د. عدنان الظاهر
إنتصار لاكامورا
( الطبعة الأولى 2006 )
علامَ قامت أركان وأسس الرواية ؟
[[ حين نستيقظ ُ صباحاً ولا نجدُ وطناً نتكئ عليه نكتشف حدّة اليتم والفراغ المجهول الذي نجرّهُ يومياً في عمرنا الجاهز للإنكسار واليتم واللا أمل / مقطع من كلمة الإهداء للمؤلفة ]] .
إذا كان هذا هو مفتتح الرواية فماذا عسانا واجدين إنْ توغلنا في متن ونصوص أقاصيص الرواية ؟ الوطن المكسور الجريح ـ الجزائر ـ هو مركز أحداث الرواية بكافة تفاصيلها وجزئياتها وهو خلفية هذه الأحداث في عين الوقت . تتكلم السيدة ياسمينة صالح عن فترات الإرهاب الدموي التي عصفت بالجزائر وأدت إلى قيام مجازر تقشعر لها الأبدان كان أغلب ضحاياها من فقراء وبسطاء الناس والمغلوبين على أمرهم ممن لا حولَ لهم ولا قوة ولا من قدرة للدفاع عن أنفسهم . قتول جماعية وسيارات مفخخة تماماً كما يحصل اليوم في العراق حيث القتل العشوائي على الهوية والسيارات المفخخة وذوو الأحزمة الناسفة يستهدفون مجمعات الأسواق ومدارس الأطفال والجامعات العراقية ودوائر الدولة ومراكز شرطتها ومقار عساكرها ولا يسلم منها طفلٌ ولا إمرأةٌ ولا شيخٌ . تصف الروائية أحداث الإرهاب في بلدها الجزائر لكأنما تصف ما يقع اليوم على أرض العراق فهل إرهابيو الجزائر قد إنتقلوا للعراق أو نقلوا تجربتهم إليه مباشرة ً أو عن طريق فرق وجماعات إرهابية تُسمى تارة ً سلفية أو من جماعات تنظيم القاعدة تارات ٍ أُخرَ ؟ دمٌ على كل شبر من أرض الجزائر وقتول وأجساد مقطوعة الرؤوس وقتلى مجهولي الهوية ورصاص الإرهاب يطال الجميع نهارا ً وليلا ً . هذا هو جوهر وإطار ما جاء في الرواية من أحداث تشدٌّ القارئ شداً بلا هوادة وتجعله يعيش الأحداث الساخنة الدامية لحظة ً فلحظة وسطراً فسطراً بل وحرفاً حرفاً .
تبدأ أحداث الرواية منذ زمن حرب التحرير الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي حيث من هناك بدأ القتل المنظّم المخطط له جيداً بحق المتعاونين مع المستعمِر الفرنسي ورجالات أمنه وشُرطه ومخبريه المحليين . بدأت حرب التحرير مزدوجة الأهداف تتحرك على صعيدين وفي ميدانين مختلفين : قتال قوات الإحتلال في المدن وإنطلاقاً من الجبال والأحراش ، ثم قتال على الجبهة الداخلية يستهدف إغتيال خونة الشعب الجزائري من المتعاونين مع الفرنسيين . جبهتان متداخلتان يجري القتال فيهما بأسلحة مختلفة . تبدأ الرواية بإلتقاء بطلها الذي ظلَّ مجهول الإسم مع رجل جزائري وطني ممن وهب نفسه للقضاء على عناصر الطابور الخامس من الخونة والمتعاونين . يلتقيان في مقهى وتتوطد عُرى الصداقة بينهما فنعرف الكثير من تفاصيل العمليات الإجتثاثية التي نفذها الوطني ( عمي العربي ) ضد عناصر َ مرصودة جيداً من خدم المستعمرين . في هذا المقهى بالذات نتعرف على شخصية ضابط شرطة إسمه ( الرشيد ) . كان الرشيد رجلاً طيباً جيد الخلق وفياً لأصدقائه ومعارفه وكان شديد الحرص على القيام بواجبه الوطني حتى إنه هو نفسه تم قتله أثناء أدائه واجبَهُ الوطني في مطاردته لبعض الإرهابيين تاركاً وراءه والدته وخطيبته . تحصل ونحن لم نزلْ في بدايات الرواية حادثة غريبة جمعت بين
( العربي ) قاتل خونة بلاده الجزائر وخائن ٍ ترصّده العربي فكان لقاء ً درامياً يمثل جانباً من متناقضات وغرائب وعجائب الثورة والحياة نفسها . يُفاجأ العربي أنَّ ضحيته المفترَضة ، خائنَ الجزائر ، يعرفه ويشخّصه بالإسم الدقيق ثم يناقشه نقاشاً منطقياً يفقده زمام المبادرة ... وحين يُطلق نيران مسدسه على الخائن يجده أسرعَ منه فيصيبه بإطلاقين ناريين تسببا في بتر إحدى ساقيه وإصابة أحد ذراعيه بشلل تام . هنا إنتصرت الخيانة على الوطنية أو عطلتها ، أصابتها بعطل أو عطب دائم ، شلّتها نصفياً . نجا الخائن مصاباً بجرح ليس بليغاً . كيف عرَفَ الخائنُ المُفترَضُ هذا الوطنيَّ المجاهدَ المدعو ( العربي ) ؟ مَن كشفه له من رفاق العربي وبقية المجاهدين ؟ مَن هم هؤلاء المجاهدون المندسّون والمتعاونون مع الفرنسيين ؟ تظل الخيانة قوية في كل زمان ومكان منذ خيانة ( يهوذا ) لسيده ورسوله عيسى إبن مريم . نقرأ في الصفحتين 13 و 14 الحوار المدهش التالي :
[[ وبعد إنتظار بدا له طويلاً ظهر " العميل ُ " ممسكاً مسدساً في يده ... حين لمحَ العربي إرتبكَ لكنه لم يهربْ ... ظلَّ يحدّق فيه قبلَ أنْ يقولَ له أخيراً : أنت هو " العربي " أليس كذلك ؟ وكان العربيُّ هو مَن إرتبكَ في تلك اللحظة ... توقع سؤالاً آخرَ غيرَ هذا وحين لم يرد قال العميلُ : أنت هو إذا ً " العربي " الذي وكلته " الجبهة " ليقتلَ جزائرياً مثله ! غضب
" العربي " وردَّ بإنفعال : أنتَ لستَ جزائرياً يا كلب ، أنتَ خائن وقوّاد ! أجاب هذا الأخير : هل لديكَ دليل على خيانتي ؟ هل تعرفني ؟ ]] . ثم نقرأ في الصفحة 21 جملة تساؤلات تضعها الروائية بذكاء أمام نفسها والقارئ وعموم شعب الجزائر من قبيل [[ مَن يكون ؟ خائن أم مجاهد ؟ ... هنا فقط تختلط الأمور والمفاهيم بين مجاهد وخائن أو عميل ]] . إنها تدين القتل العشوائي وتستنكر كيل الإتهامات جزافاً وتصنيف الناس إلى فئتين فهذا وطني وذاك خائن بدون براهين وأدلة فضلا ً عن حق المتهم والمشكوك في أمره في المثول أمام القضاء ليدافع عن نفسه ويجد من يدافع عنه من بين رجال المحاماة والقضاء بدل الحكم عليه بالإعدام وتنفيذ هذا الحكم في قارعة الطريق من قبل أناس لا يمثلون الحكومة ولا القضاء بشبهة خيانة الوطن من دون دليل مادي ثبوتي وإلا فأين العدالة التي تبحث الثورات والثوار عنها ؟ في لحظات حرجة من الخوف والإرتباك تعادلَ المُجاهد العربي مع ذاك الرجل المحكوم عليه بالإعدام من قبل عناصر في الجبهة الوطنية لتحرير الجزائر لا يعرفها العربي هذا المأمور بالتنفيذ الأعمى ولا يعرف مدى صدقيتهم وصفاء نواياهم وهل فيهم المرتشي وفيهم الخائن وفيهم المندس يعمل في صفوفهم بالخط المائل كما يقولون . هنا إختلط الحق الغامض المشوَّش بالباطل المجهول التفاصيل . هنا إكتشف المجاهد العربي أنَّ هناك بين رفاق دربه من يخون ويسرِّب المعلومات للفرنسيين والعناصر الجزائرية المتعاونة معهم . هنا وجد نفسه مكشوفاً للأعداء فيا ويلَ أمه !!
مَن هو لاكامورا ؟
يعود البطل بنا القهقرى فيكشف لنا تأريخ حياته المأساوي حيث لاحقه النحس والشؤم والموت منذ ساعة مولده حتى بعد أن صار صحافياً مرموقاً يبحث عن الموت في رصاصة طائشة تأتيه من شارع أو زاوية أو في مقهى لكأنه يردد مع نفسه القولة الشهيرة المنسوبة لأحد الخلفاء الراشدين وهو يمشي في أسواق الكوفة عام 41 للهجرة (( أين ألقاها ؟ ) ؟ ماتت أمه ساعة ميلاده ثم إختفى أبوه بشكل مفاجئ فكفله جده لأبيه الحاج عبد الله { لاحظ الشبه الكبير بين قصة هذا الطفل وقصة ومصير النبي محمد بعد مولده ! } وهو رجل من صغار إقطاعيي الأراضي ، ثم ماتت عمته المعوَّقة الوحيدة التي كانت تعوِّضه فقدانَ أمّه. يدخل هذا الطفل المنحوس ( لاكامورا ) مدرسة القرية ليجد نفسه منجذباً لمعلم معين أحبه وقربه منه وأدخله بيته ليلعب مع ولده البكر ( النذير ) وأخته الأصغر منهما كليهما . [[ ... لعلي إستطعتُ أنْ أسالَ المعلمَّ ذات مرّة ، لماذا يهتم ُّ بي أنا بالذات دون بقية الأطفال ؟ إبتسمَ ... لعله صمتَ طويلاً قبلَ أنْ يقولَ : لأنك طيّب ، ولأنك تلميذ متفوِّق ، ولأني أريدُ أنْ تكونَ مختلفاً عن كل هؤلاء الذين يقودون القرية إلى التهلُكة وأولهم جدّك ّ / الصفحة 36 من الرواية ]] . ظلت هذه الطفلة مجهولة الإسم كشأن البطل الطاغي على أحداث الرواية نفسه . أحبّها كثيراً وإصطحبها معه إلى الوادي حيث نهر يجري إبتلع العديد من رفاقه وزملائه الذين درج على إصطحابهم للعوم فيه واللعب على رمال ضفافه. إلا هي ... لم يبتلعها اليم ُّ لأمر ما كان الطفل ( لاكامورا ) يجهل كنهه . وكذا كان الأمر مع أخيها النذير . مع دخوله بيت معلمه الأثير دخل الشؤم بيتَ هذا المعلم . تآمر عليه جده ورئيس بلدية القرية لأنهما وجدا في أفكاره ومواقفه الساخرة تهديداً لمصالحهما وهُزءاً بهما وبمكانتهما بين وجهاء القرية . يمثل المعِّلم الفكر الثوري المتجدد الذي يسعى للتجديد والتطور والبناء . سعيا لإبعاده عن القرية فنجحت مساعيهما وتم نقله إلى العاصمة الجزائر حيث وجد نفسه مفصولاً من وظيفته فأضطرَ أن يعمل حمّالا ً في الميناء لإعالة زوجه وطفلته وولديه النذير والآخر الأصغر ، أصغر الجميع . يموت الوالد الحمّال فتمتهن أرملته مهنة الخياطة لكي تُقيتَ صغارها . أما هناك في القرية فلقد مات الجد الإقطاعي الحاج عبد الله في حين واصل الطفل المنكود المنحوس دراسته بتفوق ثم جاء العاصمة ودخل الجامعة ليدرس العلوم السياسية فيها . لم يجد بطل الرواية في العاصمة إلا البؤس والخراب واليأس والموت على الطرقات . وجد نفسه مُحبَطاً خائباً والبلد سائر نحو الكارثة . مع ذلك واصل دراسته الجامعية بجد ومثابرة ربما للتعويض عما في داخله من خواء وهباء
( إستعملت الكاتبة كلمة هباء كثيراً وبشكل يُلفتُ نظر القارئ فما دلالتها لياسمينة صالح ؟ ) . أسس له بعض الصداقات مع بعض زملائه من طلبة الجامعة لكنه ظلَّ وفياً على سمو خلقه ونقاوة مبادئه فلم يتورط كالباقين في لهو أو تحشيش أو دعارة . وكان يراقب مقدار التفاوت بين سائر الطلبة وباقي المحظوظين من أولاد المترفين كبار موظفي الدولة مدنيين وعسكريين ممن يملكون الشقق الخاصة ويقودون السيارات الفارهة وهم ما زالوا مجرد طلبة جامعيين . الموت والفساد وسرقة أموال الدولة جهاراً نهاراً . أجبره هذا الواقع القاسي المؤلم أن يبحث عن سند له يشاركه أتراحه ويخفف من ضغط معاناته وحدّة الصدمة التي لم يكن ليتوقعها في العاصمة وفي الوسط الجامعي . كان يبحث لا عن أبيه الذي إختفى في ظروف غامضة ولكن ... عن المعلم المتنوِّر الذي أحبه والذي كان ضحية تآمر جَده عبد الله عليه وعلى مستقبله ومصير زوجه وأطفاله . كأنه كان يشعر عميقاً بعقدة ذنب تجاه هذه العائلة التي عوضته جزئياً عن أمه ووالده ووفرت له أصدقاءَ هم كالأشقّاء له ، النذير ثم أخت النذير التي لم يستطع نسيانها أبداً والتي سنراها لاحقاً تلعب أدواراً خطيرة الشأن في حياة هذا البطل المجهول الإسم . كيف يتصل ماضينا بحاضرنا وكيف يتهيأ هذا الماضي لنا قوياً مقسوماً ومفروضاً علينا بفعل قوة خارقة خفية نجهل ماهيتها وسر قوتها ؟ كان بأمسِّ الحاجة لأصدقاء قدامى عرفهم وعرفوه عن كثب إبّانَ سني طفولته المبكرة ... أحبوه وأحبهم ولم يستطع نسيانهم أبداً . لا ننسى صداقات طفولتنا القديمة البريئة < الذكرى جرس ٌ يدق ٌّ في وادي النسيان ... كنا تقول أيامَ طفولتنا في العراق >.
يُكمل البطلُ الخائبُ دراسته الجامعية ويبحث عن عمل فيجده أخيراً محرراً في إحدى الصحف المتواضعة الشهرة والتوزيع . تقع عينه من باب الصدفة المحضة على إسم (( النذير )) مديراً لإحدى الصحف اليومية. يزور مكتب الجريدة ويسأل عن رئيس التحرير فيتعارفا ويفرح كلٌّ بالآخر أيما فرح . يسأل عن أخت النذير فيخبره إنها تعيش مع أمهما في بيت يقع في منطقة محظورة يترصدها الإرهابيون وإنها الآن طبيبة تعمل في إحدى المستشفيات . منذ هذه الساعة يتبدل نسق حياة البطل بشكل جوهري ويرتبط مصيره بشقيقة صديقه ( النذير ) . كيف هي اليوم ؟ أما زالت تحبه كما يحبها حين كانا طفلين يلعبان في القرية ؟ هل تتعرف عليه إذا ما إلتقيا ؟ هل ستتجاوب مع ما يكن ُّ لها من حب حقيقي لا حدودَ له ؟ أسئلة كثيرة . إصطحبه النذير ذات يوم لزيارة والدته ثم شقيقتة ، حبيبة العمر والقمر الغائب الذي لا يغيب . كان الموقفُ شديدَ الإلتباس مرتبكاً مختلطاً وكانت الطبيبة من جهتها تبدو محايدة في الشعور والعاطفة. مرّت الأيام كعادتها باردةً حينا ً ـ ساخنة ً أحيانا ثم حدث البركان المتوقع ! حاول الإرهابيون قتل النذير فنجا لكنْ ليكونَ طريحَ فراش المرض في المستشفى فاقد الوعي تحت العناية المركزة والأمل في شفائه ضعيف . أبدعت السيدة ياسمينة صالح في تصوير ساعات وأيام وليالي مكوث النذير فاقدَ الوعي في مستشفاه ( 20 يوماً ) وكيف كانت تزوره أمه وكيف كانت أخته الطبيبة تتردد على حجرة نومه يكلمها البطل مجهول الإسم حيناً ويتجنب لقياها أحيانا . أدمن على زيارة هذه المستشفى حيث إختلطت عليه الأمور وتشابكت فلا يدري هل يأتي المستشفى ليرى صديقه النائم دون وعي أو ليرى الطبيبة َ أخت المريض ؟! كان للعامل الثاني الغلبة في أغلب الأحوال وهكذا هو الحب : أسْر ٌ وسحرٌ وإستعباد ! لم تذهب هذه الزيارات سُدى فلقد تراكم فيه تصميم أن يزور بيت أم النذير ليسلّم عليها وأن يلتقي بحبيب العمر هناك . يا للهول !! وجد أم النذير طريحة فراشها شاحبة حزينة بائسة وكيف تكون خلاف ذلك وهي الأم الوالدة ؟ هان عليه هذا المشهد المؤثر بالمقارنة مع ما رأى من مفاجأة كادت أن تورده مورد التهلكة ! قدمت الطبيبة حبيبته له في حجرة الضيوف رجلاً وسيماً متكبراً قائلة له : هذا خطيبي فلان !! للطبيبة الحبيبة خطيب ؟ يا للمصيبة ! ضاع عمرك سُدى ً يا هذا الشاب المجهول الإسم يا لاكامورا. ما قيمة الذكريات القديمة الجميلة الراسخة في أعمق أعماق المحبين ؟ كيف سيتعامل معها وكيف يتخلص منها ومن شدة ضغطها عليه وهو وحيد خائف في الثلاثين من العمر يتيم لا من أحدٍ له في دنياه ؟؟ كيف وكيف وكيف . صدمة كبيرة كيف يتحملها شاب رقيق القلب دأب على حب الخير وبسطاء الناس والدفاع عن مصالحهم وعن حرياتهم وحيواتهم اليومية . فارق صديقه النذير الحياة وكان ميؤوساً منها ومنه . صدمتان تهدّان الجبال : ذهاب حبيبة عمره وخيالاته لرجل غيره وموت صديقه الأثير الوحيد في حياته الذي غدا تماماً كالأخ بعد أن أضحى رئيساً له في تحرير الجريدة التي أصبحت واسعة الإنتشار . ثم جاءه نبأ آخر صاعق يفيد بإغتيال زميله المصوِّر الصحافي اليتيم اللقيط الذي لا يعرف أباه ( كريمو ) ! عقدة ولعنة لاكامورا ما زالت تلاحقه إذا ً فأين المفر ُّ ؟ هنا في هذا المنعطف الزماني المتشعب والمتعدد الوجوه والغرائب والأحداث تدور عجلات التأريخ ويتحرك فينمو الأمل في وسط اليأس والخراب والدمار وتنزاح العَتمة ليحلَّ النورُ محلها . (( وكلُّ شديدة نزلت بقومٍ // سيأتي بعدَ شدتها رخاءُ )) كما قال أحد الشعراء . أو (( ... إذْ حيثُ أنتِ من الظلامِ ضياءُ ... كما قال الشاعر المتنبي في إحدى قصائده الشعرية )) . كيف كان ذلك الإنقلاب في الحظوظ وما هي سماته ؟ تنفجر سيارة مفخخة بالقرب من المديرية العامة للأمن ويكون أحد قتلاها الضابط خطيب الطبيبة حبيبة بطل الرواية النَكِد . مديرية الأمن العامة عاجزة عن تدبير أمنها وحياة ضباطها المدججين بالسلاح الحديث وهيبة وحماية الدولة فكيف بالآخرين العزّل البسطاء ؟ من يحميهم وليس في حوزتهم ما يدافعون به عن أنفسهم وأموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم ؟ الإرهاب إذا ً أقوى من الدولة وكافة سلطاتها التنفيذية والقضائية . يطاردُ ضباط ُ الشرطة والجيش والأمن الإرهابيين فيقعون في شباكهم ضحايا وجوه ملثّمة لا تعرف الرحمة ولا تميّز بين بريء لا علاقة له بالسلطة وذاك الذي يخدم الدولة . أهذه هي الدولة التي ناضل الجزائريون وقاتلوا المستعمر الفرنسي سنينَ عددا من أجل الحصول عليها وإقامتها دولة ً حرة ً مستقلة ً للشعب الجزائري ؟ بدأت بحرب تحرير مريرة وقدّمت أكثر من مليون شهيد ورافقت الحرب هذه عمليات قتل وإغتيال غير قانونية فسال الدم في سوح القتال كما سال في شوارع وأزقة العاصمة وبقية المدن والقصبات . ثم إنتهت الحرب ونالت الجزائر حريتها وإستقلالها ليزدادَ الفقر ويتفشى بين الناس ثم لتظهرَ حركة إرهابية تقتل الناس دون تمييز رجالاً ونساءً وأطفالاً . كانت عمليات قتل خونة الشعب من المتعاونين مع الفرنسيين فردية الطابع والتنفيذ : مجاهد واحد يقتل خائناً واحداً ويختفي القاتل . أما الآن وبعد الإستقلال والتحرير وصعود إسم الجزائر وعلمها بين الأمم فقد غدا القتل جماعياً ، بالجملة ، عشوائيا ً مجموعة إرهابيين يجهزون على مجاميع من الناس الأبرياء في بيوتهم وفي الأسواق وفي الطرقات وفي القرى ثم ينسحبون مخلفين وراءهم ما لا يُحصى من الجثث المقطعة الأوصال والرقاب دونما تهمة توجه لهم فإنهم ليسوا خونة وليسوا من المحسوبين على الحكومة والدولة . هذا هو الفارق الجوهري بين عمليات القتل بالأمس إبّان أعوام حرب التحرير وبين ما يجري اليوم من قتول بالجملة وبالسيارات المفخخة والنتيجة النهائية واحدة : دم جزائري يسيل في الشوارع والطرقات والبيوت . بدأ مسيل الدم مع بداية الثورة وإستمر بعد تثبيت أركانها ليستمر الشعب الجزائري في تقديم الضحايا والقرابين لرب لا يراه أحدٌ ولم يطلبْ هذا الربُّ من أحد ٍ منهم إسالة َ هذه الدماء لا تقرّباً له ولا تكفيراً . [[ يا حافرَ البئرِ لا تعمِّقْ مساحيها // خوفي الفلك يندار وأنتَ التقع بيها ... من أغنية عراقية قديمة ]] . هل تنطبق مقولة ( القتلُ أنفى للقتل )) هنا ؟ لا ! مِمَ ينتقم الإرهابيون الإسلامويون وأي دين هذا الذي يبيح لهم قتل أبرياء مسلمين على دينهم ومن أبناء وطنهم ومن (( قتلَ مسلماً كأنه قتل المسلمين جميعاً )) ؟؟ المهم ... قُتل خطيب الطبيبة فإنفتحت أبواب الأمل مُشرعة ً أمام صاحبنا الصحافي لاكامورا رمز الشؤم والنحس والموت والقتول (( وكلُّ شديدة ٍ نزلتْ بقومٍ / سيأتي بعد شدّتها رخاءُ ]] . وجد نفسه وجهاً لوجه أمام حبيبته التي أوشك أنْ يخسرها بالزواج من غيره من الرجال . حادثا موت ٍ إثنان على أيدي الإرهابيين جلبا له كل الحظ وحققا له أمانيه الكبار قديمها وحديثها وبذا إختفت الصفحات السود القاتمة التي قرأناها قبل مقتل الضابط الخطيب لتبزغَ شمس ٌ ولا كباقي شموس الكون اللامتناهي . ينبثق من الموت الأمل الكبير . الموت أحيانا يخدم بعض آمالنا وينقلنا من حالات اليأس إلى أقصى حالات الأمل . بعد كل غروب شروق ... لا بدَّ ! . لقد أبدعت السيدة ياسمينة صالح في دقة وصف هذه الخاتمة التراجية الشديدة التأثير وكانت عالمة نفس ومحللة نفسانية ومصورة سينمائية وكاتبة روائية في أعلى مقامات القدرة على التعبير وسبر أغوار نفوس البشر وخاصة العاشقين منهم . نقرأ نص ما قالت الياسمينة على لسان لاكامورا :
[[ ... ولم أعلّق هذه المرة بشئ . كنتُ صامتاً ، وطغى الصمتُ على الغرفة وإحتواها تماماً ... ثم َّ حين لم يعدْ ثمة ُ سبب ٍ أبقى لأجله هممتُ بالمغادرة ... تمنيتُ لو يتسنى لي قول أشياء أهم َّ من تلك التي قلتها لوادتك. كمتُ أتمنى في تلك اللحظة لو كانت لي الشجاعة لأمدَّ يدي نحو شعركِ وأُزيح َ تلك الخُصلة الشقية التي سقطت على جبهتك . تمنيتُ لو كنتُ قادرا ً على ذلك فعلا ً ... لم يكنْ لي ما أقوله وقد صار الموتُ بهذه الشساعة حولكِ . ماذا يُمكن لرجل ٍ مثلي أنْ يقولَ لإمرأة ٍ مثلك في هذه الظروف تحديدا ً ؟ لا شئ ... لا شئ يمكنه محو فظاعة الزمان يا سيدتي . ولا حتى الحب أحادي الطرف كحبي لك ... وجدتني أحاولُ الإنسحابَ بأقل خسائر ممكنة ... ثم حين كنتُ سأدير ظهري شعرتُ بتلك اليد تُمسكني من ذراعي ... تلك اليدُ التي تمنيتها وحلمتُ بها كثيرا ً . نظرتُ إليها ... ثم رفعتُ عيني إلى تلك العينين المغرورقتين بالدموع وبالحزن. وقبلَ أن أقولَ شيئا ً وجدتني أضمها بقوّة وأسمحُ لها أنْ تجهشَ بالبكاء في حضني . هل كان على الموت أنْ يكونَ قاسياً إلى هذا الحد كي يتسنى لي ضمكِ كما الآن ؟ هل كان على الموت أنْ يحضرَ بهذل الضجيج المحاط بالضحايا وبالجثث لأضمك ِ إلى صدري وأترك لبكائك حق َّ البكاء معي ؟ أنا الذي جئتكِ قبلَ الآنَ زاحفاً على ركبتي ، هل كان على الموتِ أنْ يخطفَ خطيبكِ كي أقفَ أمامك هذه الوقفة وكي ( تبكي ) في حضوري بهذا الشكل ؟ ألستُ أنا من آمنَ بكِ منذ بداية الأرض ؟ لِكمْ إنتظرتكِ ولِكمْ جئتكِ مشياً على ركبتي َّ كالبوذيين ... أنا الذي عشتُ حياتي مُشتتا ً بين الحب والرحيل واليتم والضغينة ... بين الحلم والحقد الذي تعلمته يوماً بعد يوم ٍ من القرية إلى المدينة إلى وطن ٍ لم يكنْ يبذل جهداً ليصنعَ مني حاقدا ً جديراً ! ألم يكنْ الحقدُ ثقافة ً قومية ً أيضا ً ؟ ]] .
يكفي هذا المشهد السينمائي الشديد التاثير على نفسية القارئ حدَّ التعاطف غير المحدود مع هذين الشخصين اللذين لم يجمعهما إلا الموت ... يكفي ليجعلنا نستنتج أنهما لا محالة سيقترنان وسيبدآن حياة جديدة لا نعرف مآلها وكيف ستدرج وكيف ستكون فالإرهاب لم يزل قائماً والموت يتربص في الطرقات والكل مستهدفون ... صحافيون وأطباء ومثقفون ورجال أعمال وناس بسطاء وغيرهم وغيرهم الكثير .
ملاحظات ختامية :
1 ـ تكلمت السيدة ياسمينة صالح بلسان ذكر وهي أنثى . تقمصت شخصية ودور طفل يكبر ليغدو صبياً وطالب مدرسة إبتدائية ثم ثانوية عامة فجامعة وتتبعت مصيره حتى بلوغه الثلاثين من العمر ، اي غطت الرواية أحداث ثلاثين عاماً كاملة ً . حققت الروائية أكبر نجاح في هذا التقمص إذْ تكلمت بضمير الأنا لا بضمير الغائب ، هو . كنتُ في البداية متحفظاً على هذا النوع من السرد والقص الروائي لكني إنقلبتُ على نفسي وغيرت رأيي بعد أن قرأت الرواية وإستوعبت ما جاء فيها من أحداث مأساوية . وجدت إسلوب النطق بضمير الحاضر ( أنا ) أفضل بكثير من الكلام بصيغة ( هو ) . حرارة النص والقص تأتينا مباشرة ً من فم القاصة الساردة فيقع القارئ تحت تأثير صدقية ما يقرأ فينفعل ويتفاعل ويتعاطف مع شخوص الرواية وهذا أقصى درجات النجاح فيما يكتب القصاصون والروائيون على ما أحسب .
2 ـ طغت على أحداث الرواية محنتان شديدتا العمق أظن أنَّ لهما علاقات وطيدة وعميقة بحياة السيدة ياسمينة صالح نفسها تركتا في أعمق أعماقها نُدباً وجروحاً لا تقتل لكنها هيهات أنْ تندمل كما قال في بعض أشعاره الشاعر لورد بَيْرِنْ . المحنتان هما المحنة في الوطن الجزائر ثم المحنة
والتمحن مع الحب وفي الحب . ألسنا نتكلم عن حب الوطن ؟ ألا يعني هذا في جملة ما يعني أنَ حبنا لإمرأة نظيرُ حبنا للوطن وأنَّ حبنا للوطن هو من جنس الرومانس الذي نقع في حبائله ومطباته واعين أو غافلين ؟ الخيبة هناك هي الخيبة هنا ومن لا وطنَ له لا من حب له .
3 ـ أبدعت السيدة ياسمينة صالح إذْ بدأتْ روايتها بمقتل ضابط شرطة نبيل على أيدي الإرهابيين أثناء أدائه لواجبه الوطني ، ثم أنهتها بمقتل ضابط شرطة ثانٍ بذات الأيادي الإرهابية ... ضابط متعجرف وجده لاكامورا غريماً منافساً له لِكمْ ودَّ أنْ ينزاحَ عن طريقه لكي يتفردَّ بحبيبته فإستجاب له القدر الأعمى لتعودَ الحبيبة إلى أحضانه لكأنَّ دم َّ هذا الضابط هو أضحية زواج لاكامورا القادم وأكفانه أثواب عُرسهما . طرفة أخرى تختص بهاتين القصتين هي انَّ كلا من الضابطين قد أغتيل تاركاً خطيبة ً وراءه . لا نعرف مصير خطيبة الضابط الأول القتيل وكم وددتُ لو أعرف لأسباب أجهلها .
4 ـ ترك البطلين لاكامورا وحبيبته الطبيبة بدون أسماء أمر أغاضني كثيراً ... لماذا ؟ لأنّ للأسماء معاني ودلالات وهي مرتبطة بالوجوه بشكل غير قابل للإنفصام ... فحين نتذكر شخصاً يأتينا إسمه آلياً مع صورته وجهاً وجسداً وهيئة . ثم يُعطي الإسمُ صاحبه كياناً مجسداً يُضفي عليه نوعاً من الحشمة والإحترام فالشخص بدون إسم هو نكرة غير معرّفة فكيف أتابع كقارئ قصص بطل مجهول لا أعرف إسمه ؟ يظل نكرة ً عديم اللون والرائحة والطعم وشبحاً طافياً فوق أرض لا أراها .
5 ـ لغة الروائية لغة متينة محكمة وإنْ وردت فيها أخطاء قليلة بسيطة ربما جاءت من باب السهو أو العجلة أو إنها مجرد أخطاء مطبعية وهي أمور تقع مع الجميع دون إستثناء . تخطأ الياسمينة مثلاً في إعراب إسم إنَّ و أنَّ فترفعه أو تنصب خبرهما . بياض الياسمين خالٍ من الشوائب ونريده أنْ يكونَ دوماً كذلك ... ناصعاً لماعاً نقيَّ النسيج فوّاح الرائحة .
أشارك السيدة ياسمينة صالح شعورها العميق المخلص بمحنة وطنها لأنني كأغلب العراقيين اليوم أعاني من محنة مماثلة تحيق بوطني العراق المحتل والمعاني من إرهاب متعدد الجوانب والوجوه أكثر دموية ومأساوية ً من ذاك الذي تعرضت وما زالت تتعرض له الجزائر . كما أرجو لها المزيد من النجاح فيما تكتب والكثير من السعادة والمسرات حتى لو جاءت متأخرة قليلاً فالعمرُ قصير وما تبقى قليل وإنْ طال .
هامش /
وطنٌ من زجاج / رواية للسيدة ياسمينة صالح في 176 صفحة / الطبعة الأولى 2006 . منشورات الدار العربية للعلوم ـ ناشرون ، بيروت ، لبنان .
الأحد، سبتمبر 07، 2008
وطنٌ من زجاج / رواية للسيدة ياسمينة صالح
Labels:
عدنان الظاهر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق