ناجية بوبكر / تونس
* لهم المتنبي والشابي ودرويش وآخرون كي يدجّجوا بأسمائهم ثقافتهم العامّة إلى جانب نجوم الكرة وعارضات الأزياء ، أمّا الأسماء الأخرى القريبة منهم جدا إلى حدّ أنهم لا يرونها فهي تضيء في أصقاع أخرى وهم لا يفقهون.
انطلقت الثلاثاء 27 نوفمبر / تشرين الثاني 2007 بكليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعية بتونس "الأيّام الثقافية والشّعريّة" التي جاءت تحت عنوان "لو أنّ للريح جوربا" بتنظيم من الشاعرين فريد السعيداني وجميل عمامي وقد قدّم هذا الأخير الشاعر يوسف رزوقة، ضيف الافتتاح، بكلمة جاء فيها : لو أن للريح جوربا أو هكذا تشتعل الحرائق لإثارة ضجّة ما، لكسر إيقاع صمت، نحتاج لأكثر من ناي ومطرقة لنغنّي...المسألة تحتاج لأكثر من ذاكرة وجرح من أجل إعادة اللون إلى طبيعته والحقيقة إلى بئرها..لكننا سنبقى أحفاد فجر لا يشيخ وفي هذه اللحظة الحاسمة تحديدا، ستولد قصيدة على تماس هاويتين، هناك حيث كلّ شيء أحمر، تضيئه نجمة لا يخفت ضوؤها.. سنبني للريح بيتا وسندعوه لحفل شاي وسنمشط بالحكايا ليلة.. هكذا هو الشعر دائما، وليد الساعة الصفر، لا يهادن ولا يصالح وإن خبّأ أنيابه وراء المجازات والاستعارات وهل من سلاح للشعر غير اللغة؟ لا بدّ من تربة صالحة إذن لنجفف عرق الولادة. لو أن للريح جوربا، لكان الإيقاع مختلفا وفي إطار بحثنا عن الاختلاف دائما وعن خلق لغة بديلة، بلّوريّة الأفق، لا خشب في أحشائها ولا بوليس، استضفنا اليوم شاعرا لا يكتب إلاّ واقفا".
بعد هذه الكلمة، افتتح رزوقة اللقاء بقصيدة " حكومة ظلّ" من ديوانه " أرض الصفر" : تلك المنطقة المحظورة من مدينة ذات الأبراج: يورك الجديدة، جاء في مطلعها : " ما أكتبه، ليس الشعر الموزون أو الشعر المنثور / و ما هو بالإعجاز / فقد ولى زمن الشعراء المنتفخين بأنفسهم - زعماء النظم الزائف و الزلفى- / ما أكتبه بالفحم - هنا و الآن – / محاولة للحلم و للتحريض عليه / و فلسفة للثأر من امرأة ...ولدت هذا الأسطول الهائل من حمقى العالم / و انتظرتهم حتى أثموا !" ليقتحم الشّاعر جمهوريّة ميكروسوفت ويرقص في قلب الليزر، على ضقاف وادي السّيليكون، رقصة الإنسان الجديد بأكثر من قناع.
من مناخات هذه المطوّلة الشّعريّة، هذا المقطع وفيه تجسيد لمحاورة بين سقراط وأفلاطون:
في القرن الخامس قبل الميلاد، استدعى سقراط محاوره المتألق أفلاطون..
و قال له بالحرف الغائب :
حاورني و كأنك مجنون !.
لكن محاوره المتألق أفلاطون..
تعلق بامرأة في القرن الحادي و العشرين
فلم يأبه برؤى سقراط
و لا بفلاسفة الماضي و الحكمة و القانون..
رأى المستقبل في كلمات تكتبها امرأة :
رقصا في قلب الليزر
حتى استرخاء مفاصلها و النوم عميقا في عينيه..
.. و كان يراودها من زاوية الزمن القاصي
و يردد :
كيف تعملق ميكروسوفت و أعدم فلسفتي..
لتراقصه امرأة الأضواء بكامل أحرفها..
عوضا عني ؟..
آه مني !
كم كنت بعيدا عن شفتي !
ووحيدا في لغتي !
الآن فقط
ستعاودني في القرن الخامس قبل الميلاد، الحمى..
لأعود إلى سقراط و من معه : أعمى
أعمى، أعمى ..
فارأف بي يا سقراط
أنا لم أقفز من زمني..
إلا من أجل محاورة أسمى
لكني خبت و خابت فلسفتي
لم ألق مكانا لي في جمهورية مكيروسوفت
و لم أجد امرأة تحبوني يدها كي ألثمها..
و أعود إلى نفسي
مرتاح البال و ممتلئا بشذى الأنثى/
بأظافرها في فلسفتي .
لم أحظ بغير الليزر
يدفق مؤتلقا من عينيها، كالسيف..
(أقلت " السيف"؟..)
أأقصد أن الليزر أكثر إنباء في الشاشة..
من سيف يزن الـ..
بل يلزمه في الواقع، كي يزن الآتي بالماضي
آلاف الجزر الضوئية و السنوات…
كن نفسك.. كي تعفى
من وضع العبد و خذ ما يكفي من حلم
كي تشفى
من منفاك…
دمك المتدفق.. أسرع من ضوضاء الطابعة المجنونة،
غير بعيد عنك..
تقوس ظهرك أكثر مما يلزم
و الأكتاف ؟
تلاحمت الأكتاف/ تصلبت الرقبه
اجلس في وضع آخر :
في كرسي دوار مثلا…
لا! لا تخش المنفى !
و اطرد فوبيا الكمبيوتر / كل الخوف المتراكم فيك
و لا تخش المنفى:
و اطرد متلازمة الكومبيوتر :
لا تقلق :
دع عنك نقاط الشاشة / لا تهتم بها
و اترك كومبيوترك..
كي تتفسح في البستان قليلا
لا تخش المنفى
و اطرد متلازمة السيليكون
و لا تهرب للداخل، مما يحدث أحيانا، في
الخارج..
لا تخش المنفى !
لا تخش الإجهاد البصري
و هذا الماء الأزرق في عينيك!..
زمن الحمى و.. الكوليرا :
طفل يبكي ، يبكي ، يبكي..
تتناسخ صورته عبر الأصقاع بآلاف النسخ..
الكون بأكمله أعذاق نخيل خاوية..
و يد تمتد لتخمش أقصى الأرض، أظافرها…
أين الخنساء ؟
هل ابتلت في القبر بدمع الطفل، ضفائرها؟…
بعض النقده
من ديناصورات الزمن الحجري
جثوا في الشارع تحت الشرفة…
ينتقدون العالم :
كيف ترقمن ؟
و الأنموذج كيف طغى ؟
و الشاعر من عدمه ..
و الشاعر وهو يرى ما لم يره النقده
أغواه الشيطان
و لم يك- وهو يبارزه بالليزر و الكلمات- من العبده..
أغوته اللعبة :
وهو يدير حكومته العملاقة ..
من ردهات المكتبة الرقمية
يستدعي البواب ، مراجعه المتقاطعة، الموسوعة، كل فهارسها و خرائطها و بنوك المصطلحات
(وقد) تدعوه إلى المستقبل عبر الألياف الضوئية فائقة السعة امرأة من أنسجة و دم..
فيبادلها في الوقت الضائع دردشة خضراء بدردشة..
تتمدد صورته عبر المسح الضوئيّ …
ليرسلها للتو إلى معشوقته…
و أنا في الموقع ..
في صلب الترويج المتقاطع للـ"بستان"،
لـ"ثاني أوكسيد التاريخ"، لـ" أعمالي الشعرية"، لي …
ثمّ مهّد لقصيدته الثانية "ملحمة الخاتم" بما مفاده أنّ " تدحرجنا إلى ما نحن فيه اليوم، من أزمات باتت مزمنة قد تكون بدأت عوارضه، حسب الاحتكام إلى وقائع التاريخ، مع ثالث الأجداد الرّاحلين، بضياع خاتم الرسول (صلعم) في بئر أريس واندلاع "واقعة الجمل" الشهيرة وما إليها، والخاتم كما تعلمون هو رمز هويّتنا التي بضياع الخاتم، ضاعت، يقول رزوقة:
هو خاتم ضيّعته
أو ضيّعته يد من الأيدي الطّويلة
ذات زهو
ذات لهو
ذات سهو
عند بئر أريس
حتّى أنّني غادرت صحرائي
وجئت إلى هنا...
الوضع ليس ملائما أبدا
لأيّ تلاعب
بمشاعر امرأة
تعاني منذ "بئر أريس"
وضعا خارج الموضوع
ضاع الخاتم
الأجداد ضاعوا كلّهم
وكذلك الأحفاد
ضاعت جنّة أولى وثانية وثالثة
وضاع البحر بين يدي وحيد القرن
ضاع المنجنيق
وضاعت البصمات
ضاعت في الحريق مدينة أولى وثانية وثالثة
وضاع الخاتم، الإنسان والتّاريخ
ضاع الخاتم، القسمات والينبوع
ضاع الخاتم، المعنى الذّي فينا وفي الموضوع
ضاع الخاتم، الكلمات والجغرافيا
امرأة فقط
ظلّت على قيد الحياة
و منذ بئر أريس
وهي تعيش وضعا خارج الموضوع
بل هي تلك زرقاء اليمامة
أمعنت في سمل عينيها
لترحل بين عاصمة وعاصمة وعاصمة وعا...
عمياء
ذاك أقلّ فداحة
من رؤية امرأة تعسّر وضعها
حتّى انحنى لصراخها نخل العراق
وذاك، ثانية...
أقلّ ضراوة
من رؤية "السّيّاب" في تمثاله
وقد انحنى ليلمّ بين شظيّة وشظيّة أشلاءه
بل ذاك ، ثالثة...
أقلّ شراسة
من رؤية الإنسان : "رعد مطشّر" والآخرين
فريسة التّمساح والمارينز".
لغة مشفرة
مباشرة بعد فراغه من إنشاد القصيدتين، تلقّفه جمهور الطلبة بفيض من الأسئلة المربكة والمحرجة أفاض رزوقة، على امتداد أربع ساعات كاملة، في الإجابة عليها بأريحيّة الشّاعر الذي لا يهمّه، حسب تعبيره، إلاّ النّصف الفارغ من زجاجة الواقع، أمّا الجزء الملآن بما ينطوي عليه من مآثر وانتصارات، إن وجدت، فلا يهمّه على الإطلاق، داعيا في الآن نفسه محاوريه إلى ضرورة قتله، إن استطاعوا، كما يفعل هو مع نظرائه الشعراء الذين هيمنوا منذ قرون على ذائقة الجمهور المستهدف بإيقاع متخلف عن عصرنا هذا وبمضامين موغلة في القدامة وفي التغني المبالغ فيه بالأنا المريضة فقد آثر منذ البداية أن يقتل، من باب الحبّ، المتنبي وأبا تمّام ومن لفّ لفّهما حتّى يظلّوا على قيد الحياة، على خلفيّة أن شاعر أية مرحلة لا يمكنه أن يكون المتنبي أو غيره في النصّ أو في الحياة، فلكلّ شاعر يولد كبيرا خصوصيته وصوته وإيقاعه الخاصّ المتناغم مع عصره. ويتساءل:هل بإمكان شاعر من هذا الزمان أن يشهر سيفا وأن يتغنى بالناقة أو بالفرس كما فعل الشعراء القدامي وهو يعيش واقع الآلة بضغطها العالي وما يداخل الحالة البشرية من هبوبات التشيئة والهستيريا والعولمة الشرسة؟
لذلك، يضيف رزوقة، من واجبنا، كي نحقق ذاتنا وتوازننا في عصرنا هذا، أن نهدم ما بناه الآخرون، شرط أن نبني على أنقاضهم بدائل أخرى وأن نجهز من ثمّ على إحساسنا المتوارث فنصهر تراث الأجداد صهرا فلا نبقي منه للأجيال المتعاقبة إلاّ ما يبدو مضيئا، يخدم الإنسان في تطلعاته الراهنة.
وحول كيف نفهم مدى ثوريّة النصّ الإبداعيّ من عدمها ، أفاض رزوقة في تبيان البعد المتعدّد لدى شاعر المرحلة، مضيفا أنّ شاعر اليوم يمارس السياسة بالعمق الذي أعلنه نيتشه ذات فلسفة حين قال " كفى! سيجيء زمن يصبح فيه للسياسة معنى آخر" بمعنى أنّ السياسة لم تعد فن التعاطي مع الممكن كما لدى القائلين بها عادة ممارسة وخطابا بل أضحت، بالتوازي مع ذلك، لغة مشفرة يلهج بها الشاعر والفيلسوف ورجل الشارع أيضا ومن ثمّة انتهى كلّ شيء سياسة، حسب الطرح السيميائيّ والبعد المتعدد للظاهرة.
وليس صحيحا أنّ إبداعنا ظلّ رهين محبسه المغاربيّ، يدحض رزوقة ما ذهب إليه أحد المحاورين، فمع قيام "القرية الألكترونية" التي بشّر بها مارشال ماكلوهان، تلاقت الأطراف وقام واقع تواصليّ، جديد ليصبح المغمور مشهورا والقاصي في متناول العين. بل إنّ هذا الواقع الجديد قلب المعادلات ليصبح الواحد منّا عابرا للحدود بإبداعه الذي كان قديما محكوما عليه بالنوم طويلا في الدهليز.لكن مع ذلك، تظلّ مقولة "لا نبيّ في قومه" أو "زمّار الحيّ لا يطرب" قائمة لدينا على نحو مرضيّ، فادح لأسباب يعرفها ذوو القلوب الصغيرة المنتصرة بحكم العادة والانعكاس الشرطيّ البافلوفيّ للآخر المكرّس على حساب مبدع المكان ولو كان هذا الأخير "فلتة زمانه".
شخصيّا، أربأ بنفسي عن الانخراط في أيّ عمل دعائيّ من شأنه أن يحسّس أبناء وطني الكبير بمدى أهميتي، مكتفيا باستراتيجية الإبداع في صمت مع ابتسامة ملجومة على الوجه الباكي في الوقت الذي يراني فيه آخرون بأمريكا اللاتينية مثلا بعين الانبهار إلى حدّ جعل كاتبة مكسيكية تكتب ثلاثية روائية من وحي ما نشرته من شعر بالإسبانية وتجعلني بطلا محوريا فيها.
لكنّ هذا التغاضي من أهل المكان الذي ننتمي إليه روحيا وتاريخيا وجغرافيا، لا يزيدنا في الواقع إلا إصرارا على التحليق عاليا وبعيدا وضحكا على ذقون الجهلة من صغار النفوس، تاركين لهم المتنبي والشابي ودرويش وآخرين كي يدجّجوا بأسمائهم في كلّ مناسبة ثقافتهم العامّة إلى جانب نجوم الكرة وعارضات الأزياء دون أن تكون لهم أدنى موهبة في تحيين ما بالذاكرة لاستيعاب أسماء أخرى، قريبة منهم جدا إلى حدّ أنهم لا يرونها لكنها طليعية ورائدة في أصقاع أخرى وهم لا يفقهون.
تشعبت أسئلة المحاورين حول الهدم والبناء، طقوس الكتابة، المرأة كمصدر إلهام دائم، الكتابة والعري،إلى جانب أسئلة أخرى، حارقة أجاب عليها يوسف رزوقة بكلّ تلقائية لتسلّمه في ختام اللقاء إحدى الطالبات رسالة جاءت في شكل قصيدة تقول في أحد مقاطعها" قد رأيتني مصلوبة في هيكل شعر ورأيت أحد عشر قربانا والحرف والأبجدية لي يسجدان، فكيف لي بنبوءتك وأنت قابع في كهف أفلاطون تسبح بالعشق لظل اله؟" لتختمها بتمنياتها بقتله، بناء على دعوة ضيف المكان إلى ذلك في بداية اللقاء..
شعر ورسم ومحاضرة حول التخلف الآخر
هذا والتقى الجمهور الطالبيّ في اليوم الثاني مع الشّعراء التونسيين المنصف الوهايبي الذي قرأ قصائد جديدة من ضمنها قصيدة "المائدة" مهداة إلى شوقي أبي شقرا، فتحي النصري، صلاح بن عياد إلى جانب الشاعر اليمنيّ أحمد السلاّمي الذي رافقه الشاعر يوسف رزوقة إلى الأمسية حتي يتواصل مع نظرائه من الشعراء التونسيين ومع الجمهور من خلال قراءات شعرية له.
وفي اليوم الثالث، ألقى عالم الاجتماع الدكتور محمود الذوادي محاضرة بعنوان " التخلف الآخر: أزمة الهويات الثقافية في تونس والوطن العربي" مع فسحة موازية للشعر والرسم.
وبرمج اليوم الختامي، الجمعة 30 نوفمبر / تشرين الثاني2007، للشعراء شاكر اللعيبي من العراق، هادي دانيال من سوريا ومحمد الهادي الجزيري من تونس.
انطلقت الثلاثاء 27 نوفمبر / تشرين الثاني 2007 بكليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعية بتونس "الأيّام الثقافية والشّعريّة" التي جاءت تحت عنوان "لو أنّ للريح جوربا" بتنظيم من الشاعرين فريد السعيداني وجميل عمامي وقد قدّم هذا الأخير الشاعر يوسف رزوقة، ضيف الافتتاح، بكلمة جاء فيها : لو أن للريح جوربا أو هكذا تشتعل الحرائق لإثارة ضجّة ما، لكسر إيقاع صمت، نحتاج لأكثر من ناي ومطرقة لنغنّي...المسألة تحتاج لأكثر من ذاكرة وجرح من أجل إعادة اللون إلى طبيعته والحقيقة إلى بئرها..لكننا سنبقى أحفاد فجر لا يشيخ وفي هذه اللحظة الحاسمة تحديدا، ستولد قصيدة على تماس هاويتين، هناك حيث كلّ شيء أحمر، تضيئه نجمة لا يخفت ضوؤها.. سنبني للريح بيتا وسندعوه لحفل شاي وسنمشط بالحكايا ليلة.. هكذا هو الشعر دائما، وليد الساعة الصفر، لا يهادن ولا يصالح وإن خبّأ أنيابه وراء المجازات والاستعارات وهل من سلاح للشعر غير اللغة؟ لا بدّ من تربة صالحة إذن لنجفف عرق الولادة. لو أن للريح جوربا، لكان الإيقاع مختلفا وفي إطار بحثنا عن الاختلاف دائما وعن خلق لغة بديلة، بلّوريّة الأفق، لا خشب في أحشائها ولا بوليس، استضفنا اليوم شاعرا لا يكتب إلاّ واقفا".
بعد هذه الكلمة، افتتح رزوقة اللقاء بقصيدة " حكومة ظلّ" من ديوانه " أرض الصفر" : تلك المنطقة المحظورة من مدينة ذات الأبراج: يورك الجديدة، جاء في مطلعها : " ما أكتبه، ليس الشعر الموزون أو الشعر المنثور / و ما هو بالإعجاز / فقد ولى زمن الشعراء المنتفخين بأنفسهم - زعماء النظم الزائف و الزلفى- / ما أكتبه بالفحم - هنا و الآن – / محاولة للحلم و للتحريض عليه / و فلسفة للثأر من امرأة ...ولدت هذا الأسطول الهائل من حمقى العالم / و انتظرتهم حتى أثموا !" ليقتحم الشّاعر جمهوريّة ميكروسوفت ويرقص في قلب الليزر، على ضقاف وادي السّيليكون، رقصة الإنسان الجديد بأكثر من قناع.
من مناخات هذه المطوّلة الشّعريّة، هذا المقطع وفيه تجسيد لمحاورة بين سقراط وأفلاطون:
في القرن الخامس قبل الميلاد، استدعى سقراط محاوره المتألق أفلاطون..
و قال له بالحرف الغائب :
حاورني و كأنك مجنون !.
لكن محاوره المتألق أفلاطون..
تعلق بامرأة في القرن الحادي و العشرين
فلم يأبه برؤى سقراط
و لا بفلاسفة الماضي و الحكمة و القانون..
رأى المستقبل في كلمات تكتبها امرأة :
رقصا في قلب الليزر
حتى استرخاء مفاصلها و النوم عميقا في عينيه..
.. و كان يراودها من زاوية الزمن القاصي
و يردد :
كيف تعملق ميكروسوفت و أعدم فلسفتي..
لتراقصه امرأة الأضواء بكامل أحرفها..
عوضا عني ؟..
آه مني !
كم كنت بعيدا عن شفتي !
ووحيدا في لغتي !
الآن فقط
ستعاودني في القرن الخامس قبل الميلاد، الحمى..
لأعود إلى سقراط و من معه : أعمى
أعمى، أعمى ..
فارأف بي يا سقراط
أنا لم أقفز من زمني..
إلا من أجل محاورة أسمى
لكني خبت و خابت فلسفتي
لم ألق مكانا لي في جمهورية مكيروسوفت
و لم أجد امرأة تحبوني يدها كي ألثمها..
و أعود إلى نفسي
مرتاح البال و ممتلئا بشذى الأنثى/
بأظافرها في فلسفتي .
لم أحظ بغير الليزر
يدفق مؤتلقا من عينيها، كالسيف..
(أقلت " السيف"؟..)
أأقصد أن الليزر أكثر إنباء في الشاشة..
من سيف يزن الـ..
بل يلزمه في الواقع، كي يزن الآتي بالماضي
آلاف الجزر الضوئية و السنوات…
كن نفسك.. كي تعفى
من وضع العبد و خذ ما يكفي من حلم
كي تشفى
من منفاك…
دمك المتدفق.. أسرع من ضوضاء الطابعة المجنونة،
غير بعيد عنك..
تقوس ظهرك أكثر مما يلزم
و الأكتاف ؟
تلاحمت الأكتاف/ تصلبت الرقبه
اجلس في وضع آخر :
في كرسي دوار مثلا…
لا! لا تخش المنفى !
و اطرد فوبيا الكمبيوتر / كل الخوف المتراكم فيك
و لا تخش المنفى:
و اطرد متلازمة الكومبيوتر :
لا تقلق :
دع عنك نقاط الشاشة / لا تهتم بها
و اترك كومبيوترك..
كي تتفسح في البستان قليلا
لا تخش المنفى
و اطرد متلازمة السيليكون
و لا تهرب للداخل، مما يحدث أحيانا، في
الخارج..
لا تخش المنفى !
لا تخش الإجهاد البصري
و هذا الماء الأزرق في عينيك!..
زمن الحمى و.. الكوليرا :
طفل يبكي ، يبكي ، يبكي..
تتناسخ صورته عبر الأصقاع بآلاف النسخ..
الكون بأكمله أعذاق نخيل خاوية..
و يد تمتد لتخمش أقصى الأرض، أظافرها…
أين الخنساء ؟
هل ابتلت في القبر بدمع الطفل، ضفائرها؟…
بعض النقده
من ديناصورات الزمن الحجري
جثوا في الشارع تحت الشرفة…
ينتقدون العالم :
كيف ترقمن ؟
و الأنموذج كيف طغى ؟
و الشاعر من عدمه ..
و الشاعر وهو يرى ما لم يره النقده
أغواه الشيطان
و لم يك- وهو يبارزه بالليزر و الكلمات- من العبده..
أغوته اللعبة :
وهو يدير حكومته العملاقة ..
من ردهات المكتبة الرقمية
يستدعي البواب ، مراجعه المتقاطعة، الموسوعة، كل فهارسها و خرائطها و بنوك المصطلحات
(وقد) تدعوه إلى المستقبل عبر الألياف الضوئية فائقة السعة امرأة من أنسجة و دم..
فيبادلها في الوقت الضائع دردشة خضراء بدردشة..
تتمدد صورته عبر المسح الضوئيّ …
ليرسلها للتو إلى معشوقته…
و أنا في الموقع ..
في صلب الترويج المتقاطع للـ"بستان"،
لـ"ثاني أوكسيد التاريخ"، لـ" أعمالي الشعرية"، لي …
ثمّ مهّد لقصيدته الثانية "ملحمة الخاتم" بما مفاده أنّ " تدحرجنا إلى ما نحن فيه اليوم، من أزمات باتت مزمنة قد تكون بدأت عوارضه، حسب الاحتكام إلى وقائع التاريخ، مع ثالث الأجداد الرّاحلين، بضياع خاتم الرسول (صلعم) في بئر أريس واندلاع "واقعة الجمل" الشهيرة وما إليها، والخاتم كما تعلمون هو رمز هويّتنا التي بضياع الخاتم، ضاعت، يقول رزوقة:
هو خاتم ضيّعته
أو ضيّعته يد من الأيدي الطّويلة
ذات زهو
ذات لهو
ذات سهو
عند بئر أريس
حتّى أنّني غادرت صحرائي
وجئت إلى هنا...
الوضع ليس ملائما أبدا
لأيّ تلاعب
بمشاعر امرأة
تعاني منذ "بئر أريس"
وضعا خارج الموضوع
ضاع الخاتم
الأجداد ضاعوا كلّهم
وكذلك الأحفاد
ضاعت جنّة أولى وثانية وثالثة
وضاع البحر بين يدي وحيد القرن
ضاع المنجنيق
وضاعت البصمات
ضاعت في الحريق مدينة أولى وثانية وثالثة
وضاع الخاتم، الإنسان والتّاريخ
ضاع الخاتم، القسمات والينبوع
ضاع الخاتم، المعنى الذّي فينا وفي الموضوع
ضاع الخاتم، الكلمات والجغرافيا
امرأة فقط
ظلّت على قيد الحياة
و منذ بئر أريس
وهي تعيش وضعا خارج الموضوع
بل هي تلك زرقاء اليمامة
أمعنت في سمل عينيها
لترحل بين عاصمة وعاصمة وعاصمة وعا...
عمياء
ذاك أقلّ فداحة
من رؤية امرأة تعسّر وضعها
حتّى انحنى لصراخها نخل العراق
وذاك، ثانية...
أقلّ ضراوة
من رؤية "السّيّاب" في تمثاله
وقد انحنى ليلمّ بين شظيّة وشظيّة أشلاءه
بل ذاك ، ثالثة...
أقلّ شراسة
من رؤية الإنسان : "رعد مطشّر" والآخرين
فريسة التّمساح والمارينز".
لغة مشفرة
مباشرة بعد فراغه من إنشاد القصيدتين، تلقّفه جمهور الطلبة بفيض من الأسئلة المربكة والمحرجة أفاض رزوقة، على امتداد أربع ساعات كاملة، في الإجابة عليها بأريحيّة الشّاعر الذي لا يهمّه، حسب تعبيره، إلاّ النّصف الفارغ من زجاجة الواقع، أمّا الجزء الملآن بما ينطوي عليه من مآثر وانتصارات، إن وجدت، فلا يهمّه على الإطلاق، داعيا في الآن نفسه محاوريه إلى ضرورة قتله، إن استطاعوا، كما يفعل هو مع نظرائه الشعراء الذين هيمنوا منذ قرون على ذائقة الجمهور المستهدف بإيقاع متخلف عن عصرنا هذا وبمضامين موغلة في القدامة وفي التغني المبالغ فيه بالأنا المريضة فقد آثر منذ البداية أن يقتل، من باب الحبّ، المتنبي وأبا تمّام ومن لفّ لفّهما حتّى يظلّوا على قيد الحياة، على خلفيّة أن شاعر أية مرحلة لا يمكنه أن يكون المتنبي أو غيره في النصّ أو في الحياة، فلكلّ شاعر يولد كبيرا خصوصيته وصوته وإيقاعه الخاصّ المتناغم مع عصره. ويتساءل:هل بإمكان شاعر من هذا الزمان أن يشهر سيفا وأن يتغنى بالناقة أو بالفرس كما فعل الشعراء القدامي وهو يعيش واقع الآلة بضغطها العالي وما يداخل الحالة البشرية من هبوبات التشيئة والهستيريا والعولمة الشرسة؟
لذلك، يضيف رزوقة، من واجبنا، كي نحقق ذاتنا وتوازننا في عصرنا هذا، أن نهدم ما بناه الآخرون، شرط أن نبني على أنقاضهم بدائل أخرى وأن نجهز من ثمّ على إحساسنا المتوارث فنصهر تراث الأجداد صهرا فلا نبقي منه للأجيال المتعاقبة إلاّ ما يبدو مضيئا، يخدم الإنسان في تطلعاته الراهنة.
وحول كيف نفهم مدى ثوريّة النصّ الإبداعيّ من عدمها ، أفاض رزوقة في تبيان البعد المتعدّد لدى شاعر المرحلة، مضيفا أنّ شاعر اليوم يمارس السياسة بالعمق الذي أعلنه نيتشه ذات فلسفة حين قال " كفى! سيجيء زمن يصبح فيه للسياسة معنى آخر" بمعنى أنّ السياسة لم تعد فن التعاطي مع الممكن كما لدى القائلين بها عادة ممارسة وخطابا بل أضحت، بالتوازي مع ذلك، لغة مشفرة يلهج بها الشاعر والفيلسوف ورجل الشارع أيضا ومن ثمّة انتهى كلّ شيء سياسة، حسب الطرح السيميائيّ والبعد المتعدد للظاهرة.
وليس صحيحا أنّ إبداعنا ظلّ رهين محبسه المغاربيّ، يدحض رزوقة ما ذهب إليه أحد المحاورين، فمع قيام "القرية الألكترونية" التي بشّر بها مارشال ماكلوهان، تلاقت الأطراف وقام واقع تواصليّ، جديد ليصبح المغمور مشهورا والقاصي في متناول العين. بل إنّ هذا الواقع الجديد قلب المعادلات ليصبح الواحد منّا عابرا للحدود بإبداعه الذي كان قديما محكوما عليه بالنوم طويلا في الدهليز.لكن مع ذلك، تظلّ مقولة "لا نبيّ في قومه" أو "زمّار الحيّ لا يطرب" قائمة لدينا على نحو مرضيّ، فادح لأسباب يعرفها ذوو القلوب الصغيرة المنتصرة بحكم العادة والانعكاس الشرطيّ البافلوفيّ للآخر المكرّس على حساب مبدع المكان ولو كان هذا الأخير "فلتة زمانه".
شخصيّا، أربأ بنفسي عن الانخراط في أيّ عمل دعائيّ من شأنه أن يحسّس أبناء وطني الكبير بمدى أهميتي، مكتفيا باستراتيجية الإبداع في صمت مع ابتسامة ملجومة على الوجه الباكي في الوقت الذي يراني فيه آخرون بأمريكا اللاتينية مثلا بعين الانبهار إلى حدّ جعل كاتبة مكسيكية تكتب ثلاثية روائية من وحي ما نشرته من شعر بالإسبانية وتجعلني بطلا محوريا فيها.
لكنّ هذا التغاضي من أهل المكان الذي ننتمي إليه روحيا وتاريخيا وجغرافيا، لا يزيدنا في الواقع إلا إصرارا على التحليق عاليا وبعيدا وضحكا على ذقون الجهلة من صغار النفوس، تاركين لهم المتنبي والشابي ودرويش وآخرين كي يدجّجوا بأسمائهم في كلّ مناسبة ثقافتهم العامّة إلى جانب نجوم الكرة وعارضات الأزياء دون أن تكون لهم أدنى موهبة في تحيين ما بالذاكرة لاستيعاب أسماء أخرى، قريبة منهم جدا إلى حدّ أنهم لا يرونها لكنها طليعية ورائدة في أصقاع أخرى وهم لا يفقهون.
تشعبت أسئلة المحاورين حول الهدم والبناء، طقوس الكتابة، المرأة كمصدر إلهام دائم، الكتابة والعري،إلى جانب أسئلة أخرى، حارقة أجاب عليها يوسف رزوقة بكلّ تلقائية لتسلّمه في ختام اللقاء إحدى الطالبات رسالة جاءت في شكل قصيدة تقول في أحد مقاطعها" قد رأيتني مصلوبة في هيكل شعر ورأيت أحد عشر قربانا والحرف والأبجدية لي يسجدان، فكيف لي بنبوءتك وأنت قابع في كهف أفلاطون تسبح بالعشق لظل اله؟" لتختمها بتمنياتها بقتله، بناء على دعوة ضيف المكان إلى ذلك في بداية اللقاء..
شعر ورسم ومحاضرة حول التخلف الآخر
هذا والتقى الجمهور الطالبيّ في اليوم الثاني مع الشّعراء التونسيين المنصف الوهايبي الذي قرأ قصائد جديدة من ضمنها قصيدة "المائدة" مهداة إلى شوقي أبي شقرا، فتحي النصري، صلاح بن عياد إلى جانب الشاعر اليمنيّ أحمد السلاّمي الذي رافقه الشاعر يوسف رزوقة إلى الأمسية حتي يتواصل مع نظرائه من الشعراء التونسيين ومع الجمهور من خلال قراءات شعرية له.
وفي اليوم الثالث، ألقى عالم الاجتماع الدكتور محمود الذوادي محاضرة بعنوان " التخلف الآخر: أزمة الهويات الثقافية في تونس والوطن العربي" مع فسحة موازية للشعر والرسم.
وبرمج اليوم الختامي، الجمعة 30 نوفمبر / تشرين الثاني2007، للشعراء شاكر اللعيبي من العراق، هادي دانيال من سوريا ومحمد الهادي الجزيري من تونس.