سامي العامري
مقالة في إشكالية مصطلح الأجيال الشعرية وقضايا أخرى
ليس من طبعي الهجاء او أن أصل بالقصيدة الى مستوىً بحيث أجعلُها أداةً للكشفِ بطريقة مباشرةٍ عمّا أعتقده زيفاً ولكني ربما لم أجد طريقة أخرى يفهمها البعض ومنهم الشاعر فاضل العزاوي غير هذه اللغة رغم ( تجاوزهم ) لها .
ومن بين ما هدفتُ اليه كذلك هو التذكير بأنَّ البحور العربية لا يمكن أن تتهاوى او تُزال بجرَّة قلمٍ من أناسٍ لا يدركون أسرارَها العميقة تماماً ولا يفقهون بالتالي أسرار اللغة العربية , وبالمناسبة , آخر قصيدة قرأتُها للعزاوي كانتْ موزونة ! ولا أدري أين هي فلسفتهم السابقة التي فَلقونا بها ! وممّا زاد من ثقتي بذلك أنَّ العديد من الشعراء والمثقفين من سبعة مواقع علَّقَ على قصيدتي تلك وأغلبهم كان يعاتبني وجُلُّ عتابهم كان يدور حول محورٍ واحدٍ وهو أنه ما كان عليَّ أن أَعرضَ قصائدي على شاعرٍ ما , أيِّ شاعرٍ حتى ولو كان المتنبي , والمبدع الحقيقي هو مَن يكتب للتأريخ .
وهم مُحِقّون دون شكٍّ ولكنْ لا أحدَ ينكر أنَّ الحلَّ والربط في أمور النشر كثيراً ما كانا بيد العزاوي وبعض أصحابهِ من خلال عملهم في تحرير العديد من المجلات الأدبية وقتذاك وبودّي لو أستطعتُ غلقَ هذا الموضوع بالأمس قبل اليوم ! وسأفعل ولكن هذا لن يتمَّ من غير أن أوضِّحَ أمراً أراه مهمَّاً وعلى صلةٍ بهذه الموضوع ألا وهو مصطلح الأجيال فما يُقلقُ الكثيرَ من شعراء اليوم او المحسوبين على الشعر ليس الإبداعَ وإنما كيفية العثور على سبيلٍ للإنتساب الى الشعراء الرُوّاد وكأنها تميمةٌ تحفظ حامليها من مخاطر السقوط في مهاوي النسيان ومن هنا كان الإقتتال المُخْجِل بين العديد من القبائل وظهرتْ بشكلٍ لافتٍ للنظر ( أنطولوجياتٌ ) كثيرة للشعر العراقي والعربي تدعوك الى التهكُّم من شدَّة تباينها بل وتناقضها وإلصاقِ أشباحٍ لا تملك حتى أُولى مستلزمات الكتابة الشعرية كالإحاطة بالعروض والتمكُّن من اللغة والنحو وقبل هذا وبعدهِ تنمُّ عن انعدام الموهبة , والأكثر إستغراباً أنّ العديد من واضعي هذه الأنطولوجيات هم ليسوا بشعراءَ أصلاً ومع هذا تطلُّ عليك أسماءُهم من داخل هذه الإضمامة الجهنمية وتُتَرجَم نماذجُ من ( أشعارهم ) الى اللغات الأخرى بل وبعضهم يكتبون بلُغاتٍ أجنبيةٍ ما يظنونه شعراً بينما هم لا يعرفون كتابة الشعر بلغتهم الأُمّ !
فأية إساءةٍ تُقدَّم الى الشعر العربي ووجههِ الناصع حينما تُقدَّمُ هذه التفاهة الى القاريء الأجنبي من خلال حشدٍ من الإمَّعات باعتبارها خلاصةً للشعر العربي الحديث ولكن مع ذلك من المؤكَّد أن المستقبل سيكشف هذه الضحالة فلا تنعكس نتائجُها إلاّ على مَن حاول تعميم هذه الضحالة وهذه السهولة وهذا التجنّي , وواحدٌ من أسطعِ الأدِّلةِ على هذا التجنّي أنّ أغلب واضعيْ ما يُسمّى بالأنطولوجيات هذه يعرفني إنْ لم تكنْ معرفةً عن قربٍ فعلى الأقل قرأ لي وانا الذي نشرتُ أوَّل قصيدة لي في مجلة خليجية عام 1980 وكانت هذه المجلة تصل العراق ولم أعد أتذكَّرُ إسمها ولكنها لا تخرج عن هذين الإسمين إمّا الظفرة او اليقظة وكان من شعراء ذلك العدد إبراهيم زيدان , أتذكَّرُ اسمه وقصيدته جيداً , أقول : رغم أنهم يعلمون بأني أنشر وإنْ كان بشكلٍ ليس جادّاً نوعاً ما منذ 15 عاماً ويعلمون بأنَّ لديَّ من الأعوام في المُغترَبات ما يسيلُ لهُ لُعابُ التماسيح ! – كما عبَّرتُ في إحدى قصائدي النثرية الأخيرة - إلاّ أنهم لم يدرجوا اسمي ,
لماذا ؟
لأنَّ ذِكْرَ اسمي لا ينفعهم في شيء فهل بعد هذا أملٌ بمصداقيةٍ او نزاهة ؟
وطبعاً لستُ الوحيد فهناك العشرات من الأسماء التي تَمَّ تجاهلُها , ولكنْ الأكيد أنَّ الشاعر ذا الموهبةِ الحقيقيةِ والكبيرَ الروح والممتليءَ بالوطنية والحسِّ الإنساني الصادق لن يحتاج الى انطولوجيا عبد القادر الجنابي وغيرهِ كاعترافٍ بهِ
او بتعبير أدقِّ : إنَّ الشاعر الحقيقي يرفض أن ( يُبَوَّب ) أضِفْ الى ذلك أنَّ هؤلاء منذ البدء كانت لهم منابرهم الصحفية المقتصرة على مجموعة لا تتبدَّل ولا تتحوَّل إلاّ بقدر ما يتطلَّبه المزاج .
وعودةً الى مصطلح الأجيال أقول :
في الميثولوجيا الشعبية هناك حكايةٌ او حادثة طريفة تُنسَب الى فرعون وبعضهم ينسبها الى الإسكندر الكبير , تقول الحكاية أنّ فرعون على جبروتهِ قتَلَتْهُ بعوضةٌ او ذبابة إذْ أنها دخلتْ أذنَهُ فَحُشِرَتْ هناك فلم يستطع هو ولا أطبّاءُه ولا سَحَرَتُهُ إخراجَها فكان طنينُها المتواصل في رأسهِ يمنعهُ من الإستقرار في مكانٍ واحدٍ وفي الختام طلَبَ من أتباعهِ أنْ يستمروا في الضرب على رأسهِ بقبضاتهم وأحياناً بالعصيِّ وغيرها ! ففي تلك الحالة فقط كان يحسُّ بالهدوء والراحة !
ولكنْ رغم ذلك لم ينفعهُ هذا العلاج طويلاً فمات , والقاتل ذُبابة !
وواضحٌ أنَّ في هذه الحكاية دعوة الى عدم الإغترار والتعالي ولكني وجدتُ فيها مغزىً آخرَ إذْ أنَّ البحث غير المنقطع عن ( شُرْكةٍ ) مع أصحاب الحداثة الأوائل كانَ وما يزالُ يطنُّ في آذانِ العديدين من الذين جاءوا مباشرة بعد جيل السياب فأمامي كتابان يتحدَّثان
عن الدور ( الريادي ) لمؤِّلِفَي الكتابيَن ناهيكَ عن مقالاتهما السابقة في بعض المجلات وشبكة الإنترنيت وبما أنهما وجدا أنَّ حُجَجَهُما ليست كافية فقد بدأت هجماتهما على السياب واتهامهما قصائدَهُ بالركاكة والسذاجة والثرثرة الخ ...
وبعيداً عن قيمة قصائد هذا الشاعر من الوجهة الفنية و( الفكرية ) ولكن ماذا يريدون أن يقولوا لنا بمحاولتهم النيَلَ من هذا الشاعر او إدِّعائِهم مشاركتَهُ الريادة ؟! بل وأكثر من هذا أنهم حينما اكتشفوا أنَّ السياب ونازك وغيرهما باتوا حقيقة تأريخية حُدِّدتْ أبعادُها عمدوا الى مصطلح الأجيال فصرنا نسمع بشعراء ستينيين وآخرين سبعينيين وغيرهم ثمانيين وهكذا , بينما واقعُ الحال يقول : إنَّ هذه التسميات وهمية وبائسة قد تنفع مَن يريد أنْ يطَّلع على الراهن الشعري اليوم أمّا من حيث قيمتها المستقبلية فلا أعتقد أنَّ أحداً بعد الف عامٍ – هذا إذا بقينا على قيد الحياة فعلاً كشعبٍ عربيٍّ ودولٍ لها ملامحُ محدَّدةٌ على خارطة العالم السياسية والحضارية – أقول : لا أعتقدُ , مهما تخيَّلتُ أنَّ أحداً سيجلس بعد الف عامٍ ويقول : أحبُّ أن أقرأ لشاعرٍ ستّيني او سبعيني !
ولكننا نرى أنَّ جيلنا الحالي عاش ويعيش مرحلة انتقالية حاسمة في تأريخ التطور البشري وعلى الكثير من الصُّعَد العلمي منها والسياسي والثقافي بمعناه العام , ومن المفاصل ذات الأهمية او الدلالة التأريخية في هذه المرحلة مثلاً انهيار الإتحاد السوفيتي السابق والسيطرة على العالم اليكترونياً وغيرهما وأمّا عراقياً ونوعاً ما عربياً وإقليمياً فظهور نظام صدّام وحروبهِ الداخليةِ والخارجية ومن ثمّ شَنقهِ لاحقاً , كلُّ هذه الأحداث وسواها جاءتْ مؤطَّرةً زمنيّاً بدخول العالم قرناً جديداً بل وأكثر من هذا انتقالهُ من الفيِّةٍ الى أخرى . وعليه فالعالَم اذا أراد أن يُخلِّدَ عظماءَهُ من هذا العصر أدباءَ وعلماءَ ومفكِّرين - والعظماء قلائلُ دائماً - فقد يقول عن أحدهم : هذا عالِم مخضرم وهذا شاعر مخضرم وهكذا ولا يقول : سبعيني او ثمانيني !
وبناءاً على هذا , أين تقف حكاية الأجيال الشعرية اليوم ؟ إنها بلا ريبٍ خداعٌ
لذا فمِن المُستحسَن التخلُّصُ من هذا الطنين فالطِّبابةُ قد تطوَّرتْ كثيراً في عصرنا هذا بحيث لا يصعب عليها إخراج هذه الذبابة بمهارةٍ وبالتالي لا يحتاج مَن دخلَتْ أذنَهُ الى الضرب بالعصيِّ !
ومن مظاهر هذا الطنين أيضاً أنّ الجيل الستيني ينظر بغطرسة الى الجيل السبعيني ونفس الأمر مع السبعيني في نظره الى الجيل الثمانيني ! ولذا فعندما قرأَ فاضل العزاوي قصيدتي عنه أبى أنْ يردَّ عليها في الصحف او الإنترنيت ليدافعَ عن نفسهِ او على الأقلّ يبرِّر ما أوضحتُه عنهُ , وإنما اكتفى بإرسال سطرٍ واحدٍ لي في رسالةِ إيميل , يقول فيه بصيغة الإستفهام الإنكاري: وهل أرسلتَ الى مجلتنا قصائدك فأهملناها ؟ أبعثْها لي وسترى .
ومسألة التعالي هذه لا تخصُّ العزاوي وحدَهُ فهنا مثالٌ قريب آخر فقد نَشَرَ د. كاظم حبيب في عدة مواقع قصيدةَ الشاعر يحيى السماوي الجميلة في ردِّهِ على قصيدة لعبد الرزاق عبد الواحد وعلَّق عليها ولكنهُ لم يُشِرْ الى قصيدتي وهي ردٌّ أيضاً على عبد الرزاق حول نفس الموضوع ولمّا كتبتُ ردَّاً ونشرْتُه في عدة مواقع طالباً منه توضيحاً لم يوضِّحْ الملابسات بعدة سطور ينشرُها وإنما مثل العزاوي يعتبرني من جيل أكثر حداثة ! لذا فهو بعث لي برسالةِ إيميل قائلاً بأنه لم يسبقْ له أنْ اطَّلَعَ على قصيدتي , في حين بادرَ د. عدنان الظاهر فَنَشَرَ انطلاقاً من أمانتهِ العلمية توضيحاً أشكرُهُ عليه كثيراً تبيَّنَ لي من خلالهِ أنه قد حلَّ هذا الإشكال , والأديب الناقد الظاهر , وهو الأكاديمي , أوسع إطِّلاعاً من الإثنين على التراث الأدبي العربي وأكبر منهما سِنَّاً كما أحسب .
والآن وقد أصبحتْ تقنية الإنترنيت في متناول الكثير من البشر وأصبح المؤلِّف مؤلِّفاً وناشراً في ذات الوقت , عليّ أن أنوِّه الى أنَّ الإمكانات الكبيرة التي يقدِّمها الإنترنيت
هي من جانبٍ ثانٍ نقمةٌ على الكثيرين من مُحَرِّري المجلات المطبوعة التي تعنى بالشعر والأدب والتي بعضها لا يزال يصدر وإلاّ فكيف بإمكانهم التلاعبُ بأعصاب الكاتب بعد اليوم ؟
كولونيا
ليس من طبعي الهجاء او أن أصل بالقصيدة الى مستوىً بحيث أجعلُها أداةً للكشفِ بطريقة مباشرةٍ عمّا أعتقده زيفاً ولكني ربما لم أجد طريقة أخرى يفهمها البعض ومنهم الشاعر فاضل العزاوي غير هذه اللغة رغم ( تجاوزهم ) لها .
ومن بين ما هدفتُ اليه كذلك هو التذكير بأنَّ البحور العربية لا يمكن أن تتهاوى او تُزال بجرَّة قلمٍ من أناسٍ لا يدركون أسرارَها العميقة تماماً ولا يفقهون بالتالي أسرار اللغة العربية , وبالمناسبة , آخر قصيدة قرأتُها للعزاوي كانتْ موزونة ! ولا أدري أين هي فلسفتهم السابقة التي فَلقونا بها ! وممّا زاد من ثقتي بذلك أنَّ العديد من الشعراء والمثقفين من سبعة مواقع علَّقَ على قصيدتي تلك وأغلبهم كان يعاتبني وجُلُّ عتابهم كان يدور حول محورٍ واحدٍ وهو أنه ما كان عليَّ أن أَعرضَ قصائدي على شاعرٍ ما , أيِّ شاعرٍ حتى ولو كان المتنبي , والمبدع الحقيقي هو مَن يكتب للتأريخ .
وهم مُحِقّون دون شكٍّ ولكنْ لا أحدَ ينكر أنَّ الحلَّ والربط في أمور النشر كثيراً ما كانا بيد العزاوي وبعض أصحابهِ من خلال عملهم في تحرير العديد من المجلات الأدبية وقتذاك وبودّي لو أستطعتُ غلقَ هذا الموضوع بالأمس قبل اليوم ! وسأفعل ولكن هذا لن يتمَّ من غير أن أوضِّحَ أمراً أراه مهمَّاً وعلى صلةٍ بهذه الموضوع ألا وهو مصطلح الأجيال فما يُقلقُ الكثيرَ من شعراء اليوم او المحسوبين على الشعر ليس الإبداعَ وإنما كيفية العثور على سبيلٍ للإنتساب الى الشعراء الرُوّاد وكأنها تميمةٌ تحفظ حامليها من مخاطر السقوط في مهاوي النسيان ومن هنا كان الإقتتال المُخْجِل بين العديد من القبائل وظهرتْ بشكلٍ لافتٍ للنظر ( أنطولوجياتٌ ) كثيرة للشعر العراقي والعربي تدعوك الى التهكُّم من شدَّة تباينها بل وتناقضها وإلصاقِ أشباحٍ لا تملك حتى أُولى مستلزمات الكتابة الشعرية كالإحاطة بالعروض والتمكُّن من اللغة والنحو وقبل هذا وبعدهِ تنمُّ عن انعدام الموهبة , والأكثر إستغراباً أنّ العديد من واضعي هذه الأنطولوجيات هم ليسوا بشعراءَ أصلاً ومع هذا تطلُّ عليك أسماءُهم من داخل هذه الإضمامة الجهنمية وتُتَرجَم نماذجُ من ( أشعارهم ) الى اللغات الأخرى بل وبعضهم يكتبون بلُغاتٍ أجنبيةٍ ما يظنونه شعراً بينما هم لا يعرفون كتابة الشعر بلغتهم الأُمّ !
فأية إساءةٍ تُقدَّم الى الشعر العربي ووجههِ الناصع حينما تُقدَّمُ هذه التفاهة الى القاريء الأجنبي من خلال حشدٍ من الإمَّعات باعتبارها خلاصةً للشعر العربي الحديث ولكن مع ذلك من المؤكَّد أن المستقبل سيكشف هذه الضحالة فلا تنعكس نتائجُها إلاّ على مَن حاول تعميم هذه الضحالة وهذه السهولة وهذا التجنّي , وواحدٌ من أسطعِ الأدِّلةِ على هذا التجنّي أنّ أغلب واضعيْ ما يُسمّى بالأنطولوجيات هذه يعرفني إنْ لم تكنْ معرفةً عن قربٍ فعلى الأقل قرأ لي وانا الذي نشرتُ أوَّل قصيدة لي في مجلة خليجية عام 1980 وكانت هذه المجلة تصل العراق ولم أعد أتذكَّرُ إسمها ولكنها لا تخرج عن هذين الإسمين إمّا الظفرة او اليقظة وكان من شعراء ذلك العدد إبراهيم زيدان , أتذكَّرُ اسمه وقصيدته جيداً , أقول : رغم أنهم يعلمون بأني أنشر وإنْ كان بشكلٍ ليس جادّاً نوعاً ما منذ 15 عاماً ويعلمون بأنَّ لديَّ من الأعوام في المُغترَبات ما يسيلُ لهُ لُعابُ التماسيح ! – كما عبَّرتُ في إحدى قصائدي النثرية الأخيرة - إلاّ أنهم لم يدرجوا اسمي ,
لماذا ؟
لأنَّ ذِكْرَ اسمي لا ينفعهم في شيء فهل بعد هذا أملٌ بمصداقيةٍ او نزاهة ؟
وطبعاً لستُ الوحيد فهناك العشرات من الأسماء التي تَمَّ تجاهلُها , ولكنْ الأكيد أنَّ الشاعر ذا الموهبةِ الحقيقيةِ والكبيرَ الروح والممتليءَ بالوطنية والحسِّ الإنساني الصادق لن يحتاج الى انطولوجيا عبد القادر الجنابي وغيرهِ كاعترافٍ بهِ
او بتعبير أدقِّ : إنَّ الشاعر الحقيقي يرفض أن ( يُبَوَّب ) أضِفْ الى ذلك أنَّ هؤلاء منذ البدء كانت لهم منابرهم الصحفية المقتصرة على مجموعة لا تتبدَّل ولا تتحوَّل إلاّ بقدر ما يتطلَّبه المزاج .
وعودةً الى مصطلح الأجيال أقول :
في الميثولوجيا الشعبية هناك حكايةٌ او حادثة طريفة تُنسَب الى فرعون وبعضهم ينسبها الى الإسكندر الكبير , تقول الحكاية أنّ فرعون على جبروتهِ قتَلَتْهُ بعوضةٌ او ذبابة إذْ أنها دخلتْ أذنَهُ فَحُشِرَتْ هناك فلم يستطع هو ولا أطبّاءُه ولا سَحَرَتُهُ إخراجَها فكان طنينُها المتواصل في رأسهِ يمنعهُ من الإستقرار في مكانٍ واحدٍ وفي الختام طلَبَ من أتباعهِ أنْ يستمروا في الضرب على رأسهِ بقبضاتهم وأحياناً بالعصيِّ وغيرها ! ففي تلك الحالة فقط كان يحسُّ بالهدوء والراحة !
ولكنْ رغم ذلك لم ينفعهُ هذا العلاج طويلاً فمات , والقاتل ذُبابة !
وواضحٌ أنَّ في هذه الحكاية دعوة الى عدم الإغترار والتعالي ولكني وجدتُ فيها مغزىً آخرَ إذْ أنَّ البحث غير المنقطع عن ( شُرْكةٍ ) مع أصحاب الحداثة الأوائل كانَ وما يزالُ يطنُّ في آذانِ العديدين من الذين جاءوا مباشرة بعد جيل السياب فأمامي كتابان يتحدَّثان
عن الدور ( الريادي ) لمؤِّلِفَي الكتابيَن ناهيكَ عن مقالاتهما السابقة في بعض المجلات وشبكة الإنترنيت وبما أنهما وجدا أنَّ حُجَجَهُما ليست كافية فقد بدأت هجماتهما على السياب واتهامهما قصائدَهُ بالركاكة والسذاجة والثرثرة الخ ...
وبعيداً عن قيمة قصائد هذا الشاعر من الوجهة الفنية و( الفكرية ) ولكن ماذا يريدون أن يقولوا لنا بمحاولتهم النيَلَ من هذا الشاعر او إدِّعائِهم مشاركتَهُ الريادة ؟! بل وأكثر من هذا أنهم حينما اكتشفوا أنَّ السياب ونازك وغيرهما باتوا حقيقة تأريخية حُدِّدتْ أبعادُها عمدوا الى مصطلح الأجيال فصرنا نسمع بشعراء ستينيين وآخرين سبعينيين وغيرهم ثمانيين وهكذا , بينما واقعُ الحال يقول : إنَّ هذه التسميات وهمية وبائسة قد تنفع مَن يريد أنْ يطَّلع على الراهن الشعري اليوم أمّا من حيث قيمتها المستقبلية فلا أعتقد أنَّ أحداً بعد الف عامٍ – هذا إذا بقينا على قيد الحياة فعلاً كشعبٍ عربيٍّ ودولٍ لها ملامحُ محدَّدةٌ على خارطة العالم السياسية والحضارية – أقول : لا أعتقدُ , مهما تخيَّلتُ أنَّ أحداً سيجلس بعد الف عامٍ ويقول : أحبُّ أن أقرأ لشاعرٍ ستّيني او سبعيني !
ولكننا نرى أنَّ جيلنا الحالي عاش ويعيش مرحلة انتقالية حاسمة في تأريخ التطور البشري وعلى الكثير من الصُّعَد العلمي منها والسياسي والثقافي بمعناه العام , ومن المفاصل ذات الأهمية او الدلالة التأريخية في هذه المرحلة مثلاً انهيار الإتحاد السوفيتي السابق والسيطرة على العالم اليكترونياً وغيرهما وأمّا عراقياً ونوعاً ما عربياً وإقليمياً فظهور نظام صدّام وحروبهِ الداخليةِ والخارجية ومن ثمّ شَنقهِ لاحقاً , كلُّ هذه الأحداث وسواها جاءتْ مؤطَّرةً زمنيّاً بدخول العالم قرناً جديداً بل وأكثر من هذا انتقالهُ من الفيِّةٍ الى أخرى . وعليه فالعالَم اذا أراد أن يُخلِّدَ عظماءَهُ من هذا العصر أدباءَ وعلماءَ ومفكِّرين - والعظماء قلائلُ دائماً - فقد يقول عن أحدهم : هذا عالِم مخضرم وهذا شاعر مخضرم وهكذا ولا يقول : سبعيني او ثمانيني !
وبناءاً على هذا , أين تقف حكاية الأجيال الشعرية اليوم ؟ إنها بلا ريبٍ خداعٌ
لذا فمِن المُستحسَن التخلُّصُ من هذا الطنين فالطِّبابةُ قد تطوَّرتْ كثيراً في عصرنا هذا بحيث لا يصعب عليها إخراج هذه الذبابة بمهارةٍ وبالتالي لا يحتاج مَن دخلَتْ أذنَهُ الى الضرب بالعصيِّ !
ومن مظاهر هذا الطنين أيضاً أنّ الجيل الستيني ينظر بغطرسة الى الجيل السبعيني ونفس الأمر مع السبعيني في نظره الى الجيل الثمانيني ! ولذا فعندما قرأَ فاضل العزاوي قصيدتي عنه أبى أنْ يردَّ عليها في الصحف او الإنترنيت ليدافعَ عن نفسهِ او على الأقلّ يبرِّر ما أوضحتُه عنهُ , وإنما اكتفى بإرسال سطرٍ واحدٍ لي في رسالةِ إيميل , يقول فيه بصيغة الإستفهام الإنكاري: وهل أرسلتَ الى مجلتنا قصائدك فأهملناها ؟ أبعثْها لي وسترى .
ومسألة التعالي هذه لا تخصُّ العزاوي وحدَهُ فهنا مثالٌ قريب آخر فقد نَشَرَ د. كاظم حبيب في عدة مواقع قصيدةَ الشاعر يحيى السماوي الجميلة في ردِّهِ على قصيدة لعبد الرزاق عبد الواحد وعلَّق عليها ولكنهُ لم يُشِرْ الى قصيدتي وهي ردٌّ أيضاً على عبد الرزاق حول نفس الموضوع ولمّا كتبتُ ردَّاً ونشرْتُه في عدة مواقع طالباً منه توضيحاً لم يوضِّحْ الملابسات بعدة سطور ينشرُها وإنما مثل العزاوي يعتبرني من جيل أكثر حداثة ! لذا فهو بعث لي برسالةِ إيميل قائلاً بأنه لم يسبقْ له أنْ اطَّلَعَ على قصيدتي , في حين بادرَ د. عدنان الظاهر فَنَشَرَ انطلاقاً من أمانتهِ العلمية توضيحاً أشكرُهُ عليه كثيراً تبيَّنَ لي من خلالهِ أنه قد حلَّ هذا الإشكال , والأديب الناقد الظاهر , وهو الأكاديمي , أوسع إطِّلاعاً من الإثنين على التراث الأدبي العربي وأكبر منهما سِنَّاً كما أحسب .
والآن وقد أصبحتْ تقنية الإنترنيت في متناول الكثير من البشر وأصبح المؤلِّف مؤلِّفاً وناشراً في ذات الوقت , عليّ أن أنوِّه الى أنَّ الإمكانات الكبيرة التي يقدِّمها الإنترنيت
هي من جانبٍ ثانٍ نقمةٌ على الكثيرين من مُحَرِّري المجلات المطبوعة التي تعنى بالشعر والأدب والتي بعضها لا يزال يصدر وإلاّ فكيف بإمكانهم التلاعبُ بأعصاب الكاتب بعد اليوم ؟
كولونيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق