زياد جيوسي
دير قرنطل في مدينة أريحا
بعدستي الشخصية
كيف كان يمكن لعيناي أن تعانقا الكرى، بعد أن انسكب في روحي في مساء الأمس دفق من براعم الياسمين مخترقة حجب الزمان والمكان، فتملأ تلافيف الذاكرة وأروقة الروح بأكوام من الحنين والشوق والجمال، فيأبى النوم أن يزورني بعد أن عدت من أريحا مدينة القمر، كما أسماها جدي الكنعاني الأول بعد جولة جميلة ورائعة، فأستعد بعد رحلة امتدت من الثامنة والنصف صباحا حتى السادسة والنصف للذهاب لمسرح القصبة، فأجلس إلى مقعدي في صومعتي لأغط في نوم عميق بلا شعور، أضاع علي فرصة مناقشة أدبية مع الكاتب الصديق وسيم الكردي، لأصحو من النوم بعد ساعة على دفق برعم ياسمينة يداعب مني الروح والنفس، فأغادر الصومعة إلى فندق في أطراف المدينة لأودع قريب صديق عائد لعمان الهوى، وأعود من هناك سيرا على الأقدام مستذكرا ماض وحاضر، ويأبى النوم بعدها مجرد الزيارة إلا عابرا قبيل اشراقة الفجر، لأصحو حين يبدأ الفجر يلقي عن أكتافه عباءة الليل ويمزق سدل العتمة، فيشرق الفجر وروحي تشعر بسلام الروح، كروح راهب معتزل في "دير قرنطل" في ذلك السفح في الجبال المرتفعة والمطلة على مدينة القمر، فأحتسي قهوتي الصباحية على نغمات هديل الحمام، وأغادر إلى دروب المدينة لتعانق روحي ياسمينات رام الله، بعشق كان منذ الطفولة وما زال لبرعم الياسمين وعبق هوى، وياسمينات تتعربش على الجدران، مطلقة بوحها وعبقها الجميل.
في صباح الأمس اتجهت لأريحا بعد هذا الغياب الطويل، كنت برفقة أخي جهاد توأم روحي، وزملاء له عاملين معه، متأملا الطريق التي أعبرها للمرة الثانية بعد أن فك اسري، حتى دخلنا بوابة أريحا متجهين بزيارة إلى مصنع للرجال في أحد معسكرات الأمن الوطني، فكانت فرصة جميلة للقاء مع رفاق درب طويل، منهم من أعرفه سابقا ومنهم لم تجمعنا الأيام، وأن ألمس عن قرب الجهد الهائل في إعداد جنود الأمن الوطني، إعدادا جسديا وتوعية وطنية، مما أعاد للذاكرة دفق كبير من مسيرة خضناها منذ نعومة أظافرنا، لأغادر بعدها تاركا شقيقي وزملاءه لمتابعة عملهم، وأذهب لمعانقة مدينة القمر مع الشاب اللطيف والمهذب شادي، هذا الشاب الذي كان له الفضل بالتجوال معي في دروب المدينة ومناطقها، متيحا لي الفرصة الكبيرة بالتقاط عشرات الصور للمدينة الجميلة والرائعة والتاريخية، فشادي يعرف المدينة بأفضل من معرفة دليل سياحي، وكانت لاقتراحاته الجميلة باختيار المناطق للتجوال، فضل كبير في التقاط صور أعتقد أنها كانت متميزة.
أريحا مدينة القمر، المدينة والتي يجمع غالبية علماء الآثار أنها المدينة الأقدم في التاريخ، أعتقد أني زرت الكثير في جولتي فيها، ولكن بالتأكيد أن زيارة واحدة لا تكفي، فمن المساحات المزروعة على الأطراف إلى الحدائق والشوارع الجميلة، ومنطقة دير جبل قرنطل، متأملا ومفكرا كيف تمكن الرهبان في الماضي من بناء هذا الدير على هذا الارتفاع وفي سفح جبل أجرد، حيث لا شجر ولا ثمر ولا بشر، مكتفين بالعبادة والتأمل، معانقة عيونهم من بعيد القدس بكل ما تحمله من قدسية لدى المسيحيين والمسلمين، يرنون بعيونهم إلى المغطس حيث تم تعميد سيدنا المسيح عيسى عليه السلام، حتى أنهيت الجولة في قصر هشام الأموي، وكم آلمني الإهمال في هذا الموقع الهام والتاريخي، فالطريق إليه ضيقة ومهملة، ولا توجد يافطات إرشادية واضحة، إلا حجر لعب الزمن فيه بمحو كتابته، وموضوع بزاوية مهملة عن مدى الرؤيا، وساحة المدخل الخارجي غير معبدة وممتلئة بالأتربة، والمساحة الداخلية التي تتناثر عليها أطلال القصر تعاني أيضا ما تعانيه، إضافة أن أريحا منطقة حارة جدا، فهي أخفض بقعة في العالم، لذا جدير أن تهتم الجهات المعنية بإنارة الشارع والمنطقة بأكملها، حتى يتمكن الزوار من التجوال هناك في المساء، حين تخف وطأة الحر وقوته، وأعتقد أنه يجدر التفكير بمتنـزه سياحي قرب القصر، فلا يؤثر سلبا على الموقع، وفي نفس الوقت يكون نقطة جذب للزوار، ومن الضروري أن تضع وزارة التربية في أولويات اهتماماتها تطوير فكرة الرحلات الطلابية، لتصبح تحت شعار اعرف بلدك، ومن الضرورة أن تهتم وزارة السياحة بتوزيع نشرات عن القصر للزوار باللغة العربية أيضا، وعدم الاكتفاء بما هو موجود بلغات أجنبية.
لرام الله في القلب ما لها، وأجمل ما فيها أنني حين أجول دروبها، أشعر بها تهمس في أذني تحدثني عن أخبارها وصباحاتها وأمسياتها، ففي ياسمينات رام الله ما يداعب مني الروح ويثير العشق والهوى، ولحكاياتها دوما جمال ينقلني بين ماض وحاضر، ففي مساء الاثنين أو الأمس كنت في احتفالية إعلان التصميم الفائز لميدان الشاعر الكبير محمود درويش، وكان لبلدية رام الله السبق بتكريم شاعرنا الكبير في حياته من خلال إطلاق اسمه على ميدان حديث وهام في رام الله، رغم رفضه وتمنعه حين ابلغ الفكرة واعتبره نعيا مبكرا، لأن العادة أن يكرم الأموات لا الأحياء، لكن إصرار المجلس من خلال رئيسته جانيت خوري، أسقط قلاع التمنع لدى محمود درويش وإن لم يسقط حرجه وخجله أمام الحضور، وقد القى الدكتور سعيد أبو علي محافظ رام الله والبيرة،كلمة جميلة ومؤثرة تركت أثر كبير في النفوس، فأبو علي المثقف والكاتب، بمقدار ما هو مكسب للمحافظة بمقدار ما هو خسارة لعالم الحرف والكتابة، فالدكتور سعيد المثقف والكاتب يجيد تطويع الحرف، بمقدار قدرته على التعامل مع المواطن بقضاياه المختلفة بروح ايجابية وطيبة، وللحقيقة يكون لمبادرة البلدية بتكريم درويش، الذي كانت قصائده خير سفير للوطن في أصقاع الدنيا، هو تكريس لنهج مميز وتكريم للحرف المناضل والكلمة المحلقة.
ومن مقر البلدية إلى مقهى رام الله للقاء توفيق العيسى وزياد خداش، لنكمل من هناك الطريق إلى المجلس الثقافي الفرنسي الألماني لحضور مهرجان سينما الشباب، لنحضر أول فيلمين قصيرين ونغادر هاربين إلى شوارع المدينة دون أن نكمل العرض، فما رأيناه أثار أعصابنا بطريقة غير طبيعية، وأعجبني تعليق الخداش حين قال: جميل أن يكون هناك في أي عمل بعض من العبث، لكنها مأساة أن يكون كل ما نراه عبث.
أجوب شوارع المدينة وأستمع لبوح الياسمينات وهمس الصنوبر، أعود لصومعتي متأبطا صحيفتي المعتادة، أجدد فنجان القهوة كما يتجدد الشوق لحروف خمسة تسكن الروح والنفس، ترافق صباحي فيروز كالعادة في شدوها:
"حبيتك تا نسيت النوم يا خوفي تنساني، حابسني براة النوم تاركني سهرانه، أنا حبيتك حبيتك، بشتاقلك ما بقدر شوفك ولا بقدر أحكيك، بندهلك خلف الطرقات وخلف الشبابيك، بفتكر إني لقيتك برجع إلي كان، جرب إني انسى بيهرب النسيان".
صباحكم أجمل.
بعدستي الشخصية
كيف كان يمكن لعيناي أن تعانقا الكرى، بعد أن انسكب في روحي في مساء الأمس دفق من براعم الياسمين مخترقة حجب الزمان والمكان، فتملأ تلافيف الذاكرة وأروقة الروح بأكوام من الحنين والشوق والجمال، فيأبى النوم أن يزورني بعد أن عدت من أريحا مدينة القمر، كما أسماها جدي الكنعاني الأول بعد جولة جميلة ورائعة، فأستعد بعد رحلة امتدت من الثامنة والنصف صباحا حتى السادسة والنصف للذهاب لمسرح القصبة، فأجلس إلى مقعدي في صومعتي لأغط في نوم عميق بلا شعور، أضاع علي فرصة مناقشة أدبية مع الكاتب الصديق وسيم الكردي، لأصحو من النوم بعد ساعة على دفق برعم ياسمينة يداعب مني الروح والنفس، فأغادر الصومعة إلى فندق في أطراف المدينة لأودع قريب صديق عائد لعمان الهوى، وأعود من هناك سيرا على الأقدام مستذكرا ماض وحاضر، ويأبى النوم بعدها مجرد الزيارة إلا عابرا قبيل اشراقة الفجر، لأصحو حين يبدأ الفجر يلقي عن أكتافه عباءة الليل ويمزق سدل العتمة، فيشرق الفجر وروحي تشعر بسلام الروح، كروح راهب معتزل في "دير قرنطل" في ذلك السفح في الجبال المرتفعة والمطلة على مدينة القمر، فأحتسي قهوتي الصباحية على نغمات هديل الحمام، وأغادر إلى دروب المدينة لتعانق روحي ياسمينات رام الله، بعشق كان منذ الطفولة وما زال لبرعم الياسمين وعبق هوى، وياسمينات تتعربش على الجدران، مطلقة بوحها وعبقها الجميل.
في صباح الأمس اتجهت لأريحا بعد هذا الغياب الطويل، كنت برفقة أخي جهاد توأم روحي، وزملاء له عاملين معه، متأملا الطريق التي أعبرها للمرة الثانية بعد أن فك اسري، حتى دخلنا بوابة أريحا متجهين بزيارة إلى مصنع للرجال في أحد معسكرات الأمن الوطني، فكانت فرصة جميلة للقاء مع رفاق درب طويل، منهم من أعرفه سابقا ومنهم لم تجمعنا الأيام، وأن ألمس عن قرب الجهد الهائل في إعداد جنود الأمن الوطني، إعدادا جسديا وتوعية وطنية، مما أعاد للذاكرة دفق كبير من مسيرة خضناها منذ نعومة أظافرنا، لأغادر بعدها تاركا شقيقي وزملاءه لمتابعة عملهم، وأذهب لمعانقة مدينة القمر مع الشاب اللطيف والمهذب شادي، هذا الشاب الذي كان له الفضل بالتجوال معي في دروب المدينة ومناطقها، متيحا لي الفرصة الكبيرة بالتقاط عشرات الصور للمدينة الجميلة والرائعة والتاريخية، فشادي يعرف المدينة بأفضل من معرفة دليل سياحي، وكانت لاقتراحاته الجميلة باختيار المناطق للتجوال، فضل كبير في التقاط صور أعتقد أنها كانت متميزة.
أريحا مدينة القمر، المدينة والتي يجمع غالبية علماء الآثار أنها المدينة الأقدم في التاريخ، أعتقد أني زرت الكثير في جولتي فيها، ولكن بالتأكيد أن زيارة واحدة لا تكفي، فمن المساحات المزروعة على الأطراف إلى الحدائق والشوارع الجميلة، ومنطقة دير جبل قرنطل، متأملا ومفكرا كيف تمكن الرهبان في الماضي من بناء هذا الدير على هذا الارتفاع وفي سفح جبل أجرد، حيث لا شجر ولا ثمر ولا بشر، مكتفين بالعبادة والتأمل، معانقة عيونهم من بعيد القدس بكل ما تحمله من قدسية لدى المسيحيين والمسلمين، يرنون بعيونهم إلى المغطس حيث تم تعميد سيدنا المسيح عيسى عليه السلام، حتى أنهيت الجولة في قصر هشام الأموي، وكم آلمني الإهمال في هذا الموقع الهام والتاريخي، فالطريق إليه ضيقة ومهملة، ولا توجد يافطات إرشادية واضحة، إلا حجر لعب الزمن فيه بمحو كتابته، وموضوع بزاوية مهملة عن مدى الرؤيا، وساحة المدخل الخارجي غير معبدة وممتلئة بالأتربة، والمساحة الداخلية التي تتناثر عليها أطلال القصر تعاني أيضا ما تعانيه، إضافة أن أريحا منطقة حارة جدا، فهي أخفض بقعة في العالم، لذا جدير أن تهتم الجهات المعنية بإنارة الشارع والمنطقة بأكملها، حتى يتمكن الزوار من التجوال هناك في المساء، حين تخف وطأة الحر وقوته، وأعتقد أنه يجدر التفكير بمتنـزه سياحي قرب القصر، فلا يؤثر سلبا على الموقع، وفي نفس الوقت يكون نقطة جذب للزوار، ومن الضروري أن تضع وزارة التربية في أولويات اهتماماتها تطوير فكرة الرحلات الطلابية، لتصبح تحت شعار اعرف بلدك، ومن الضرورة أن تهتم وزارة السياحة بتوزيع نشرات عن القصر للزوار باللغة العربية أيضا، وعدم الاكتفاء بما هو موجود بلغات أجنبية.
لرام الله في القلب ما لها، وأجمل ما فيها أنني حين أجول دروبها، أشعر بها تهمس في أذني تحدثني عن أخبارها وصباحاتها وأمسياتها، ففي ياسمينات رام الله ما يداعب مني الروح ويثير العشق والهوى، ولحكاياتها دوما جمال ينقلني بين ماض وحاضر، ففي مساء الاثنين أو الأمس كنت في احتفالية إعلان التصميم الفائز لميدان الشاعر الكبير محمود درويش، وكان لبلدية رام الله السبق بتكريم شاعرنا الكبير في حياته من خلال إطلاق اسمه على ميدان حديث وهام في رام الله، رغم رفضه وتمنعه حين ابلغ الفكرة واعتبره نعيا مبكرا، لأن العادة أن يكرم الأموات لا الأحياء، لكن إصرار المجلس من خلال رئيسته جانيت خوري، أسقط قلاع التمنع لدى محمود درويش وإن لم يسقط حرجه وخجله أمام الحضور، وقد القى الدكتور سعيد أبو علي محافظ رام الله والبيرة،كلمة جميلة ومؤثرة تركت أثر كبير في النفوس، فأبو علي المثقف والكاتب، بمقدار ما هو مكسب للمحافظة بمقدار ما هو خسارة لعالم الحرف والكتابة، فالدكتور سعيد المثقف والكاتب يجيد تطويع الحرف، بمقدار قدرته على التعامل مع المواطن بقضاياه المختلفة بروح ايجابية وطيبة، وللحقيقة يكون لمبادرة البلدية بتكريم درويش، الذي كانت قصائده خير سفير للوطن في أصقاع الدنيا، هو تكريس لنهج مميز وتكريم للحرف المناضل والكلمة المحلقة.
ومن مقر البلدية إلى مقهى رام الله للقاء توفيق العيسى وزياد خداش، لنكمل من هناك الطريق إلى المجلس الثقافي الفرنسي الألماني لحضور مهرجان سينما الشباب، لنحضر أول فيلمين قصيرين ونغادر هاربين إلى شوارع المدينة دون أن نكمل العرض، فما رأيناه أثار أعصابنا بطريقة غير طبيعية، وأعجبني تعليق الخداش حين قال: جميل أن يكون هناك في أي عمل بعض من العبث، لكنها مأساة أن يكون كل ما نراه عبث.
أجوب شوارع المدينة وأستمع لبوح الياسمينات وهمس الصنوبر، أعود لصومعتي متأبطا صحيفتي المعتادة، أجدد فنجان القهوة كما يتجدد الشوق لحروف خمسة تسكن الروح والنفس، ترافق صباحي فيروز كالعادة في شدوها:
"حبيتك تا نسيت النوم يا خوفي تنساني، حابسني براة النوم تاركني سهرانه، أنا حبيتك حبيتك، بشتاقلك ما بقدر شوفك ولا بقدر أحكيك، بندهلك خلف الطرقات وخلف الشبابيك، بفتكر إني لقيتك برجع إلي كان، جرب إني انسى بيهرب النسيان".
صباحكم أجمل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق