السبت، سبتمبر 27، 2008

ظاهرة "الجوكر" الأدبي



د. حبيب بولس
الدارس لتراثنا وكذلك الدارس لأدبنا- قديمه وحديثه- يجد في الثنايا دائما شخصيات ذكرت لا كأدباء أو شعراء, وإنما ذكرت لكونها كانت أشبه "بالجواكر" الأدبية. شخصيات أدبية عاشت كالطحالب والطفيليات على جذع الحركات الأدبية أو على هامش الأدب, تحايؤه من السطح وتلتصق به لا تستطيع مفارقته, فهي شخصيات تعاني الأدب, وتطمح بان تشتهر, ولكنها لا تستطيع مع الأسف لقدرتها المحدودة, وطاقاتها المسطحة, لذلك تحلم بان تكون أدباء أو شعراء من الذين لهم أهميتهم, ولكن لأنها لا تستطيع, تأخذ دورا آخر, عله يفيدها في مسعاها, هو دور "الجوكر" الأدبي, الذي يحب معاشرة الكبار والتمسح بهم وحضور جلساتهم كي يتبعر له كلمة من هنا وكلمة من هناك, فربما يسعفه هذا في المستقبل!
ونحن إذا تفحصنا حقباتنا الأدبية منذ القدم ولغاية اليوم نعثر على أمثال هذه الشخصيات, التي تشكل دائما محط تنّدر وتفكه, تواكب الحركة الأدبية وتمص لحاءها. هي ظاهرة رغم ثانويتها كانت ولا تزال موجودة وقائمة بين طيات كل حقبة زمنية وعصر أدبي.
ويبرز دور هذه الشخصيات الجواكر عادة في فترتين مختلفتين: في فترة ركود الحركات الأدبية, حيث كانت هذه الشخصيات تلعب دورا في التعويض عن هذا الركود, وفي ملء الفراغات, أو في فترة غليان الساحة الأدبية وفورتها.
وهذا "الجوكر" يحظى دائما بالاهتمام والممالأة من قبل عدد من الأدباء والشخصيات الأدبية والسياسية التي لها علاقة بهذه المسيرة, خاصة في أيام كالأيام التي نمر بها, التي فيها يخفت صوت الأدب ويطغى عليه صوت الأحداث السياسية المتلاحقة. وممالأة مثل هذا "الجوكر" تنبع من دافع التقية والابتعاد عن شره من جهة, فهو من سماته المعروفة انه سليط اللسان, لا يتورع أن يسب ويشتم, أما من ناحية أخرى فهو موصل جيد لنشر الانجازات, أشبه ببوق دعاية.
شخصيات من هذا النوع, تتمتع بحب الظهور وبشهوة الشهرة, ولكنها حين تفشل في الوصول إلى ذلك, عن طريق الأشياء المشروعة أدبيا, أو عن طريق الإبداع, تروح تفتش عن ثغرات أخرى تستطيع من خلالها النفاذ إلى ما تشتهيه, ومن هنا فأنت ترى هذا "الجوكر" دائم الحضور في المحافل الأدبية والسياسية, دائم الظهور إلى جانب الشخصيات المعروفة فما أن يعرض أمامه شخص ما له سمته وأهميته, رأيا واقتراحا حتى يبادر وبهمة يحسد عليها إلى تنفيذه لذلك تجده دائما مشغولا و "معجوقا" كأم العريس, في ترتيب ندوة ما, أو في تهيئة مناخ ما لمحاضرة أو في التحضير لاجتماع ما لشخصية معينة, بهدف الترويج, أو في المشاركة في ترتيب حفل تأبين أو تكريم, وأجره من وراء ذلك كله الأمل في أن تطوله "طرطوشة" حتى وان كانت هذه الطرطوشة على هامش الحدث وليست في لبه.
المهم أن يظهر اسمه في الصحف وان يذكر في الخبر, لا بل تراه يتبرع كي يكفل هذا الظهور بكتابة الخبر بنفسه, عل الناس يصحون من غفلتهم ويستشعرون بأهميته.
وأمثال هذه "الجواكر" لا تستغني عنها الحركات الأدبية على ما يبدو, في كل عصر وعصر. "فالجوكر" لكثرة ما يعاشر ولكثرة ما يتواجد في الأوساط الأدبية والمحافل تتجمع في شخصه كل النفايات الأدبية. ومن هنا يصبح مستغلا للمفاكهة وللتندر بين الأدباء.
ولأنه مسطح الشخصية, فأنه يحلم بأشياء أكبر وفوق مستطاعه, من جهة, ولأنه يتشهى أن يصير اسمه لامعا من أخرى, ولأنه يعاني من عسر أدبي, ذلك لأنه لا يعيش الأدب من الداخل, إنما يتسكع على جدرانه الخارجية ويحايؤه من السطح من ثالثة, يكون مهزوز الشخصية عادة, فيعرف الآخرون كيف يستغلونه, وكيف يضربون له على الوتر, فينتفخ ويحسب فعلا انه كبير ومهم, كما أنهم يعرفون كيف يغيظونه للهجوم على من هم اكبر منه, فيصير في الحالتين أشبه بتلك الدلالة التي حدثنا عنها صاحب "الأغاني" في كتابه المشهور. وهذا " الجوكر المسكين, يجهل أن هؤلاء الذين يُظهرون له هذا الاهتمام, إنما هم يستغلون عقدته الأدبية النفسية, ليتلهوا بها, وإنهم يتندرون عليه في غيابه, بحيث يصير اسمه في جلساتهم "الجوكر" المضحك والورقة البهلوانية التي يسحبونها حين يشعرون بإفلاس جلستهم بغية إثارة الضحك, والسخرية والتسلية.
ومن المعروف أن أمثال هذه "الجواكر" متقلبةُ المزاج عصبيتُها.
لذلك أنت تجد "جوكرنا" هذا لا يستطيع الثبات على موقف- يتنقل من أديب إلى آخر أو من شخصية إلى أخرى, يلازمها فترة ويحضر معها المآكل والمشارب, ويتسقط من خلالها الأخبار لينشرها ويبثها وليستشهد بها على أهميته المتوهَمة, ويتناوله وكأنها أفكارُه وآراؤه, لذلك نراه عاشقا لهذه الشخصية أو تلك, ولكن هذا العشق لا يدوم, إذ لنزوة ما, سرعان ما ينقلب إلى بغض, دون أن يعرف لهذا الانقلاب سبب, فأمثال "الجواكر" لا تعرف الوسط فإما التحمس على فلان أو التحمس له.
لأنه لا يتروى, ولأنه يريد الوصول بأسرع الطرق وأسهلها, ترى هذا "الجوكر" على تلك الحالة من الهرولة والاهتزاز, فهو مع الكل وضد الكل, يغار من كل اسم يلمع, أو من كل اسم ينجح أو يحقق حلما سعى إليه بجهد ومشقة. ولا يدري هذا "الجوكر" انه بشخصيته الفهلوية تلك التي لا ترى أن العيب كامن فيه لا في الآخرين, لن يصل أبدا, وسيظل الفشل حليفه.
ومن هنا أيضا إذا فحصت ما ينتجه هذا "الجوكر" من أدب, تجده أدبا متشعبا مقطعا, ذا نفس قصير لا يلم شَعَثهُ مدرج ولا مذهب ولا مضمون فكري واضح.
محاولاته تأتي ناتئة على الأدب تشم فيها رائحة التقليد, تخلو من نفس أدبي واحد, فهي أشبه بمجموعة كلمات منثورة هنا وهناك لا يؤلف بينها معنى ولا يوحد بينها.
ونحن, أقصد المتتبعين للحركة الأدبية, بقدر ما نشفق على هذا "الجوكر" لأنه لا يعرف كيف يتبع الطريق ليصل, بقدر ما نقول إن هذه الظاهرة- ظاهرة "الجوكر الأدبي" ظاهرة مقلقة يجب التخلص منها.
وإذا لم نفعل ذلك نكون قد ألحقنا الضرر "بالجوكر" نفسه وبالحركة الأدبية معا, وهو ما لا نرضاه جميعا. إن حركتنا الأدبية بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى من يضخ في شرايينها الحيوية ليُنهضها مما هي فيه من الركود لتواكب العصر, لا إلى من يشد بها إلى وراء
من أمثال هذا "الجوكر" و "الجواكر" الأخرى.

drhbolus@yahoo.com


– ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية

ليست هناك تعليقات: