د. عدنان الظاهر
لم أصدّق ، لم أصدِّق ومن ذا الذي يصدّق أمراً وقع على الأرض وكان معدوداً من المستحيلات ؟ رفعتُ سماعة التلفون ، وكانت الساعة ُالرابعة بعد الظهر ، فلم أصدّق ما أسمع ! قالت إنها عشتارُ مليكة ُ بل آلهة ُ بابلَ بنسختيها القديمة والحديثة . من أين جاءتني عشتارُ وعهدي معها أنها نسيتني أو تناستني أو أغضت عن واحد من محبيها ومن عَبَدة عرشها الملوكي ؟ من أين جاء صوتُ عشتارَ بابلَ ، من أين ؟ هل أخطأت فتلفنت أو إنها كانت تعني ما أرادتْ وما أزمعتْ أن تقول . هل أفقتَ يا هذا من تأثير قوة صدمة المفاجأة أم أنك لم تزلْ واقعاً تحت تأثيرها تتقلب يَمنة ً ويسرة ً كما يتقلب ثم ينقلبُ على ظهره السمكُ المسمّمُ وهو في ماء نهره ؟
ظلت عشتارُ تردد دون كلل عبارة ( هالو هالو مَن هناك ؟ ) وما كنتُ قادراً على الرد ، وكيف يرد ُّ مخطوف ٌ مأخوذ ٌ مغلوبٌ على أمره لم يستعدْ توازنه البيئي بعدُ ؟ أفاق من الصدمة رويداً رويداً ليجدَ نفسه قادراً على التساؤل ببلادة ٍ هل أنتِ حقاً عشتارُ بابلَ ؟ كيف عرفتِ رقم تلفون بيتي وكيف عرفتِ أني في هذه الساعة موجودٌ في داري ؟ لعلك مولاتي أخطأتِ طريقك وأخطأتِ فيما أدرتِ من أرقام ، فقائمة أرقام هواتف عشاقك طويلة تمتدّ ما بين أبراج الجنائن المعلقة حتى حديقة الجبل في مركز مدينة الحلة . قالت أترك ْ هذه السفسطة والهذرَ غير المُجدي وحاول أن ْ تتكلمَ معي كما يخاطب الرعية ُ ملوكَهم .
تساءلتُ : كيف يخاطب الملوكَ رعاياهم وهم من سائر خلق ربهم ؟ ومن تُرى علمهم أتيكيت وبروتوكولات مخاطبة الملوك ؟ قلت لها ، بعد تفكير لم يدمْ طويلاً ، كنتُ في سالف الزمن أتوجه إليكِ وأخاطبك لا كما أخاطبُ الملكاتِ ومَن هنَّ بمقامهنَّ وإنما كنتُ أمارسُ في حضرتك وفي غيبتك مراسم وطقوس حبِّ وعبادة آلهة ٍ لا ملكة والفرق جد َّ كبير بين ملكة وربّة . إختاري سيدتي إما أنْ أعاملك كملكة من طينة أرقى قليلاً من الطينة التي جُبلَ بها البشر في قديم الزمان أو أنْ أتخذ َ منك آلهة ً روحاً دونما طينة ولا جسد . الطينة تنتأ وتتفسخ كذلك الجسد لكنَّ الروحَ خالدٌ وهو من أمر ربي . لم تجبْ عشتارُ . لازمت الصمتَ فزادت حيرتي . آلو آلو ... أما زالتْ عشتارُ ربتي هناك على الخط الساخن ؟ سمعت وثبات صدرها شهيقاً وزفيراً وكان فيها شئ يشبه الإضطراب .
قلقت قليلاُ فسألتها هل أنت بخير ؟ قالت أجلْ ، إني بخير وكيف أنتَ ؟ أنا بخير إنْ كانت عشتاري بخير . قالت هذا أمر جيد أحب سماعه بين الحين والآخر فأنا كما تعلم مزدوجة في طبيعتي ، نصفي الأعلى روحانيٌّ ربانيٌّ ونصفي الآخرُ ما زال من طينة وطبيعة البشر . نصفي روحاني ونصفي الثاني جثماني جَسَداني كما هو الشأن مع باقي النساء له ما لهنَّ وعليه ما عليهنَّ بالتساوي ، هل فهمتَ قصدي ؟
كيف لا أفهمه سيدتي وأنا أستمع إليكِ متنقلاً ما بين نصفيك فتارة ً أجدُ نفسي في أعلاك وأجدها تارة ً أخرى منشغلة جداً في جنات أسفلكِ المعلقة وغير المعلقة . ضحكت عشتارُ كما لم تضحك في حياتها . ضحكت من كل قلبها ثم قالت يا صبيُّ ، قد أفهم قصدك بالجنات المعلقة لكني قاصرة عن فهم مقصدك بالجنات غير المعلقة فهلا أوضحتَ يا هذا ، زدني من علمك . أي علم عندي سيدتي ومولاتي المبجلة ؟ قالت قلْ ولا تتهربْ .
أجل سيدتي سأقول ، سمعاً وطاعة ً . الجنات غير المعلقة هي المناطق الخفية من جسدك الأنثوي البشري التي تشتركين فيها مع باقي نساء العالمين في الوظيفة والأداء وفي آليات التحكم والتصريف . هذه جنات غير معلقة أي لا تحتمل التعليق والإرجاء لأنها ببساطة مرتبطة بعامل الزمن تتحرك معه وتكون حيثما يكون هذا الزمن . أي إنها تتقادم وتهرم ثم تموت خلافاً للنصف الأعلى منك الذي لا يخضع لعامل الزمن فهو أبدي ٌّ ثابتٌ لا يتغير ولا يتبدل ولا يشيخ . إنه روح والروح خالد . لذا فإنَّ هذا النصف العلوي منك عالق ٌ أي ثابتٌ أبدَ الدهر . قالت قد فهمتُ مقالتك ، شكراً جزيلاً .
الآن ـ قالت ـ فتحت التلفون لأسمع صوتكَ فقد إشتقتُ إليه ولك ، إنك تعجبني كما قلتُ لك في واحدة من رسائلي التي سبقت عهد الطوفان . إستفزني قولها هذا فقلتُ محتجا ً مولاتي إني أخاطبك بلفظة " حبيبتي " وأنت تصرين على قولك الشاحب المسطح الخالي من أي معنى أو طعم أو لون ... أعني قولك " تعجبني " !! ألا تدركين الفارق الكبير ما بين اللفظتين ؟
ردت ببطء غير متكلّف : هذه هي طبيعة النصف الأسفل من النساء . لا تقول المرأة لمن تحب إني أحبك ، قد تقول له " تعجبني " وتقصد إني واللهِ في هواكَ واقعة . أنتم الرجال من طبع وطينة واحدة لا تعرفون الإنفصام في عالم الحب . تقولون ما على ألسنتكم وتكشفون عما في قلوبكم جزافا ً دون تحفظ ، الأمر الذي يبعث فينا الكثير من الشكوك حول صدق ما تدّعون أنتم معشر الرجال يا أبناء الطين الهش والمجفف باشعة الشمس وحرارتها والمفخور بنيران جهنم ... هل جرّبتَ يوماً نار جهنم ؟
نعم ، نعم سيدتي المنقسمة على نفسها نصفين متعارضين نصف معلق والآخر غير عالق ، نعم جرّبتها ولم أزل واقعا أتقلب في لهيبها وأحترق بذؤابات سعيرها . قالت وكيف وجدتها ؟ النارُ هي النارُ ، كيف وجدتها إسأليها مولاتي فعندها الخبرُ اليقين لا عندي . إسالي روحك العلوي ثم عرّجي على نصفك السفلي فعندهما الجواب . قالت مستنفرة ً وما علاقة نصفيَّ بنارك ؟ العلاقة وثيقة ٌ يا ربة َ النعيم والجحيم . لم أرَ منك حتى اليوم إلا نيرانك التي تتلظى ولم يصبني منك إلا شررها المتوهج الذي يحرق الوجوه قبل الضمائر المحتبئة خلف الحُجب والستائر والجدران .
قلتِ لي مرةً إذا ما أطلتُ التفكيرَ فيك فلسوف يتغلبُ اللونُ الأبيضُ على لون شعر رأسي الكستنائي الجميل ، هل هذا الكلام صحيح ؟ قالت أجلْ ، صحيح . طيب ، إذا صحت المقولة فيك فما الذي يمنعها من أنْ تكونَ صحيحة ً كذلك معي ؟ أعني أنَّ حبي لك سيجعلني أشيب ثلاث مراتٍ في اليوم وأنَّ نيرانَ هذا الحب تظلُّ مستعرة ً لا ينطفئ أوّارُها ولا شواظها فأين المفرُّ من حبك يا سيدة ؟ ضحكت ثم قالت : تعجبني ! أعجبك ؟ إذاً ما الذي يمنعك من أنْ تـقولي " أحبّكَ " ؟ قالت إنها طبيعة النساء وعلى العاقل أن يفهم . نحن النساءُ حذراتٌ خجولاتٌ منذ أجبرنا على ممارسة البغاء المقدس في معابدنا ، حملنا اللعنة َ والعارَ قرناً بعد قرن وحملنا معها تأنيبَ الضمير على أمر زاولناه مكهرهاتٍ لا مُخيَّرات . قالوا عنه إنه جنس مقدس يديم الحياة على وجه الأرض .
رددتُ مع نفسي الآية التي تقول [[ ... ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إنْ أردنَ تحصنا ً لتبتغوا عَرَضَ الحياة ِ الدنيا ومَن يُكرههنَّ فإنَّ اللهَ مِن بعدِ إكراهِهنَّ غفورٌ رحيم ٌ سورة النور/ ألآية 33]] . قالت هل أدركتَ الآن سبب تحفظنا وحذرنا وخوفنا من الطيش ومن ركوب وإتيان المغامرات غير المحسوبة جيداً ؟ أتمنى ذلك . لكأنما قرأتْ ما في رأسي فقالت أرأيتَ مقدار وحجم ما لحق بنا نحن بنات حواء من حيف وظلم وما تعرضنا له من إستغلال لا إنساني وبعيد كل البعد عن طبيعة المرأة السوية ؟ كيف كان أجدادكم العربُ يكرهون بناتهم على ممارسة البغاء من أجل كسب المزيد من المال الحرام ؟ قلت لها إنَّ المفسرين يقولون إنَّ المقصود ب ( فتياتكم ) هنَّ الجواري والسبايا والسرائر مما ملكت أيمان هؤلاء الأجداد وليس المقصود بناتهم النازلات من ظهورهم .
إعترضت بحدة وعصبية إذْ أضافات : إذا كان هؤلاء الأجداد المناكيد يملكون الجواري والسرائر والمسبيات فمعنى ذلك إنهم كانوا من موسري القوم وما كانوا من فقرائهم فكيف نفسّر إجبارهم لهؤلاء الفتيات على ممارسة الدعارة لكسب المزيد من المال الحرام ؟ قلت لها المال هو المال والمال لا يعرف حراماً أو حلالاً . إنه زنيم بل ونغل لا يعرف أحدٌ مَن أباه . إبتسمت عشتارُ بسخرية لاذعة ثم قالت : حسناً ، كان هؤلاء القوم جشعين في طبعهم ميلٌ قويٌّ لجمع الكثير من المال ولكن كيف يعفو عنهم ربُهم فيغفر لهم إكراههم لفتياتهم وإنه مع ذلك يبقى غفوراً رحيماً ؟ معكِ حق يا عشتار ، معك كل الحق . أنا مثلك كذلك محتار في أمر هذا النوع من الغفران . ثم لِمَ لمْ يحرِّمه هذا الربُّ جملةً وتفصيلاً إنما جاء بصيغة شبيهة بصيغة رجاء أن لا يفعلوا ذلك وإذا فعلوه فإنه غفورٌ رحيم . إنه يكسرُ وإنه هو مَن يجبر بعد الكسر .
أين الإنصاف في هذا وكيف يسمح الرب أن يعبثَ الرجالُ في أجساد الصبيات وأنْ يبتزوهنَّ ويشوّهوا أخلاقهنَّ . أردتُ التخفيف من سخونة وجدية المناقشة فقلتُ إنها لفرصة ٌ سانحة ٌ أنْ أعرضَ عليها أن تزورني حيث أنا المعلق بدوري ولكن بين الأرض والسماء . أو أنْ نلتقي في أية عاصمة جميلة تشاء وأن تكونَ ضيفة الشرف لديَّ .
قالت فكرة معقولة لكني مرتبطة بدوام وظيفي . قلت لها لكنْ أمامك فرصا ً أخرى منها عطلة نصف السنة القادمة . قالت سأفكر في الأمر ـ لا تحسب المسالة بسيطة إلى هذا الحد ـ فوراء تنفيذها شروط ومشاكل وعقبات لا تُعدُّ ولا تُحصى . أنا ـ أضافتْ ـ أكرّس نصف وقتي مساعِدة ً ومستشارة لمليك بابلَ نبوخذ نصّر بعد أن كبرتُ وفاتني الزمن فتخليتُ عن مهنتي ومسؤوليتي السابقة وتركتُ معبد ممارسة الجنس المقدس لصبايا أُخرَ صغيرات السن فالصبايا مرغوبات وإنهنَّ يبقين هناك لأعوام متتالية طويلة حتى يبلغنَ ما بلغتُ من شأني الحالي الذي ترى . تقاعدتُ لأغدو مستشارة ً لمليك بابلَ في شؤون الجنس ومتعلقاته وهي كثيرة متشعبة .
هل أزورك في مكتبك الإستشاري في العاصمة بابل ؟ قالت لا ، دخيلك لا تفضحني . نبوخذ نصر ملك شديد الغيرة ولا يسمح لي خلال ساعات الدوام الرسمي أنْ أكلم َ أيَّ رجل من حاشيته الخاصة عدا بعض الخصيان السود إذْ لا من خطرٍ عليَّ منهم ... كما يحسب !! نحن نعرف كيف نمارس الجنس المقدس وغير المقدس مع هؤلاء الخصيان بل ومع الصبيان الذين لم يبلغوا الحُلُم !! طبيعتنا أقوى من كل الموانع والأوامر والنواهي . طبيعتنا اقوى منا وما نملك من إرادة. طبيعة المرأة طوفان جامح مدمّر لا يخشى ملكاً أو جباراً .
طبيعتنا شيطان ناطق يعرف كيف يتصرف ومتى يتصرف . أذهلني سماع هذا الكلام من عشتار التي كانت ذات يوم آلهة ً للجنس والخصب والتناسل وكبيرة بغايا بابلَ . أليس هذا النوع من الجنس المشترك المباح شكلاً بدائيا ً من أشكال تعدد الأزواج الذي سبق حق تعدد الزوجات المعروف في يومنا هذا ؟ جائز، بل وأراه كذلك . قبل أن نفترق أردتُ مداعبتها فقلت لها ألا تتزوجينني ؟ نظرت إليَّ نظرة متوسلة ثم تنهدت عميقاً وقالت : ليتني أستطيع !! متى نلتقي سيدتي عشتار مليكة قلبي ولبي وحبي ؟ قالت سأتصل بك تلفونياً في أي وقت أجد فيه نفسي خارج سيطرة ومراقبة نبوخذ نصّر مليك بابل وطاغيتها الجبار .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق