الاثنين، سبتمبر 08، 2008

ثقافة حوار .. ام غابة حوار ؟

نبيل عودة

تقلقني ثقافة الحوار بيننا . حتى اليوم لم أواجه بحوار ثقافي أو سياسي جاد . كلنا ديوك جاهزة للانقضاض ونتف ريش الآخرين.

أحدهم ، أحترمه .. يظن بنفسه الصواب ، ويكاتبني بتواصل ، كتب " دراسة" حول مواقفي ، وتركز حول الخدمة المدنية في الوسط العربي بشكل سطحي غير معمق ، معتمدا على " الهيزعة " التي أقامتها الأحزاب العربية ، وكلنا نعرف انه لا علاقة بين زوبعة الأحزاب السياسية الرفضية ، وما يطرحة مشروع اجتماعي في بداية تشكيله ، تشير تفاصيلة كلها الى توجه مدني اجتماعي نقي من أي اتجاه " أمني " . أهدافه واضحة في صياغات تفاصيله كما طرحت رسميا وقانونيا . وهي خدمة تطوعية وليست الزامية ، وأكثر من ذلك ، عدد الملاكات المخصصة للوسط العربي لا تفي بعدد المتقدمين . ووزارة المالية ترفض بندا في صياغة قانون الخدمة المدنية يلزم الدولة بتوفير الخدمة لكل من يطلبها. وهو أمر كان يجب ان يثير نقد الأحزاب العربية ... وليس الهجوم غير المبرر على مشروع اجتماعي مدني لا غضاضة حول أهميته لمجتمعنا . حسنا الاقتراح جاء من السلطة التي لا نثق بها ، ولكننا نطالبها بالمساواة في الميزانيات والمخصصات المالية لبلداتنا ، ونطالبها بالتعامل معنا أسوة مع المجتمع اليهودي. ونعرف ان الكثير من القرارات "الجيدة " لا تنفذ بسبب البيروقراطية والجهاز السلطوي ، ونحن ننام بلا فعل حقيقي لالزام السلطة بتنفيذ القليل الذي أقرته ونراه مناسبا لنا . رفضنا لمشروع مدني وتحميله ما ليس فيه من تخوفات " أمنية " هو غباء سياسي وتقوقع لا مبرر له .وهو ليس سياسة بقدر ما هو جبن وانهزامية سياسية .

نرفضه ؟ لنرفض العمل أيضا في مكاتب الدولة . لنرفض التواجد في كنيست اسرائيل . لنرفض ادارة سلطاتنا المحلية . لنرفض شراء الغذاء من المصانع اليهودية . لنرفض السفر بوسائل سفر يهودية . لنرفض العلاج في مستشفيات يديرها اليهود أو تملكها الدولة .لنرفض التعامل مع مؤسسات وشخصيات يهودية تدعم قضايانا ، لعلها تخطط لخوزقتنا ؟ لماذا نناضل للمساواة اذا رفضنا خطوة مهمة ، مهما كانت اهميتها ضئيلة بنظر البعض ، لكنها تعطي القليل . وحتى هذا القليل جدا هل رفضه هو سياسة عقلانية ...؟

كنت سأفهم أن تقوم أحزابنا ومؤسساتنا الرسمية والشعبية ، بحملة من أجل الزام السلطة بتوفير الخدمة المدنية داخل مجتمعنا العربي ، لمن يطلبها ، انطلاقا من رؤية مدنية اجتماعية ترى بالخدمة داخل مجتمعاتنا اداة لسد احتياجات ملحة ناتجة من قصور السلطة أيضا ، وتقديم خدمات انسانية متعددة ، صحية وتنظيمية وتعليمية ، نحن بأمس الحاجة اليها .

لست الآن في باب نقاش الموضوع من جديد ... وموقفي ليس مبايعة لأي جسم سياسي ، بل موقف عقلاني وليس غريزيا ، مثل موقف المعارضين . هناك مساحة بلا حدود لرفض الخدمة اذا تبين ، رغم كل شيء .. ان وراءها نوايا غير متوقعة. وكنت ، ربما الوحيد .. الذي راجع جميع المطبوعات المتعلقة بالخدمة المدنية وشروطها وتفاصيلها ، وتعرفت على العديد من التنظيمات العربية ، التي تنشط في هذا المجال ، دون أن تلفت انتباه المنتقدين الشطار .. الذين لم يروا الا مقالات نبيل عودة ، ويا ليتهم فهموا المنطق والمحرك الذي دفعني للكتابة . وهو بالتأكيد ، لا يتعلق أساسا بقبول أو رفض الخدمة المدنية ، بل بدأ كانتقاد لمفاهيم سياسية متخلفة تعتمد على الغرائز الحسية ، وبعيدة عن منطق العمل السياسي والتفكير السياسي ، الا اذا اعتبرنا ان الغرائز صارت أيديولوجيا لصياغة سياسات حزبية وجماهيرية . وما يثلج الصدر ان تأثير هذه السياسات هامشي ، رغم الزوابع والضجيج ، وحتى في أوساط محسوبة على الأحزاب العربية نفسها نشهد تجندا نسبيا جيدا للشباب من أجل الخدمة المدنية ، داخل مجتمعاتهم ، ولأهلهم ومؤسسات بلداتهم العربية المختلفة ، وأرجو ، ايها المهاجمون والدارسون البواسل ، بان تقراوا ما أقول بشكل سليم وصحيح وأن تفهموا المقروء ... شبابنا وشعبنا أكثر وعيا وفهما لمتطلبات مجتمعهم من قياداتهم المفترضة ، ومن نهج أحزابهم .

حسنا ، اضطررت الى هذا التوضيح بسبب عسر الفهم عند "الدارسين " لمواقفي والمتهجمين علي بموضوع لا يفقهون تفاصيله ، مع الأسف الشديد .

يقلقني أكثر سياسة أحزابنا الرفضية مع سبق الأصرار . يقلقني أكثر سيطرة العائلية السياسية على بلداتنا العربية . يقلقني أكثر تنامي الطائفية السياسية . يقلقني أكثر ظاهرة العنف المتزايدة في مجتمعنا . يقلقني قضايا التطور في مجتمعي العربي داخل اسرائيل .. تطوير التعليم ، تطوير الاقتصاد ، تطوير البنى التحتية . يقلقني أكثر واقعنا الثقافي المتهاوي . يقلقني أكثر التفكك المتزايد بمجتمعنا المدني . يقلقني أكثر قضايا شعبي الفلسطيني ونضاله من أجل بناء دولته المستقلة . يقلقني أكثر واقع التخلف المستشري في العالم العربي ...

ان التعالي والادعاء مع سبق الأصرار بأن المحاور هو الصواب وانا الخطأ دائما . وان منتقدي مواقفي هم الوطنيون ، وانا من يجب ان أعتذر وأتراجع .. تذكرني بمرحلة الستالينية التي سادت فكرنا السياسي والثقافي ، بان الشيوعيين جبلوا من طينة خاصة ،طينة بشرية مميزة لا تخطئ . طينة هي المعيار للصواب وخلاص الشعب. وذلك حسب مقولة أطلقها ستالين في وقته ، قادت الأحزاب الشيوعية الى فكر غيبي أصولي ما زال سائدا ويحطم كل القيم الجميلة في الفكر الشيوعي. وللأسف يمتد تأثيره لأوساط تملك بلا شك القدرة ، النظرية على الأقل ، لصياغة خطاب سياسي عقلاني بدل خطابات التشنج السائدة.

رأينا مصير هذه الطينة الخاصة المؤلم لكل الثوريين والوطنيين في العالم .

ما يجري أحيانا شبيه بحوار الطرشان . هل سيوجه لي سؤال لشرح معنى حوار الطرشان ، على نسق الأسئلة التي توجه لي لشرح البديهيات؟

ان الظن والاحساس الشخصي ان المرتبة العلمية تعني مصداقية لكل التصورات السياسية أو الفكرية أو الاجتماعية التي ينتجها صاحب المرتبة العلمية ، هو مرض بحد ذاته ، ربما ليس مرضا نفسيا ، ولكنه على الأقل مرض فكري . . أو فلسفي ، يسميه بعض الباحثين ب ( عقدة الاحساس) ويتعلق برؤية الشخص بأن احاسيسه هي الطريق الأمثل للوصول الى المعرفة . بالمقابل نجد العقلانيين الذي يؤمنون بأن الاحتكام للعقل ، وليس على الحواس ، هي الطريق الأمثل للوصول الى المعرفة ، وتبريرهم ان الحواس بعيدة عن الأمانة ، وكل معرفة مبنية على الاحساس هي معرفة غير مؤكدة. وانه من الضروري اخضاع الاحساس للعقل ، قبل المجاهرة بما يمليه الاحساس ، الذي قد يكون في حالات معينة صحيحا نسبيا على الأقل . وأنا أدعي ان مجتمعنا في الكثير من جوانب حياته ، وتعامله ، وسياساته ، يحتكم الى الأحاسيس ، ويضطهد العقل لحساب الأحاسيس !!

آمل ان لا يتحول ذلك الى مرض غير قابل للعلاج. وأن لا تنتصر مقولة "احساسي قبل عقلي " على حوارنا وثقافتنا. لا أنفي قيمة الأحاسيس الإنسانية ومصداقيتها النسبية ، ولكنها أحاسيس غير مبنية على تفكير عقلاني ولا بد للانسان المثقف والمتعلم من إخضاعها للعقل قبل تحويلها الى مقولات سياسية وفكرية ومواقف نهائية .

أعرف ان هذه مشكلة تربوية تثقيفية تعاني منها المجتمعات البشرية المبنية على التلقين. حتى لو صار أحدهم دكتورا في العلوم ، ستظل مرحلة التلقين تشكل قاعدة مفاهيمه ، ومحدودية عقله.

وبالمناسبة قرأت حكاية تشرح هذا الموضوع بشكل فكاهي لطيف:



" تخوف رجل من أن زوجته تفقد سمعها ، ويوما بعد يوما تزداد حالتها صعوبة. ذهب زوجها لطبيب العائلة قلقا على حالة زوجته ، من أجل استشارته وتوجيه زوجته لطبيب مختص . الطبيب استمع للشكوى واقترح على الزو ج ان يجري في البداية اختبارا بيتيا بسيطا لزوجته ، لفحص سمعها .قال له الطبيب : " قف وراء زوجتك ، دون أن تراك ، واسألها من مسافة ستة أمتار بصوت عادي سؤال ما . ثم اقترب الى مسافة ثلاث أمتار واطرح بنفس قوة الصوت نفس السؤال. ، ثم قف ورائها مباشرة واسألها نفس السؤال ، واخبرني ماذا يحدث ".

عاد الرجل الى بيته ووجد الزوجة مشغولة باعداد الطعام للعشاء .

وقف على مسافة ستة أمتار وسألها : " ماذا تعدين للعشاء؟"

لم يسمع جوابا .

أقترب لمسافة ثلاث أمتار ، وسال : " ماذا تعدين للعشاء؟"

لم يسمع جوابا.

أخيرا وقف وراء ظهرها مباشرة وسال : " ماذا تعدين للعشاء ؟"

التفتت اليه غاضبة واجابته بعصبية : " للمرة الثالثة أقول لك باذنجان متبل "



المشكلة الذاتية الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية أو المرضية من السهل الصاقها ، حسب الاحساس بالآخرين.. اذا لم نحكم عقلنا أولا.

يجب ان نخرج من مرحلة التلقين التي نمت احاسيسنا الكاذبة ، وأرسلت عقلنا في اجازة طالت كثيرا .

هل نحن قادرون على العودة الى عقلانية ابن رشد مثلا؟ العقلانية التي انتشرت في الفكر الأوروبي ، وتركتنا مع الفكر المخبول والمشوه ؟!

نبيل عودة – كاتب ، ناقد واعلامي فلسطيني

nabiloudeh@gmail.com

ليست هناك تعليقات: