الخميس، نوفمبر 29، 2007

رزوقة في افتتاح الأيام الشعرية بتونس: اقتلوني إن استطعتم


ناجية بوبكر / تونس

* لهم المتنبي والشابي ودرويش وآخرون كي يدجّجوا بأسمائهم ثقافتهم العامّة إلى جانب نجوم الكرة وعارضات الأزياء ، أمّا الأسماء الأخرى القريبة منهم جدا إلى حدّ أنهم لا يرونها فهي تضيء في أصقاع أخرى وهم لا يفقهون.
انطلقت الثلاثاء 27 نوفمبر / تشرين الثاني 2007 بكليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعية بتونس "الأيّام الثقافية والشّعريّة" التي جاءت تحت عنوان "لو أنّ للريح جوربا" بتنظيم من الشاعرين فريد السعيداني وجميل عمامي وقد قدّم هذا الأخير الشاعر يوسف رزوقة، ضيف الافتتاح، بكلمة جاء فيها : لو أن للريح جوربا أو هكذا تشتعل الحرائق لإثارة ضجّة ما، لكسر إيقاع صمت، نحتاج لأكثر من ناي ومطرقة لنغنّي...المسألة تحتاج لأكثر من ذاكرة وجرح من أجل إعادة اللون إلى طبيعته والحقيقة إلى بئرها..لكننا سنبقى أحفاد فجر لا يشيخ وفي هذه اللحظة الحاسمة تحديدا، ستولد قصيدة على تماس هاويتين، هناك حيث كلّ شيء أحمر، تضيئه نجمة لا يخفت ضوؤها.. سنبني للريح بيتا وسندعوه لحفل شاي وسنمشط بالحكايا ليلة.. هكذا هو الشعر دائما، وليد الساعة الصفر، لا يهادن ولا يصالح وإن خبّأ أنيابه وراء المجازات والاستعارات وهل من سلاح للشعر غير اللغة؟ لا بدّ من تربة صالحة إذن لنجفف عرق الولادة. لو أن للريح جوربا، لكان الإيقاع مختلفا وفي إطار بحثنا عن الاختلاف دائما وعن خلق لغة بديلة، بلّوريّة الأفق، لا خشب في أحشائها ولا بوليس، استضفنا اليوم شاعرا لا يكتب إلاّ واقفا".
بعد هذه الكلمة، افتتح رزوقة اللقاء بقصيدة " حكومة ظلّ" من ديوانه " أرض الصفر" : تلك المنطقة المحظورة من مدينة ذات الأبراج: يورك الجديدة، جاء في مطلعها : " ما أكتبه، ليس الشعر الموزون أو الشعر المنثور / و ما هو بالإعجاز / فقد ولى زمن الشعراء المنتفخين بأنفسهم - زعماء النظم الزائف و الزلفى- / ما أكتبه بالفحم - هنا و الآن – / محاولة للحلم و للتحريض عليه / و فلسفة للثأر من امرأة ...ولدت هذا الأسطول الهائل من حمقى العالم / و انتظرتهم حتى أثموا !" ليقتحم الشّاعر جمهوريّة ميكروسوفت ويرقص في قلب الليزر، على ضقاف وادي السّيليكون، رقصة الإنسان الجديد بأكثر من قناع.
من مناخات هذه المطوّلة الشّعريّة، هذا المقطع وفيه تجسيد لمحاورة بين سقراط وأفلاطون:
في القرن الخامس قبل الميلاد، استدعى سقراط محاوره المتألق أفلاطون..
و قال له بالحرف الغائب :
حاورني و كأنك مجنون !.
لكن محاوره المتألق أفلاطون..
تعلق بامرأة في القرن الحادي و العشرين
فلم يأبه برؤى سقراط
و لا بفلاسفة الماضي و الحكمة و القانون..
رأى المستقبل في كلمات تكتبها امرأة :
رقصا في قلب الليزر
حتى استرخاء مفاصلها و النوم عميقا في عينيه..
.. و كان يراودها من زاوية الزمن القاصي
و يردد :
كيف تعملق ميكروسوفت و أعدم فلسفتي..
لتراقصه امرأة الأضواء بكامل أحرفها..
عوضا عني ؟..
آه مني !
كم كنت بعيدا عن شفتي !
ووحيدا في لغتي !
الآن فقط
ستعاودني في القرن الخامس قبل الميلاد، الحمى..
لأعود إلى سقراط و من معه : أعمى
أعمى، أعمى ..
فارأف بي يا سقراط
أنا لم أقفز من زمني..
إلا من أجل محاورة أسمى
لكني خبت و خابت فلسفتي
لم ألق مكانا لي في جمهورية مكيروسوفت
و لم أجد امرأة تحبوني يدها كي ألثمها..
و أعود إلى نفسي
مرتاح البال و ممتلئا بشذى الأنثى/
بأظافرها في فلسفتي ‍.
لم أحظ بغير الليزر
يدفق مؤتلقا من عينيها، كالسيف..
(أقلت " السيف"؟..)
أأقصد أن الليزر أكثر إنباء في الشاشة..
من سيف يزن الـ..
بل يلزمه في الواقع، كي يزن الآتي بالماضي
آلاف الجزر الضوئية و السنوات…
كن نفسك.. كي تعفى
من وضع العبد و خذ ما يكفي من حلم
كي تشفى
من منفاك…
دمك المتدفق.. أسرع من ضوضاء الطابعة المجنونة،
غير بعيد عنك..
تقوس ظهرك أكثر مما يلزم
و الأكتاف ؟
تلاحمت الأكتاف/ تصلبت الرقبه
اجلس في وضع آخر :
في كرسي دوار مثلا…
لا‍! لا تخش المنفى ‍!
و اطرد فوبيا الكمبيوتر / كل الخوف المتراكم فيك
و لا تخش المنفى:
و اطرد متلازمة الكومبيوتر :
لا تقلق :
دع عنك نقاط الشاشة / لا تهتم بها
و اترك كومبيوترك..
كي تتفسح في البستان قليلا
لا تخش المنفى
و اطرد متلازمة السيليكون
و لا تهرب للداخل، مما يحدث أحيانا، في
الخارج..
لا تخش المنفى ‍!
لا تخش الإجهاد البصري
و هذا الماء الأزرق في عينيك!..
زمن الحمى و.. الكوليرا :
طفل يبكي ، يبكي ، يبكي..
تتناسخ صورته عبر الأصقاع بآلاف النسخ..
الكون بأكمله أعذاق نخيل خاوية..
و يد تمتد لتخمش أقصى الأرض، أظافرها…
أين الخنساء ؟
هل ابتلت في القبر بدمع الطفل، ضفائرها؟…
بعض النقده
من ديناصورات الزمن الحجري
جثوا في الشارع تحت الشرفة…
ينتقدون العالم :
كيف ترقمن ؟
و الأنموذج كيف طغى ؟
و الشاعر من عدمه ..
و الشاعر وهو يرى ما لم يره النقده
أغواه الشيطان
و لم يك- وهو يبارزه بالليزر و الكلمات- من العبده..
أغوته اللعبة :
وهو يدير حكومته العملاقة ..
من ردهات المكتبة الرقمية
يستدعي البواب ، مراجعه المتقاطعة، الموسوعة، كل فهارسها و خرائطها و بنوك المصطلحات
(وقد) تدعوه إلى المستقبل عبر الألياف الضوئية فائقة السعة امرأة من أنسجة و دم..
فيبادلها في الوقت الضائع دردشة خضراء بدردشة..
تتمدد صورته عبر المسح الضوئيّ …
ليرسلها للتو إلى معشوقته…
و أنا في الموقع ..
في صلب الترويج المتقاطع للـ"بستان"،
لـ"ثاني أوكسيد التاريخ"، لـ" أعمالي الشعرية"، لي …
ثمّ مهّد لقصيدته الثانية "ملحمة الخاتم" بما مفاده أنّ " تدحرجنا إلى ما نحن فيه اليوم، من أزمات باتت مزمنة قد تكون بدأت عوارضه، حسب الاحتكام إلى وقائع التاريخ، مع ثالث الأجداد الرّاحلين، بضياع خاتم الرسول (صلعم) في بئر أريس واندلاع "واقعة الجمل" الشهيرة وما إليها، والخاتم كما تعلمون هو رمز هويّتنا التي بضياع الخاتم، ضاعت، يقول رزوقة:
هو خاتم ضيّعته
أو ضيّعته يد من الأيدي الطّويلة
ذات زهو
ذات لهو
ذات سهو
عند بئر أريس
حتّى أنّني غادرت صحرائي
وجئت إلى هنا...
الوضع ليس ملائما أبدا
لأيّ تلاعب
بمشاعر امرأة
تعاني منذ "بئر أريس"
وضعا خارج الموضوع
ضاع الخاتم
الأجداد ضاعوا كلّهم
وكذلك الأحفاد
ضاعت جنّة أولى وثانية وثالثة
وضاع البحر بين يدي وحيد القرن
ضاع المنجنيق
وضاعت البصمات
ضاعت في الحريق مدينة أولى وثانية وثالثة
وضاع الخاتم، الإنسان والتّاريخ
ضاع الخاتم، القسمات والينبوع
ضاع الخاتم، المعنى الذّي فينا وفي الموضوع
ضاع الخاتم، الكلمات والجغرافيا
امرأة فقط
ظلّت على قيد الحياة
و منذ بئر أريس
وهي تعيش وضعا خارج الموضوع
بل هي تلك زرقاء اليمامة
أمعنت في سمل عينيها
لترحل بين عاصمة وعاصمة وعاصمة وعا...
عمياء
ذاك أقلّ فداحة
من رؤية امرأة تعسّر وضعها
حتّى انحنى لصراخها نخل العراق
وذاك، ثانية...
أقلّ ضراوة
من رؤية "السّيّاب" في تمثاله
وقد انحنى ليلمّ بين شظيّة وشظيّة أشلاءه
بل ذاك ، ثالثة...
أقلّ شراسة
من رؤية الإنسان : "رعد مطشّر" والآخرين
فريسة التّمساح والمارينز".
لغة مشفرة
مباشرة بعد فراغه من إنشاد القصيدتين، تلقّفه جمهور الطلبة بفيض من الأسئلة المربكة والمحرجة أفاض رزوقة، على امتداد أربع ساعات كاملة، في الإجابة عليها بأريحيّة الشّاعر الذي لا يهمّه، حسب تعبيره، إلاّ النّصف الفارغ من زجاجة الواقع، أمّا الجزء الملآن بما ينطوي عليه من مآثر وانتصارات، إن وجدت، فلا يهمّه على الإطلاق، داعيا في الآن نفسه محاوريه إلى ضرورة قتله، إن استطاعوا، كما يفعل هو مع نظرائه الشعراء الذين هيمنوا منذ قرون على ذائقة الجمهور المستهدف بإيقاع متخلف عن عصرنا هذا وبمضامين موغلة في القدامة وفي التغني المبالغ فيه بالأنا المريضة فقد آثر منذ البداية أن يقتل، من باب الحبّ، المتنبي وأبا تمّام ومن لفّ لفّهما حتّى يظلّوا على قيد الحياة، على خلفيّة أن شاعر أية مرحلة لا يمكنه أن يكون المتنبي أو غيره في النصّ أو في الحياة، فلكلّ شاعر يولد كبيرا خصوصيته وصوته وإيقاعه الخاصّ المتناغم مع عصره. ويتساءل:هل بإمكان شاعر من هذا الزمان أن يشهر سيفا وأن يتغنى بالناقة أو بالفرس كما فعل الشعراء القدامي وهو يعيش واقع الآلة بضغطها العالي وما يداخل الحالة البشرية من هبوبات التشيئة والهستيريا والعولمة الشرسة؟
لذلك، يضيف رزوقة، من واجبنا، كي نحقق ذاتنا وتوازننا في عصرنا هذا، أن نهدم ما بناه الآخرون، شرط أن نبني على أنقاضهم بدائل أخرى وأن نجهز من ثمّ على إحساسنا المتوارث فنصهر تراث الأجداد صهرا فلا نبقي منه للأجيال المتعاقبة إلاّ ما يبدو مضيئا، يخدم الإنسان في تطلعاته الراهنة.
وحول كيف نفهم مدى ثوريّة النصّ الإبداعيّ من عدمها ، أفاض رزوقة في تبيان البعد المتعدّد لدى شاعر المرحلة، مضيفا أنّ شاعر اليوم يمارس السياسة بالعمق الذي أعلنه نيتشه ذات فلسفة حين قال " كفى! سيجيء زمن يصبح فيه للسياسة معنى آخر" بمعنى أنّ السياسة لم تعد فن التعاطي مع الممكن كما لدى القائلين بها عادة ممارسة وخطابا بل أضحت، بالتوازي مع ذلك، لغة مشفرة يلهج بها الشاعر والفيلسوف ورجل الشارع أيضا ومن ثمّة انتهى كلّ شيء سياسة، حسب الطرح السيميائيّ والبعد المتعدد للظاهرة.
وليس صحيحا أنّ إبداعنا ظلّ رهين محبسه المغاربيّ، يدحض رزوقة ما ذهب إليه أحد المحاورين، فمع قيام "القرية الألكترونية" التي بشّر بها مارشال ماكلوهان، تلاقت الأطراف وقام واقع تواصليّ، جديد ليصبح المغمور مشهورا والقاصي في متناول العين. بل إنّ هذا الواقع الجديد قلب المعادلات ليصبح الواحد منّا عابرا للحدود بإبداعه الذي كان قديما محكوما عليه بالنوم طويلا في الدهليز.لكن مع ذلك، تظلّ مقولة "لا نبيّ في قومه" أو "زمّار الحيّ لا يطرب" قائمة لدينا على نحو مرضيّ، فادح لأسباب يعرفها ذوو القلوب الصغيرة المنتصرة بحكم العادة والانعكاس الشرطيّ البافلوفيّ للآخر المكرّس على حساب مبدع المكان ولو كان هذا الأخير "فلتة زمانه".
شخصيّا، أربأ بنفسي عن الانخراط في أيّ عمل دعائيّ من شأنه أن يحسّس أبناء وطني الكبير بمدى أهميتي، مكتفيا باستراتيجية الإبداع في صمت مع ابتسامة ملجومة على الوجه الباكي في الوقت الذي يراني فيه آخرون بأمريكا اللاتينية مثلا بعين الانبهار إلى حدّ جعل كاتبة مكسيكية تكتب ثلاثية روائية من وحي ما نشرته من شعر بالإسبانية وتجعلني بطلا محوريا فيها.
لكنّ هذا التغاضي من أهل المكان الذي ننتمي إليه روحيا وتاريخيا وجغرافيا، لا يزيدنا في الواقع إلا إصرارا على التحليق عاليا وبعيدا وضحكا على ذقون الجهلة من صغار النفوس، تاركين لهم المتنبي والشابي ودرويش وآخرين كي يدجّجوا بأسمائهم في كلّ مناسبة ثقافتهم العامّة إلى جانب نجوم الكرة وعارضات الأزياء دون أن تكون لهم أدنى موهبة في تحيين ما بالذاكرة لاستيعاب أسماء أخرى، قريبة منهم جدا إلى حدّ أنهم لا يرونها لكنها طليعية ورائدة في أصقاع أخرى وهم لا يفقهون.
تشعبت أسئلة المحاورين حول الهدم والبناء، طقوس الكتابة، المرأة كمصدر إلهام دائم، الكتابة والعري،إلى جانب أسئلة أخرى، حارقة أجاب عليها يوسف رزوقة بكلّ تلقائية لتسلّمه في ختام اللقاء إحدى الطالبات رسالة جاءت في شكل قصيدة تقول في أحد مقاطعها" قد رأيتني مصلوبة في هيكل شعر ورأيت أحد عشر قربانا والحرف والأبجدية لي يسجدان، فكيف لي بنبوءتك وأنت قابع في كهف أفلاطون تسبح بالعشق لظل اله؟" لتختمها بتمنياتها بقتله، بناء على دعوة ضيف المكان إلى ذلك في بداية اللقاء..
شعر ورسم ومحاضرة حول التخلف الآخر
هذا والتقى الجمهور الطالبيّ في اليوم الثاني مع الشّعراء التونسيين المنصف الوهايبي الذي قرأ قصائد جديدة من ضمنها قصيدة "المائدة" مهداة إلى شوقي أبي شقرا، فتحي النصري، صلاح بن عياد إلى جانب الشاعر اليمنيّ أحمد السلاّمي الذي رافقه الشاعر يوسف رزوقة إلى الأمسية حتي يتواصل مع نظرائه من الشعراء التونسيين ومع الجمهور من خلال قراءات شعرية له.
وفي اليوم الثالث، ألقى عالم الاجتماع الدكتور محمود الذوادي محاضرة بعنوان " التخلف الآخر: أزمة الهويات الثقافية في تونس والوطن العربي" مع فسحة موازية للشعر والرسم.
وبرمج اليوم الختامي، الجمعة 30 نوفمبر / تشرين الثاني2007، للشعراء شاكر اللعيبي من العراق، هادي دانيال من سوريا ومحمد الهادي الجزيري من تونس.

الأربعاء، نوفمبر 28، 2007

ِعتاب الى قلبي

عيسى القنصل

كفى شوقا ايا قلب اليهــــــــا
كفى خفقا ً على امد الليالـى
فما عادت كما فى الامس كانت
حبيبتنا ولا خطرت ببالـــــى
هى الايام تجرى دون قلــــــب ٍ
تحاربنى فمن حال ٍ لحــــــال
وذاكرتى غدت قبرا قديمــــــا
وامنيتى بدت اقصى المحـــال ِ
فاشرعتى ببحر الحب صــارت
ممزقة ً وجامدة الخيـــــــــــال
ونبض القلب يحرقنى بشـــــوق ٍ
لينثرنى كعاصفة الرمــــــــال
وسيدتى تحيل ُ الحلم َ جرحــا
ولا تعطى جوابا للســـــــــــوالِ
ولا امل ُ لقصتنا سياتــــــــــــى
فقصتنا ..مضت نحو الـــــــزوال
كأنى فى بحور الوحل امضــــى
الى ارض التحدى والمحــــــــــال
فعاطفتى تنادى اين انــــــــــــــت
وقلبى ينتشى رد الســــــــــــــــؤال
انا المخنوق فى حبل انتظـــــــــارى
انا المزروع صخرا فى الجبـــــال
ثوانى العمر تمضى يا ســــــــراب ُ
اناديها ..اناديها تعالــــــــــــــــــى
فلا الاذان صاغية ُ الينــــــــــــــــا
ولا الابصار تنظر ما جرى لــــــى
فسيدتى غدت من غير ارضـــــــى
طواها الوهم فى ارض الخيــــــــال
(((())))(((()))(((())))
اسيدتى وانت النبض عنــــــــــدى
حضورك دائما يعنى اكتمالـــــــــى
فشعرى اليوم منتسب ُ اليـــــــــــــــك ِ
كدالية ٍ واوراق الدوالــــــــــــــــــــى
فحبك ِ خفقة ُ فى عمق قلبـــــــــــــــى
ووجهك ِ صورة ُ دوما ببالــــــــــــــى
وحين الدهر ُ يمطرنا جفافـــــــــــــــا
لثانية ٍ ارى طول الليالـــــــــــــــــــى
فلا عجب ُ ففى الاعماق حــــــــــــــب ُ
لفاتنتى وسيدة ِ الكمــــــــــــــــــــــــال
لوجة ٍ باسم ٍ خلف الحجــــــــــــــــــاب
مضاء دائما مثل الهـــــــــــــــــــــلال

عشت ُالحياة

د. نوري الوائلي


عشت ُالحياة َبعشق الطامعِ الولع ِ= والعشق ُ غرسٌ على الجينات ِ والطبع ِ

هذي الحياة بما تحوي على محن ٍ = خضراء ُ في العين ِكالأطفال ِفي مُتع ِ

جئنا اليها وعشنا خيرها طربا ً= والكرب عشنا على الآمال ِ والوجع ِ

ما أجمل العيش في الدنيا فلا عجبا ً= نحيا كمن آمن الدنيا بلا قشع ِ

أحببتُ عمري وضوءَ الشمس مرتفعا ً= والنجم بالليل والأسحارفي ولع ِ

أحببت ُخضراءَ عين ٍما بها علل = مكسوّة ٌبحجاب ساتر نجع ِ

جميلة ٌهي دنيانا بها عجب ٌ = في كل واجهة ٍ لون ٌمن المتع ِ

تحوي الحياة ُ جميلَ الخلق منتظما ً= كالشمس والبدر والأغصان والبجع ِ

الله قد أمرَ الإنسان من أزل ٍ= تعميرُ دنيا على الخيرات ِ والنفع ِ

الخيرُ فيها كثيرٌ حين تحسبه = قد فاق كل ّ خيال ٍ واسع الوسع ِ

لكنّ عينَ عباد ٍلا ترى حسناً= إلا بفقد ِنعيم ٍكان في شبع ِ

أن جاءَ يوم ٌعلى الأنسان ِفي فزع ٍ = ضاقتْ هواجسه والنفس ُ في جزع ِ

لا لن ترى العين ُإلا ما يؤرقها = عمياءُ عن نعم ٍ لا حد َ في لمع ِ

هذي الحياة بها الأمال قد ولدت ْ= مهما علت عاصفات ُالظلم ِ والجشع ِ

هذي الحياة الى النيام ِ طالقة = حبلى من العامل الولهان في نبع ِ

اعملْ بدنيا ولا تخضع لفاجعة ٍ= أو نائبات ٍبثقل ِالأرض ِ والهلع ِ

ابن الحياة َوكنْ في كل فاضلة ٍ= نارا ً على علم ٍ كالماء ِفي الترع ِ

اطمحْ لنيل هلال ٍفي العلا طلع = فيه الحصاد كصدر ٍ يانع ِالضرع ِ

ابن الحياة بناءا ً هادفا ً رحما ً= وأملْ به حلم َرب ٍ لحظة الفزع ِ

اعملْ لآخرة ٍ فالعمرُ مزرعة = تعطي الثمارَ بيوم ٍأعجف ٍ سفع ِ

انّ الحياة حقول زرعها لغد ٍ = ان تزرع الخيرَ يأتِ الأجرُ في ريع ِ

الناسُ موتى وعند الموت ِمولدهم = إلا التقاة فهم يحيون في هجع ِ

لا خيرَ في العيش إن يفنى بلا عمل ٍ= قد أوفد المرء َخلدا ًفي علا القلع ِ

ما قيمة الناس إن لم يعرفوا قلما ً= فالجهلُ لن يسعفَ الأنسانَ من ضيع ِ

تبا ً, إذا قلمٌ قد باعَ مفتخرا ً = مرضاة َرب ٍ بدنيا ظالم ٍ بدع ِ

ركضا ً وراء المنى والمال مطلبه = تنهى الحياة ُبلا شبع ٍ ولا قنع ِ

لا خيرَ في العمر ِ إن سارتْ مراكبه = سيرَ السحاب بلا غيث ٍ ولا سطع ِ

قد خابَ انسٌ على الشيطان متكئ ٌ= قد خابَ ساع ٍلهدم الخير ِوالقلع ِ

اعملْ بجد ٍ وان شيبا ً علا صدغا ً = فالشيب ُ تاج ٌعلى الهامات ِكالشمع ِ

إن طال َعمرك سبعين بلا ثمر ٍ = فازرعْ , فزرعك بعد الموت ِفي ينع ِ

واخلفْ بدنياك ما لم يأت ِمن أحد ٍ= مثلَ العلوم ِ وآداب ٍ بلا سلع ِ

الناسُ تلهو بدنيا ملؤها حمم = تروي خسيسا ًوخيرُ الناس ِفي منع ِ

لا تلهونَّ بدنيا واغتنم فرصا ً= فالعمرُ كالحظ ِ قد يمضي بلا رجع ِ

واجعلْ حياتك ضوءَ البدر في حلك ٍ = وانسج ْمن الشمس قطرات إلى الزرع ِ

دمع ٌمع العيش يبقى لا فراق له = والعيشُ راحته نفسُ بلا جزع ِ

بل راحة العبد ِ أيمان بخالقه = والموتُ نور ٌ لمن يحيا على ورع ِ

ياربُ أسعدْ حياتي بالرضى أملا ً= والحالُ مؤتمن ٌوالبال ُ في قنع ِ

صباحكم أجمل \ تلال ضيعتنا


زياد جيوسي

أحد بيوت رام الله الجميلة في شارع حيفا (بعدستي الشخصية)
تصحو رام الله على صباح آخر، صباح خريفي بارد كصباحات وأمسيات خريف رام الله، بعد يوم سادته الفوضى وتشويه وجه المدينة، ففي الأمس كنت أنتظر ضيوفاً من الداخل الفلسطيني، يحملون معهم حبق الناصرة ونسمات المثلث، وطيبة وجمال أهلنا في الداخل، وحين وصولهم اتصلوا معي وقالوا كعادة القادمين من خارج المدينة: نحن موجودين في دوار الأسود، وهو الاسم المتعارف عليه من قبل زوار المدينة بدلاً من اسم المنارة، وهو النقطة التي لا بد أن ينتظر بها كل قادم من يريد أن يلتقي.
خرجت إليهم وكان هناك تجمع قد بدأ بالاحتشاد في الساحة يرفع الأعلام الأعلام الفلسطينية، وكانت الصحافة الفلسطينية قد أعلنت عن مسيرة تطالب بالتأكيد على الثوابت الفلسطينية، ولكن ورغم أن كل مفاوض رسمي بحاجة إلى المعارضة لتقوي موقفه، إضافة لحق الناس أن تعبر عن وجهة نظرها فيما يجري، إلا أن الصدور ما زالت تضيق بالرأي الآخر، وتصر على أن لا معارضة لرأيها وأنها فقط من تمتلك وجهة النظر، ورغم سلمية المسيرة إلا أني فوجئت بعملية قمع واعتقالات وضرب لبعض الموجودين، ومصادرة لليافطات والأعلام الفلسطينية، ومنع المصورين وتعرض بعض الإعلاميين للإساءة ومنعهم من التصوير، وبتقديري لو سمح للمسيرة أن تمر لكان أفضل، فالأعداد لم تكن بتلك الضخامة، ومن خرجوا بالمسيرة وجوه معروفة من القوى الشعبية والتنظيمات الفلسطينية، ولكانت المسيرة عبرت عن وجهة نظر المشاركين وانفضت بهدوء.
احتجت إلى وقت حتى تمكنت من العثور على ضيوفي بسبب الفوضى التي نتجت عن تدخل رجال الأمن، وكانوا في غاية الانزعاج مما رأوه، إضافة للاستياء الذي سمعته من أفواه المواطنين الذين صدف تواجدهم، وغادرت وضيوفي الموقع وندبات تحفر نفسها في النفوس، لمتابعة برنامجهم الذي أتوا من أجله، لنسمع بعدها عن مسيرة أخرى خرجت من أحد المساجد يقودها حزب إسلامي وجرى قمعها وإطلاق الرصاص في الهواء، إضافة لمسيرات أخرى في مواقع متعددة من أنحاء الوطن، أدت لسقوط ضحية في الخليل إضافة للجرحى والمعتقلين، في الوقت الذي خرج فيه ما يزيد عن عشرة الآف من المتشددين اليهود للتظاهر والاعتصام قبالة بيت رئيس وزراء العدو، ولم يجري قمعهم ولا منعهم، وسمح لهم بالتعبير عن وجهة نظرهم، فكما أسلفنا فأي مفاوض رسمي بحاجة للمعارضة لتقوي من موقفه، وليس بحاجة لشعب من الخراف لا يُسمح له بإبداء الرأي.
أيامي الماضية حفلت باستقبال الضيوف القادمين من الداخل، فالعديد قد حضروا ليتعرفوا على رام الله من أصدقاء قلمي ونصوصي، فكانت فرصة للتعارف الشخصي لمن لم التقيهم سابقاً، وترسيخ علاقات الصداقة مع من التقيتهم بالسابق، وأتاح لي فرصة التجوال معهم لساعات طوال في المدينة، ليتعرفوا من خلال هذه الجولات على معظم معالم المدينة، إضافة لمراكزها الثقافية كمركز السكاكيني وقطان والقصبة والكمنجاتي ومركز بلدنا في البيرة الذي لا يخلوا من معارض الكتب، والتي شكلت للصديقة الكاتبة دارين طاطور، فرصة للحصول على الكتب التي تريدها بأسعار معقولة بالنسبة لها، وكم كنت مسروراً وأنا أرى معالم البهجة على الوجوه، والفرحة بالتعرف على مدينة رام الله وجمالها، وعودتهم بانطباعات حلوة عنها.
وأجمل حدث كان في الأيام الماضية اللقاء المفتوح الذي دعت إليه بلدية رام الله مع المواطنين، بحضور المحافظ ونائب مدير الشرطة، وبحضور كبير وحشد مميز من المواطنين والمهتمين، وكانت فرصة ليدلي كل بدلوه، ويقدم المواطنين شكواهم وأرائهم، ووجود المحافظ والذي عرف عنه اهتمامه الشديد لقضايا المحافظة، إضافة لاهتمامه بالثقافة والفن، وهذا ما يميزه عن غيره، إضافة لوجود نائب مدير الشرطة، فكانت فرصة لإيصال الآراء والملاحظات، والسماع منهم ومناقشتهم، وقد لمست اهتماماً كبيراً بتسجيل الملاحظات طوال الوقت، وعلى مدى يقارب الأربعة ساعات سادت الايجابية اللقاء، وهذه اللقاءات سنة حميدة سنها المجلس البلدي المنتخب، فهذا ثاني لقاء عام مع المواطنين، إضافة للعديد من اللقاءات عبر العامين الماضيين للمهتمين بشأن المدينة سواء في مقر البلدية أو مقر مكتبة البلدية، وفتح أبواب البلدية للاستماع للنقد والحوار والمناقشة، ولا يسعني إلا أن أثني على سعة الصدور في تقبل الملاحظات والهجوم القاسي من البعض.
أعود من جولة قصيرة في المناطق القريبة من صومعتي، أتأمل الحمائم وهي تحط على نافذتي تلتقط حبات القمح التي أضعها لها، مستمتعاً بأصواتها مترافقاً مع صوت فيروز، ممتعاً نفسي بفنجان قهوتي الصباحي الجميل، مستعيداً بعض من مسيرة الذاكرة والطفولة، حيث الصفاء والنقاء والجمال وتطور المسيرة الشخصية، عبر ذاكرة وطن ورحلة شتات ومنافي.
تركت المدرسة الرسمية الأولى أثرها في حياتي وروحي، فالمدرسة الواقعة في جنوب عمان كانت في حي عرف لاحقاً باسم حي "الشعيلية"، وكانت واقعة بين بداية امتداد الصحراء الجنوبية والمدينة والمخيم، وفي الساحة المقابلة للمدرسة كان يقام كل أسبوع سوقاً لبيع الإبل، وكان منظر الإبل بضخامتها يثير في نفسي الرهبة، وكان الطلبة خليطاً من الحضر والريف والبادية، وكنا نقف في ساحة المدرسة كل يوم ننشد نشيدين أمام العلم، النشيد الأول لمليك البلاد يقول مطلعه: "دمت يا شبل الحسين قائد الجيش الأبي، وارثاً للنهضتين دمت جيش يعربي"، والثاني مطلعه: "نحن الشباب لنا الغد ومجده المخلد"، وكان هذا واجب يومي لا نعفى منه إلا بأيام المطر، ولعل أسوء ما في الذاكرة عن تلك الفترة قيام المدير بالتفتيش على الطلبة في الساحة، ورغم أننا كنا نحلق شعورنا على "الصفر"، إلا أن فراش المدرسة وتحت إشراف المدير كان يدهن رقابنا بمادة "الجاز"، تحت دعوى مقاومة القمل والمحافظة على النظافة، ولا يعفى أحد منا من هذه العقوبة التي تجرح مشاعر الطفولة في أرواحنا، إضافة لمعاقبة من يطيل شعره بحيث يتمكن المدير من التقاطه بين رؤوس أصابعه، ويا ويل من لا يحمل منديلاً في جيبه، أو يجد أن أظافره طالت قليلاً، فالعصا حاضرة للعقوبة في الطابور الصباحي، فكل يوم بعد النشيد وتحية العلم، كنا نمد أيادينا أمامنا ونحن نضع منديل القماش بداخلها، فيمر المدير والمدرسون في جولة التفتيش، والتقاط المخالفين وإخراجهم من الطابور، ومن ثم معاقبتهم أمامنا بالضرب على الأيدي، أما داخل الصف فمن لا يحفظ الدرس فكانت عقوبة الضرب تتنوع حسب مزاج المدرس، فأستاذ اللغة العربية كان يعاقب الطالب المقصر بالضرب على المؤخرة بعد أن يمسك أياديه أضخم طالبين في الصف ويحنوه على المقعد الأول، أما أستاذ الدين فكان يحب أن يمارس العقوبة بالضرب بمساحة لوح الدرس على ظهر اليد، أو قرص الأذن بواسطة حصاة يحملها بجيبه، إضافة للحجز بعد انتهاء الدوام لمدة ساعة في غرفة الصف، ولا اذكر أني عوقبت إلا مرة بالتأخير فقط لكوني أخطأت بحرف في آية لا غير، وكونها المرة الأولى اكتفى الأستاذ بحجزي بعد الدوام، وحين اذكر هذه العقوبة أبتسم وأقول لنفسي: كانت تجربة الاعتقال الأولى في حياتي، والتي استدعت فيما بعد سنوات وسنوات من تجارب الاعتقال والسجن.
"لو كان الفقر رجلاً لقتلته"، هذه المقولة التي لا أنساها، ففي تلك الفترة أعلنت المدرسة عن رحلة للبحر الميت، وسجلت اسمي ضمن من سجلوا، وأبلغت أهلي في المساء وكنا في زيارة لبيت جدي لوالدتي رحمه الله، وفوجئت أن مبلغ "الشلن" كما نسميه وهو فقط خمسون فلساً رسوم الرحلة لا يمكن لوالدي توفيره، فأجهشت روحي بالبكاء والألم، وكل ما كان مع والدي مبلغ عشرون فلساً أو كما نسميها "قرشين"، واستكمل جدي المبلغ بعشرين فلساً وأخوالي الكبار الاثنين كل بخمسة فلوس وكنا نسمي قطعة الخمسة فلوس "التعريفة"، حتى تجمع المبلغ الذي لم أتركه طوال الليل من يدي حتى دفعته للمدرسة ثاني يوم، ويوم الرحلة كانت الوالدة الحنون قد تمكنت من تجميع عشرين فلساً قطعة واحدة أعطتني إياها كمصروف، وكنا نسمي هذه القطعة "القرطة"، إضافة لوجبة غداء عبارة عن قطعة خبز وبعض لفائف "الملفوف" القرنبيط بالرز وبدون أثر للحوم بها، فمن كان يمكنه أن يعرف اللحم إلا بعيد الأضحى؟، لكنها كانت الرحلة الأجمل في حياتي وربما لأنها كانت الأولى، وربما لأني كنت أرى البحر الميت لأول مرة ، فلم أتمالك من إلقاء نفسي كباقي الطلبة بالماء الشديد الملوحة.
صباح الخير يا رام الله، صباح الخير يا وطن، صباح الحلم الذي نحلم به، الوطن الحر والشعب السعيد، وطن بلا احتلال ولا تسلط، وطن الحرية و المحبة والجمال والزيتون، وطن الحلم والربيع والأزهار، صباحك المشرق يا رام الله، وأنا أقف لنافذتي وحيداً متوحداً متأملاً، أحتسي قهوتي وحيداً وشعور بالوحدة يجتاحني، أستمع لفيروز وشدوها:
"بضل فيها اثنين عيون حلوة وأيد، يعمروا من جديد ضيعتي الخضرا عا مد العين، وصغيره ومشيرة على الغيم بتزوغ وبتحكي عصافيرها، شو بيمرق عليها رياح وغيم وبتضل تلاقي نواطيرها".
صباحكم أجمل.

رام الله المحتلة

الأحد، نوفمبر 25، 2007

"ملح وشرر وحب" في نص للكاتبة: راوية بربارة



زياد جيوسي
لنصوص الصديقة الطيبة راوية بربارة نكهة خاصة، وفي قصصها أو لأقل نصوصها ميزة تختلف في التعامل مع النصوص الأخرى، وهنا أتكلم عن نفسي ولا أشمل غيري، فحتى أتمكن من الغوص في مكنونات نصوصها، كنت أتابع ما تكتب نصاً اثر نص، كي يشكل التراكم عندي بحراً أدبياً يمكنني من الغوص في مياهه وتحدي أمواجه، وان كنت أخشى الخوض في نصوص راوية سابقاً رغم ملامستها لذائقتي الأدبية، خوفاً أو تجنباً لسبب أو آخر في داخلي، وحين التقينا على هامش "دوثان" برفقة الأصدقاء، وجدت أن ما أخشاه من عملية الغوص في نصوصها، هو ليس أكثر من وهم مقابل شخصيتها الطيبة والبسيطة والقريبة من الروح والنفس.
وفي ذرة ملحها المسكوبة فوق الشرر المتطاير، وجدت نصًّا خاصًّا متميّزًا، يدفع المرء للغوص فيه، فهو بحر مستقل عن باقي البحار، وكما تقول الصديقة الكاتبة إيمان ونوس: "قالب قصصي رائع لا يتمكن منه إلاّ فنّان في تناول المشكلة وتحويلها لقّصٍ رائععلى لسان أبطال هم من واقع حي معاش في كل مجتمعاتنا العربية والشرقية"، فهنا نجد الراوية راوية تتحدث بلسان رجل، رجل يمتلك قلباً " تراكم الثلج فوق نبضاته منذ زمن"، في نهار " يستوعب كل التناقضات المرئية واللامرئية"، يحلم بالحب ويخشاه " أحلم بيومٍ تنطلق فيه نظراتي وتصطدم بنظراتٍ تُلهب هذا القلب"، رغم أنه " قلبٌ هُزِمَ مرّة فأغلق أبواب حجراته وخبّأ المفتاح في جنبات العقل"، رغم أنه يحن للأجواء العائلية والأسرية " والروح توّاقة والجسد يحنّ للمسةِ عطف"، " آه يا معدتي الخاوية.. تشتهين الأطباق البيتية الدافئة ولا تأكلين إلا في المطاعم.. وحيدةً تطحنين خبز الحياة دقيقاً"، لكنّه الخوف من التّجربة هو ما يقف حائلاًُ " غدت الأنثى بالنسبة له مجرّد جرح"، فهو يرفض أن يعيد التجربة ولا يسمح لقلبه بالضعف أمام الحب مجدداً " أكثر من سهم كسرتُ نصله قبل أن يخترقني.. وهل أنا أخرق لأسمح لها أن تهزأ بي ثانية"، فالمرأة بالنسبة له أصبحت تُشكّل خوفاً في النّفس، مساساً بالرجولة وإذلالاً لها، تتسلى بالرجل وتتخذه زينة لا غير "أن تهبني حبّها ودموعها.. فتذلّ رجولتي أمام ضعفها"، " تشكّلني ثانية معدناً نفيساً تتزيّن به".
هكذا نجد الأنموذج الذي اختارته الكاتبة للرجل في نصّها، فهو أنموذجٌ من الرجال الذين يخشون الحبّ، يخلطون بين مفاهيم مختلفة، تكرَّس في أرواحهم فكرة الرجولة، فيجد أن أيّ تنازل مساساً في رجولته، فالمرأة في مفاهيمه "تظن العاشق عبداً فتحمل له عصا الشّوق والدّلال تؤدّبه بها"، ينسى أو يتناسى أنّ الحبّ يسمو فوق هذه المفاهيم، وأنّ الحبّ كان ولم يزل دومًا عطاءً متبادلاً.
يجلس في مطعم ليتناول طعامه وله في ذاكرته تجربة فشله في الحب " وجدت مطعمًا مليئاً بذكرياتي"، يأتي به القدر بين منضدتين، " خلفها عاشقان يتقابلان بالنظر.. وأمامها عائلة تضجُّ جلبة وحركة وأطفالا"، وهذا الموقع للمنضدة كان له تأثير خاص عليه، فهو ما زال يحلم بامرأة وأسرة، " هذا التّوسط أعجبني.. أخرجني من وحدتي وأفكاري.. أدخلني العالم الحقيقي الذي أتمنّاه.. الذي يمثّل حاضري القريب ومستقبلي"، فهو ما زال رغم تشنجه يحلم بالحب ولكن ضمن مفاهيمه هو، لا ضمن ما يكون عليه الحب حقيقة "لن أكون وحيداً"، " فلربما تكون تلك المرّة الأخيرة التي آكل فيها وحدي.. أو آكل فيها خارج بيتي"، وفيما هو ضمن هذه الفكرة والحلم بالمرأة التي تقدم أنموذج العبد الذي يهمه إرضاء سيده، بدون أن تكون له كرامة، فمنذ متى يكون للعبد كرامة!، فهكذا يريد من امرأة المستقبل أن تكون.
"اختلفَ العاشقان"، وكأن الخلاف مرفوض ولا يحق للمرأة أن تثور، " تطايرت الكلمات شرراً من فمها"، أما العاشق فبقي صامتاً أمام هذه الثورة للمرأة، "والعاشق مُصاب بالذّهول"، وهذا الصمت أثار حمية الأنموذج الذي قدمته لنا الكاتبة، فهو كما أسلفت يرفض للمرأة مجرد المناقشة، فهذا في عرفه مساساً بالرجولة وإهانة لها، "ما هذا الصّمت، وهذا الضّعف أمام حبّات اللؤلؤ الأنثوية المنزلقة من عينيها؟"، انه تساؤل العقلية الشرقية المغلقة، التي تمنح الرجل حقوق السيد المطاع، ولا يحق لامرأة أن تناقشه، أو تثور في وجهه، ومجرد الصمت أو محاولة احتواء الموقف تخرجه من عالم الرجولة وتحيله إلى مجرد أبله، " لماذا لا يحرّكُ هذا الأبله ساكناً"، وان تجرأت المرأة فالرجولة تقتضي منه التصرّف الفوري، " لو كنتُ مكانه لقامت كرامتي تثأر لنفسها من هذه المتعالية المتغطرسة.. لو كنتُ مكانه لتركتُها ثائرة وأدرتُ ظهري خارجاً دون عودة"، فلا بد للرجل في عرف مفاهيمه أنْ يتصرّف فوراً وإلاّ أهان ليس نفسه فقط، بل أهان كل الرجال وكل مفاهيم الرجولة، "خبّأتُ رأسي خجلا من ضعفه"، فالرجل عليه التصرّف الفوري مع المرأة وعليه "أن ينتشل رجولته من وحل صراخها"، على الرجل أن يتصرّف وأقل تصرف في مواجهة المرأة التي تخرج من دورها المرسوم كعبد، وترفع صوتها أو تثور كعبد آبق هو، " أو على أقلّ احتمال لكنت رميتُ زجاجها الهشّ بحجارة إبائي وعزّة نفسي".
ضمن مفاهيمه المتخلّفة نظر للعاشق فوجده ينهض من مكانه، ففكر أن هذا الحركة تعني " قام من مكانه.. سيغادر حتماً ويتركها ذليلةً.. سيفرش الصقرُ جناحيه وينقضّ على سلحفاة تخبئ رأسها وتحتمي بقساوة تصرّفها..."، فضمن مفهوم الرجولة المزيفة هذا أقل ما يجوز فعله، ولكن " رمى بتوقّعاتي عرض الحائط"، فهو لم يغادر ولم يسء إليها ولم يرفع يده عليها ولكنه "خبّأ رأسها في صدره.. عانقها.. مسح دموعها بشهامةٍ.. فاستسلَمَتْ له..أرختْ حاضرها في حضن رجولته وتمسّحت بكرامةٍ يحملها نياشينَ على صدرهِ ورتباً على أكتافه.. فاحتواها..".
لم يكن هذا الذي جرى فقط، فالأسرة التي تجلس أمامه مكونة من أب وأم وأطفال، هذه العائلة نشب في صفوفها خلاف فجأة " لكنّ العائلة أمامي قطعت حبال دخاني بصراع أخويٍّ ونقاش محتدمٍ"، هذا الخلاف الذي لم يعرف كيف بدأ وكيف اشتعل "ربما انشغالي بالعاشقين فوّتَ عليّ معرفة التفاصيل"، وضمن نفس العقلية التي تحكم هذا الأنموذج الذي استحضرته الكاتبة، وهو أنموذج شرقي منتشر بكثافة في مجتمعاتنا، نراه يصف ما يراه "آثر الأب أن ينسحب خارج دائرة القرار.. فتحوّل من حيادي إلى متّهم، بلا مبالاته، بصمته وبتهرّبه."، فالأب هو الرجل والرجل يجب أن لا يتراجع أو يصمت، انه نداء الرجولة بغض النظر عن النتائج، فكيف حين يكون الخلاف مع المرأة، الصمت مرفوض ففيه مساس بالرجولة، "ربحت الأمّ الجولة الأولى لأنّ هيئة التحكيم من بقيّة أفراد الأسرة المحايدين وقفت إلى جانبها.."، والرجل لم يتصرف كما تقضي رجولته، فهو "حاولَ رفع راية الصّلح ببسمةٍ.. لكنّ احتدام الموقف لم يحتمل، ضاعت بسمته هباء."، فالرجل مهزوم فقط لأنه صمت أمام الموقف، هذا الصمت الذي فسره الأنموذج المستخدم " تحسّسَ الوالد رقبته.. وشعر أنّ أحدهم يلفّ حبل المشنقة حول سني عمره التي قضاها يلملم أشلاء نفسه". إذًا ما يجري أمامه يعطيه الفرصة ليؤكد ما بداخله من مفاهيم مشوهة يظنها هي الصحيحة والحقة، فهو يرفض التنازل للمحبوبة لأن في ذلك مساساً بالرجولة، ويرفض الزواج لأن ما يراه يدفعه لرفض الزواج " هذا المنظر العائلي المألوف لي جدّاً.. هو نفسه الذي يحتويني كلّما فكّرتُ في الاستقلال.. بل في السّجن الإرادي.. لا أفهم كنه هذا القفص الذي يشدّك إلى داخله، وإذا ما دخلتَ يغريك للخروج منه.."، وكأن الحياة هي حالة من تسلط الرجل فقط، لا مجال لحوار معه أو رفض أوامره، وكل ما يمكن أن يحصل من سلوك المرأة هو مساس بالرجولة، لذا فالحرية بدون قيود الزواج أو المرأة هو الحل الأنسب، "بعد ما رأيتُ الآن، أدركتُ بأنّني على يقين.. فمن ذا الذي تسوّل له نفسه أن يسجنها خلف جُدُرٍ أصلب من الحديد"، ويؤكد ذلك لنفسه بقوله: "أنا على يقين الآن أكثر من أيّ وقت بأنّه لا أروع من جناحين يحلّقان بكَ بعيداً.. فلا أعباء عائليّة تنوء تحتها.. ولا مسؤوليات تعلّقها في رقبتك كحبل المشنقة". هذا النموذج الذي قدمته لنا الكاتبة، رأيناه بكل وضوح يمثل العقلية الشرقية، تضعنا أمام حدثين عاديين في الحياة، فلا حياة بين اثنين بدون خلاف، ولا توجد أسرة تخلو من بعض الإشكالات والخلافات الطارئة، والحياة ليست طرف غالب ومغلوب، الحياة تعاون مشترك وتنازل من الطرفين، وإلا استحالت الحياة المشتركة، ولو فضل كل رجل أن يبقى أعزب ليبتعد عن ما أسماه الأنموذج المطروح أمامنا " جُدُر تراوده في أحلام يقظته وتطارده في المنام"، لاستحالت الحياة ولانقرض البشر.
لكن.. تبقى الروح الإنسانية تستفيد من التجربة، تعمل التفكير فيما تراه، تستفيد مما يحدث، فالبعض يأخذ عظّة، والبعض يصرّ على مواقف لا تمت للروح الإنسانية بصلة، فيا ترى ما هو النموذج الذي تقدمه لنا الكاتبة من هذه النماذج، لنرى ردة الفعل النهائية..
ففي مشهد العاشقين نرى " خبّأ رأسها في صدره.. عانقها.. مسح دموعها بشهامةٍ.. فاستسلَمَتْ له..أرختْ حاضرها في حضن رجولته وتمسّحت بكرامةٍ يحملها نياشينَ على صدرهِ ورتباً على أكتافه.. فاحتواها..".
وفي مشهد الأسرة نرى "فجأة قامت الفتاة الصّغيرة.. حرّكتْ غدائرها بدلال.. اتّجهتْ نحو والدها ضمّتهُ.. عانقته معتذرةً.. رسمتْ على خدّه قُبلة خجَلٍ.. فنظر بقيّة الأولاد إلى بعضهم شزراً، مؤنّباً أحدهم الآخر.. ثمّ تراخت الجفون المعقودة وحلّتْ مكانها نظرات معتذرة.. مدّت الأمّ يدها بكأس العصير.. روت الأب وهدّأت روع استفزازه".
وهنا أعود للحديث عن التميّز الذي أظهرته راوية بربارة في نصّها، فهي قد تمكّنت من تقمص شخصية الرجل الشرقي بكل مهارة وقدرة، ومن يقرأ لها يظن أن تخصصها العلمي هو في علم النفس، بينما هي خريجة قسم اللغة العربية، وهي وكما قال البروفسور جورج قنازع: "باحثة تملك القدرة الفائقة على التحليل والقراءة المغايرة، وتبحث عن الزوايا الغامضة لتنيرها بعمق الرؤية والدليل الساطع"، وفي نفس الوقت تمكنت من الدخول لأعماق الروح البشرية، وظهر هذا جلياً بالشخوص التي استعرضتها، الرجل، العاشق، الأب.. وهي نماذج لثلاثة رجال، كل منهم يتصرف أمام الحدث بشكل مغاير، إضافة لتمكنها من سبر غور مشكلة موجودة في مجتمعنا، والإحاطة بها من خلال أسلوب قصصي جميل وممتع، فوضعت المقدمات الصحيحة في مكانها، جعلت القارئ يعيش الحدث بأدق تفاصيله، وفي النهاية وبعد تشويق القصة أعطتنا النتيجة.
لقد رأينا كيف تصرف العاشق، وكيف تصرف الأب، وما هي الأفكار التي سادت تلافيف الدماغ للرجل المراقب، فما أثر هذه الأحداث التي رآها بعينه وسمعها بأذنه عليه؟ ففي نظرته للعاشق ومشاهدة كيف انتهى الخلاف وصل إلى نتيجة " انتصر بصمتٍ علّمني أنّ الرجولة صبرٌ وسعةُ أفق.. وأنّ الحبّ إذا تنازل مرّة لا يطأطئ رأسه.. بل ينحني ليقطف العوسج والياسمين"، إذًا ما رآه وسمعه أعطاه درسًا أنّ الرجولة هي سلوك وليست تشريحا ذكوريّا، وأن الحبّ إذا تنازل مرة فهذا لا يعني طأطأة الرأس ولا المساس بالكرامة، فالحياة ليست قالباً واحداً، ونفسيات البشر تختلف، لكن ما لا خلاف عليه هو أنّ الحبّ القائم على التفاهم، هو القاسم المشترك بين الناس، وهو كما كتبت إيمان ونوس: "هو ذا الحب الحقيقي والصادق من الطرفين ينحني لا ليقطف فقط العوسج والياسمين، وإنما نجوم سماء الحياة والحب ليرصع كل منهما بها روح الآخر حباً وثقة وتفانياً يتناسب مع حب حقيقي نقي وصادق".
وعلّمته حكمة الأب وسلوك الطفلة ثم الأبناء والزوجة أن نسمات المحبة بالتفاهم لا بد أن تنتصر " هبّت نسمة باردةٌ رطّبتِ الأجواء.. فشعرتُ للمرّة الأولى أنّ روحي الساغبة وجدتْ منبعها.. وهدرت شلالات المحبّة في كياني يتناثر منها رذاذ يطفئ كلّ شرر".
والنتيجة هي عودة العقل للتفكير، والروح للسكينة، والأفق للتفتح "أيقنتُ أنّ أيّ واقع سأختاره هو شرارة لا بدّ منها.. كلّما احتكّ عودها بالكبريت سيشتعل، لكنّها إذا لم تجابَه بما يغذّي لهيبها..انطفَأتْ.."، وأنّ الحبّ هو مفتاح الحياة ولا ينتهي أبداً، ولا يرتوي منه الإنسان متى عرفت روحه نبع المحبة، " الروح مهما نغبت من جرعات الحبّ لن ترتوي"، والحياة ليست توافقا دائما، وبعض الخلافات كالملح يعطي للطعام طيبة وطعماً أجمل، وأننا يمكننا أن نتحكم بكمية الملح على الطعام كي يكون أطيب، لا أن نسكبه بدون انتباه فيفسد، كما هي المشكلات في الحياة أيضاً " رششتُ الملحَ فوق طعامي ليطيبَ.. كما تطيبُ الحياة بملح شررها".
http://ziadjayyosi1955.maktoobblog.com/

صاحب "أريج قرطاج": لم أجد في طبائع الشعراء إلاّ الإقصاء


مليكة العمراني

تونس
بدعوة من صالون الأربعاء الأدبي بالنادي الثقافي الطاهر الحدّاد بتونس المدينة، كان للكاتب فوزي الديماسي، الأربعاء 21نوفمبر 2007 لقاء سلّط عبره الضوء على أنطولوجيا الشعر التونسي المعاصر التي أعدّها في إطار الجزائر عاصمة عربية للثقافة..
بعد كلمة مدخلية أولى، سأله الشاعر يوسف رزوقة، مدير الصالون عن الملابسات الحافة بإنجاز هذه الأنطولوجيا ليوضح ضيف اللقاء بأن الأنطولوجيا صدرت مؤخّرا عن جمعيّة " البيت " الجزائريّة التي يترأسها الكاتب أبوبكر زماّل حول الشعر التونسي المعاصر تحت عنوان "أريج قرطاج / شعريات تونسية".
بخصوص اختيار الأسماء الواردة في الأنطولوجيا، يبرّر الديماسي تمشيه بالاحتكام إلى ثلاثة أركان أساسية هي الجودة و الحضور والتراكم مشيرا إلى أن " الشعر فضاء يتضايف فيه المقدس والمدنّس، والمعلن والمخفيّ، والممكن والمستحيل والترابي والهلاميّ، والجميل والقبيح، والمعقول واللامعقول، يتداخل فيه الذاتي والموضوعيّ، وتتقاطع فيه الأزمنة وتنصهر، مطيّته في ذلك زاد لغويّ متقلّب ومتحرك ينشد الشاعر من خلاله لحظة شعرية متفردة، فعلها في المتلقّي كفعل السحر في الناس، و ديدنه فوق ذلك الرسم بالكلمات على حد تعبير الشاعر نزار قباني…"
أما الشعراء الذين شملتهم الأنطولوجيا، حسب الترتيب الأبجدي فهم : آدم فتحي - آمال موسى - حافظ محفوظ - حياة الرايس- جمال الصليعي - جميلة الماجري - عادل المعيزي- عبد الدايم السلامي- عبد الفتاح بن حمودة- عبد الله مالك القاسمي- عبد الوهاب الملوح- فتحي النصري- فضيلة الشابي- كمال بوعجيلة- مجدي بن عيسى- محجوب العياري - محمد الخالدي - محمد الخالدي- محمد الصغير أولاد أحمد- محمدعلي الهاني- محمد علي اليوسفي- محمد الغزي- محمد الهادي الجزيري- منصف الوهايبي- مولدي فروج- يوسف رزوقة.
وقد أثار هذا المنجز الأنطولوجي قبل صدوره وبعده لغطا بين عديد الأقلام المتحاملة منها والمشجعة لكن معدّ العمل، يسوغ من جهته، رأيا مفاده أن كلّ عمل إنساني مجبول على النقصان وهو من ثمّ لم يدّع قطّ أنه أتى على المشهد كلّه بل تخيّر التجارب الناضجة الدالة والمشهود لها برسوخها في الشعر ليستنتج أن الانطولوجيا جرّت له سبّا وشتما كثيرا من هنا وهناك، وهو ما شاع، على امتداد العالم العربي كلما ظهرت للوجود أنطولوجيا.
ويرى من ثمّ أن عمله ليس سوى خطوة مهمة نحو التعريف بالأدب التونسي وما على الآخرين إلا أن يمارسوا الصنيع نفسه بدل الوقوف في المكان نفسه.
لقد اطلع، قبل إعداد الأنطولوجيا، على حد قوله، على مدوّنة كلّ من محمد الصالح بن عمر والمنصف الوهايبي اللتين أسقطتا مثلا شاعرا كجمال الصليعي الذي يمثل النمط العموديّ بامتياز فوقع اختياره من باب الإنصاف وفي خانة القصيدة النثريّة، وقع الاختيار على أمال موسى وفضيلة الشابي وعبد الفتاح بن حمودة دون إغفال بقية الأسماء في خانة النمط الشعري الحرّ وكلها تمتلك من الأسباب الإبداعية الوجيهة كي تكون ممثلة في هذا العمل.
ليختم الديماسي: لقد اكتفيت بنخبة من الشعراء الذين يمثلون الشعر التونسي الآن وهنا عبر عمل أنطولوجي رأيت أنه يمثل المشهد الشعري في تونس إلى حدّ، مع وعيي التامّ بأن إرضاء الجميع غاية لا تدرك، مستخلصا أنه لم يجد من معشر الشعراء إلاّ طبائع الإلغاء والإقصاء والتقزيم أمّا النّقاد، إن وجدوا، فإنّهم لا يكتبون إلاّ عن الشعراء المشارقة.
ويذكر أن فوزي الديماسي من مواليد 25/07/69 بقصرهلال بالساحل التونسي، له مساهمات نقدية في مجال الأدب في الجرائد المحلية و العربية - العرب - الحقائق - متحصل على الأستاذية في اللغة و الأدب العربي من كلية الآداب و العلوم الإنسانية بسوسة / تونس وله ثلاث روايات : أخاديد الزمن، واحة الأجداث وزنيم.

جذورٌ شاهقة


سامي العامري
---------
وراءَ البابِ يقعي الليلُ
يَنشد رؤيةَ الأسرارِ ،
يا ليلاً ضبابيّاً ،
ليلبسْ قلبُك المنهوكُ نَظّاراتِ ساحرةٍ
ولو حلمي شراعٌ راجعٌ بالغَمْر نحو بدايةٍ أُخرى ،
قِفا نمضي
…………
وكانَ دمي الدليلَ بعتمةِ المَسرى
وكنتَ سألتَني عمّا دعا الأشجارَ للإقرار بالظمأِ الكبير
فَرُحتُ أُلصقُ غيمةً بالصمغ
في أفقٍ يشيرُ الى مغيب الشرقِ ،
أعبرُ قامتي ،
تجتازني الأسوارُ
كُنتُ سأمتُها في كلِّ طورٍ كُنْتُهُ :
سكرانَ ام يقظانَ
ام ما بينَ بينَ !
ومثلما وَتَر هو الشريانُ
أعزفُ صبوتَين عليه
أعزفُ عالَماً بأصابعِ الغابهْ
-----
alamiri84@yahoo.de

السبت، نوفمبر 24، 2007

حتى لا يظل الشعر مهنة للمفلسين !!

نبيل عودة
اتساع حدود الكتابة الشعرية بدأ يولد حالات ادبية مستهجنة ، بعضها يلصق عنوة بالجينار الشعري ، وبعضها هجين لا يمكن توصيفه ، وببساطة دخلنا في تناقضات واشكالات انعكست بشكل مشوه على الحياة الثقافية لمجتمعنا وما عدنا نقدر على ايجاد باب لتصنيفها ادبيا ..
انا شخصيا بت لا اعرف من يستحق الرحمة ... شعرنا ام اولئك المتكاثرون على ابواب الشعر ، حتى ضاق الشعر ذرعا بهم ، وعافت القوافي نفسها ، وخجلت اللغة من كثرة شرشحتها ، وعاف القراء الشعر ، واضحى أقل انواع الادب قراءة ، رغم انه اكثر الانواع غزارة في الانتاج والنشر .. وبصراحة مطلقة ، اصبحت نادرا ما اواصل قراءة قصيدة .. احيانا اكتفي بالمقطع الاول ، واحيانا لا اكمله ، وقليلا ما اقع على شعر يقرأ ..كثرت التسميات لما يعرف بالكتابة الشعرية ..
فهذا شعر النثر او النثر الشعري ، والشعر الحر وشعر التفعيلة ، الذي يتبع هندسة لتمييزه عن الشعر العمودي ، والشعر العمودي بشكليه ، شعر البيت او الشطرين ، والبعض بات يستعمل تعابير اكثر حداثة ( هذا لا يعني ان شعرهم تجاوز المستوى المأزوم للشعر ) مثل صفة "النثر المركز" و " القصائد العارية " ولللأسف لم اجد جديدا يستحق هذا الجهد في صياغة التسميات ..
بالطبع عدا الشعر العامي بمدارسه واشكاله المختلفة .يبدو لي للوهلة الاولى ، ان المسألة تنحصر في الرغبة على التمرد على القيود التقليدية في الشعر ، ولا يتعلق الموضوع بعملية تأصيل للابداع ، وعلى الاغلب ، معظم هذا الشعر اصحابه لايعرفون اوزان الشعر ، ودوافعهم ابعد ما تكون عن فكر الابداع الثقافي ، وعن فهم القيمة الثقافية للشعر ، عبر الامتداد الاجتماعي للمسألة الثقافية .لاشك بأن بعض قصائد النثر فيها من الموسيقى الداخلية ، ومن الابداع الشعري ما يتجاوز قصائد الشعر العمودي الملتزم بالاوزان والقوافي ...
ولللأسف ليست هذه هي الصورة السائدة في شعرنا - اعني بالاساس الابداع الشعري العربي داخل اسرائيل ، رغم اني متنبه لحالة مشابهة في الشعر العربي الحديث كله .لدينا في الواقع شعراء جيدون ، ولكنهم اكثر الزاهدين في طرق ابواب الشعر ، واكثر الملتزمين بالصمت عن قول كلمة حق حول ما ينشر ، " خوفا من التلوث " كما قال لي احدهم .. ويقر شاعر آخر ان " الاجواء الشعرية قاحلة ولا تمطر علينا ما يبعث الخصب في الارض " ويقر معظمهم بخطأ الصمت .. ولكن صمتهم لا ينكسر الا في احاديث " ليست للنشر باسمائهم " كما نبهني شاعر يمتنع عن النشر في الصحافة المحلية التي لا تحترم نفسها ولا الشعر ولا الشعراء وتنشر "ما هب ودب" من الصياغات المرعبة في فقرها الادبي والابداعي وليس الشعري فقط . ..
اذن نحن لسنا امام ظاهرة جدل حول الشعر ومدارسه واساليب كتابته المختلفة .نحن امام ظاهرة زهد المجيدين من الشعراء عن نظم الشعر ، او نشره بدون حماس ، في اجواء يتسلط فيها الانشاء " الشعري " الممل ، الفارغ من المضمون ، والفارغ من روح الشعر ومن كيمياء الشعر ومن اي احساس ثقافي بسيط ... او كما قال لي شاعر من "الصامتين " : "هذا ترتيب لغوي فارغ من المعنى ، فارغ من جمالية اللغة ، فارغ من الأحاسيس ، ومن الصور التي تشحن الخيال ..: وخلو حتى من التعابير اللغوية السليمة .والملاحظة التي تطرقنا اليها تلقائيا ، بان اكثر ما يؤذي ادبنا ، وخاصة الجانر الشعري ، هو التصفيق الذي يتجاوز حدود التشجيع ، تحت صيغ نقدية ومراجعات نقدية .. يمارسها على الأغلب دخلاء على الحياة الادبية ، كنوع من التسالي بعد تقاعدهم وهم على ابواب العقد السابع ، مكتشفين ان الادب افضل من نوادي "الجيل الذهبي " ، وفي ظل فقدان الادب لدوره الاجتماعي ، وتدهور مكانته في الصيرورة الثقافية لشعبنا ، تتزايد اوهامهم انهم باتوا قاب قوسين او ادنى من العبقرية الادبية ، وبعضهم يظن ان معرفتة باصول القواعد والنحو هي القاعدة المطلقة للأبداع الادبي او النقدي .. ولا يترددون في شن حروب نحوية على ادباء لا ينتظرون شهاداتهم !! حقا ، نحن نشجع اطفالنا ونصفق لهم ، ونهتز سعادة عند اول خطوة لهم ، ولكن هذا يصبح امرا عاديا بعد ايام او اسابيع ، فما بالنا نصر ان نعامل كتاب الشعر ، كطفل يخطو دائما خطوته الاولى ؟! ان التمرد على الوزن في الشعر ، هو تمرد على الشعر نفسه ، والذي يقوم بهذا التمرد يفترض انه يعرف فعلته جيدا ويفقه ابعادها الثقافية ، ويملك القدرات الفكرية لفهم ابعاد هذا التمرد والقدرة على تأويلها . فهل هذا الامر ينطبق على كتاب قصيدة النثر او الشعر الموزون ؟ لا اتردد في اعطاء جواب قاطع .. ولكني ابتعادا عن الصياغات القاطعة ، سأمتنع عن ذلك ، وأقول اني على يقين ان الأكثرية المطلقة من كتبة الشعر المنثور او النثر الشعري ، لا يعرفون اوزان الشعر ، ويعجزون عن كتابة اي شكل من اشكال الشعر الملتزم بالاوزان والقوافي وعدد غير قليل من اصحاب شعر القوافي والاوزان هم بناة تراكيب لغوية تفتقد لجمالية اللغة وكيمياء الشعر...
وبالنسبة للنقاد السبعينيين ، "الغيورين" على اللغة وقواعدها ... يصبح هذا الشعر ، واكثريته المطلقة بلا معنى وبلا لغة (ويمكن قراءة القصائد من النهاية للبداية او من اي مقطع صعودا او هبوطا دون ان يتغير المعنى في القصيدة ، لانها اصلا بلا معنى ، ولا يفهمها الا "ادباء الغفلة" ).. يصبح هذا الشعر ابداعا عبقريا " ينتظره القراء بجوع وتلهف !! ": ... الى آخر الصياغات المضحكة في تفاهتها والمبكية للحال الذي وصلته ثقافتنا .. وليس شعرنا فقط !!لست ضد التشجيع ورعاية الناشئين ، وقمت ، أكثر من غيري بهذا الدور ، ولكني انظر اليوم حولي وأرى ان من كان يبشر ببعض الأمل ، لم يستطيع ان يتقدم ( او تتقدم ) ولو خطوة صغيرة للأمام .. ويبدو ان ثقافته لم تتجاوز قصائده الاولى .. ومعارفه ووعيه الثقافي والادبي والابداعي انتهى مع خطوته الاولى .. وزاد الطين بلة بالادباء السبعينيين وكتاباتهم الفارغة من اي ذرة ابداع شعري او نثري .. فهل نواصل التصفيق بلا عقل وبلا وعي ؟! وهل نواصل تهريج اكتشاف ما لا يعرفه صاحب العمل نفسه ؟ وهل نستمر في الصاق الألقاب الفخمة لمن يفتقدون ، وعاجزون في الوقت نفسه ... عن الابداع الادبي ؟!
صديق شاعر من الشعراء المعروفين الذين اشتهروا في بداية اكتشاف العالم العربي لادبنا ، وخاصة لشعرنا ( بعد حرب 1967) ، كتب في السنوات الاخيرة مجموعة من القصائد الرائعة ، بعد فترة توقف عن الشعر لاسباب تتعلق بالعمل السياسي والفكري والاعلامي .. سحرني بقدرته على تجاوز نفسه ومرحلة الصمت والعودة بهذه القوة وبهذه الكيمياء الشعرية القادرة على التفاعل مع القراء بتلقائية وانسياب لا يحتاج الى جهود الادباء السبعينيين للشرح والتأويل .. ولكنه يرفض ، منذ سنة على الاقل .. نشر قصائده ..
وها انا احاول ان اثير ضغطا من حوله لعله يقتنع ان الوقت قد حان لاحداث تغيير في الواقع الثقافي المتهاوي .. حقا لن اذكر اسمه ، ولكني متأكد ان الكثيرين يعرفون من اعني بدقة .. ولعل هذا التلميح يفيد .. ويبدأ بدحرجة كرة ثلج ثقافية جديدة تعيد لادبنا حيويته المفقودة ، وتخرج الشعراء الصامتين عن صمتهم الذي طال ، ليقولوا كلمة حق .. مهما كانت قاسية ، لا مناص منها .. والا سيظل الشعر ارخص بضاعة ، ومهنة للمفلسين !!
ساضطر قريبا الى اعادة نشر بعض مراجعاتي الادبية ، عن شعراء لهم مكانتهم الشعرية والثقافية في ادبنا المحلي ،لأنقل صورة ايجابية عن الامكانيات المختزنة في ثقافتنا .. لعلي بذلك اثير الحنين ( النوسطالجيا ) للماضي غير البعيد !!
نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي

الفكرُ

د. نوري الوائلي
تدنى الفكرُ أدراجَ الشعوب ِ = وضاعَ جماله بيد ِاللعوب
فأينَ الشعرُ قافية ونظما ً= وقولا ً يقتدي سبلَ الرقيب
وأين سموّ آداب ٍ ونثر ٍ = وحسن ِ حكاية ٍ ختمت بطيب
وأين محابر رَسَمت بتقوى = كتابات حوت طب َالطبيب
وأين الوصف ُيدعمه خيال ٌ= جميل ٌصادق ٌخالي الكذوب
فلا أجدَ البلاغة في خطاب ٍ= كأنّ النطق َمملوءُ المشيب
فهذا الأفق ُيحوي جمّ شعر ٍ = عديم الفكر ِمضيعة الغريب
فلا أدري المعانيَ في العلالي = لها ربط ٌبخاتمة ِالجنوب
فيا كتاب َ آداب ٍ وعلم = عليكم بالمفيد بلا مريب
فليس مُصابنا مرض وفقر = وعمر ضاع َيأمل ُفي النصيب
ولكنّ المصابَ ضياع ُ فكر ٍ= بأيمان ٍوتقوى في القلوب
ففكرُ الناس مبتورٌ بدهر ٍ= يقودٌ جواده عبسُ الغروب
فتاريخ ُالشعوب حصاد ُفكر ٍ= لأبناء ٍ همُ بذر ُالشعوب
فخيرُ الناس ِ همْ قوم كرام = لهم عقل ٌروى فكر َالمجيب
وشر ُالخلق زرّاع لفكر ٍ= تعارض ُنهجه سنن َالحسيب
وضيْعُ الناس ِمنْ أولى بفخر ٍ= نبات َالسوء يفسد في الخصيب
فقاد َالفكرَ جنسٌ ثم مال ٌ= وكرسي ّ يدوم ُعلى الخطوب
وأوغلت المنابرُ نشرَ حرف ٍ= والوان ٍ بها زيغ العيوب
فلا خيرا ً يُؤمل ُمن عقول ٍ= لها الشيطان ُعونا ً في الوثوب
فكم فكر على الشيطان ِ يعلو = بتخطيط ٍ لظلم ٍ أو كروب
فخيرُ الفكر مصحوب بخلق ٍ= رحيم ٍ مؤمن ٍ خالي القطوب
فما لفظ َاللسان ُ له رقيب ٌ= عتيدٌ فوقه سمع ُ الرقيب
وما يُدريكَ ما يبدو ضئيلا ً= عظيم في حسابات ِالمجيب
فلولا كانَ من قرآن ربي = لضاعت أحرفُ العربي المهيب

حسن السوسي وابراهيم الحضراني في ذمة الخلود

يوسف رزوقة

زاره الصالون المتنقل لشعراء العالم قبل شهرين
حسن السوسي في ذمّة الخلود

عن 83 عاما، رحل عنّا في ليبيا الخميس 22نوفمبر 2007 أحد أعلام الأدب والثقافة الشاعر حسن السوسي الذي ولد حسب معجم الشعراء الليبيين لمؤلفه عبد الله سالم مليطان عام 1924 بالكفرة – ليبيا.
تلقى تعليمه بمصر وكان ضمن الأسر المهاجرة إلى هناك في زمن مبكر.
هاجر صغيراً قبل احتلال الكفرة من قبل الطليان وأقام مع أسرته بمرسى مطروح و قرأ القران على يدي و الده ثمّ دخل المدرسة الأولية بمطروح ليلتحق بالأزهر وينال الشهادة الأهلية 1944، وحضر بعدها دورات تربوية في كل من بيروت وتونس.
عاد إلى ليبيا أواخر عام 1944 وعمل في حقل التدريس في مناطق مختلفة معلماً بمدرسة الأبيار القريبة من بنغازي ، ثم تنقل في وظائف التعليم فعمل مديراً لمدرسة وموجهاً .. إلى أن أحيل على التقاعد عام 1988.
مقيم بمدينة بنغازي ومتحصل على جائزة الفاتح التقديرية. شارك في مهرجانات الأدباء المغاربة والأدباء العرب في كل من طرابلس و تونس و الجزائر و القاهرة و بغداد .
من أبرز رواد القصيدة الكلاسيكية في الأدب الليبي الحديث فهو يكتب القصيدة الكلاسيكية بكل مقوماتها ويخوض في نفس الوقت موجة الحداثة بكتابة نصوص شعرية ذات إهاب حداثيّ.
نشر قصائده في العديد من المطبوعات الليبية والعربية والعالمية ومن مؤلفاته:
- الركب التائه ، وزارة الإعلام 1963،
- ليالي الصيف ,دار الخراز 1970،
- نماذج ، الدار العربية للكتاب 1981،
- نوافذ ، الدار العربية للكتاب 1987،
- المواسم ، الدار الجماهيرية 1986،
- الزهرة و العصفور ، الدار الجماهيرية 1992،
- الفراشة ،مجلة الثقافة العربية 1988،
- الجسور، الدار الجماهيرية 1998،
- ألحان ليبية، الدار الجماهيرية 1998،
- تقاسيم على أوتار مغاربية ،الدار الجماهيرية 1998
وقد خصت أعماله وإبداعاته بدراسات أدبية ونقدية مستفيضة قدم لها كبار الشعراء وأساتذة الشعر والأدب.
وكان حبه للوطن لا يضاهيه حب فهو القائل في قصيدته "معنى الوطن":
لبني أمتي وعشق بلادي
لهما صبوتي وخالص حبي
ووفائي وشقوتي ورشادي
ويذكر أنّ الصالون المتنقل لشعراء العالم قد زار قبل شهرين فقيد الشعر الليبيّ حسن السوسي في بنغازي ببادرة من شعراء الحركة: من ليبيا، خلود الفلاح سفيرة الحركة و إهليل البيجو ورزان مغربي و الفنان التشكيلي علي العباني ومن تونس حافظ محفوظ و محمد الجزيري وشمس الدين العوني و سمير العبدلي.
وتبادلوا مع الفقيد حديث العائلة الواحدة حول تجربته الشعرية وكيف أن الكتابة برأيه ضد النسيان وفي نهاية هذا اللقاء قدم الراحل حسن السوسي لزوّاره نص "امرأة فوق العادة" وفيها يقول:
من أعنيها لا تشبهها امرأة أخرى
يضحك في عينيها فرح الدنيا
وعلى شفتيها يندى الورد…
وترسم البشرى
تلك امرأة أخرى
تلك امرأة فوق العادة.
حركة شعراء العالم تخصّه بباقة ورد من باب "الوفاء فوق العادة" ولن تنساه عائلته الموسعة من شعراء العالم ما دامت " الكتابة ضد النسيان".
**
إبراهيم الحضراني شاعر كبير لا غبار عليه
رحل عنّا يوم السبت 24 نوفمبر2007 كبير شعراء اليمن إبراهيم الحضراني بعد عمر سخيّ أثثه بالتضحية كلمة وممارسة ليكون من ثمّة ذاكرة حيّة تعكس ثراء التربة اليمنية الزكية وتجذر الكلم الطيب فيها.
كفى إبراهيم الحضراني أنه قال "كل فجر مر فجر كاذب.. فمتى يأتي الذي لا يكذبُ"، هو مناضل في سبيل الحرية. كلماته ترانيم كانت، يرتلها الملتزمون من الثوار قبيل إعدامهم ، رحل ولكن لن ننسى أبياته الشهيرة:
كم تعذبت في سبيل بلادي
وتجرعت كأس المنون مرارا
وأنا اليوم في سبيل بلادي
أبذل الروح راضياً مختارا
أو تجليات الشاعر الممتلئ بالحب والحلم والحياة كما في هذه القصيدة بعنوان"كلهم يحدثني عنـك"
حبُّكِ! ما أَقْوى، وما أعمقا
قد علّم الأشياءَ أن تنطِقَا
قالت لي الصخرة: لا تنسه
وكيف أنسى حبي الأسبقا!
والنهر لما جئته مفرداً
يسألني عن موعد الملتقى
والروض حتى الروض ما لم
تكن بجانبي ينظرني محنقا
نسْمته في مسمعي عاصف
وزهره يوشك أن يحرقا
والعطر يأبى كلما رمته
من غير أنفاسك أن يعبقا
علمت ما حولي حديث الهوى
وكيف يُضني قلبِيَ الشيّقا
ويذكر أنّ حركة شعراء العالم وجّهت قبل أيام قليلة وبمناسبة احتفاء بيت الشّعر اليمنيّ بالرّعيل الأوّل من شعراء اليمن رفيعة حبّ إلى الشّاعر الكبير إبراهيم الحضراني، إكبارا منها لدوره التاريخيّ والفاعل في الشعر وفي الحياة وأدرجته ضمن بوّابتها علامة شعرية فذة لا يطالها النسيان.
بكثير من الورد نودّعه وبكثير من الوفاء نتغمّده فهو بيننا سيظل شاعرا كبيرا لا غبار عليه.
يوسف رزوقة
الأمين العام لحركة شعراء العالم / ممثل العالم العربي

الجمعة، نوفمبر 23، 2007

عن جمرةِ المطر

طارق الكرمي
(
المسرحيّةُ ) \ *إلى سناء لهب صديقتي

قميصُكِ المفتوحُ سِتارةُ المَسرَحِ
قميصُكِ المُزَرَّرُ بأجراسٍ بتلاتٍ سيظلُّ سِتارَةَ المسرَحِ
والمسرَحُ أوسَعُ من أنْ نتخيَلُهُ الخشبةَ
غافلينَ أحياناً أنَّ الدّورَ سيظلُّ يتلبّسنا فِ الدّورِ
أنَّ القناعَ المحضَ هوَ الوجهَ المحضَ و
الوجهُ سيغدو القشرَةَ
وأرضُ المسرَحِ ربتما كانتْ من خشبِ قواربِ صيّادينَ
ربّتما هذي الخشبةُ المسرَحُ ستعودُ عَ هيأتِها الأولى غابةَ أشجارٍ أوْ
تصبِحَ كوخَ الفقراءِ
ستدورُ الفصولُ عَ المسرحِ
ستدورُ بنا الفصولُ عَ هذا المسرَحِ
فيما أنتِ تظلّينَ المُحترِفةَ أنْ تتقمّصي القطّةَ مخنوقةً ونظرَةَ الطّيرِ والثّمرةَ المقضومةَ حدَّ قلبِكِ و النّاسَ وأغصانَ البخورِ
ناسِيةً سِتارَةَ المسرَحِ قميصَكِ..
داخلَةً حياتَكِ فصولَ المسرَحيّةِ
مُتناسِيَةً فصولَ حياتِكِ المسرَحيّةِ
.
.
أنّى تنتهي المسرَحيّهْ..
*الظّهيرةُ\6تشرين ثاني\طول كرم
( مراقٍ واطئةٌ )
السّمواتُ التي لمْ تفرِدها خطوةُ الطّفلِ
السّمواتُ التي لمْ تنفرِدْ تحتَ خطوةِ الطّفلِ
السّمواتُ التي سُدىً تتكوّنُ
السّمواتُ التي لمْ نُخلقْ تحتها يوماً
السّمواتُ التي هَجَرَها اللهُ
السّمواتُ التي انتَفى فيها اللهُ
السّمواتُ التي لمْ تَزِخَّ ملائكةً علينا
السّمواتُ التي لمْ يدخلِ الطّائرُ ذِمّتَها بعدُ
السّمواتُ التي أوصدتْ دونَ أرواحِنا
السّمواتُ التي لمْ تَهَبْ لِسُراةِ الدّوِّ نجمةً واحدهْ
السّمواتُ التي أطبقتْ سَبعاً
السّمواتُ التي رفَعتها طيورُ الجحيمِ
لماذا تظلُّ السّمواتِ التي أنكَرَتْ علينا سَقفَ
السّمواتْ.
الظّهيرة\ أواخر تشرين أوّل\طول كرم
( مُزاجُ مُوظّفةٍ )
( في فُسْحَةِ ال10 دقائقَ استراحةِ العمَلِ )
ستلوبينَ بقدَحِكِ الشّايِ أمامَ نافذةِ المَكْتبِ..مُحدِّقةً خِلَلَ النّافذةِ. تشرينُ الأوّلُ مُترَدِّدٌ كعادَةِ تشرينَ الأوّلَ بينَ أوراقِ الشّجرِ وتنانيرِ البناتِ..تشرينُ الأوّلُ مثلُ أنتِ المُترَدِّةُ بينَ أوراقِ المَكتبِ.. ( كأنَّ أوراقَ ما عَ المَكتبِ هي ما يتناثرُهُ تشرينُ الأوّل هذا ). ولا طيرَ يُدهِشُ الضّلعَ. أنتِ الآنَ تأخذينَ قَدَحَكِ الشّايَ مُحدِّقةً ما تزالينَ خِلَلَ النّافذةِ. تزوغينَ بما تتَصَوّبُهُ العينانِ خِلَلَ النّافذةِ.الرّائحةُ وصوتُ الغصنِ تبلُغانِ ما توَهّجَ فِ الرّائحةِ والغصنِ وما يضوعُ بهِ القدَحُ الشّايُ . كأنّكِ تلبسينَ الطّقسَ التّنورةَ التِّشرينَ والكنزَةَ الصّوفَ .أنتِ المُترَدِّدةُ في أمرٍ ( أجهَلُهُ ) مُحَدّقةً ما تزالينَ خِلَلَ النّافذةِ
تتبادلينَ و تشرينَ الأوّلَ شيئاً..كأنّكِ وتشرين الأوّلَ تَسْتحيلا العَرْفَ الواحِدَ
فمنْ مِنكما حقّاً تشرينُ الأوّلُ
أنتِ أمْ تشرينُ الأوّلْ
الظهيرة \ تشرين أوّل \ طول كرم
( ترنيمةٌ)
يدورُ المطرُ سابغاً فِ المطرِ
وتنتشي فِ الشّارعِ الفتياتُ
هلْ أشعلُ أصابعَ التّبغِ
مستكنّاً إلى النّبيذِ
وأنتَ كيفَ بلغَ يَبلُغكَ هذا المطرُ
لتمضي عُشبةَ القشعريرَةِ وعِذقَ كهرباءَ فِ المطرِ
حينَ تنحلُّ فِ المطرِ الذي تنخبُهُ الجذورُ
فِ المطرِ المُفوّحِ جدائلَ الفتياتِ ينتشينَ
المطرِ الذي يَغتسِلُ بالمطرِ
الذي يجلو النّوافذَ أحداقاً كي تبصرَ سطوةَ المطرِ
منْ أينَ تفيضُ الأغنيةُ مُغلْغِلَةً فِ الأعماقِ
جمرةَ ما يغُصُّ فِ الأعماقْ..
*الظهيرة\7تشرين ثاني\طول كرم
( انتشاءٌ )
الغيمُ شحمٌ فِ الأفقِ
الغيمُ شحمُ الأفقِ
المطرُ منذُ ال10 دقائقَ وهوَ ينزلُ فِ المطرِ
لِيهدي الحديقةَ قفاطينَ الملاكِ و
الغصنَ حريرَهُ المحضَ
أيُّ أرجٍ أتنشّقُ دائراً فِ الأعماقِ
أيّةُ موسيقى الفالْسِ تهبطُ عَ القرميدِ أغنيةَ القرميدِ
القطّةُ تنعسُ في فروَتِها
بيتُ النّملِ يطفو.. و
الطّيرُ يوكِنُ فِ الضّلعِ مُرتجِفَ الجناحِ
كيفَ للعينيْنِ أنْ تشربا البرقَ
الأصابعُ فِ الرّعدِ تمضي الرّعدَ..
صوتي ما ينقرُهُ المطرُ عَ النّوافذِ
صوتي الصّريحُ ما ينخبُهُ المطرُ
أيّةُ حبالِ الماءِ سوفَ أتسَلّقُ
أيّةُ حبالٍ ماءٍ سوفَ أتسَلّقُ
إنّي ما يَنزِفُهُ المطرْ.
*صباحاً\7تشرين ثاني\طول كرم
( توكيدٌ )
أنتَ قلتَ: يختلِفُ المَطرُ فوقَ المقبرَةِ
حتّى كأنكَ تقولُ: المَطرُ ليسَ المطرَ فوقَ
المقبرَةِ
لكأنّكَ لا تعلَمُ أنَّ حدائقَ كثيرَةً هيَ
أوحشَ المقابرِ
وهيَ أبأسَ منْ أنْ تكونَ المقابرَ
فلماذا إذاً تتقوّلُ بأنَّ المطرَ مُختلِفاً فوقَ المقبرَةِ و
أنَّ التّرابَ غريبَ الرّائحةِ
أنتَ تعلمُ أنّ المطرَ يظلُّ المطرَ وإنْ كانَ فوقَ المقبرَةِ و
أنَّ للمقبرَةِ أنْ تصبِحَ الحديقةَ
حتى لو كانَ شجرُ المقبرَةِ يبدو غيرَ
الشّجرْ..
*الظّهيرة\9تشرين ثاني\طول كرم
( جنّةٌ )
ها ينزِلُ المطرُ سابغاً هذا الصّباحَ
النّوافِذُ كأنَّ عَ زجاجِها العَرَقَ
النّوافذُ تصغي حثيثاً إلى قطرٍ نبيذٍ
فِ الصّباحِ المنشورِ كغسيلِ السّيِّدةِ
أنتَ هلْ تلوذُ مُبلّلَ الرّيشِ
هلْ ستلوذُ إلاّ مُبَلّلَ الرّيشِ
في هذا المطرِ الذي يَمنحُكَ أنْ تتنفّسَ العَجبََ
أنْ تذوبَ الأصابعُ رعداً
أنْ تتعبّأَ بالرّوائحِ المائيّةِ
داخلاً الجنّةَ المائيّةَ
طائراً بزعانفِ الغمرْ
*صباحاً\21تشرين ثاني\طول كرم
( حبّةُ الماسِ )
في أوّلِ ما ينبسُهُ المطرُ
أوّلِ قطرةٍ ستسْقطُ
مُلامِسَةً عصَبَ العشبةِ
مُلامسَةً الجذرَ عروقكَ
مُضوّعةً
ماسةً أولى
في أوّلِ ما ينبسُهُ المطرُ
أوّلِ قطرةٍ ترِفُّ
دقِّقْ بهذي القطرةِكيفَ تبرقُ عَ الأناملِ
كيفَ تمنحُ البرقَ بحّةَ الأناملِ
كيفَ تعرفُ هذي القطرةُ مسربها فيما ما تلامسُ..
وأنتَ كيفَ تنسربُ فِ القطرةِ هذي
كيفَ دخلتَ القطرةَ هذي منسرباً و القطرةَ
كأنّكَ ابتداءُ القطرهْ.
*صباحاً\21تشرين ثاني\طول كرم
( سرّ )
ينزِلُ المطرُ فِ جنّةِ الأمواهِ
ليُقيمَ هذا المطرُ جنّةَ الأمواهِ
والفتاةُ تهدأُ إلاّ قليلاً فِ السّريرِ
الفتاةُ تتمرّغُ متوقِّدَةً عَ موجتها فِ السّريرِ
بمخالبَ ماءٍ لتخمُشَ وجهَ الماءِ
والمطرُ فحلاً يهمي في جنّةِ الأمواهِ
المطرُ الفحلُ يهمي جنّةَ الأمواهِ
فهلْ سَيترُكَ المطرُ للفتاةِ أنْ تلتَمَّ بفروِ أرائجَ
هل سيترُكُ للفتاةِ إلاّ أنْ تلتمَّ فروِ أرائجَ
مُنفرِداً سيمضي هذا المطرُ حينَ يلتمِسُ فِ الفتاةِ
سرَّ أنْ تموءَ الفتاةُ
أنْ يُغلْغِلَ ما يَغتلي حريراً فِ العروقِ
لا تقُلْ: كيفَ تحبلُ الفتاةُ البِكرُ
لا تقلْ: ما الذي تَحبلُ بهِ الفتاةُ البِكرْ.
*صباحاً\21تشرين ثاني\طول كرم
( فتاةٌ )
( ساعةَ تنفتحُ الرّوحُ طاووساً ومظلّةً )
لماذا فِ المطرِ تفاجئينني أنتِ لتكوني لحظةَ المطرِ
دائرةً أنتِ في هذا المطرِ
تزِخّينَ الفجاءَةَ
إذْ تسيلينَ عَ النّوافذِ
تتركينَ فجاءَتكِ قطراً عَ كلِّ النّوافذِ
لماذا تظلينَ تلحّينَ عليَّ في ساعةِ المطرِ
عزيرَةً تظلينَ ساعةَ المطرِ
لماذا وجهُكِ الماءُ الذي يهمي
وجهُكِ في الشّاشةِ الماءِ
فتاةَ المطرِ ستظلينَ
فتاةً من مطرٍ ستظلّينَ
لماذا أحبِّكِ.
*الظّهيرة\21تشرين ثاني\طول كرم
**

شاعر لم تقولبه القصيدة ولم تصنفه الكلمات: الشاعر منير مزيد


هدلا القصار
يتوجب علي أن أوجه شكري الشبكة ألعنكبوتيه التي أتاحت لي فرصة الاطلاع الواسع على النتاج الشعري الحديث بصورة لا سابق لها .
ساقني البحث عبر هذه الشبكة للتعرف على تجربة الشاعر الفلسطيني منير مزيد، المهاجر كارتحال السنونوات وهواجس العصافير التي تبحث عن موطنها في فضاءات السماء، يتنقل بممارسات أجنحة الفراشات التي لا تسيطر على ألوانها .
اعتدنا في الزمن الجديد أن يعري بعض الشعراء أبيات قصائدهم المحملة بتاء التأنيث، بينما بالكاد يلفظون الضاد، على عكس الشاعر منير مزيد فهو من يتعرى أمام قصائده ومن ثم يعري أبياته حرفا حرفا حتى يلبس حروفها ثيابا من صنع هذيانه الشعري حيث يبحر بصوره الشاعرية منفردا بها بين الواقع والخيال يروض المتلقي لإمكانياته دون أن يكشف لنا عن عورات جسد القصيدة التي تبلل القارئ بالتهام الشهوات .
شاعر لم تصنعه القصيدة ولم تصنفه الكلمات، يهرب من اللغة المعسكرة يرفرف تحت جناح مخيلته يحلق كالنوارس في يقظات السماء يرسم اله العشق يحلم بمرضعاته الثلاث، الأم الأرض الأنثى، حيث يوطنهم على أوراقه يوزع جيناته على أجساد القصيدة يحملها تاريخ الأساطير التي تتشابه مع مفهومه الفلسفي من خلال وجوده يرسم تضاريس الانصهار في يقظته يحول الأرض والأشياء والطبيعة إلى كائنات تتحرك أمامه تعتمد صوره الشعرية على علاقته بروح الومضة التي تنبثق من حواسه وتفاعله مع الحدث الإنساني يحمل رؤيته بكل عفويتها وانبثاقها يغوص في محتواها يستنهض القصيدة من غفوتها ليرمم صور الوطن المهملة على الخرائط، يخاطب كل أنواع الوجود يحاكي الإنسانية السياسة الديانات الآلهة والمعابد ويجسدها كطفل فقد نهده فهو بالأصل يعني الأرض التي لا تشبع لهفته منها، فلا شك أن هذه الإنسانية السوسيوثقافية المرتبطة بمعايشته للعاطفة التي منحته مرآة ذاته تجمع بين الرجل والمرأة والكون في شخصية الشاعر منير وهم الاناء الموحد في مجموعاته التي استخدام فيها ساحته السردية المتعددة الجدال والحركة داخل مفهومه الكينوني .
انه يسعى لإعادة المس الإنساني كاملاً وبديلا عن التشعب الذي مارسته السلطة الاجتماعية والأخلاقية بإزاحته من الزمان والتاريخ للدخول في زمن الجسد الآتي من انطولوجيته . كما يفرض علينا الشاعر إيديولوجيته على استلهام التراث العربي بشكل ثابت دون ان يسقط الحداثة الشرقية . يشكو غربته بانين خافت دون بكاء يتساجل مع روح مخيلته يلعن /يشتم/ يتساءل، يتخيل، يلاعب أقلامه الملونة، يتكلم عن نفسه، كالساحر يطوع القصيدة كما تشتهي مخيلته الأثير فمن رحلاته السردية عبر المجموعة الأولى " وجود" من قصيدة من رحلات منير مزيد:

تبعاً لمشيئة القدر /أتيت/ بزغت من الفيضان/ روحاً حيية... /ذاكرتي مزقها الليل /الملفع بالظلمة /وأنا أجوب هذا العالم /وحيداً ... /أبحث عن معنى /كنت أريد أن أشرب نخب السعادة /فهل من أحياء...؟
/ها أنذا اتجرع نخب الموت /أنادي /ليس سوى الريح تداعب أعشاب قبور صامتة
/ريح الصيف اللاهبة /والعالم يغرق في الوهم... .
وفي قصيدة " مرثية فلسطينية" يستسلم للواقع :
ترقد في أعماق النسيان/ممددة تحت إبط ألليل/يلفها الحزن و الإنتظار /ولا أحد منا بات يتذكرها ..... /تنتظر بزوغ الفجر/من نهد الحرية/وأن تخرج الشمس/من أحشاء التنين
على سيوف الثوار..... .
أما في مجموعته الثانية " صور في الذاكرة" فهي بالفعل صورا مسترسلة لا تتوقف فكلما حاولت الاصطياد في صور مخيلته ينقلني إلى أخرى أكثر جمالاً أتمسك بها يحلق يهبط مستعين بحرف الواو ليلاحق صوره المتلاحقة، فالشاعر منير مزيد له لغته الخاصة التي يشكلها كريشة الماء على ذاته حين يطلق الابيل الذي يعاني منه، كالكاهن يكشف صور حورياته المحببة والمرتبطة برؤيته نحو الوجود ومعايشته العاطفة التي تمنح مرآة وجوده كاملاً . فالقصيدة بالنسبة للشاعر مزيد هي الايروسي تنساب لهويته الإنسانية، يشكل رغباته وسرير الأحلام من ثقوب أصابعه بألم الوحشة ليلقي علينا رمادها يهمس لنا نار إله وحدته وغربته يسرب لنا عناوين الكهوف التي تسكنه في الظلمات، يترجم حالته في تحلقه كالفراشات لا يعترف بالاحتمالات ولا ترسي صوره على كائن وكأن قدماه لا تطأ الأرض يعلو بجناحين يتخطيان حجم الواقع :
أذكُرُها طِفلَةً/ تَحْبو على سَلالِمِ السَّماءْ/ ترْتَعُ وتلعبُ في مُخِّيلَتي
أبْكي .. تتَعرَّى بيَ الذاكر/ فأبْحَثَ عنْ ألَمْ ....... !/ ألم ٍ يتغلْغلُ في روحي
ويصْلبِنُي في اللغة ...... !/ لُغة ٍتُعيدُ للحَياةِ الألوان/ ما أخْطأَ النَّهْدُ
حينَ أرْضَعَ الطِّفلَ/ شَهْداً.... في كأسِ / صَديقيَ الوَحيدْ .....!
كُلِّفَ بِحِفْظِ أسرار الوجودْ/ وجُه مرآةٍ وفي المرآةِ/ تنْعكِسُ صورةُ الكونْ ......
أما من مجموعته الثالثة " فصل من الإنجيل" يسبح كالإله فوق أمواج السماء يصلي للإله للرب، يتغني بالإنجيل، يسخر من العبودية يسجل الشعر بمقولات المسيح، يصرخ كالنداهة في ملكوته الشعرية تلاحقه الحروف والكلمات بينما يلاحق الصور يحاكي الإله / الرب/السماء/الكائنات/ الحورية / الغجرية الماء الرياح/ويتكلم كالمسيح . يحلق بين النجوم يحاكي الأنبياء/ يقرأ عليهم اعترافاته بما أنزلته مخيلته/ يلعن من لا يقدس الإله بغير الحب لم يترك كائن يمر في مخيلته ألا وتوقف أمامه لحظات عابرة حتى آخر المجموعة .
…وإذ أوحى لي الشعر بالنبوءة/يتراءى لي ملكوت الله.../ فأنا نفحة من روح الله/ لن تفنى
و لن تذق طعم الموت/ تصعد إلى السماء/ عائدة إلى ربها/تستظل تحت العرش
و تبقى في ملكوته الأبدي/ راضية مرضية...
من ارتعاشات الروح / ولهفة الجسد الملتهب/ من وشوشة السماء للأرض
وهمس الماء للصخور والرمل/ فأنا نفحة من روح الله/ لن تفنى/ و لن تذق طعم الموت/ تصعد إلى السماء/ عائدة إلى ربها / تستظل تحت العرش/ و تبقى في ملكوته الأبدي/ راضية مرضية.../ الحق الحق أقول/ الشمس في الزورق/ يبحر في الروح/ بين خيالين
أحرقت الأنوار القديمة/ حقا إني أرتل آيات النور...
أما في مجموعته الرابعة " جداريات الشعر"
فيعود ويسترسل متوغلاً في الغابات التي تلامسها مخيلته المحملة بثلاثة أزمنة، الممزوجة بين الحاضر والماضي والمستقبل، في تصوراته في جداريات شعره وتصوراته العابرة في إلهامه الذاتي وعفوية الخاطرة حيث يفتح مجالا للمحاكاة في لغته الخاصة برسم جدارياته من منطقة البياض وإيقاعه الداخلي وينبوع أفكاره ورؤاه سنرى ما خلفه بالوناته المعبأة بدخان جدارياته
جدارية النبؤة/لماذا تنطلق الروح إلى السماء/تحلق ترفرف فوق البحر/فكل ما يُرى:/خداعٌ على خداع/وهمٌ يعتلي وهماً../أغلق نافذة الأحلام/وأستمع لصوت مخاوفك/لا مأوى سوى روحك البالية.../فهل الخلود حكاية شرقية/خرافية ينسجها نبي/ مغامر حالم عاشق شاعر/لست أدري...
جنون الشعر/ للشعر رائحة وطعم الجنون…/فألمس وجه القمر/وأغازل النجوم/الليل السماء والبحر/وأرتع في فضاء الأغنيات../يا إلهة الشعر/أوجدي لي مأوى/مأوى في كهف القصيدة/حتى أمارس هذا الجنون/هذا العبث .. وأرضعيني ../أرضعيني لبن الشعر/لعلي أصير إلهاً
وهنا يأتي الشاعر منير ليغربل لنا في مجموعته الأخيرة التي لا تحمل سوى عنوان واحد
" كتاب الحب والشعر" حيث يبحث عن الحب الذي يبحث عنه كما يشتهي، بين الأرواح والحرائق الملتهبة في نهد الخيال وفردوس الشعر بلغة العصافير وبالونات العاطفة بين النجوم وعذوبة المطر وحليب الشعر في فضاءه الواسع وعبر بوابات الأحلام . يقف ليعترف بمتطلباته على الورق يخترق لحظات الوحدة البعيدة عن العشق المدفون برغبة الاكتشاف والتحول إلى الحياة الأبدية، يستريح في هذه المجموعة من التناقضات بين الحاضر والنفس :
تعرف أولا على ذاتك/وعلى المرأة التي تهدهد القلب/القلب الذي يحملك
فالذات بلا قلب وامرأة/كومة من خراب.../نزل القمر إلى البحر /سكراناً/باحثاً/عن مراكب الغجر/يستحلي/عذوبة الملوحة الزرقاء/وتمرد الموج.../في المراكب/غجرية البحر/تغني آة لو أن للغناء مخالب/تقلع أشواك الحزن
حبيبتي/يحزنني أنك بعيدة عني/وما يحزنني أكثر /أن يطال مقص الرقيب قصائ
أحبّك أكثر من/الحبّ/إليك أكثر من وأشتاق/*الشوق/أحبيني/ بما يكفي/
لجعلنا نكون مثل الآلهة/بجانب بحيرة القمر/ ترقد حورية الشمس/ملاك يجيء
مصحوبا بجوقة من العصافير المغردة/وبصوت نحيب /يغنّي/فيفرد الليل جناحيه
في هذه المجموعات الخمس التي أغلق فيها ركن الهذيان والقيا علينا أسلحته واستراح على كفوفه الراعشة بطعم الفرح والتأملات والتساؤلات حول التكوين والوجود وجداريات صوره الشعرية مستنهضاً فصول أبيات مجموعاته التي تنبض بالحياة والسلام في سرد خيوله الممطرة ليكشف لنا أسرار الوجود الذي يسكنه .
ومن ثم حرك النجوم والكائنات باهتزاز السديم المتفجر في أعماقه وهو يعانق خرائطه الإنسانية بابتهالات القديسين في تراتيل الهمس خارج أنفاق الثقوب الظلاميه . كما أدخلنا في عمق المعاني الصور السماوية التي تبحث عن روح السلام ليترك القارئ يراقب مراكبه الراقصة بين أمواج هواجسه وهي المرأة في ثقوب طفولته، بعيداً عن زمجرة الطائرات في وطنه وسقوط البشر كأوراق الخريف في صرخات جدلياته الموجعة في خاصرة الأرض .
في لغة أنيقة وسرداً مكثف داخل موسيقى متسارعة وظفها خياله بشكل ملحمي بدون أن تتحكم فيه اللغة ما أعطى لنصوصه متعة القراءة في مساحة تواكب إشعاعاته المنفرد فيها .

الأربعاء، نوفمبر 21، 2007

كفاكِ تَدَلُّلاً أيتها السعادة !

سامي العامري

المُتشائم هو الروث الوحيد
الذي لا ينبت عليه شيء .
مثل الماني
---------
كفاكِ تدَلُّلاً أيَّتها السعادةُ ,
إنحني أَكْثَرَ
أيَّتها الداليةُ المَيلاء
لأعبُرَ الى الضفةِ الأخرى
دونَ إيابٍ أو نَدَم ٍ
فقد آنَ للحرّاسِ أنْ يناموا
وآنَ لي الإنطلاقُ
خارجَ سجونِ ذاتي الباستيليَّة
وأهمسُ للمَساء :
لَعَلَّهم يتوادعون الآن :
أضواءٌ مُتَثاقِلَةٌ هنا , هناك ,
وانا أيَّتها السعادةُ ,
أيَّتها الفراشةُ المُثْقَلةُ بالنسيم ,
أيَّتُها الغيمةُ المُسْبَلةُ البروقِ
والمُبتَلَّةُ بنبضِ القِطافِ
حيثُ أقام جوعي ويُقيم ,
فاغِرَ اليَدين أنتَظرُ إنهمارَكِ !
باغِتيني أيَّتُها السعادةُ
إهزِميني في عُقْرِ داري!
فَلو كانَ هناك بحرٌ
أوسعُ من هُيامي
إذاً لقامَ مَقامي
ولكنَّ لي ذلاقةَ العواصِفِ الشتائيَّة
وحَنايا ألأُمِّ الرَؤوم
وجروحي تُشرقُ كُلَّما أدركَ الشمسَ المَغيبُ
فأيُّ مُخادِعٍ ذلكَ الذي يَدَّعي
رؤيةَ النجوم ؟!
------------------
alamiri84@yahoo.de

صباحكم أجمل \ زرع وعناقيد


زياد جيوسي

بعدستي: بيت من بيوت رام الله
أتاح لي هذا الجو الخريفي الناعم فرصة التمتع بالتجوال في شوارع رام الله بشكل أكثر كثافة، ففي العادة أخرج في الصباح المبكر وفي الليل أيضاً، ولكن خلال الأيام الماضية كان الجو يتيح لي التجوال في النهار مابين صلاتي الظهر والعصر، فالجو معقول والشمس مقبولة، فكنت أخرج حاملاً حقيبتي الصغيرة التي بها كاميرات التصوير الفوتوغرافي، وان كنت حتى الآن لم أحب ممارسة هواية التصوير بالكاميرا الرقمية، وما زلت أعتمد على كاميرا تعبئ بالفيلم، ومن ثم أنزل الصور على حاسوبي رقمياً، رغم حيازتي لكاميرا رقمية لا أستخدمها إلا فيما ندر، ولعل هذا يعود لاعتيادي منذ زمن طويل على تلك النوعية من الكاميرات، واشعر فيها أنها تعطي المرء القدرة على التحكم بالزوايا والإضاءة والمسافات، بعكس الرقمية التي أشعر أنها تفرض ما تريده هي على عين المصور، فاستغل التقاط عيناي لبعض اللقطات الجميلة لرام الله وأصورها.
أما الأمسيات ففي معظمها كنت وما زلت أتابع مهرجان القصبة السينمائي الدولي الثاني، وقد حفل المهرجان بكم كبير من رائعة الأفلام، سواء العربية أو الوثائقية الفلسطينية أو العالمية، وقد تركت لنفسي الوقت للكتابة عن بعض هذه الأفلام وعن المهرجان بشكل عام وتقيمي في الأيام القادمة.
هذا التجوال النهاري أتاح لي فرصة لتأمل لوحات معرض "تسامح" في حاضنة الثقافة في رام الله، مركز خليل السكاكيني، حيث تأملت وعلى مدى يومين لوحات مميزة لعدد من الفنانين الشباب، كما أتاح لي أيضاً فرصة من السرور والفرح، فأخيراً قامت البلدية مشكورة بإعادة الأسيجة المعدنية التي دمرها الاحتلال أكثر من مرة، لتفصل المشاة عن الشوارع، وقامت شرطة السير مشكورة بتنظيم السير في المنطقة المحيطة بدوار المنارة، فمنعت السير في الشارع للمشاة، والزمتهم بالسير على الرصيف وقطع الشارع من الممرات المخصصة، مما أتاح انسياباً جميلاً لحركة السير، ومُنعت البسطات عن الأرصفة والشوارع، فلم نعد نرى الأعداد الكبيرة من المشاة وهي تزاحم المركبات في ميدان المنارة، وقامت البلدية مرة أخرى بزرع الأزهار في جانب المنارة وأحاطتها بأسيجة مرتبة، في تلك الزاوية التي دأبت الفصائل على اتخاذها منبراً للخطابة، مما كان يؤدي كل مرة إلى تخريب الأزهار وموت الورود، وخلق الأزمات المرورية، فلعل هذا النظام يستمر ويعمم في الشوارع الرئيسة كلها، ويعود السير على الأرصفة فهي وضعت للمشاة، ولعل أمنيتي تتحقق بتنظيف الأبنية والشوارع من عمليات لصق الملصقات في كل مكان، فتختفي هذه البشاعة عن الجدران، وتعود المدينة إلى بهائها والجمال، وان آلمني أن أرى موظفوا دائرة الإحصاء المركزي يلصقون بالغراء ملصقات على الجدران، حتى الرخامية الجميلة منها، فان كان هذا سلوك دائرة مركزية حكومية، فلماذا نلوم على متعهدي الحفلات وعلى أطفال الفصائل، فهل أجمل من النظافة والنظام ؟
هذه الملصقات التي تجتاح جمال المدينة أعادتني لاستكمال حديث الذاكرة، أعادتني لأحداث هامة أثرت في طفولتي، واولاها الجراد.. هذا الجراد الذي هاجم عمّان في تلك الفترة قبل دخولي المدرسة الابتدائية، والذي كنت أراه لأول مرة في حياتي، فلم يترك أخضراً ولا يابس إلا التهمه، حتى أنه من كثافته حجب السماء عن العيون، وخرج الناس يحاولون مكافحته بكافة الوسائل، ولكنه تمكن من التهام الجمال، كما تلتهم الملصقات والإعلانات جمال رام الله الآن، وترك الجراد أثاراً مأساوية على النفوس، فقد التهم الحقول وأوراق الأشجار، التهم الورود والأزهار والأعشاب، ترك الأرض جرداء كأنها صحراء قاحلة، وحين ذهبت إلى خلوتي بجوار دار النهضة في السفح الآخر من جبل الاشرفية ووجدت الجراد قد التهم كل الجمال.. بكيت..
والحدث الطبيعي الآخر هو "الثلجة" الثالثة الكبيرة، كما كانت تسميها أمي، "فالثلجة" الأولى في بدايات الخمسينات من القرن الماضي، والثانية في شباط من العام 1957، وفيها ولد أخي الأصغر مني بعامين والأقرب إلى روحي، جهاد الذي له في الروح والنفس موقع خاص لا ينافسه عليه أحد، فهو كان ولم يزل الأخ والصديق والحبيب، وهذه " الثلجة" الكبيرة تركت على روحي جمال وتأثير كبير، فلأول مرة أشهد الثلج بهذه الكثافة، وترتدي عمّان ثوب زفافها الأبيض، وتغمر روحي رغم طفولتي مشاعر الطهر والتطهر، وزاد من هذا الشعور الجميل، أن الثلج عندما ذاب بعد فترة لا أذكرها، وجادت الشمس بدفئها ونورها، أن اللون الأخضر والورود كست الأراضي الواسعة في ظل قلة البنيان، فأحببت الثلج وتمنيته دوماً.
أما الحدث الأكبر في حياتي في تلك الفترة، أن الوالدة علمتني القراءة من خلال مجلة "بساط الريح"، إن لم تخونني الذاكرة، فالوالدة كانت قارئة نهمة للروايات والأدب، ولم يكن الوالد يبخل بإحضار الروايات لها، وكونه كان يعمل في سلك شرطة السير الأردنية، وبالتالي كان كثير الغياب وكثير التنقل، فكانت الوالدة تشعل "لمبة الجاز" وتقرأ وأنا بجوارها، ولعلها انتبهت لإلحاحي عليها، فكانت تقرأ بصوت أسمعه وأتابع معها حتى أنام، ومن ثم وجهت جهدها لتعليمي القراءة فبدأت أقرأ بدون أن أكتب.
كنت ألح على أهلي أن أدخل المدرسة وخاصة حين دخلها ابن الجيران، وكنت أصغره بشهور محدودة، وكان ينتابني القهر حين أراه عائداً من المدرسة يحمل حقيبته وكتبه، وكون القانون يحكم أن من يدخل المدرسة يجب أن يكون قد ولد خلال السنة المطلوبة للصف الأول الابتدائي، ولا يجوز لمن بدأ السنة التالية ولو بعام أن يدخل المدرسة، وعليه أن ينتظر للعام الدراسي التالي، فكان علي الانتظار، ولكن حجم إلحاحي وبكائي دفع أهلي إلى التحدث مع أحد أقربائنا وكان ضابط في الجيش ليتوسط لي، فأخذني من يدي إلى مدرستي الأولى النظامية، مدرسة الصحابي عبد الرحمن بن عوف، ودخلنا لمدير المدرسة أبو علي رحمه الله، وقد كان كبيراً في العمر، وتقرر قبولي كمستمع لأني اصغر من السن المطلوب، والدراسة قد بدأت منذ شهرين تقريباً، وكان مبنى المدرسة مكوناً من صالة وأربعة غرف صفية لا غير، الصالة تستخدم كإدارة للمدرسة، والغرف الصفية لأربعة صفوف من الأول حتى الرابع الابتدائي.
كنت أقف بين قريبنا والنجوم تتلألأ على كتفيه ومسدسه على جانبه، وبين أبو علي وهو يضع تحت إبطه عصاً للتأديب، وقال له قريبنا العبارة التقليدية: "لكم اللحم ولنا العظم"، كناية عن انتقال الولاية على الطفل من الأهل للمدرسة، فنادى أبو علي على مدرس وسلمني إياه، وقال له: "خذ ها الولد عندك وشوفه بيفلح والا لا، فان فلح سجله والا أبقه مستمعاً"، فأمسكني المدرس بيدي بحنان ولا أعرف سره، هل كان هو حنوناً أم هي رهبة السلطة المتمثلة بضابط من الجيش حضرت معه، أم احترام رهبة المدير، وأدخلني الصف ووقفت أمام الطلبة الذين كانوا ينظرون باستغراب لهذا الوافد المتأخر، ونظر في الصف وأجلسني على مقعد وقال لي: صاحب المقعد غائب اليوم وغداً احضر معك مقعد صغير حتى تجلس، والا جلست على الأرض.
ربما لحسن حظي أن الحصة الأولى كانت في اللغة العربية، وكان هناك درساً مكتوباً على اللوح، وبعد قليل قال الأستاذ: من سيقرأ الدرس ؟ فرفعت يدي، فنظر لي باستغراب وقال: اقرأ، وقرأت، وإذا به يمسكني من يدي ويخرج بي للمدير ويخبره بما جرى، نهض أبو علي من خلف طاولته ونظرات الاستغراب بادية عليه، أعادني للصف ووقفت بينه وبين الأستاذ والدم يتجمد في عروقي، فقد بلغ مني الخوف مبلغه وظننت أني بقراءتي للدرس قد ارتكبت ذنباً، ونظرت العُصي في أياديهم فتحول الخوف إلى رعب داخلي، وطلب مني المدير القراءة فقرأت، فقال لي أين تعلمت القراءة؟ قلت: علمتني أمي.. فطلب من الطلاب أن يصفقوا لي، وقال للأستاذ: أجلسه في المقعد الأمامي وسأثبته كطالب بالمدرسة.
أطال الله بعمرك يا أمي وأسأله تعالى أن أراك بعد هذه السنوات الطويلة التي تقارب العشرة، والتي حرمني الاحتلال فيها من رؤيتك، فقد كنت المعلمة الأولى وما زالت.
مساء الأمس رشرش المطر في رام الله وازداد في الليل وهدأ في الصباح إلا من قطرات متناثرة، بينما كان عصراً شتاء وبرق ورعود في شمال فلسطين، فأثناء حديث هاتفي مع كاتبة صديقة من عمقنا الفلسطيني، كان صوت المطر والرعد قوياً جداً، فقلت لها ننتظر غيوم الخير والغيث من الله ومن عندكم، لكن المطر الذي وصلنا كان شحيحاً، ولعل الله يمن علينا بالغيث حتى تروي الأرض والينابيع، ولعل النفوس تتطهر، والأرض تغتسل من أثار القدم الهمجية التي ما فتأت تقتحم المدن والمخيمات، تقتل وتدمر وتخرب، تعتقل وتجرح وتأسر، ونحن ما زلنا نتراشق التهم واسطوانات التكفير والتخوين، بلا خجل ولا أحاسيس ولا انتماء لوطن أو قضية.
صباح آخر أجمل، حمائم وعصافير وهواء نقي مشبع برائحة المطر، وشوق لطيف غائب لكنه البعيد القريب، حروف خمسة تسكن الروح والقلب، لفافة تبغ وفنجان قهوة والمطر يدق نافذتي، وصوت ناعم هامس أشعر به في أذني، وشدو فيروز:
"شتي يا دنيا تا يزيد موسمنا ويحلى، تدفق مي وزرع جديد بحقلتنا يعلا، خليلي عينك عا الدار عسياج اللي كله أزرار، بكره الشتوية بتروح وبنتلاقى بنوار يحلى عيد ويضوي عيد نزرع ونلم عناقيد، وانطرني لا تبقى تفل وتتركني وحدي عم بطل".
صباحكم أجمل.


رام الله المحتلة

الثلاثاء، نوفمبر 20، 2007

قطاف الأماني

مفيد نبزو
- 1-
أتذكر يوم ركبنا الخطر؟!
ورحنا نجوب بحار القدر؟!
أتذكر يوم جنينا المطر؟!
ويوم هجرنا جميع البشر؟!
وكنا نود قطاف الأماني؟!
- 2-
أتذكر يوم قطفنا الظلال؟!
ويوم امتطينا خيول الجبال؟!
وصدنا هناك طيور الخيال؟!
ونمنا بعرش يفوق الجمال؟!
ونحن نود قطاف الأماني
- 3-
ويوم التقينا لننسى الهموم؟!
ونحلم بالشمس خلف الغيوم؟!
فنركض نركض بين الكروم،
ونقطف بالليل أحلى النجوم،
وكنا نود قطاف الأماني؟!
- 4-
ويوم ركبنا خيولا ًتطير؟!
وفيها قطعنا سهول المصير؟!
وذقنا العذاب المرير المرير؟!
وسرنا وسرنا وجن المسير؟!
وكنا نود قطاف الأماني؟!
- 5-
وساعة كنا بأرض الزنوج؟!
بعرس الفراشات، عرس المروج؟!
وبعد المساء نوينا الخروج؟!
ورحنا نشقُّ الجبال، الثلوج؟!
وكنا نود قطاف الأماني؟

الاثنين، نوفمبر 19، 2007

السماء لا تمطر أقنعة


دينا سليم

- استراليا
تعوّد حمل قناعه حيثما يذهب, يغادر خلسة دون أن يلحظه أحد, صامتا حزينا يخطط, كما في كل يوم, لخيانة جديدة...
كان سريع الخطوات, ثابت الحركة, يتقمص نظرات بريئة حتى يجتاز آخر زاوية تخرجه من حارته, فينعطف الى منطقة نائية, يخلع قناع وجهه البريء فيها ليظهر الشرس منه, فيبدأ نهاره بالبحث .
يضرب قطة تموء جوعا في الطريق, ويركل كل ما هو صامت على أرض حارّة, يعفّرها قاصدا,غاضبا من اللاشىء, صارخا متذمرا بأعلى صوته:
اللعنة, اللعنة, اللعنة...
ينبش القمامة علّه يجد شيئا يأكله, يحطم الزجاجات الفارغة, وبعد أن يفرغها من محتوياتها يتركها للريح تتناقلها كما تشاء, حتى لتصل النهر .
يستمر باحثا عن وجهه الساقط في المياه الجارية, لا يجده! تغادره المياه بسرعة فائقة, تتهرب منه, أو ربما تسحبه معها!
يشرب من مياه النهر العذبة, وحين يرتوي يبصق فيها , لاعنا, ناكرا .
يستمر في طريقه, بمحاذاة النهر, كي يجده! أي وجههُ, يطارده والمياه سائرة تأبى انتظاره, تجرف كل ما تجده في طريقها, حتى ظلال الغيوم المتطايرة في السماء.
يتوقف مشدوها أمام لوحة جميلة ترتجف لها المياه, في يوم صاف ونهار هادىء, وجه امرأة! تصغي الى الهدير, تراقب النوارس, تنتظر كل شىء جميل وتطلب الأجمل.
حالمة, صامتة, مسترخية, مرتاحة وصافية التعابير, تلبس الابتسامة على وجهها. لا حاجة الى أحمر الشفاه فالفم الجميل يخلق مصقولا بالجمال.
لا تدع النهار يفوتها, كل يوم على ذات الحال, تبقى حتى حلول الليل, تنتظر غروب الشمس كما الشروق, وإن حلّ المساء تحتفظ بابتسامتها الواسعة التي تضيء العتمة.
لم يعرف سبب مكوثه كثيرا أمام هذه اللوحة النادرة, ولمَ تتجاهله!
وقعت عيناه على حقيبة نقودها, جاءهُ الفَرَج, ربما يكون رزق اليوم غنيا !
اقترب منها, مدّ يده كي يلتقط المحفظة فإذا بها تبدأ بالغناء, تغني بأعلى صوتها وابتسامتها الواسعة تحتل وجهها الناعم . صمتت الكائنات أمام صوتها العذب, الذي اخترق الفضاء وملأهُ ألحاناً.
الصدى الواسع دلالة السّكون , والصّمت الممتد برهان قاطع على الرّحيل, فكل الكائنات آوت الى مخادعها, حينها أيقنت أن ساعة الرحيل قد حانت.
تستنشق الهواء العليل لآخر مرة, تتحسس الأرض بلطف, تحك الحجارة بأناملها كي تهتدي على الطريق , وتغادر بحذر .
ارتجفت أوصاله وانكسرت نظراته أمام عينيها المتجمدتين, تسارعت نبضات قلبه, بحث عن قناع البراءة, لم يجده, عن قناع السذاجة, توارى! عن قناع البلاهةِ, اختفى! عن قناع الشجاعة, هرب منه...
ينظر الى السماء مستنجدا....:
- اللعنة, اللعنة, اللعنة.
Dina_saleem@hotmail.com

المستوى الأعلى

عبدالله علي الأقزم
أبا فاضل ٍ يا ملتقى حبِّنا الأحلى
و يا كلَّ طيبٍ منكَ في روحِنا يُـتلى
زرعناكَ في الأعماق ِ أحلى تلاوةٍ
فكنتَ لنا شوطاً إلى العَالَم ِ الأعلى
و كنتَ لنا بوحاً تُـضيءُ نقاطُـهُ
و صدقـُكَ يُحيي الروحَ والقلبَ والعـقـلا
و كنتَ لنا التأريخَ في دورانِهِ
و شرحُكَ يثري الماءَ والزرع َ و النخلا
و ما زلتَ في الإحسان ِ نخوةَ فارسٍ
و كلُّكَ نبلٌ زادَ مِنْ فضلِهِ فضلا
و كلُّـكَ في الخيـراتِ أطلقَ مدَّهُ
و أزهـرتَ فينا العزفَ و القولَ والفعلا
و كمْ عشتَ مضمونَ الجَمال ِ و لم تكنْ
كشكل ٍ تهجَّى الناسَ في وصفِهمْ شكلا
بلغتَ مِنَ التفكير ِ أجملَ نـقطةٍ
و ما ضـيَّـعَ التفكيرُ في كفِّـكَ الحلا
أراكَ شهاباً يستطيلُ بـهِ الهُدى
و قد أغرقَ الظلماءَ مِنْ نورِهِ نـُبلا
بشوشٌ ضحوكٌ قد أضافَ جمالـُهُ
إلى الـنَّحل ِ والأزهارِ مِنْ حضنِـهِ حقلا
أبا فاضل ٍ يا كلَّ ألفِ تحيَّةٍ
أقامتـْكَ سكنىً كنْ لها الوِلـدَ و الأهـلا
و كنْ في اشتعال ِ الذكرِ وجهَ تلاوةٍ
و خذ ْ عالَمَ الأنوارِ وازرعْ لهُ سيــلا
و ما أنتَ إلا سيلُ كلِّ إغاثةٍ
تـُداوي جراحَ الأرض ِوالمحتوى الأحلى
بذلتُ إليكَ الحبَّ نبضَ هديَّةٍ
و قلبي إلى لقياكَ كمْ أدمَنَ البـذلا
أطيبُ إذا لاقيتُ روحَـكَ إنـَّهـا
ستبقى لروحي الدَّربَ والمستوى الأعلى
سلاماً على الإسم الجميل ِ أُحبّـُهُ
بجانبِ إسمي الغيثَ و العطرَ و الظـلا
يَحِقُّ لصفوى أن تـُباهي بكَ المدى
فحازتْ بكَ الأضواءَ في مجدِها فصلا
و فيكَ مِنَ الإيمان ِ دمعة ُ ساجدٍ
و فيكَ أعالي الـنـُّورِ قد أبرمتْ وصلا
و فيكَ صفاءُ الروح ِ.... بينَ زهورِهِ
رأيناكَ فوقَ الماء ِ بوحَ السَّما يُـتـلى
رأيناكَ علماً للجذورِ و كيفَ لا
و كلُّ جذورٍ منكَ ما لازمتْ جهلا
تواضعْتَ و الأخلاقُ منكَ جبالـُهـا
و كنتَ لها طوداً و كانـتْ لكَ السَّهلا
علوتَ فكنتَ الدرَّ في عليائِهِ
فأثمرتِ العلياءُ مِنْ درِّكَ الأغلى

كـــُن

د. نوري الوائلي

لم يخشَ قلبي من حدوث ِ بلاء ِ = ما دامَ يرجو حافظا ًبدعاء ِ

فهوَ المجيرُ وخيره متواصل ٌ = يُعطي الخليقة َواهبا ًبرضاء ِ

يا منْ اليه القلبُ يدعو آملا ً = ويلوذ ُ فيه سائلا ً برجاء ِ

افعلْ بفضلكَ ما تحبُّ بحاجتي =واجعلْ بجودكَ فائظا ًبأنائي

واعْززْ حياتي ما يكونُ مناسبا ً = واجعلْ مُرادي قانعا ًبعطاء ِ

أسلمتُ أمري للعزيز ِ مواليا ً= بالله أبقى واثقا ً لشفائي

يا سيّدي أبعدْ بسترك حاجتي =عن كل ِّ باغ ٍ أو حسود سخاء ِ

أنتْ الرجاءُ عليك كل توكلي = لم تبق طفلي جائعا ً لمساء ِ

لا تعطني إن كان َقلبي هاويا ً= دربا ً تراه عامرا ً بشقاء ِ

مُولايَ يا مُولايَ أجبرْ خاطري = وأجبْ بمنكَ داعيا ً ببكاء ِ

مولايَ قلبي قد توسَّم ناظرا ً = منك الأجابة َ يا سميعَ ندائي

فبكنْ سألتكَ يا ألهي خاشعا ً = فبها دعائي مُجلبا ً لغنائي

فبكن لنفسي خيرُ مانطقتْ به = عصبُ الجوارح ِ, والدعاءُ ضيائي

إني غنيٌ إن عبدتك مُوقنا ً = حتى وان كان َالهواءُ غطائي

عصُفتْ بحالي كالصواعق ِغبرة ٌ= وظلمَّ دربي كالدُجى بشتاء ِ

وانسابَ يصعدُ للمعاليَ كثرة ٌ= وبقيتُ في حالي كماء ِ اناء ِ

ورأيتُ ناسا ًحظهمْ ملء الثرى = لكنَّ حظي تائه بفناء ِ

لم أغفُ عن درب ٍلخير ٍ راجيا ً = لكنّها الدنيا ودارُ فناء ِ

تعطي البخيلَ وناقصا ً ما يشتهي = ويعيشُ فيها حامد ٌبعناء ِ

أسعى لقصد ٍقد رأيته مُنيتي = وبكيتُ حسرا ً ان مضى بقضاء ِ

أجري على خيط ٍ لقصديَ تلتوي = قدماي منْ كيد ٍ ومن خُصماء ِ

والله لا أسعى لدنيا إنّما = سعي بها أملا ً بلطف ِ سماء ِ

في كلَّ أرض ٍأو زمان ٍأرتجي = لا بدَّ فيها مَنْ علا كوباء ِ

تاهتْ مراكبُ دُنيتي وتعثرتْ = قدماي كالماشي لحبل ِ فناء ِ

انّ المصائبَ للتقاة ِ روافد ٌ = انْ غابَ كربٌ جاءَ الف ُ بلاء ِ

صبرٌ وصبرٌ ثم صبرٌ بعده = لابد َّ من فرج ٍ وحسن جزاء ِ

انّ الحظوظ َمع المكاسب ِ فتنة = تبلى كما يُبلى سمالُ ردائي

حظي عظيم أن أفوز برحمة ٍ = وصلاح نفسي حامدا ً بثناء ِ

لو طاع أبليسُ اللعينُ إلهه = وانصاع َيسجدُ خاضعا ً بنقاء ِ

ما كانت الدنيا لآدمَ مُوطنا ً = أو عاشَ فيها عرضة ً لعناء ِ

الأحد، نوفمبر 18، 2007

يوسف رزوقة: من لا يحترم الشّعر وأهله، ستخونه نفسه وزوجته والآخرون!



ناجية بوبكر/ تونس
في لقاء نظّمته دار الثّقافة / ابن زيدون بالعمران، إحدى ضواحي تونس العاصمة، الجمعة 16 تشرين الثّاني 2007، أدان الشّاعر التونسيّ يوسف رزوقة، أمام جمع من التّلاميذ والطلبة، شرائح معيّنة من المجتمع العربيّ لا ترى للشّعر، فنّ العربيّة الأوّل، أهمّية في حياتها ولا تقيم لأهله، من ذوي الثّقافة المنفجرة، وزنا على افتراض أنّ أهل الأدب لا يرجى منهم غير الفقر ومشتقّاته وقلّة الأدب وهو العكس تماما، حسب رزوقة ليستدرك أنّ الّشعراء يتبعهم الواعون من جماهير المرحلة وهذا يكفي، في رأيه، للقطع مع تلك النظرة العدائيّة السّائدة الّتي ما انفكّت تنتصر، على حساب الأدب وبمعزل عنه، لحقول معرفيّة، أخرى كالرّياضيّات وغيرها، بدعوى أنّها الأهمّ في حياة الواحد منّا، وهي معادلة خاطئة بالتّأكيد، يؤكّد رزوقة، لا يقول بها إلاّ الجهلة من ذوي العقول الإسفنجيّة، الرّاكدة، مركّزا في الآن نفسه، وهو يقرّ بما يراه خلفيّة معرفيّة لا بدّ منها، على ضرورة المراوحة بين سائر الحقول ومن ضمنها الأدب للإفادة منها جميعا، لا فضل لأيّ حقل على آخر لكن شرط اعتبار الّشعر، بما ينطوي عليه من رسائل مشفّرة هي خلاصة امتلاء نوعيّ بتلاوين الوجود، اعتباره ركيزة النّفس ذات الزّوايا الشّائكة وهي تبحث في حيرتها عن أسلوب حياة يجنّبها الموت والتّأكسد والاغتراب.
وكان الشّاعر يوسف رزوقة استهلّ اللّقاء باستعراض مسيرته الطّويلة في مجال الكتابة الأدبيّة، مشيرا إلى أنّ أوّل نصّ شعريّ كتبه بالفرنسيّة كان بعنوان " من أكون؟"، نشرته مجلّة "الطّموح" الّتي كان يصدرها المعهد الثّانوي بقصور السّاف، حيث يدرس، بإيعاز من أستاذته الفرنسيّة روز ماري جوري، تلاه نصّ قصصيّ نشرته له مجلة " الإذاعة والتّلفزيون" التّونسيّة وقتها تحت عنوان "شيء اسمه الحرمان" وكان عمره إحدى عشرة سنة وقد عانى طويلا من أجل أن يرى محاولاته القصصية والشعريّة منشورة إلى جانب نصوص المتقدّمين من أدباء المرحلة، في المجلاّت والصحف التّونسية ويتوجّه رزوقة إلى الحضور من التّلاميذ والطّلبة ليعرّج على أنّ ما كان يزعجه آنذاك هو عدم اهتمام زملاء الدّراسة وحتّى المجتمع بما كان يكتبه من أشياء ذات صبغة أدبيّة، معتقدين أن لا مستقبل إلاّ للمتّجهين غربا، حيث اينشتاين ونيوتن ومن هو في حكمهما، وهم بذلك " قد سقطوا من عينه" وفي الفخّ فلم يزده ذلك الاتّجاه المعاكس إلاّ اعتدادا وامتلاء بما يكتب وانصرافا عن زملاء " البيوت المكيّفة" إلى حيث يسكن الشّيطان فالشّيطان أرحم، على حدّ تعبيره، من الّذين يدّعون في العلم فلسفة وأشياء أخرى.
وردّا على سؤال حول أسباب تسويغه الشّعريّ للمنجز العلميّ والتكنولوجيّ والرّقميّ عبر مجموعاته الشّعريّة الأخيرة : أزهار ثاني أوكسيد التاريخ، إعلان حالة الطّوارئ، الفراشة والديناميت، كتاب اليوغا الشّعريّة وأرض الصّفر، أجاب رزوقة بأنّه لم يفعل ذلك إلاّ نكاية في أصدقائه من المتعصّبين للعلم دون غيره، في محاولة شعريّة منه لتحقيق المعادلة العادلة بين ما يبدو حكرا على العلماء وهو ليس كذلك وما يبدو حكرا على الأدباء وهو ليس كذلك أيضا، فكلاهما، هاوي الأدب وغاوي العلوم، في رأي رزوقة واحد وعليهما من ثمّة أن يلتقيا في القاسم المعرفيّ والإنسانيّ المشترك، من أجل شيء استثنائيّ، قادم له مواصفات الإنسان الجديد الّذي بوسعه أن يرقص مع المتنبّي في قلب اللّيزر ليخلص في هزل كأنّه جدّ إلى نتيجة مفادها أنّ الّذي لا يحترم الشّعر وأهله، ستخونه نفسه أوّلا وزوجته ثانيا والآخرون!، ذلك أنّ الشّعر، يستطرد ضيف اللّقاء، ليس فقط مجرّد تهويمات ذاتيّة أو تجلّيات وجدانيّة رجراجة أو إيقاع شيطانيّ للإيقاع بامرأة غير واقعيّة أو هروب من واقع أو جنوح إلى ما وراء الأسوار حيث المدينة الفاضلة، بل هو إلى ذلك، يكرّر رزوقة ما قاله سابقا، أسلوب حياة نمارسه جميعا، كلّ على طريقته وبالشّكل الّذي يقتضيه الموقف والحال والواقع، فأن تكون شاعرا، بالممارسة النصّيّة أو بشاعرية السّلوك، يعني أن تكون إنسانا كما ينبغي فلا تتأذى بجهل أنت مصدره ولا تخون ذاتك فيخونك أقرب الناس إليك وأنت آخر من يدري. إنّ عالما كبيرا، على سبيل المثال، أعماه علمه عن زهرة جميلة في متناول نظرته فلم يرها كما ينبغي ولم يشعرها بأنها جميلة، ستخونه هذه الزهرة بالتأكيد يوم لا يجدي ندم أو تكفير عن تقصير، إلى غير ذلك من السلوكات اليوميّة المماثلة والتي لن تستوي لتؤتي أكلها على الوجه الأكمل والأمثل والأجمل إلاّ بشاعريّة الحركة قولا وفعلا وبكلّ شيء جميل كالابتسامة في غير زيف، كالنّظرة العميقة للأشياء، كشاعريّة الشّعار، كفنّ الصّمت والكلام، كالتواصل مع الآخر وحتى مع الأعداء إن وجدوا، كالوقوف بتواضع أمام المرايا المتعاكسة، كالعطاء بلا ضفاف، كالإحساس الصادق بامرأة تشاطرك الطريق أو الكلمات أو الهموم، كالتكيّف مع الواقع على نحو تسوّغه رؤية الّشاعر الذي فيك، إلى غير ذلك، كلّها أطروحات قابلة للتحقق على أرض الواقع، أمّا الذي يمانع، عن مكابرة أو جهلا وهو لا يرى في ما يرى إلا ذاته المتورّمة منعكسة على ماء المستنقع أو في سراب الصّحراء فإنّه لن يسمع وهو في برجه العاجيّ إلاّ نقيق الضفادع ونعيق الغربان، مشيرا إلى ما قاله ذات يوم في إحدى محاضراته من "أن مجرّد ابتسامة زائفة قد تنسف أيّ مشروع ديمقراطيّ من أساسه" ليستشهد بكلمات للفيلسوف نيتشة تقول " سيجيء زمن يصبح فيه للسياسة معنى آخر" وهو ما يراه متجسّدا بشكل ما في المقول الشعريّ ، فالشعر سياسة في العمق وهو يرى بالتالي
" إذا كانت السّياسة فنّ التّعاطي مع الممكن فإنّ الشّعر هو بامتياز فنّ التّعاطي مع اللاّ ممكن الّذي بإمكانه أن يكون ممكنا".
وفي ختام اللقاء، قرأ الشّاعر يوسف رزوقة مقاطع من مطوّلته الشعرية "الذئب في العبارة"، مقاطع من "أزهار ثاني أوكسيد التّاريخ" وقصيدة تحيل على عالم الطّفولة بعنوان "ذاكرة الماء".