عبـد الكــريم عليــــان
قد يقرأ المرء آلاف القصائد والنصوص الأدبية منها الغث ومنها السمين ، وقد يستمتع بالقراءة ، أو يلقي بالكتاب جانبا ، أو يهمله بلا رجعة .. إلا أن ديوان " نبتة برية " يفتنك منذ البداية ، ويختلي بك ، لتتنزه في عوالم النفس الإنسانية والفلسفة ، ومكنونات الطبيعة ، وموقع الإنسان في النسيج الاجتماعي ، وحركة الحياة ، في صور من الفانتازيا إلى لغة الحكمة والشعر .. وإذا كان معيار الأدب هو : نسيج من الكلم خارج عن المألوف لدى الناس ؛ فنحن أمام " ديوان شعر " فريد في قصائده وصوره ، لشاعرة تمردت على اللغة .. وتمردت على كل ما هو مألوف ! فهي تقتحم القارئ لتحتل عقله وتفكيره .. وحيث إن الشاعرة ذهبت بعيدا عن المألوف ، فيحلو لنا تقديمها بعيدا عن مألوف النقد ومدارسه المعروفة ، مباشرة لقصائد الديوان :
الكلام أولا والقصيدة فيما بعد
تبدأ شاعرتنا ديوانها بالسؤال الرئيسي عن ماهية الشعر ، ولماذا يكتب ؟ فتؤكد لنا أن ( الشعر ) لا يقبل الكذب ، ولا يؤكد الحقيقة .. منذ اللحظة الأولى تبدأ بالأسئلة الفلسفية تمهيدا لحقيقة وجودها كشاعرة حائرة مندهشة متأملة ذاتها وكيمياء حركتها في هذا الكون :
العاقل يفكر ويكتب
ليكسر صور الحزن بالحقيقة
نفسي لا ترضى بمكانها تبقى
ولا ترضى أن تكتب الشعر وحدها
ماذا أفعل ؟
تتجلى هنا شاعرتنا بأسئلتها التأملية لتقارب شاعرنا الأممي " محمود درويش " عندما أجاب الأطباء حينما طالبوه بالابتعاد عن المنبهات ـ في ذاكرة للنسيان قائلا : " الحمار هو الذي لا يشرب القهوة ولا يدخن ولا يكتب ..."
لم تتركني للتفكير وحدي
إذن سأسلك الطريق التي أريد
وأطلق الكلمات تحكم بين الخيال والحقيقة
فيه أنسج الحزن بالحقيقة
الشاعرة هنا توضح لنا أهمية الشعر والفن وتقرر أنها ستسيطر على القصيدة حتى آخر عمرها ؛ لأنها تعرف أن الشعر سيبقى ولن يموت ... بالضبط كما أنشد الشاعر محمود درويش في جداريته : يا موت هزمتك الفنون جميعها ، يا موت هزمتك الأغاني ..
وهناك بين الأرواح والكلمات تكمن السعادة
لترعد أصابعي القصيدة
كأن الحياة ليست سوى حبل يشدنا للوراء والأمام
سأسيطر على القصيدة
حتى لو وضعت السنون على رأسي قبعة الشيب
نزهــة
نزهة الشاعرة " هدلا القصار " ليست نزهة ترفيهية ، بقدر ما هي نزهة في التفكير بعذاباتها ووحدتها وغربتها . إذن هي نزهة مع الذات حينما تحدد موعد سفرها إلى موطنها الأصلي لتلتقي الأهل والأحبة والأرض بكل تضاريسها ومناخها وما عليها من تراب وهواء وماء وشجر ...
أتاني الحنين والشوق إلى بيروت
أصوات الأخوة تخاويني
وأنا أفكر
في هذه القصيدة يتجلى الزمان والمكان والهوية لدى شاعرتنا ، فهي إذن بيروتية الأصل غزية الوطن قدمت إلى غزة مع زوجها الفلسطيني لتعيش غربتها وعذاباتها مثل كل الغزيين الذين يرغبون بالسفر خارج غزة ( السجن ) وما يواجهونه من عذاب حالما يخرجون من بوابة غزة إلى أرض التيه في سيناء المنفذ الوحيد لها إلى العالم الخارجي :
أحتاج شهرا لتفتح بوابة غزة
أحتاج يوما لأصدق نفسي
أحتاج يوما لأحضر الشنطة
أحتاج يوما لأشتري البهجة
يوما لأشحذ البسمة
ويوما لألملم الشوق
ويوما لأصل المعبر
ويوما لأقطع الصحراء
ويوما لأتوه في أرض مصر،
أية نزهة حوارية هذه التي تمارسها الشاعرة مع ذاتها ؟ إنها تسافر مع كينونتها متوقعة كل ما سيحدث لها ، كأنها الحقيقة المؤكدة ساعة ركوبها الطائرة تعرف أنها بعد ساعة أو ساعتين ستصل بيروت وتكون بين الأهل .. كيف لها أن تقطع الشوق الذي يزداد متسارعا في هذه اللحظات ليصل الحنين ذروته :
وساعات لأقطع الشوق بين بيروت وغزة
يوما .. لأصدق أنني بين الأهل
كيف للشاعرة أن تختصر الزمن والمسافات في حوار مع النفس؟ كيف لها أن تروي ظمأها للقاء الأهل والوطن ؟ وماذا ستحتاج لكي تحقق ذلك ؟ وكأنها سافرت لهناك :
على الأقل
أحتاج شهرا لأقبل الأخوة
وشهرا لأفرغ الغربة
أحتاج عمرا لحضن أمي
شهرا لأرى بيروت والجبل
حنين إلى لبنان
مع أن شاعرتنا تعيش في غزة منذ أكثر من عقد ، إلا أن لبنان يعيش فيها لحظة بلحظة ، لا بل هي تعيش فيه .. مستبعدة غزة من كينونتها ، كيف لا ؟ وغزة مات فيها كل شيء .. مات الحب ، ومات الفن ، وانتصر فيها الموت ..! الشاعرة تتصدى لاغترابها المقيت بالاستحضار الدائم للبنان في مخيلتها :
أجلس كل يوم أذرر نهر اغترابي
داخل حدود ملعبي
لأفجر معاناتي المخبأة
.......
هنا تموت كل الأشياء حولي
كالمنازل التي لا تشرع نوافذها
كالمراكب التي لا تبحر
أحاول مقاومة الحياة
كالعشبة التي لا تموت
في قسوة غربتها مناجاة كبيرة لكل شيء في لبنان من التاريخ إلى الطبيعة إلى الأهل
تصرخ أشجار الأرز
ضميني بين أغصانك
وبين أوراقك خبئيني
وفي صفحات تاريخك ضعيني
وبين حروفك الفينيقية ابحثي عن غيابي
وتؤكد مرة أخرى أن غزة ليس بوطنها وأنها تعيش غربتها مع الشعر والمهدئات الدوائية
هنا لا السماء خيمتي
ولا الشوارع وطني
ولا الكواكب عائلتي
وليس الزمان مأمني
ولا الشواطئ مرفأي
........
قبل أن تبتلعني أقراص الشعر المهدئة
نبتة برية
قلّما نجد شاعرا من الشعراء المعاصرين يتماهى مع الطبيعة كما تماهت شاعرتنا الرقيقة " هدلا " حين تنازلت عن كبريائها الأنثوي إلى عشبة في الطبيعة لتغوص متشابكة في الأدغال مرة مع الشجر ، وأخرى مع نباتات الأرض ..!
" هدلا " الشاعرة ذهبت بعيدا عن المألوف لتحاكي النباتات البرية ، والأشجار ..
أنسنة النباتات عرفناه من على شاشة التلفزيون في الأفلام الكرتونية عندما تقدم النباتات بشكل أناس يتحدثون ... أما أنسنة النباتات في الحالات الشعرية يعتبر تصويرا جديدا لم نعهده عند الشعراء .. هنا انفردت " هدلا " الشاعرة في ( نبتة برية ) وسيقف النقاد ومتذوقو الشعر حائرين مندهشين لهذا التصوير الفريد والنادر ..
استطاعت شاعرتنا أن تكون نبتة برية تهرب من أكتاف الجدران تسرع وتسرع لتصل أشجار النخيل الشامخة .. تتوغل في عمق الغابة الكثيفة لتراقص أقدامها العشب ، ويعود العشب ليداعب أسرار الجسد .!؟
وصلتُ سلسلةَ أشجارِ النخيلِ الملتفةِ
توغلتُ في عمقِ الغابةِ،
راقصتْ قدماي العُشبَ
داعبَ العشبُ لغزَ الجسدِ وتنحى
احتضنتُ الأرضَ كالزهرةِ
شعّتِ السماءُ حولي كالنبتةِ.
حاول الشيطانُ إغواءَ خيالي
قـذفَ رِمشي الخطايا ورماها
معاناة الشاعرة المتمردة التي تعيش مغتربة في غزة دفع " هدلا " إلى الهروب من عالم الإنسان إلى عالم آخر .. لا تنتمي له ، وهو : عالم النبات ! هناك تحاور نفسها على أنها ( نبتة برية ) تنتمي إلى الأرض والشمس والماء والهواء ...
ينتفض الجسد ليسأل عن اسمه ؟ يسأل الأزهار ، ويسأل النخيل ؟ لم يأتها الجواب مباشرة .. يعود يسألها ، فتجبه الأشواك بدلا عنه .. وتسأل من جديد : كيف علقت النبتة ( هدلا ) بأوراق الأشجار المتطايرة .. أو قدمت في رجل طائر مهاجر ( رمزية للرجل الذي قد يكون زوجها ...؟ ) تهدأ لتنغرس في أرض جديدة !
مِنْ أين أتيتِ أيُّتُها النبتةُ؟!
كطائرٍ مهاجرٍ لحقتْ بأوراقِ الشجرِ المتطايرِ
هربتْ مني كالرياحِ امتدتِ الأرضُ وهدأتْ
أيّ روعة هذه الأسئلة ( الحوارية ـ السقراطية ) التي تقودنا بها هدلا الشاعرة ؟ كيف تتولد الأسئلة لديها بطريقة مسرحية حوارية عذبة تجذبنا إليها بقوة ؟!
ها هي ( النبتة البرية ـ متمثلة في الشاعرة ـ هدلا ) تعود إلى إنسانيتها حين تسمع ألحانا وموسيقى قديمة تصدر عن خشخشة الأشجار وحفيفها .. تعيدها إلى طفولتها ، لتؤكد من جديد أن الرياح أبعدتها عن موطنها إلى وطن آخر من نفس المناخ ونفس التراب .. لتردد بشكل غنائي ملحمي : أنا منكم .. أنا مثلكم .! مخاطبة وطنها الجديد الذي تشعر وسطه باغتراب شديد ..
أنا منكُم
أنا مثلكُم
أنا إليكُم آتٍ
أنا كشجرةِ النخيلِ تراها في كلِّ الأوطـانِ
وهي لِنفسِها وطنٌ
لكنّ الرياحَ أبعدتني
فَلَمْ أَعُدْ أرى وجوداً لوطني
حتـى أصبحتُ بريةَ النبتةِ
أنا منكُم
أنا مثلكُم
... إليكُم آتٍ
بعد رحلتها الطويلة بين الأشجار والأشواك تتنقل بين تضاريس الطبيعة الجميلة ، ومناخها المتغير .. تعود لتكتشف نفسها بين الجدران تحاور نفسها المعذبة وتعترف بإنسانيتها .. تهدأ نفسها المتمردة لتخلد إلى سرها وتقبل أن تنام في فراشها على أمل أن يأتي صباح جديد يخفف عنها ، أو يعود بها إلى رحلة جديدة !
قرأتْ في عيوني عن ماضٍ قــد ولى
سمعتُ همسَ الليلِ ينادي القمرَ
فانسحبَ النهارُ من جَفْني
وأتاني سلطانُ النومِ
فأهـديتُ سِرِّي لفراشِ الليل .
اعتذارات
عندما يكون النص مرآة الشاعر ! ويكون لوحة فنية أبعد من السوريالية ، وأقرب إلى محاكاة الذات ، وفلسفتها الوجودية لتدور حركتها مع الزمن والأشياء التي تكون الشاعر الإنسان ليتفاعل وسط كيمياء الحياة ... كيف " لهدلا " الشاعرة أن تقدم اعتذاراتها لشيطان الشعر الذي أخرج لغز الكلمات ..؟
أقدم اعتذاري لمن أخرج لغز كلماتي
أقدم اعتذاري للأخطاء الصحيحة التي ارتكبتها
ولأصابعي الخمسة وحسن نواياها
كيف لا ..؟ ومن غير الشاعر يستطيع أن يثور على اللغة ؟ ومن غيره يتمرد على الذات ليقدم الاعتذار لأصابعه الخمسة التي تمسك بالقلم ؟ وتقدم الاعتذار للعقل الذي يخزن الحروف ومعانيها ..؟ كيف لا .. وهي تقدم الاعتذارات لكل الأشياء من حولها ، من أثاث المنزل إلى صيغتها وحليها ، إلى حبيبها القديم .. وصديقها الجديد ..! إلى الجيران الذين يرقبوها ، إلى كل المعجبين والمجاملين .. إلى الشوارع ، ورمال البحر وصخوره ومده وجذره :
في كانون الثاني
قدمت اعتذاري للمحب القديم ... الجديد
ولصديق صوري
للأكاذيب التي عشتها في ملعب الثعابين
اعتذرت من سذاجتي الملحوظة
وضياع عقدي وخاتمي
وخيوط الخيانة المجانية
والأثاث المدمن عى التنازلات
كما قدمت اعتذاري للمنزل الذي تركته
وللجيران الذين حرمتهم مراقبتي
إن " هدلا " تقدم اعتذاراتها في دورية الزمن لتشكل بشهوره زخرفة ، أو مطرزة لقصيدتها فتلبسها زهوا بهيا بكل كبرياء وشموخ .. وتمنحها الدفء ، كأنها عروس تحلت برمزية شهور السنة الجميلة : من كانون الثاني رمزا للعطاء .. إلى نيسان رمزا لكل الزهور ، وكل الألوان .. إلى حزيران وآب تعبيرا عن الحصاد وجني الثمار
في شهر حزيران
اعتذرت من دقات قلبي السريعة
ومن أوردتي المحقونة بالمهدئات
.......
والوجوه المتعددة
والمنازل التي سكنتني
كما اعتذرت من الزهور التي اشتريتها لنفسي
في شهر آب
اعتذرت من اسئلة المخبأة
والخواطر المدفونة
............
ومن الأمواج التي كسرتها الصدمات
واليوم أعتذر من كلماتي التي توهت قصيدتي
تلك هي اعتذارات " هدلا " لأشيائها وذاتها .. وهو تواضع من شاعرة متمردة ، لتبشرنا بانطلاقة في ثوب جديد !
صحو
للمرأة الإنسان أحلامها وتأملاتها ورؤيتها الآخر/ الشريك .. وهل من امرأة لا تريد لها شريكا ؟ يقاسمها حياتها بحلاوتها ، ومرارتها ؟؟ وهل من إمرأة تحقق لها كل ما تريد في مجتمع تسيطر عليه الذكورة ..؟ وكم من النساء استطعن البوح عن ذلك وسط هذا الصمت المؤلم في عالمنا ..؟
ببطء الصمت اليوم أتكلم
حتى كلماتي بصعوبة أدونها عنك ..
ولأنني لا أريد أن يصبح الحلم صنعا أو مطبا
ولأنني لا أريد أن أفتش في وجوه العابرين يوما
ولأن الحرية ليست لهذا الحد سهلة
إذن هي قررت أي رجل تريد ..؟ بحيث تقبله كما هو .. ولا يعطيها فرصة لتصطنع أحلامها ورغباتها التي تريد .. إنها تريد منه الحب بدون حدود وستكون متواضعة حتى لا تموت فيه حبا :
فأنا لا أريدك قبطانا تبحر في البحر
لا أريد لحبي حدودا
لا اريد للحياة حدا
لا أريد النهاية
ولا أريد أن أموت فيك حبا
هذه الآمال جاءت من تجربة الشاعرة في الفعل اليومي للحياة الزوجية .. هي ما تريده كل أنثى ، كل من يقرأ هذه القصيدة يشعر أن الشاعرة تخاطبه هو ؛ فلو كانت أنثى لقالت : إن حالة الشاعرة مثل حالتي ؛ ولو كان رجلا ، لقال : إن هذه الشاعرة توجه لي أسئلتها ، ورغباتها .. إذن المضمون الأدبي يتجلى في هذه القصيدة بأبعاده الثلاثة والرؤية الشمولية للشاعرة : من البعد الذاتي حيث قدمت رؤيتها وأحلامها التي تريد .. إلى البعد الاجتماعي في الفعل اليومي .. إلى البعد الإنساني ، حيث يشترك الجميع في حالتها ... حقا إنها توصل لنا رسالتها الأساسية في أهمية الشعر والفن ، التي قررتها في بداية الديوان ، عندما قالت : بأنها ستسيطر على القصيدة .
هذا الرجل
إذا كان وحي الشعر عند الرجل هو المرأة والحب ، فإن وجد العشق وجد الشعر ، وإن وجد الشعر وجدت فيه المرأة ... لكن إذا كانت المرأة هي الشاعرة ، فهل يكون الرجل وحي للشعر عند المرأة الشاعرة ..؟ يقول نيتشه : " إن الشاعر يلف حول الأنا في القصيدة ككل ، لكن عندما يدخل في المسرح ، فإن الأنا تلف حول الآخر .." ، الآخر عند " هدلا " في هذه القصيدة هو الرجل/الشريك ، وهي تعرض لنا مشهدا مسرحيا يلف فيها الأنا حول الآخر ( الزوج ).. والآخر حول الأنا ( الشاعرة ) ، فالأفكار التي تعرضها في صورة الرجل هي أفكارها وفلسفتها التي تريد ..؟ وهي منذ بداية الديوان عنونت كتابها بمقولة فلسفية للشاعر والفيلسوف الألماني ـ أنجلوس زيلسيوس : " إذا أردت أن أجد بدايتي ونهايتي فلا بد من أن أبحث عن الإله داخلي / وأكون مثله / أكون ضوء في الضوء / أكون كلمة في الكلمة / إلها في الإله .." فهل يكون ( الرجل ) هو الإله داخلها ؟ وتكون هي مثله ..؟ كما احتكمت لشاعرها وفيلسوفها الألماني :
على مدار ضوء النهار يفكر
ويفكر بما يقرأ
ويرى ما يريد أن ير
يذهب في بحور الأساطير
هذا الرجل يحلل في السياسة
يتحدث عن الطب البديل
يحلم بالسفر الجميل
ينجذب للماضي البعيد / يتأمل الحب العذري
يعجب بالآلهة والديانات
.........
ويعود للحاضر المؤلم
ثم يصطدم فيه كالغريب
ونحن نتأمل هذا المشهد الأسري نقرر سريعا ، أن هذه الأسرة هي : الأسرة الفلسطينية التي تنشغل بالفعل اليومي الشمولي ، وهذا هو الرجل الفلسطيني / المفكر ، الذي يفكر دائما بمصيره ، وبالحياة ، والتاريخ ، والسياسة ، والدين ، والفلسفة ، والحب ، والطب ,,, لكنه يصطدم بواقعه الذي لم يتغير ..؟ الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للفلسطينيين لم تعطهم فرصة لممارسة حياتهم بشكل طبيعي ، والحب الذي تبحث عنه الشاعرة يتعطل أحيانا ، أو ليس ما هو مرغوب فيه عند الزوج بسبب الحالة الفلسطينية .. ولهذا جاء السرد الشعري تفصيليا لفعل الزوج اليومي
هذا الرجل
لغروب نهاره نكهة مختلفة
يرتشف قهوته / يشعل سيجارته / يمسد شعر رأسه
يتأمل غروب الشمس
.............
في المساء يستمع لجميع نشرات الأخبار
ويعود للقراءة قليلا
بينما ينادي النوم
والنوم يناديه
الشاعرة تفاجئنا في نهاية القصيدة بمكنون رغباتها المفقودة ..؟ عند شريكها الذي تغير إلى طفل ، بعد أن كان عاصفة لا تهدأ .. جاء هذا البوح طبيعيا دون مبالغة ، أو تصنع من شاعرة مرهفة ، صادقة لا تخبئ ما يمور في صدرها ، دون مجاز أو استعارة .. فالشعر هنا ، وفي أغلب قصائدها يأتي مع الدفق حالة حضوره وتلبسه للشاعرة ، فتلقيه على الورق دونما عناء ، أو تكلف في الصنعة :
في ليلة شتاء باردة استسلم للنوم مبكرا
التحقت به متأخرة / ما أن لامست يداي الغطاء / وجسدي الفراش
حتى زحف إلي مختبئا / منكمشا كالهارب من الخوف
دس رأسه تحت إبطي
نظرت إليه بدهشة !!!
رأيت نوم الطفل في جفنيه / ربت على كتفه بلمسة الأم لطفلها
نظرت إلى وجهه ... لتختفي !! تلك الصورة النهارية كلها !!
دمدمت شفتاي تقول :
إن هذا الرجل لا يمت لذاك الرجل
العاصفة فيه هدأت والأمواج انسحبت / والدوار استسلم
خيالات
رومانسية الشاعرة الحائرة المتأملة ! الباحثة دائما عن الحياة الوردية .. إضافة لصوت المرأة القوي الذي يناضل بالمساواة مع الرجل بطريقة هادئة مستخدمة فلسفتها وعقلها في الوصول لذلك ..! في قصيدة خيالات تبحث عن ذلك الرجل الذي يفهمها ( الأنثى / الإنسانة ) بحيث يتوحد مع جنسها وتتوحد هي مع جنسه لتستقر إليه كما يستقر الإنسان في وطنه ؟
بين عناوين الكتب والمؤلفات
أبحث عن شخص ما ... يسميني كما أريد
شخص ما ... أطلق عليه نعاسي
يخرجني من ثورتي
يطفئني حين أشتعل
.........
يرسم أحلامي بعيون الشعر
يكسر براكين قصائدي المجمرة
يغني أناشيدي
يلاحق ألوان ليلي / أحلم بعنوانه / أطاوع أوراقه
أحتوي كلماته / أنتمي لجنسه / أحتفظ به
أسكنه كالوطن
أي ناي هذا الذي يغني لحن الحزن ..؟ وسيمفونية الحب ..؟ وألم العشق المفقود ..؟ يقول الفرنسيون : الشاعر دوما بطبيعته حزين ولغة الشعر دائما تتميز بنغمة الناي .. و " هدلا " تعزف آمالها على ناي في صمت يلف المكان ، فتخرج نغماتها حزينة كأنها تراتيلٌ للعشق ، وصلاة للمحبين ... ورؤية " زليخا " ليوسف !. إذا كان الشعراء الذكور قد ذهبوا بعيدا في وصفهم الجسدي للمحبوبة ..! فشاعرتنا " هدلا " استعاضت عن كل ذلك في روح المحب ، وسلوكه ، وعقله ..؟! إنها تفضح ما هو مستور في مجتمع ذكوري لا ير من المرأة ، إلا جمالها ..ونجحت في جذب الآخر / الرجل بهدوء وتواضع ليطمح كل رجل يقرأ القصيدة في أن يكون هو الأمل الذي تبحث عنه الشاعرة :
شخص ما .... يراني كل يوم
وكل يوم ينسيني أمسي
شخص .... لا ينخدع بإغراءات الحياة / يقاوم دعوات الرذيلة
يتخلى عن أنانيته واسترسال خسارته
يلملم خطايا مواسمه وبؤس أفكاره
شخص ..... يشهد على أطيافي / يسيطر على سهولي / يكون أكثر من اشتياقي
وأكثر من مساحات قلبي
شخص ما .... يدخل رقعات آلامي
يهز قلعتي وحجرات خيالاتي / يقاتلني بسلاح أبيض
شخص ما ... غير جلدي
وشخصيات الكتب والمؤلفات .
نكتفي بهذا القدر من قصائد ديوان " نبتة برية " ، رغم أنه العمل الأدبي الأول للشاعرة ؛ فهو يبشرنا بشاعرة فذة ،جريئة .. تسبر غور النفس الإنسانية في حالاتها المعقدة عندما تغترب عن بيئتها ، ومجتمعها .. عندما تحب ، وعندما تكره ، وعندما تواجه التقاليد الموروثة ، ووجع الحريات المكبوتة في بيئة تحتاج إلى أن تكون غير ملوثة .. فهي إذن قدمت لنا رسالتها التي تريد ؟ وهذه الرسالة ليست رسالتها عن ذاتها المعذبة فحسب ؛ بل هي رسالة لغالبية النساء في المجتمع ..؟ يقول ريمون في تفسيره للذات وحلم اليقظة - عند جان جاك روسو : " الفنان يكشف عن نفسه في عمله ، وهو أيضا يشكل بواسطته - علاقة مزدوجة تبادلية بين الذات والموضوع ، بين العالم والوعي ، بين المبدع وعمله .." ويقول مونتين : " الفرد لا يملك ذاته إلا من خلال انعكاس علاقته بالآخرين ،كل الآخرين .." إن قصائد " نبتة برية تكشف بوضوح تأثر الشاعرة بالآخرين وبالمحيط ، وأثر ذلك على شخصيتها وعملها ، مستخدمة ثروتها الفكرية واللغوية دون تكلف ، وعناء .. فجاءت جملها وكلماتها الشعرية سهلة وبسيطة ، لكنها تحمل لنا مدلولات فلسفية عميقة مخاطبة المجتمع في وعيه وسلوكه لتضيف لنا صوتا أنثويا جديدا في أرقى أشكال التعبير اللغوي ، وهو : "الشعر" الأسرع وصولا للمتلقي ، والأكثر تأثيرا ... بقي أن نقول : مازال الكتاب الذي عرضناه يحتوي على تسعة عشر قصيدة أخرى هي : ألوان ، من منا يعتذر للآخر ، لن أبوح ، الرصاص والنحلة ، عربي الجد ، سؤال اليوم ، وأسئلة الغد ، ثرثرة ، حذاء الزمن ، مباغتة الحلم ، مسرحيات رجل ، أهاليل الغياب ، الناي ، تعويذة الروح ، المؤامرة الوردية ، ألف لام ميم ، متطلبات الصباح ، شذرات اليقظة ، أتفاءل بتسعة وأربعين احتمالا ... هنيئا للقارئ هذه القصائد ، وهنيئا للشاعرة هذا النجاح ، وننتظر منها عملا جديدا ونجاحا مستمرا ...
الأحد، سبتمبر 07، 2008
الفلسفة والحب عند ـ هدلا القصار ـ في ديوانها: نبتة برية
Labels:
عبد الكريم عليان,
هدلا القصار
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق