الاثنين، أغسطس 13، 2007

مختارات من قصائد الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي



يا أصدقاء
لشد ما أخشى نهاية الطريق

وشد ما أخشى تحية المساء إلى اللقاء أليمة إلى اللقاء,

و اصبحوا بخير

وكل ألفاظ الوداع مُرة

والموت مُرّ

وكل شىء يسرق الإنسان

من إنسان شوارع المدينة الكبيرة

قيعان نار تجترُّ في الظهيرة ما شربتْه في الضحى من اللهيب

يا ويله مَن لم يصادف غيرَ شمسها

غيرَ البناء والسياج,

والبناء والسياج غيرَ المربعات والمثلثات والزجاج

يا ويله

مَن ليله فضاء ويوم عطلته خال من اللقاء

يا ويله

مَن لم يحب كل الزمان

حول قلبه شتاء

يا أصدقاء

يا أيها الأحياء

تحت حائط أصمّ

يا جذوة في الليل لم تنم

لشد ما أخشى نهاية الطريق

أود ألا ينتهي ولا يضيق

ويفرش الرؤى المخضلة السعيدة أمامنا...

في لا نهاية مديدة

كأفق قرية في لحظة الشروق

والأفق رحب في القرى حنون

وناعم و قرمزىّ

يحضن البيوت وتسبح الأشجار فيه كالهوادج المسافرة

يا ليتنا هناك نسير تحت صمته العميق

ونوره المضبب الرقيق

جزيرة من الحياة

ينساب دفء زرعها على المياه

ولا تملّ سيرها...

يا أصدقاء

الليل في المدينة الكبيرة

عيد قصير النور والأنغام والشباب والسرعة الحمقاء والشراب

عيد قصير شيئا فشيئا...

يسكت النغم

ويهدأ الرقص

وتتعب القدم

وتكنس الرياح كلَّ مائدة

فتسقط الزهور

وترفع الأحزان في أعماقنا رؤوسها الصغيرة

وننثني إلى الطريق صفان من مسارج مضببة

كأنها عمدان قرية مخرَّبة

تنام تحتها الظلال

وقد تمرُّ مركبة ترمي علينا بعض عطرها السجين

وساعة الميدان من بعيد

دقاتها ترثى المساء

وتلتوى أمامنا

مفارق ثلاثة تمتد في بطن الظلام والسكون

وتهمسون: إلى اللقاء.

الليل وحده يهون وداعه وحده يهون،

فالنهار ذو عيون تُجَمِّعُ العقد الذى انفرط

لكن دربنا طويل

وربما جزناه أشهراً و أشهراً معاً

لكننا يوما سنرفع الشراع

كلٌّ إلى سبيل

فطهروا بالحب ساعة الوداع

**

العودة من المنفى
لما تحررت المدينة عدت من منفاي،

أبحث في وجوه الناس عن صحبي،

فلم أعثر على أحدٍ،

وأدركني الكلالْ

فسألت عن أهلي،

وعن دارٍ لنا

فاستغرب الناس السؤالْ

وسألت عن شجرٍ قديمٍ،

كان يكتنف الطريق إلى التلال

فاستغرب الناس السؤال

وبحثت عن نهر المدينة دون جدوى،

وانتبهت إلى رمادٍ نازلٍ من جمرة الشمس التي كانت تميل إلى الزوال

وفزعت حين رأيت أهل مدينتي يتحدثون بلكنةٍ عجماء متجهين نحوي،

فابتعدت، وهم أمامي يتبعون تراجعي بخطىً ثِقالْ

حتي خرجت من المدينة مثقلاً بحقائبي

وانهرت مثل عمود ملحٍ في الرمال.

**

خمرية
الأصدقاء الحميمون أقبلوا في ثياب جديدةٍ

من بلادٍ بعيدةٍ

وقبورْ ساقوا سماءً إلى البهو من دخانٍ

وشدوا نجومها بخيوطٍ ورفرفوا كالطيورْ

بعيدة كأسُنا الأولى،

والوجوه عليها من النهار انطفاءات،

والمدينة ضمت أسواقها وتهاوت تحت الزجاج المطير.

بعيدة هذه الكأس،

والنهار بعيد وعن يمين بساتيننا التي لانراها لما ركبنا عليهم أسوارها،

ودخلنا كانت هناك تلال من خالص التبر،

كانت من النساء عذارى كلؤلؤٍ منثور ورب ظبيٍ غرير دعوته لسرير!

وكان ثَم رفات يسيل بين محطاتٍ أدبَرتْ،

ومحطاتٍ أقبلت وجسور ولات حين نشور!

من ينزل الغيم؟

لي فيه وردة أزهرت وحدها هناك،

وأبقت جذورها راعياتٍ في جسمي المهجورْ.

بعيدة هذه الكأس، مثل شمسٍ شتائيةٍ تدور،

وتفترّ عن سنىً مقرورْ ونحن بين المرايا نعشو لها بمهيض،

من الجناح، كسير محاصرين بأشباحنا،

نبادلها الكر والفرار،

إلى أن مضى الزمان فقمنا وانسلّ كل لمثواه في الظلام الأخير

الأصدقاء الحميمون أقبلوا في ثيابٍ جديدةٍ من بلادٍ بعيدةٍ

وقبور ساقوا سماءً إلى البهو من دخانٍ

وشدوا نجومها بخيوطٍ ورفرفوا كالطيور.

**
الرجل والقصيدة
ماحيلتي؟

وخطاي أقصر من خطاك*

تروح مستبقًا، فتسبقني، وتنأى،

ثم لا ألقاك إلا في نهايات الطريق

وعليك من ذكر المغامرة افتضاحٌ فاتنٌ،

وعليك أصوات، وألوان، قطوف من بواكير الخليقة،

أو رؤىً مما تزخرفُ فيك ألسنةُ الحريق!

وأنت تبعث من رمادك طيباً وتعود للمقهى،

فتشرب كأسنا، وتموت،

هل هو موتك المنشود،

أم موت القصيدة مشتهاك؟

وكلاكما متبرجٌ لرفيقه وكلاكما ذاوٍ،

ومنطفئٌ على طرف السرير،

وأنت تبحث في صباها، دون جدوى، عن صباك!.

خبأت كنزى فيكِ، أيتها الصبية،

وارتحلتْ

علّمت جسمك لونَ جسمي،

صوته الجياش،

حتى صرتِ لي لغةٌ، وذاكرة،

وها أنا مذ رجعتِ عارٍ أفتش فيك عن وجهي القديم،

فلا يطل عليّ من خلف الحجاب سواك أنت.!
هي وردة الليل الفريدة، تصطفي رجلاً،

وتمنحه بهاء الكل،

تسكنه سريرتها،

وترضعه الخلايا والعروق

وهل تنيلك منتهاها،

قبل أن تنجاب عنك وجوهك الأخرى،

وتدرك منتهاكْ وأنت وحشيٌ،

وعذْب كنت تجفل حين توشك أن تنال،

وكنت مشدوداً إلى شئٍ هناكْ وكنت تفتنها بحزنك،

ثم ترحل هارباً منها،

وتعبر في فيافي الروح من ضيق لضيقْ وتعود للمقهى،

فتشرب كأسنا،

وتموت هل هو موتك المنشود،

أم موت القصيدة مشتهاكْ؟.

ليست هناك تعليقات: