الغاصبون ففقدتَ عينيك والنور معاً.
ثم قالت وما أروع وأبلغ ما قالت سناء [[ ... آخ يا وجعَ قلبي !!! لا أحدَ يفسّر كلمات عيني خضر كما أفعلُ . لا يمكن أنْ تشعرا بالسعادة طالما هما تسكنان مجبرتين جمجمةَ عدو ٍّ آثم . لا بدَّ أنهما تشعران بالأسى والقهر في سجنهما الآدمي . سأحررهما ، سأعيدهما إلى جسد خضر ، إلى رحم أرضنا فلسطين وليصفني الناسُ بالجنون فما هذا بعصر العقلاء ]].
آخ يا وجعَ قلبي !! جملة ولا كل الجمل . تتوهج بحرارة الصدق والوفاء للزوج القتيل خضر . تتكلم سناء كأنها تخاطب خضراً زوجها هي . آخ يا وجعَ قلبي ... تلك جملة أحبها من أعمق أعماقي إذ ْ طالما كنتُ أسمعها في طفولتي من فم المرحومة والدتي حين تتظلم أو تشكو من شيء أو ظاهرة أو حادث . تلك جملة لا تقولها إلا كبيرات السن من نسائنا وسناء لم تزل في ريعان وشرخ الشباب فكيف ولماذا أنضجت نفسها قبل أوان النضج ؟
هكذا ترى الدكتورة ُ سناء عيون الإنسان لا وسيلة للغزل البطران واللهو الخليع وغير الخليع . إنها تقاتل الشر والقتلة والأعداء بقوة ونور هذه العيون . العيون بعض وسائلها للدفاع عن حقوق الناس وفضح الجرائم .
الآن ، من يغامر ويتجاسر فيتغزل في عيني دكتورة سناء الخضراوين ؟ سوف لن تقبل مثل هذا الضرب من الغزل في عينيها وهي التي كرست قلمها وفكرها وفلسفتها لخدمة أهداف إنسانية جليلة خطيرة الشأن . لا من مجال للهو العابث في قدسية نور عينيها فهي أكبر من الغزل وأعلى مقاماً.
هامش / كتاب الحلاج أو وضوء الدم / المؤلف ميشال فريد غريب / الناشر : دار مكتبة الحياة ـ بيروت / بدون تأريخ .
في الصفحة 104 من هذا الكتاب حوار ساخن بين الحلاج والجُنيد شيخ متصوفة بغداد زمن الخليفة العباسي المقتدر بالله :
ـ مَن الطارق ؟
ـ أنا
ـ من أنتَ ؟
ـ أنا الحق .
عرف الجُنيدُ صوت الحسين لكنه كررَ عليه السؤال مستغرباً :
ـ مَن الطارق ؟
فأجابه الحُسين للمرة الثانية :
ـ أنا الحق !
ـ بل انتَ بالحق !
ـ كلا ! أنا الحق . سأحرر أمتي وأحقق خلودي بالله من خلودي فيهما .
ـ ستخلد في نارِ لعنتها. أنت متجبر طمّاع ، مغامر طائش ، ستحدث ُ في الإسلام ثُغرة لا يسدها إلا رأسُك !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق