الاثنين، أغسطس 27، 2007

دار اخرى


حسن عبدالرزاق
دروب
منهارا طرق الباب الريفية.
هي الاخرى ، كما القرية قبل ذلك ، لم يجد لها منزلا في ذاكرته . فدار اهله التي غادرها منذ ربع قرن كانت من طين وقصب ، لكن الصبي الذي استعان به ، جزم بان هذا الطابوق هو بديل الطين ، وان الذين بداخلها هم اهله.
طرق براحة مبسوطة مثلما كان يفعل عند عودته من المدرسة سابقا .. وانتظر. وفي فترة الانتظار تلك عاد مشهد الرجال الثلاثة الملثمين وهم يوقفون سيارة الاجرة في الطريق الزراعي ويسلبون منه حقائبه الاربع وكل دولاراته ، عاد للمرة الخامسة كسوط من لهب يجلد عاطفته ، رغم انه لم يحصل الا قبل ساعة واحدة تقريبا.
ثمة مرارة ولوم وندم وسخط واستغراب وخيبة تتكالب على اعصابه وروحه وتقصي عن فؤاده الى الابد وجه هذه القرية الذي التصق بوجوه كل ايام غربته الطويلة.
فاللصوص الذين هربوا في طريق ترابي وسط البيداء ، قاموا بتسليبه بلا اية حدود للرجولة ، خصوصا ذلك الشاب الطويل ،الملثم كالمحاربين الصحراويين ،الذي اصر على تسليبه بطغيان حقير:
(اخرس. هات ما لديك بصمت. لا اريد ان اسمع منك أي كلام. ساقتلك ان تفوهت باية كلمة . لاعلاقة لي بهويتك)
وعبارات اخرى اثقل منها ، جعلته يرى عالم افلام العصابات مجسدا امامه بكل تفاصيله.
فتح الباب بعد طرقات متتالية تصاعد من رنينها نفاد الصبر. فتحته امراة شابة ذات ملامح خالية من خجل القرويات وممتلئة بصلافة قريبة من العهر. واندهشت وهي ترى رجلا صريح الترف يقف امام الباب فسالته بنبرة زاجرة:
- ماذا تريد؟
لكن الامراة العجوز التي هرعت مسرعة خلفها ، شهقت بعد تفرس قصير، ثم هتفت بكل لوعة الامومة (( ابني)) .
عندها تحولت الدار الى صندوق ضاج ، تتردد فيه تلك الكلمة بتواتر استمر لااكثر من دقيقة.لم يشم وهو يدخل الباحة المفتوحة على سماء القرية رائحة صباه ، ولاعطر الريف الذي طغى على عطور اوربا ، فالدار صورة اخرى لاتشبه صورة السياج القصبي وكوخيه الطينيين .
انه يرى الان صورة سياج عال وفي داخله غرفتان من الطابوق مطليتان بصبغ اخضر غامق ينم عن ذائقة تحاول التخلص عبثا من قرويتها وتتحول الى المدينة.هنا تقافز هو واخته الكبرى في طفولته الحافية. وهنا كبر على جوع ووحدة بعد ان ماتت اخته الوحيدة بالسحايا الدماغية . وهنا فرح بكل عواطف الريفي وهو يجد امه تلد اخا له بعد عقم ضرب ذكورة ابيه لمدة عشرة اعوام.
هنا في هذه الارض حصل كل ذلك ، لكنه لم يكن بين الطابوق ، وانما بين تلك البساطة الطينية ، وبجوار الاب الفلاح الذي وصله خبر موته في البريدقبل احد عشر عاما.كان منهارا وهو ينقّل ذاكرته بين امسه ولحظته الراهنة ، وراسه فاقدا لتوازنه كمن تلقى ضربة قاسية ، فالرجال الثلاثة لم يتركوا في محفظته سوى جواز السفر ، واطولهم قامة كاد ان يمزقه لولا تشبثه الشديد به .سحبته امه بعد دموع واشتياقات وقبل وصلوات الى الغرفة الشمال ، لكن ذاكرته سحبته الى اليمين حيث مكان الكوخ الذي نام فيه ليالي طفولته الى جانب الاب العفيف.كان محتاجا لابيه في تلك الساعة العلقمية وانتفى احتياجه لكل من في القرية حتى امه التي مابرحت تغمره بالقبلات والاسئلة اللهفى.جذبته العجوز الى غرفتها ثانية حين وجدته يمضي صوب الغرفة الاخرى مجذوبا برائحة ابيه.
قالت له وهي تريده ان يكون ملكا لها وحدها في تلك الاثناء :- تلك غرفة اخيك الصغير وهذه غرفتي.
واردفت مذكرة :
- كان عمره خمس سنوات حين سافرت وهو الان رجل وهذه زوجته.
وواصلت سحبها لذراعه مصرة على ان يحل في غرفتها ، غير ان رائحة الوالد التي تصاعدت من تراب الماضي طغت على كل الروائح الاخرى واستمرت بجذبه الى حيث البراءة والعفة.
دخل الغرفة باحثا عن صورة امسه الطاهر في فضائها ، وكان محتاجا اليها جدا في خضم ذلك الانهيار ، غير انه احس بطوفان هائل من الدهشة يجتاحه فجاة ويسمره في مكانه ، حين وجد حقائبه الاربع ملقاة هناك ، والشاب الطويل واقف بارتباك الى جانبها وفي لسانه شلل طاريء ، وعلى وجهه تترادف تعابير لاحصر لها .

ليست هناك تعليقات: